الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

غربي يهتدي بسلوك أهل الشام

غربي يهتدي.. بسلوك أهل الشام

     لا شيء يكشف عن صدق الناس الذين يحملون المبادئ والمذاهب والأفكار ويتبنّونها ويدعون إليها، ويعرّي أصالتهم وجدّيتهم، كأنْ يحيا الإنسان معهم في معايشة يومية متكررة، في غدوهم ورواحهم، بيعهم وشرائهم.. نومهم ويقظتهم، فرحهم وحزنهم... وما إلى هذا، ذلك أن المواقف المرتبة، واللقاءات الصناعية، والمهرجانات الرائعة، قد تخفي وراءها كذب أصحابها.. ويعلو صوت طبولها فيغطي على ما فيها من زيف وتفاهة وخواء.

     لذلك فإن كثيرين من المشهورين الذي يراهم الناس عظماء، يفقدون كثيراً من اللمعان والبريق كلما اقترب الناس منهم وشاهدوهم على حالهم الحقيقية من غير قشور أو رتوش أو طلاء.

     ومن الأدلة الناصعة على صدق أصحاب المبادئ أن يعرف الناس جوانب من حياتهم الخاصة، ورأي ذويهم فيهم، لأن حياة المرء الخاصة تكشف مدى انسجامه مع ما يعتقد، ولأن أهل الإنسان أدرى به، فهم يعلمون إن كانت صورته الخارجية أمام الناس تماثل صورته الداخلية أمامهم، أم أن بين الصورتين بوناً شاسعاً.

     وقد كانت هذه الحقيقة الكبيرة سبباً في أن شهد أحد المفكّرين الغربيين المنصفين بصدق الرسول الكريم ﷺ، لأنه لم يكن هناك أي تناقض بين حياته الخارجية وحياته الداخلية، بل كانتا متماثلتين متكاملتين منسجمتين، لهذا كان أهل بيته مؤمنين إلى أقصى حدود الإيمان بنبوّته وصدقه.

     ففي المعايشة اليومية، وفي تفاصيل الحياة الصغيرة، وفي الأعمال العادية الجزئية يستطيع المرء أن يميز صدق الناس عامة، والدعاة وأصحاب المبادئ خاصة، ولعل هذا يقدم سبباً مهماً من أسباب انتشار الإسلام في شعوب البلدان المغلوبة أيام الفتوحات الأولى، دون أن يكون له مبشرون رسميون، ودعاة موظفون، مهمتهم هي تبليغ الدين ونشره.

     إن الذي قاد الشعوب المغلوبة إلى الإسلام هو اكتشافها صحة الدين من ناحية، وصدق المسلمين من ناحية أخرى في تبنّيهم له، وحملهم إياه، وذلك من خلال معايشتها للمسلمين الفاتحين، واحتكاكها بهم في حياتهم اليومية.

     في العشرينات من هذا القرن، حلَّ في دمشق أحد المثقفين الغربيين الأذكياء، فرأى حياة الناس يومذاك، وتصرفاتهم اليومية، ما كان واحداً من أسباب إعجابه بالعرب والمسلمين، وهو الإعجاب الذي قدر له أن يتزايد وينمو وتصحبه دراسات وتأملات انتهت به إلى الإسلام.

     بانفعال نفساني تواق إلى تفهم جديد، وبعينين مفتوحتين على أشياء لم أتخيلها من قبل، كنت أتجول إبان تلك الأيام الصيفية في أزقة السوق الرئيسية في دمشق.

     هكذا طفق الرجل يتحدث عن نفسه. ولو أننا سألناه عما وقف عليه في تلك الأيام لظفرنا منه بالجواب التالي:

     وقفت على ذلك الاستقرار الروحي في حياة سكانها. إن أمنهم الباطني كان يمكن أن يُرى في الطريقة التي كان أحدهم يتصرف بها نحو الآخر، وفي الاعتبار الكبير الذي كانوا يلقون به ويودعون بعضهم بعضاً، وفي الطريقة التي كان اثنان منهما يمشيان بها معاً، يمسك أحدهما بيد الآخر، كالأطفال، لا لشيء إلّا لأنهما كانا يشعران بالود، كلٌّ نحو صاحبه، وفي الطريقة التي كان أصحاب الدكاكين يتعاملون بها بينهم.

     أولئك التجار في الحوانيت الصغيرة، أولئك الذين لا يَنُون ينادون المارة، أولئك كانوا يبدون وكأنما ليس فيهم أي قدر من الخوف أو الحسد، حتى إن صاحب الدكان يترك دكانه في عهدة جاره ومنافسه كلما دعت الحاجة إلى أن يغيب بعض الوقت.

     وما أكثر ما رأيت زبوناً يقف أمام دكان غاب عنه صاحبه!.. يتساءل في نفسه: أينتظر عودة البائع أم يذْهب إلى الدكان المجاور؟. ويتقدم التاجر المجاور المنافس، ويسأل الزبون عن حاجته، ويبيعه ما طلب من البضاعة، لا بضاعته هو، بل بضاعة جاره الغائب، ويترك له الثمن على مقعده. أين في أوربا يستطيع المرء أن يشاهد مثل هذه الصفقة!؟

     ما مِن ريب أنها صورة شيّقة تلك التي شهدها المثقف الأوربي يومذاك في دمشق، صورة حملته على أن يؤدي في أبطالها هذه الشهادة القيّمة:

     لقد بدوا لي أباةً متواضعين، مرهفي المشاعر والأحاسيس، وإذا خاطبتهم بلسانك أضاءت عيونهم السوداء بابتسامة مفاجئة، ذلك أنهم لم يكونوا انطوائيين لا يهتمون إلّا بأمورهم الخاصة. يضاف إلى ذلك أنهم يحبون الغريب. لقد كانوا سادة عظاماً، متحفظين، ومستعدين مع ذلك لتقبل أمور الحياة جميعاً.

     وبعد تجوال فكري وجسدي طويلين، اهتدى الرجل إلى الإسلام، وكانت معايشته اليومية لنماذج من المسلمين أحسنت التعبير عن ولائها للإسلام، الباب المبارك الذي قاده إلى الهداية.
*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة