الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

غربي يهتدي بسلوك أهل الشام

غربي يهتدي.. بسلوك أهل الشام

     لا شيء يكشف عن صدق الناس الذين يحملون المبادئ والمذاهب والأفكار ويتبنّونها ويدعون إليها، ويعرّي أصالتهم وجدّيتهم، كأنْ يحيا الإنسان معهم في معايشة يومية متكررة، في غدوهم ورواحهم، بيعهم وشرائهم.. نومهم ويقظتهم، فرحهم وحزنهم... وما إلى هذا، ذلك أن المواقف المرتبة، واللقاءات الصناعية، والمهرجانات الرائعة، قد تخفي وراءها كذب أصحابها.. ويعلو صوت طبولها فيغطي على ما فيها من زيف وتفاهة وخواء.

     لذلك فإن كثيرين من المشهورين الذي يراهم الناس عظماء، يفقدون كثيراً من اللمعان والبريق كلما اقترب الناس منهم وشاهدوهم على حالهم الحقيقية من غير قشور أو رتوش أو طلاء.

     ومن الأدلة الناصعة على صدق أصحاب المبادئ أن يعرف الناس جوانب من حياتهم الخاصة، ورأي ذويهم فيهم، لأن حياة المرء الخاصة تكشف مدى انسجامه مع ما يعتقد، ولأن أهل الإنسان أدرى به، فهم يعلمون إن كانت صورته الخارجية أمام الناس تماثل صورته الداخلية أمامهم، أم أن بين الصورتين بوناً شاسعاً.

     وقد كانت هذه الحقيقة الكبيرة سبباً في أن شهد أحد المفكّرين الغربيين المنصفين بصدق الرسول الكريم ﷺ، لأنه لم يكن هناك أي تناقض بين حياته الخارجية وحياته الداخلية، بل كانتا متماثلتين متكاملتين منسجمتين، لهذا كان أهل بيته مؤمنين إلى أقصى حدود الإيمان بنبوّته وصدقه.

     ففي المعايشة اليومية، وفي تفاصيل الحياة الصغيرة، وفي الأعمال العادية الجزئية يستطيع المرء أن يميز صدق الناس عامة، والدعاة وأصحاب المبادئ خاصة، ولعل هذا يقدم سبباً مهماً من أسباب انتشار الإسلام في شعوب البلدان المغلوبة أيام الفتوحات الأولى، دون أن يكون له مبشرون رسميون، ودعاة موظفون، مهمتهم هي تبليغ الدين ونشره.

     إن الذي قاد الشعوب المغلوبة إلى الإسلام هو اكتشافها صحة الدين من ناحية، وصدق المسلمين من ناحية أخرى في تبنّيهم له، وحملهم إياه، وذلك من خلال معايشتها للمسلمين الفاتحين، واحتكاكها بهم في حياتهم اليومية.

     في العشرينات من هذا القرن، حلَّ في دمشق أحد المثقفين الغربيين الأذكياء، فرأى حياة الناس يومذاك، وتصرفاتهم اليومية، ما كان واحداً من أسباب إعجابه بالعرب والمسلمين، وهو الإعجاب الذي قدر له أن يتزايد وينمو وتصحبه دراسات وتأملات انتهت به إلى الإسلام.

     بانفعال نفساني تواق إلى تفهم جديد، وبعينين مفتوحتين على أشياء لم أتخيلها من قبل، كنت أتجول إبان تلك الأيام الصيفية في أزقة السوق الرئيسية في دمشق.

     هكذا طفق الرجل يتحدث عن نفسه. ولو أننا سألناه عما وقف عليه في تلك الأيام لظفرنا منه بالجواب التالي:

     وقفت على ذلك الاستقرار الروحي في حياة سكانها. إن أمنهم الباطني كان يمكن أن يُرى في الطريقة التي كان أحدهم يتصرف بها نحو الآخر، وفي الاعتبار الكبير الذي كانوا يلقون به ويودعون بعضهم بعضاً، وفي الطريقة التي كان اثنان منهما يمشيان بها معاً، يمسك أحدهما بيد الآخر، كالأطفال، لا لشيء إلّا لأنهما كانا يشعران بالود، كلٌّ نحو صاحبه، وفي الطريقة التي كان أصحاب الدكاكين يتعاملون بها بينهم.

     أولئك التجار في الحوانيت الصغيرة، أولئك الذين لا يَنُون ينادون المارة، أولئك كانوا يبدون وكأنما ليس فيهم أي قدر من الخوف أو الحسد، حتى إن صاحب الدكان يترك دكانه في عهدة جاره ومنافسه كلما دعت الحاجة إلى أن يغيب بعض الوقت.

     وما أكثر ما رأيت زبوناً يقف أمام دكان غاب عنه صاحبه!.. يتساءل في نفسه: أينتظر عودة البائع أم يذْهب إلى الدكان المجاور؟. ويتقدم التاجر المجاور المنافس، ويسأل الزبون عن حاجته، ويبيعه ما طلب من البضاعة، لا بضاعته هو، بل بضاعة جاره الغائب، ويترك له الثمن على مقعده. أين في أوربا يستطيع المرء أن يشاهد مثل هذه الصفقة!؟

     ما مِن ريب أنها صورة شيّقة تلك التي شهدها المثقف الأوربي يومذاك في دمشق، صورة حملته على أن يؤدي في أبطالها هذه الشهادة القيّمة:

     لقد بدوا لي أباةً متواضعين، مرهفي المشاعر والأحاسيس، وإذا خاطبتهم بلسانك أضاءت عيونهم السوداء بابتسامة مفاجئة، ذلك أنهم لم يكونوا انطوائيين لا يهتمون إلّا بأمورهم الخاصة. يضاف إلى ذلك أنهم يحبون الغريب. لقد كانوا سادة عظاماً، متحفظين، ومستعدين مع ذلك لتقبل أمور الحياة جميعاً.

     وبعد تجوال فكري وجسدي طويلين، اهتدى الرجل إلى الإسلام، وكانت معايشته اليومية لنماذج من المسلمين أحسنت التعبير عن ولائها للإسلام، الباب المبارك الذي قاده إلى الهداية.
*****

حسين رؤوف.. والدعوة بالقدوة الحسنة

حسين رؤوف.. والدعوة بالقدوة الحسنة

     لقد كانت القدوة الحسنة وستظل أعظم وسائل الدعاة في دعوة الناس إلى الحق وهدايته إليهم، وإذا كانت حقيقةً مقررة أن تقول: إنها من أعظم أسباب انتشار الإسلام في فترة الفتوح وما بعد الفتوح، فإنها حقيقةٌ مقررة كذلك أن تقول: إنها اليوم أيضاً من أعظم أسباب انتشار الإسلام، وإن شئت مزيداً من اليقين فادْرُسْ سِيَر المهتدين في عصرنا هذا.

     حسين رؤوف يصلح شاهداً على هذه الحقيقة، لقد كان هذا الرجل، وهذا هو اسمه بعد أن ترك المسيحية واهتدى للإسلام، مصلحاً اجتماعياً ومِن خيرة شباب الإنكليز المثقف. ولد الرجل لأبوين أحدهما يهودي والآخر كاثوليكي، ثم تربّى في مدرسة إنكليزية لم تترك في نفسه اهتماماً بالمسيحية، فاتجه إلى دراسة اليهودية فأنكر عليها أنانيتها المتعالية وازدراءها لأناس يشاركون اليهودية إنسانيتهم البشرية، ووجدها في النهاية طقوساً تشابه المسيحية في السطحية دون تأثير حي فعال في الروح الإنسانية. ثم عاشر المسلمين في لندن فشاهد من سلوكهم الذاتي ما طمأنه بداهةً إلى سمو دينهم المثالي الواقعي معاً، وقد تحدث عن ذلك فقال:

     وقد دُعِيتُ ذات يوم لمشاهدة الصلاة (يقصد صلاة المسلمين)، والمشاركة في تناول طعام الغداء الذي قُدِّمَ عقب صلاة العيد، وكان ذلك في عام 1945م؛ مما أتاح لي الفرصة لتأمل مجموعة دولية من المسلمين عن كثَب.

     لم تكن تلك المجموعة من العرب ولا من أي قومية أخرى، وإنما كانت تمثل مختلف أجناس الدنيا وطبقاتها الاجتماعية، وكان فيها شتى ألوان البشر، فقد التقيتُ ضمن هذه المجموعة بأمير تركي كما لقيت أناساً يمكن اعتبارهم في الحياة العملية من طبقة الشحاذين.

     وجلس هؤلاء وأولئك جميعاً يتناولون طعام الغداء بمناسبة العيد، بعضهم مع بعض، ولم تَبْدُ من الأغنياء أي بادرة تَنُمُّ عن التواضع المفتعل، كما لم تشمّ أي رائحة من النفاق المغرور بالنسبة للشعور بالمساواة التي كانت تنبعث من الرجال البيض وهم يتحدثون مع جيرانهم السود، ولم تَجْرِ أي محاولة للانسحاب أو الانعزال عن بقية البشر كما في اليهودية، كما لم أشاهد أي تعاظم مضحك من قِبل أي أحد منهم يتصنّع الفضيلة ويخفي الأثَرة. وهذا جو لم أعثر على مثله في مكان آخر، وحسبي أن أقول: إنني دخلت هذا الدين (يقصد الإسلام) بعد تفكير وتأمل، وبعد دراسة جميع الأديان الهامة في العالم.

     وفي مكان آخر يتحدث حسين رؤوف عن معاني المودة والكرم وحسن الضيافة التي وجدها لدى المسلمين فيقول: لقد سافرتُ إلى أقطار كثيرة في أنحاء العالم، وأُتِيحت لي فرصة كافية لملاحظة طريقة استقبال الأجانب في كل مكان، فلم أجد أحداً من أتباع الديانات الأخرى كالمسلمين في كرم ضيافتهم، وعطفهم على الغرباء المُبَرّأ من كل مصلحة.

     إن حسين رؤوف صاحب ذهن ذكي لمّاح، وهذا ما هداه إلى الأغوار العميقة بعد أن تجاوز السطح الخارجي وهو يغوص على الجواهر فيمن يتعرف إليهم من المسلمين. ولا غرابة إذن أن تجده يفرق بين التواضع الفطري السليم، وبين التواضع المُفتعل المُتَكلَّف، ويفطن إلى النفاق المغرور عند من يصطنع المساواة، والإخلاص النقي عند من يؤمن بالمساواة، ويلتزمها التزاماً جادّاً لا يعرف الغش والكذب والتمثيل.
***

     ومن خير الشهادات –في الصدد الذي نحن فيه– شهادة البارون عبد الله أرشيبالد هاملتون، وهو مسلم إنكليزي بارز حمل لقب بارون من الدرجة الثانية، وشغل منصب قائد في سلاح الدفاع الملكي البريطاني. يقول الرجل:

     كان اعتناقي للدين الإسلامي تلبية خالصة لما يمليه ضميري، ومنذ ذلك الحين وأنا أحس أني رجل أفضل، وأصبحتُ إنساناً حقيقياً. ليس هناك أي دين من الأديان تعرض لمثل ما تعرض له الإسلام من إساءة، ولكن.. يا ليت قومي يعلمون!.. أن الإسلام يمنح القوة للضعيف والغِنى للفقير.

     ويتحدث الرجل عن السلوك الإسلامي حديث المشاهد المتأمل، فيقول:

     لا أحسب أني بحاجة كبيرة إلى الحديث كثيراً عن مبدأ الأخوة العالمية بين البشر في الإسلام، فهذه حقيقة مُسلَّمٌ بها، إذ إن الأمير والحقير، والغني والفقير كلهم سواسية، وإني ألمس دائماً هذه الروح الكريمة بين إخواني المسلمين، كما أثق بحديثهم، فقد لقيت منهم كل معاملة عادلة كرجل عادي، وأخ لهم، كما تكرّموا عليّ أعظم الكرم، واستضافوني أحسن الضيافة، فأنا أشعر دائماً أني واحد منهم.
*****

الاثنين، 8 أغسطس 2022

كتاب نظرات أدبية ونقدية - المقدمة والمحتويات

كتاب نظرات أدبية ونقدية

المقــدمة

     محمد إقبال شاعر الإسلام والشرق، والمفكر والفيلسوف الإسلامي، الذي ملأ الدنيا، وشغل الكتاب والنقاد في الغرب والشرق، وفي العالمين العربي والإسلامي.

     أسرته انتقلت من الهندوسية إلى الإسلام، ونشأه والده تنشئة إسلامية عميقة الأثر، حرة التفكير، عزيزة النفس، منطلقة الروح، محلقة الخيال.

     عبَّ من الثقافة الغربية حتى الثمالة، صبوحاً وغبوقاً، ولكنه لم يَسْكَرْ بها لحظة واحدة، لأنه تلقاها بوعي حاضر، وذهن متفتح، وعرضها على ميزان القرآن الكريم، والسنة النبوية، فميز سقيمها من صحيحها، وخالصها من دخيلها، فزاد وعياً بأمته الحاضرة، لأنه أيقن بحقيقة رسالته التي يحملها إلى أمم الأرض.

     يقال: إن ما كتب عن إقبال يزيد عما كتب عن طاغور شاعر الهند العالمي الإنساني، وزاد عليه إقبال في "الإسلامي"، وكفى بهذه الزيادة شرفاً وعلواً.

     والدكتور حيدر الغدير أديب شاعر يطرب للكلمة، ويحلق مع الخيال، ويبتهج للمعنى البكر، فيقع أسير من يقرأ لهم من الشعراء والكتاب قديماً وحديثاً، ومن هؤلاء الذين أسروه إقبال، وقد خصه بعدد من القصائد منها قصيدته (أيها العائد) التي قدم لها بقوله: (من بستان إقبال)، يقول في مقدمتها:

     "قال لي؛ والوجه منه نور، والفرحة نشيد، والبسمة شكر: لقد أكرمني الله عز وجل بالحج، ففزت بحجة بعد انتظار طويل، أرجو أن تكون مبرورة، إنها حجتي الأولى، وقد تكون الأخيرة، ولن أنساها ما حييت. قلت له: ماذا تفعل في هذا السوق؟ قال: أختار هدايا من الأرض المباركة تكون أجمل قنية، وأغلى تذكار. قلت له: إليك هذه الهدية، قال: وما هي؟ قلت: قصيدة تلتقي مع ما تود، قرأها فقال: إنها هدية جميلة لي، ولكنْ أهدها أيضاً إلى (محمد إقبال)، فهي تصلح أن تكون مع روائعه الحسان في ديوانه: أرمغان حجاز".

     يقول د.حيدر في المقطع الأول:

جاءك العفوُ فخذه باليـــدينْ     وفؤاد وامق والمقــــــــلتينْ
نلته ينهـــلّ نوراً كاللجيـــنْ     أيها الزائر أرض الحرمينْ
إنه الفـوز المرجّى قد همى

     وهي من روائع أناشيد شاعرنا، أهداها إلى إقبال.

     ويقول في قصيدة أخرى بعنوان: (أعتقيني)، وقدم لها أنها "زهرة من بستان إقبال"، يقول في مطلعها:

أعتقيـــني فقد مللت وثــاقي     وخذيـني لعـــزمة وانطلاقِ
وعديني بزورة للمعــــــالي     نتساقى العلا فيحلو التساقي

     وفي قصيدته بعنوان: (نداء) قدم لها أيضاً أنها "من بستان إقبال"، قال فيها:

بينــــا أنـــا وهمومي فيّ تشــتجرُ     والعيـــش لا فرح فيه ولا ظفــــرُ
والعــمر لا خضل والنفس لا أمل     والغصن لا نضر والورد لا عطر

     وهي ثلاث قصائد في ديوانه (غداً نأتيك يا أقصى)، تنبئ عن مدى تغلغل أدب إقبال في شرايين شاعرنا وأدبه، ومن هنا جاءت هذه المقالات التي تلقي الضوء على أدب محمد إقبال عامة، وأندلسياته خاصة.

     وفي الأندلس يلتقي الشاعران، فيبكيان الماضي، ويحلمان بالمستقبل الآتي، ولا أدري إن كان يصح أن أنسب أندلسيات د.حيدر الغدير إلى تأثره بأندلسيات إقبال بعد الاطلاع على ما كتبه عن إقبال والأندلس. وزاد على ذلك بتخصيص عنوان أحد كتبه من الأندلس: "صلاة في الحمراء"، ضمنه عدداً من المقالات من مشاهداته، ومعايشته في الأندلس إبان زياراته إلى قصر الحمراء، وجامع قرطبة، ورندة وغيرها من درر الأندلس.

     والفصل الثاني من هذا الكتاب نظرات في المسرح الغربي، ومعالجاته للقدر والفن والحرية في حياة الإنسان، وهي معالجات تنطلق من نظرة وثنية، وقد وضع د.حيدر النقاط على الحروف -كما يقال- بمقالاته عامة، وبخاصة مقاليه: "الإنسان بين التوحيد والتعدد في المسرح الغربي"، و"حكمة القدر بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية".

وهذه المقالات كلها مما قدمه في برنامجه الإذاعي (أفراح الروح)، في إذاعة الرياض، أسأل الله سبحانه أن ينفع بها كاتبها، وقارئها، وناشرها. والحمد لله رب العالمين.

شمس الدين درمش

------------------

المحتــويــــــات
(روابــط قـــابلة للضغــط)

- المقدمة .................................................................... 4
- الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته ..... 6
- الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي .............. 62

حكمة القدر بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

حكمة القدر بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية

     ها هو ذا الشاعر العباسي علي بن الجَهْم يُلقى في السجن، فيتأمل الأقدار والحكمة وراء السجن، والسجن ثقيل على النفوس فيقول:

قالت: حُبِسْتَ، فقلتُ: ليسَ بضائري     حَـبْــسي، وأيُّ مهنَّــــدٍ لا يُغْـــــــمَدُ
أوَ ما رأيـــتِ اللـيــــثَ يألفُ غيـــلَهُ     كِبْــراً، وأوبـــــاش الـسبــــاعِ تَرَدَّدُ
والشـــمسُ لولا أنهــــا محجـــــوبةٌ     عــن نــــاظريكِ لما أضاءَ الفرقــــدُ
غِيَــــرُ اللـيــــالي بادئــــاتٌ عُــــوَّدٌ     والمـــالُ عـاريــــةٌ يُفــــــاد ويَنْفَـــدُ
ولكــــلِّ حــــــالٌ مُعْقِــبٌ، ولربَّمـــا     أجـــــلى لك المكروهُ عمّا يُحْــــــمَدُ

     إن الشاعر يتأمل في حكمة القدر التي سيق معها إلى السجن، فإذا به يهدأ، وإذا بنفسه تكف عن القلق، وإذا بالطمأنينة تسري في أعماقه، ذلك أنه لا ينظر إلى القدر الذي فعل به ذلك نظرة العدو للعدو، بل إن نظرته تحاول البحث عن حكمة ربما دقَّت فما رآها المرء ساعةَ المكروه، لكنها موجودة فيما وراء الشدة، وربما كان وراء الشر الظاهر خيرٌ عميق، وربما أجلى لك المكروه عما يُحْمَدُ كما يعبر الشاعر نفسُه الذي يزدحم صدره بالأمل، ويتدفق بالرجاء، ويوصي نفسه بالصبر الذي يُعْقِبُ راحةً يطمئن إليها، ثم إنه ما دام قد غشي الحبسَ لغيرِ دنيَّةٍ نكراء، فما من ضير:

لا يُؤْيسنَّــــكَ مِنْ تفــــرّجِ كربــةٍ     خطبٌ رماكَ به الزمـــــانُ الأنكدُ
واصبــرْ فإن الصبرَ يُعْقِبُ راحةً     في اليوم، تأتي أو يجيءُ بها الغدُ
كم من عليـــلٍ قد تخطّــاه الـردى     فنجـــا وماتَ طبــــيبُه والعُــــوَّدُ
والحبــــسُ ما لمْ تَغْشَـــهُ لدنيَّــــةٍ     شنعــــاءَ، نِعمَ المنـــزلُ المُتَوَرَّدُ
بيــــتٌ يُجــــدِّدُ للـكريـــمِ كرامـةً     ويُزارُ فيه، ولا يَزورُ، ويُحْقَــــدُ

     قارنْ هذا الشعور بالقدر عند ابن الجهم الذي يُلْقي الراحةَ في النفس، والسلام في الصدر، والطمأنينة في الفؤاد، والسكينة في الأعصاب بشعور الغربيين بالقدر، أولئك الذين لا يمكن أن يتصوروا أو يشعروا إلا ما تصور وشعر آباؤهم وأجدادهم من أن الفوضى تعم السماوات والأرض، والعداء لا تنطفئ شعلته بين عالمي الغيب والشهادة، والنار التي لا تهدأ سخائمها تؤجج الأحقاد بين بني الإنسان وبين القوى الأخرى التي تريد الإيقاعَ بهم، ومحقَ سعادتهم، والوقوفَ بقسوةٍ لا ترحم في دروب أهدافهم ومصائرهم.

     شتان شتان بين شعور هؤلاء، وشعور ابن الجهم!.. إنْ من حيثُ المبدأ وهو خطأ الفكرة أو صحتها، وإنْ من حيثُ العاقبة، وهو تمزقُ النفس أو توحُّدها، قلق الضمير أو سلامه، اضطرابُ الأعصاب وتوترها، أو هدوؤها وسكينتها. إن البونَ شاسع بين هذين الخطين المتباعدين المتناقضين، خطِّ الشعور الغربي الشاذ المنحرف المدمر بالقدر، وخط الشعور الإسلامي كما نجده لدى ابن الجهم مثلاً الذي يقول:

واللهُ بـــــــالغُ أمـرِهِ في خَلْقِهِ     وإليهِ مصدرنـا غداً والموردُ
ولئنْ مضيتُ لقلّما يبقى الذي     قد كادني وليجمعَنّا الموعـــدُ

     فإنه حتى لو انصرم العمر المحدود، وانقضت الحياة الفانية، ولم تشتفِ النفس الخيِّرة من ظالميها، فعدالة الله عز وجل لا بد أن تتحقق، وجزاؤه العادل لا بد أن ينال الجميع.

     أيُّ سلامٍ يتركه هذا الشعور في النفس؟! وأيُّ سكينة يبثها في الأعصاب؟! وأي طمأنينة ينشرها في الحنايا؟! إنه لشيء عظيم جداً ذلك الذي يتركه الحس الإسلامي بالقدر من هذا العطاء الخيِّر المبارك الذي يتنزل برداً وسلاماً على نفوس المصابين.

     انتقلْ من هذا الحس الرائع إلى نقيضه المدمر مما تجده في الغرب من رصيد مشترك للتراث القديم الجديد حمّل الإنسان نظرة مأساوية حزينة للعلاقات بين قوى الكون وخلائقه، بين الإنسان وخالقه، بين الغيب والحضور، فالغربيون على اختلاف اتجاهاتهم يُجمِعون على الموقف الموحد الذي يصدرون عنه، والذي كما يدلُّ عليه فَحْصُ الرؤى الغربية في هذا المضمار واحدةً واحدة، ينبثق عن الحقد والتقاتل والصراع، وحيث المنظار القاتم الأسود يصور فوضى أبدية لا تؤول إلى قاعدة، ولا تنتهي إلى مَعْلَم، ولا يقر لها قرار.

     إن التعامل مع القدر في التصور الإسلامي معاناة خصيبة غنية، لا صراعاً عابثاً، ولا تواكلاً مرذولاً، بعد بذل الجهد في الأسباب، واستفراغ الجهد والطاقة في الوسائل، لا يبقى إلا التوكلُ على الله، والتسليمُ له جل شأنه، والرضى بقضائه وقدره أيّاً كان. إن بوسعك أن تلمسَ مثل هذا الحس لدى السيّاب الذي قال بعدَ مرضٍ طال:

لكَ الحمدُ مهما استطالَ البلاءْ
ومهما استبدَّ الألمْ
لك الحمدُ إنَّ الرزايــــا عطاءْ
وإنَّ المصيباتِ بعضُ الــكرمْ
ألمْ تُعْطِني أنتَ هذا الظلامْ
وأعطيتني أنتَ هذا السَّحَرْ
فهل تشكرُ الأرضُ قَطْرَ المطرْ؟
وتغضبُ إنْ لمْ يَجُــــدْها الغمامْ؟

     إنه التسليمُ المحمود، والرضا العميق، والتوكلُ الكريم، والقَبولُ بالقدر والقضاء، وتفويضُ الأمور كلِّها إلى الله عز وجل، والأَوْبَةُ إلى رحابهِ الكريمةِ العظيمة.

*****

القدر والحرية في حس الغربيين

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

القدر والحرية في حس الغربيين

     هلُمَّ معاً نحاولْ إزاحةَ الركام الذي نلتقي به في حس الغربيين للقدر والحرية والعلاقة بينهما، لنصل إلى التصور الإسلامي، الراشد المضيء لهذه القضية البالغة الخطورة، فلنفعلْ ولنتساءلْ بعد ذلك: أثمة مبررٌ أو إيحاء بوجود صراع دائم بين الإنسان والقوى التي لا تدركها الأبصار؟ هل ثمة أساسٌ معقول للحقد والنقمة بين القدر وبين إرادة الإنسان؟ أثمة أي سبب مقبول لأن يكون القدر في موضع الحرب والقتال العنيف مع البشر؟

     من خلال التصور الإسلامي الراشد يكون الجواب على هذه الأسئلة جميعاً بالنفي، فالإنسان ما دام يهتدي في حياته بنور الله عز وجل الذي يشع على صفحات الكون، ويقدم الحلول لمشكلاتِ البشرية، ويلقي أضواءه على طبيعة العلاقة بين الخالق عز وجل وبين البشرية، ويضع المخلوق البشري في مكانة ممتازة جداً، إذ يعلن أنه أثمنُ عناصرِ الحياة وأنفسُها على الإطلاق، فسوف يرى هذا الإنسان أن إرادتَه ليست سوى امتدادٍ لقدرِ الله تعالى، الغالبِ النافذ، وأن قدرَ الله تعالى هو اليد التي تأتي للإنسان في ساعاتِ يأسهِ وتخبُّطِه، وحيرتِه وقلقه، وشقائه وأحزانه، لترفعَه إلى آفاقِ الأملِ والفرح، والسعادةِ والرجاء، لتطهره وتزكيه، وتهديه وتكرمه، وتقودَه صوب الطريق اللاحب العريض، طريق الهداية والسعادة في الدنيا والدين، وتنأى به عن الشرور والأذى، وتجنبه عثارَ الطريق وأشواكَه ورمضاءَه.

     إن الإنسان في التصور الإسلامي، النظيفِ الراشد، أكرمُ عند الله عز وجل من أن تقفَ حريتُه عاجزةً، إزاء ما يحيط بها من قيود البيئة والطبيعة، والعلاقات الاجتماعية، وأخطائه التي وقع فيها ذات يوم، ثم حاول بصدق أن ينجو منها، لأن حريتَه إنما تَسْتَمِدُّ من المعين الأكبر؛ معين قوة الله عز وجل وقدرته المطلقةِ الواسعة، وهو مَعينٌ غني كريم، ثرٌّ دفاق، يحرر الناس، ويمنحهم فرصة الاختيار والاختبار عن مسؤوليةٍ تُحْتَمَل، وأمانةٍ تُبَلَّغ، ورسالةٍ واضحة تحددُ كل شيء من قبل، فلا لَبْسَ ولا إبهام.

     والإنسان في هذا الكون ليس مجرد قطعٍ تتراصف إلى جانب بعضها، منبتَّةِ الجذور بالعالم، مقطوعةِ الأواصر بالحياة، مبتورة الوشائج بالكائنات. إن الأمر على خلاف ذلك تماماً، فالإنسان في التصور الإسلامي يعمل في انسجامٍ وتكاملٍ كوني مع الكائنات الأخرى، مرئية وغير مرئية، ضمن النسيج المتشابك المحكم لهذا الكون الذي ترتبط به مصائرُ خلائقِه وتتوحد في المدى البعيد، إنْ في عالم الغيب، وإنْ في عالم الشهادة. إنْ فيما يمتد إليه نشاطهُ المستمر الدؤوب، وإنْ فيما تعجز عنه قوتهُ الفانيةُ المحدودة.

     فهذا التصور يقف تماماً على النقيض مما وجدناه في الحس الغربي في القديم والحديث، حول القدر وحرية الإنسان، من مواقفَ عديدة، ورؤىً شتى، وتصورات متباينة، تحمل جميعاً طابَعَ الانغلاقِ على العالم والكون، والكراهية العميقة للقوى التي لا تراها العيون، وتسعى جميعاً بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تكريس الأوهام التي عَلِقَت بتصور الغربيين، وقدّمت لهم الكون منذ قدامى اليونان في صورةِ مسرحٍ لآلهةٍ مزعومة، تحرقُهم شهوة الانتقام، وتدفعُهم الأثرةُ إلى أن يرفعوا سلاحَهم القاهر في وجه الإنسان الشقي المنكود.

     إنه ليس ثمة مجال في حس الغربيين أن يروا الإنسان، كما هو في التصور الإسلامي الراشد أكرمَ عند الله عز وجل من أنْ تقف حريته حائرةً ضالة إزاء ما يحيط به من قيود البيئة والطبيعة، وآثام الماضي وأخطائه، وأنَّ بإمكان حريته أن تكسر هذا الحصار، وتفكَّ هذا الطوق، وتشكِّلَ مستقبلها ومصيرها. إن الإسلام يوقد في الإنسان شعورَه بكرامته، وإحساسَه بِقَدْرِهِ الكبير، ويُشْعِره أن ثمة قوةً كبيرة علوية، أكبر من البيئة والطبيعة والأخطاء، تسندُه وتقويه، وتريدُ له الخير، وتحبُّ له الهداية، وتفرحُ له إنْ أدركَ طريق السعادة والهناء.

     أثمة مجال لدى الغربيين لأن يقف الإنسان موقفَ الهادئ المتبصّر ليعرف مَنْ هو؟ وما مكانُه في الحياة؟ وما دورُه؟ وما غايتُه؟ وأن يعملَ جاهداً على توجيه حريتهِ لتنسجمَ مع حريات الآخرين، وأن يجاهدَ ليكونَ مصيره متوحداً تماماً مع تجربة حياته على الأرض، بدلاً من أن يعلنَ تمردَه الأعمى ضد هذه القوى، ويصطرعَ معها؟ الجواب: لا، وهو جوابٌ تشهدُ عليه أدلةٌ لا تحصى من شواهدِ الحياة الغربية.

     أما التصور الإسلامي فهو يهتفُ أَنْ نعَمْ، فللإنسان أن يسعدَ ويهنأ، ويطيبَ ويصفو، لا من خلال الصراع والعداء، بل من خلال الانسجام والتعاون، والتوحد والترابط مع الآخرين، ومن خلال طاعته لله عز وجل وانسجامه مع هديه الكريم. 

*****

الإنسان بين التوحيد والتعدد في المسرح الغربي

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

الإنسان بين التوحيد والتعدد في المسرح الغربي

     حين ينحرف الإنسان عن العبادة الحقة لله الحق، فإنه يسقط على الفور في شَرَكِ أحطِّ العبوديات، عبودية الهوى، وعبودية المال، وعبودية التراب وما إلى ذلك، فإذا به بدلاً من أن يعبد الله الواحد القهار فقط، دون أي شريك آخر، يعبد كثيراً من الأصنام، سواء كانت مادية أم معنوية. ولذلك إذا كانت السمة الأولى للإسلام هي التوحيد؛ فإن السمة الأولى للجاهلية هي التعدد، سواء كان هذا التعدد واضحاً مباشراً، أم خافياً ضمنياً.

     وجاهلية الحضارة اليونانية –التي لها أكبر الأثر في الحضارة الغربية المعاصرة– كانت تؤمن بكثير من الآلهة المزعومة، يدرك ذلك جيداً كلُّ مَنْ عرف شيئاً من أساطيرهم الوثنية المشهورة، التي عُنِيَتْ بها وبخرافاتها العجيبة، حضارةُ الغرب المعاصر، عنايةً بالغةً فائقة، واستلهمتها كثيراً في الآداب والفنون بأنواعها، لكنها في المسرح أظهر منها في أي باب آخر.

     وبصرف النظر عن فكرة التعدد في ذاتها، وما فيها من خطأ بالغ، وظلم للحقيقة، فقد أضافت الجاهلية اليونانية القديمة إليها فكرة العداوة الضارية بين البشر وبين أولئك الآلهة المزعومين، وخير مثال لذلك أسطورة "برومِيثيوس" سارق النار المقدسة. كان بروميثيوس هذا يستخدمه كبير الآلهة المزعومة "زيوس" في خَلْقِ الناس من الماء والطين، وقد أحس بالعطف على البشر، فسرق لهم النار المقدسة من السماء وأعطاها لهم، فعاقبه "زيوس" على ذلك بأن قيده بالسلاسل في جبال القوقاز، حيثُ وَكَّلَ به نَسْراً يرعى كبده طوال النهار، وتتجدد الكبد في الليل، ليتجدد عذابه في النهار، وهكذا دواليك. وليس من ذنب لـ"بروميثيوس" إلا أنه أراد أن يعاون الناس بالنار فسرقها لهم فاستحق هذه العقوبة، على أن "زيوس" لم يكتفِ بمعاقبة سارق النار بل أراد أن ينتقم من البشر أنفسِهم، فأرسل إليهم "باندورا" أول كائن أنثوي على وجه الأرض، ومعها صندوق مغلق فيه كافة الشرور ليدمر الجنس البشري بذلك، فلما تزوجها "إبيميثيوس" أخو "بروميثيوس" وتقبل منها هدية "زيوس" فتح الصندوق فانتثرت وانتشرت الشرور وملأت وجه الأرض.

     تلك هي طبيعة العلاقة بين الله عز وجل وبين البشر في حس اليوناني القديم. إنها علاقة عداوة وبغضاء، وتربص وشر، تدل هذه الأسطورة عليها بشكل شديد الوضوح، فالنار المقدسة نار المعرفة، قد استولى عليها البشر اغتصاباً وسرقة، على الرغم من إرادة "زيوس"، ليعرفوا أسرار الكون والحياة، و"زيوس" كان يريد لهم أن يظلوا في جهل مطبق فساءه هذا العمل، فوزع بينهم الشرور عن طريق حيلة الصندوق الذي حملته "باندورا"، وصبَّ نكال عذابه على "بروميثيوس" ذلك الذي عطف على البشر وسرق لهم النار ليستفيدوا منها.

     ولقد قالت أوروبا في جاهليتها الحديثة كلاماً كثيراً جداً عن الأساطير اليونانية المختلفة، وعن دلالاتها وإيحاءاتها، وعن هذه الأسطورة بالذات، لقد قالت عنها: إنها تمثل صراع الإنسان لإثباتِ ذاته، إثباتِ وجوده، إثباتِ فاعليته وإيجابيته، وأن عصيانَه وتمرده، إنما هو برهان الإيجابية والفاعلية، وإثبات الذات.

     إنه جهل مطبق فاحش الغلط يصفه الأستاذ محمد قطب بقوله: "إنه انحراف بشع تكاد تنفرد به –فيما أعلم– تلك الجاهلية اليونانية، فالجاهليات الأخرى –فيما أعلم كذلك– قد توهّمت وجود آلهة متعددة، وجعلت من بعض هؤلاء الآلهة؛ آلهةً شريرين، صناعتهم الشر والانتقام والإيقاع بالإنسان بلا غاية سوى التدمير والإهلاك، ولكن الجاهلية اليونانية وحدها هي التي اختصت بتصوير هذا الصراع المنفِّر بين البشر والآلهة المزعومة من أجل إثبات فاعلية الإنسان وإيجابيته، فكَتَبَتِ اللعنة على الإنسان أنه لا يُثْبِت ذاته إلا على حساب عقيدته، وأن ضميره لا يصطلح مع الله فلا يقوم الوئام في داخل نفسه بين رغبته الفطرية في إثبات ذاته، ورغبته الفطرية في الإيمان بالله".

     لقد تسربت هذه الأسطورة في أعماق اليوناني القديم، ووارثه الغربي الحديث وهي في الغرب اليوم، تستكن في لا شعور أبنائه ووعيهم الباطن، وتترك لديهم إحساساً واضحاً أو مبهماً بأن المرء لا يستطيع إثبات ذاته إلا من خلال الصراع بينه وبين إرادة الله التي تقسو عليه وتضطهده كما يتوهمون، وهذا يقود من دون ريب إلى نتاج مُرٍّ وخيم، وهو بالضبط عكس ما يتركه الإسلام في حس المسلم من أنه قادر على إثبات ذاته والتفوق والابتكار لا من خلال الصراع، بل من خلال طاعة الله عز وجل، والانسجام مع تعاليمه الكريمة التي تريد له الخير والسعادة في دينه ودنياه، وتحاول أن تجنبه الشرور والمهالك، وتمد له يد العون والغوث والهداية.

*****

القدر والحرية في المسرح الغربي

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

القدر والحرية في المسرح الغربي

     يمكن لك أن ترى في النشاط المسرحي، للغربيين المعاصرين، فكرة القدر الغالب من جهة، والحرية التي تحاول الظفر من جهة أخرى، تظهر بصور شتى وأشكال مختلفة لترسمَ ظلالاً كئيبة في حس الغربي ووجدانه، وتجعل حياته نهباً لشتى الصراعات، وتنأى به عن سلام القلب، وراحة الوجدان، وطمأنينة السريرة، فإذا به يشعر أنه ضعيفٌ مغلوب يُراد به الشر، ويُكادُ له من قِبَلِ قوى أعظم منه وأكبر، لا مفر له من مجابهتها، ولا سبيلَ له إلى تأكيد ذاته، وإثبات وجوده وفاعليته إلا من خلال الصراع معها.

     إنه موقف يمكن لك أن تتبينَ من خلاله ماذا يدور في حس القوم وشعورهم الواعي منه والباطن؛ عن ماهية العلاقة بين الله عز وجل وبين الإنسان، عن طبيعة الصلة التي تقوم بين الفرد الأعزل وبين القوة التي تنأى عن الأبصار، وتمارس إرادتها ضدَّه بشكل أو بآخر.

     إنه المنطلَقُ اليونانيُّ القديم الذي انبثق عنه المسرح الغربي أولَ مرة، وأخرج للناس أولى التراجيديات الكبرى، واستمر يصدر عن مَعينه هذا عبر العصور المختلفة شعورٌ بالصراع لا بالوئام، وبالسوء لا بالنفع، وبالأذى والشر لا بالمعروف والخير.

     وفي عصرنا الحاضر لم يتبدل هذا الشعور قط، ولم يفقد دلالته وإيحاءه العميق، بل على العكس ازداد إيحاءً ودلالة، إن بوسعك أن تتأكد من ذلك من خلال نظر فاحص في المسرح الغربي المعاصر، فلا تخطئ أن ترى فيه العلاقة بين الله تعالى وبين الإنسان؛ تُصَوَّرُ على ذلك النحو الخاطئ الذي يبدو فيه الإنسان ريشة تافهة تذروها الرياح العاصفة الهوجاء، أو ذرة تائهة تتقاذف مصيرَها الإرادة الغالبة، لا حولَ لها ولا طَوْل.

     ولقد أثّرت طبيعة أوروبا، وتكوينها الجغرافي والبشري مضافاً إليه ضآلة استفادتها من هدي المسيح عليه الصلاة والسلام، على تصور العلاقة بين الإنسان والقوى الغيبية، فأقامتها على قواعدَ من الصراع والعداء والحقد الذي لا ينضب له معين، يظهر ذلك حتى لدى أشد المسرحيين الغربيين بعداً عن الإيمان بالله عز وجل، حيث لا يخلو مسرحه من هذا الإيحاء المسيطر على أعصاب الغربي، وذهنه، وشعوره ولا شعوره، وهو أنَّ هناك قوة لا تراها العيون هي التي تحدد مصائر الناس، وتعبث بوجودهم، وتهزأ منهم وتسخر، وتقسو عليهم وتضطهد، سواء كانت تلك القوة روحيةً غيبية، أم طبيعيةً اجتماعية، أم ماديةً جبرية، وسواءً جاءت من فوقٍ، أم انبثقت من تحتٍ.

     يقول الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل: هذا هو موقف الإنسان الغربي من القدر، ابتداء من "سلاكرو" حيث الجبريةُ المطلقة، وحتى "سارتر" حيث الحريةُ المطلقة، يصدُر الجميع على ما بينهم من تفاوت عميق عن موقف واحد، ويتحركون على أرضية واحدة، يمكن تلخيصها بأنها الصراع مع القوى المحيطة بالإنسان، والكفاح الدائم ضد العالم الذي يضطرب فيه.

     إن القدر الذي تصب فيه هذه القوى جميعاً هو عدو لدود للإنسان، يسعى إلى سحقه، ويهدف إلى دماره، لا لشيء إلا لأنه يمتلك من أسباب القوى ما يستطيع به أن يتحدى الإنسان الضعيف العاجز المجرد من السلاح، ومن ثم تختلف مواقف الغربيين من هذا العناء المسلَّط على رقاب الناس؛ فمنهم من أعلن استسلامه المطلق وحنى رأسه لمعاول القدر تنزل فتهشمها تهشيماً لا يرحم، ومنهم مَنْ حاول أن يبحث عن أسباب هذا العناء في داخل الإنسان، في عالمه الباطني، وفي الأرض التي يتحرك عليها، وآخرون دفعهم هذا الموقف المريع إلى أن يتمردوا على القدر، وأن يلغوه من حسابهم إلغاءً، وأن يعلنوا من جهتهم حرية الإنسان، وقدرته الذاتية على الوصول إلى مصيره دونما خوف أو إرهاب ينصب عليه، من فوقه أو من أعماق ذاته.

     إن هذه النظرة العدائية، ذاتَ الإيحاءِ المحزن المدمر، والأثرِ العنيف المرهق، وهذا الموقف الذي يقوم على الصراع والتقاتل، والتدافع والكيد، والإضرار والأذى، هما نتاج تصورٍ منقوشٍ في ذهن الغربي، مستكنٍّ في أعماقه، متغلغلٍ في خلاياه جميعاً، وحسٍّ مطبوعٍ في أعصابه ودمه، ووجدانه وعقله، ووعيه الظاهر والباطن، وشعوره ولا شعوره، منذُ عصورِ أجداده اليونان القدماء الذي أرسوا الدعائم الأولى لهذا الموقف المحزن بين الإنسان وقدره.

     وما مِن ريب أنه كان لهذا كلِّه أثرٌ كبير فيما يعانيه الغربي المعاصر من تمزق داخلي، وتآكل نفسي، وبُعدٍ عن الانسجام والتواؤم، والرضى والسكينة.

*****

قدر الله وإرادة الإنسان في التصور الغربي

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

قدر الله وإرادة الإنسان في التصور الغربي

     هل ثمة مجال في تصور الغربيين لأن يلتقيَ قَدَرُ الله تعالى بإرادة الإنسان في انسجام وتوافق، ومن أجل أن تكون خطوات الإنسان أكثر ثباتاً، ونظراته أعظم سداداً، وطريقه أبين وأصح!؟ هل ثمة مجال في حس الغربيين لأن يَمد اللهُ سبحانه وتعالى يد العون إلى الإنسان في ساعات يأسه وقلقه وحيرته وتخبطه، فيرفعه إلى آفاق الأمل والرجاء، ويتدفق عزمه بالهمة والمضاء، ويبصر الدرب اللاحب العريض الذي ينبغي أن يسلكه صوب مصيره؟! هل ثمة مجال في تصور الغربيين وحسّهم لأن يكون القدر صديقاً حميماً للإنسان لا عدواً لدوداً له؛ صديقاً يسير معه جنباً إلى جنب، يهديه إذا ضل، ويقوِّمه إذا سقط، ويُسرع به إذا أبطأت به أحداث الزمن وكبّلت خطاه عقبات الطريق؟!

     يبدو أن الإجابة على هذه الأسئلة وأمثالها ستكون بالنفي؛ ذلك أن نظرة القوم هناك للقدر نظرة العدو للعدو، نظرة مَنْ يرى الآخر يشحذ سلاحه، ويتحفز للانقضاض عليه والفتك به وتدميره، يستوي في ذلك من ينظرون إلى القدر على أنه قوة علوية تنزل من فوق فتغلب وتسيطر وتقهر، ومن ينظرون إليه على أنه ينبع من حيث هم، من بيئتهم وتراثهم، وماضيهم وتقاليدهم فيَغْلِبُ هو الآخر ويسيطر ويقهر.

     فالكاتب المسرحي الأمريكي "يوجين أونيل" واحد من الطائفة الثانية في نظرته للقدر، فهو يرى أن ما يقع لنا من أحداث مصدرُه أنفسُنا التي طُبِعْنا عليها، والتي لا نستطيع أن نتحول عنها لنكون خلافَ ما نحن عليه، فقوى البيئة والبيولوجيا التي هي كامنة فينا وظاهرة، والتي لا نستطيع الفكاك منها قط؛ هي التي تصوغ حياتنا، وتملي علينا اتخاذَ مواقفَ معينة، شئنا أم أبينا.

     ولقد أوضح "أونيل" مفهومه هذا بما فيه الكفاية، وبيّن كيف أن الإنسانَ أسيرُ قوى بيولوجية وبيئية تتحكم في تركيبه النفسي الذي لا يستطيع أن يحيد عنه، ولعله أخذ نظرته هذه عن فكرة للطبيعيين خلاصتها: أن الإنسان محكوم في تركيبه الذهني والنفسي بعوامل الوراثة وظروف البيئة، وهو في كل مشكلة يُلْقَى فيها يصارع الضرورات التي تضيّق عليه الخناق صراعاً تؤثر فيه اعتبارات الوراثة والبيئة التي لا منجى منها ولا فكاك.

     ولم ينس "أونيل" أن يقف مع أصحاب النظرة الفوقية للقدر، ليعلن معهم رثاءه لحال الإنسان، وحبه العميق للإنسانية التي تقف في خضم الكون محارَبَةً وعزلاء في الوقت ذاته. وهكذا يبدو القدر في حس الغربيين بيئياً كان أم فوقياً، يضع الإنسان في العالم؛ وحيداً أعزل مجرداً من السلاح، إزاء قوى تفوقه بكثير، عليه أن يغالبها حتى النهاية. وهكذا يؤكد أنهم يجمعون على حس مشترك بالعداء المرير، والخصومة الضارية، والصراع غير المتكافئ بين الإنسان وبين القوى الغيبية، وهو حس تشرّبته دماؤهم طيلة عصور التاريخ الغربي ابتداء من عهد اليونان وحتى العصر الحديث، حيث التأكيد التام المستمر على علاقة الضغينة والبغضاء بين إرادة الإنسان وبين القدر الغالب.

     كاتب مسرحي آخر هو "جان آنوي" نرى عنده ما رأيناه عند "أونيل"، فأبطالهُ جميعاً مأسورون، إنهم أسرى قدر غالب نافذ ينبثق من الباطن هو حصيلة مكونات البيئة والوراثة والتجارب الزمنية المتراكم بعضها على بعض في كيان الإنسان، في لحمه وعصبه وشرايينه، في مزاجه وذوقه، في ذهنه وقلبه، في عقله وروحه، في مطامحه وآماله، فيما يُسَرُّ به وفيما يُساء. وهو بالذات يختار ماضي الإنسان وتجاربه وعلاقاته، والإنسانُ لديه توّاقٌ للحرية، لكنه يعاني من ضغط سلسلة من الأحداث الماضية الثقيلة، بمعنى أن الماضي تؤكده تبعية الشخص لمحيطه الاجتماعي بدلاً من أن يكشف عن ذاته الأصيلة العميقة فيستحيل بسببٍ من ذلك حملاً ثقيلاً يجره البطل طيلة حياته، وتصبح حياته كابوساً من المتاعب والآلام.

     إن بعض أبطال هذا الكاتب يتطلع إلى الطهر والبراءة، لكن ماضيه الدنس يلح عليه ويمنعه من ذلك. إنه يريد الخلاص ولكنه لا يستطيع.

     الحق أن نظرة القوم للقدر نظرة شديدة الخطأ، وهي تهمنا من حيث انعكاسها على نفسية المرء، إذ يظل يشعر طيلةَ عمره بالصراع والتقاتل، وأنه وحيد معزول عن كل عون، ومطلوب منه أن يدخل معركة ضارية مع قوى أكبر منه وأعظم، ومثل هذا الشعور كفيل بأن يقضي على كل ما في نفسه من سلام وأمن، وهدوء وراحة، فيظل متوتر الأعصاب، سوداوي المزاج ممزق الوجدان. وإننا حين ندرك ذلك بعمق نضع يدنا على أحد الأسباب القوية التي تقف وراء شقاء الإنسان الغربي ودماره.

*****

الإنسان الغربي والفنون

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

الإنسان الغربي والفنون

     ما مِن شيء يعكسُ التشويهَ النفسي، والقلقَ الروحي، والخواء الداخلي للإنسان الغربي بالمعنى الحضاري الواسع كالفنون، من الرسم والنحت والأدب، ذلك أن الفن هو المتنفسُ العفوي الوحيد المتبقّي له للتعبير عن أزمة الفكر وأزمة الوجدان، وأزمة السلوك، تلك التي يعاني منها ويكابد، وهو مسوق للدمار باستمرار في حضارته التي مزقته شر ممزق.

     لقد فتنته صحةُ العلوم النسبية عن حقائق الإيمان المطلقة، وسحرته روعةُ المنجزاتِ الكبيرة عن الأهداف والغايات، وسدَّت عليه تروسُ الصناعة الضخمة آفاقَ الطبيعة وآفاق نفسه على السواء، وسلبته آلية التكنيك الاجتماعي لمجتمعه الصناعي حرية الفعل ذي المعنى الأخلاقي، وحرمته دقةُ الأرقام روعةَ الخيال، وانغمس يدورُ ويدور من أجل إشباع مطلب لا يشبع؛ اسمه زيادة الإنتاج.

     وربما كان المسرح الغربي المعاصر أكثرَ الأنواع الأدبية إبرازاً لهذه الحقائق، وذلك لأن الفن المسرحي يكون في العادة ألصق بالحياة الاجتماعية من سائر الفنون الأخرى، ولأن للمسرح في الحياة الاجتماعية والتراث الأدبي للحضارة الغربية مكانةً خاصة ليست لسائر الفنون الأخرى. وللمسرح منذ نشأته وحتى عصرنا الراهن، قصةٌ مع القدر والحرية، تأخذ صوراً مختلفة، وأشكالاً شتّى، لكنه لم يُلقَ عليها غبار النسيان، ذلك أنها المحور الذي دارت عليه كبرياتُ الأعمالِ المسرحية بشكلٍ أو بآخر.

     يقول الدكتور عماد الدين خليل: إن الذي أعطى قضية القدر هذا الالتحام الوثيق بالمسرح هو أن المسرحَ أساساً من معطيات القارة الأوروبية، تميَّزت به منذ أن طلعت أثينا على العالم بتراجيدياتها الكبرى، وإلى اليوم حيث يطلع من هذه القارة بالذات روادُ مدارس ومذاهب مسرحية لا يقر لها قرار حتى تطلع بعدها موجات جديدة تكتسحها وتطغى عليها.

     ومعروف أن علاقة هذه القارة الصغيرة باللهِ عز وجل منذ فجر التاريخ وحتى الآن لم تقمْ يوماً على أساس صحيح فيما يجبُ أن تكونَ عليه العلاقةُ بين الخالق والعباد. إن هذه القارةَ الصغيرةَ، ذاتَ الظروفِ القاسية، والمناخِ الصعب؛ ظلَّ أهلها يتقاتلون فيما بينهم بحثاً عن موطئ قدم يمكِّنهم من ضمان حياتهم، وتأمين موارد عيشهم. ظلوا يتقاتلون ويتصارعون حتى لم يبقَ في وجدانهم مساحة يحتلها شعور نبيل بالسلام الذي يعم الكون، وبالحب الذي يسيِّرُ الخلائق، بالعطف والمودة التي فُطِرَ العالم والأشياء عليها، كما أن هذا الصراع استغرق كل وقتِهم وكل جهدهم، ولم يترك لهم وقتاً يطمئنون فيه إلى ما يعتملُ في نفسِ الإنسان دائماً من نداءٍ روحي وشفافيةٍ سماوية تدعوه في لحظات تأمله وسكينته أن يرفع عينيه إلى السماء، ويستجيب للنداءات التي تدعوه من هناك أن يرتفع ولو قليلاً عن مستوى الطين الذي يحاصر وجوده من كل مكان، ويُثْقِلُ روحه وضميره، عقله وفكره، وجدانه وسلوكه.

     نعم لقد عرفت الحضارةُ الغربيةُ المسيحيةَ، لكنها لم تعرفْها كما بُعِثَ بها المسيحُ عليه الصلاة والسلام، يقول الكاتب الأمريكي "درابر": إن الجماعة النصرانية وإن كانتْ قد بلغت من القوة بحيث ولَّت قسطنطين المُلْك، ولكنها لم تقطع دابرَ الوثنية، ولم تقتلعْ جرثومتها، وكانت نتيجةُ كفاحها أن اختلطت مبادئها بمبادئ الوثنية، ونشأ عن ذلك دين جديد مختلط، وهناك يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى على منافسه أي الوثنية قضاءً تاماً، ونشر عقائده خالصة بغير غبش. وإن الإمبراطور قسطنطين رأى لمصلحته الشخصية، ولمصلحة الحزبين المتنافسين الوثني والنصراني أن يوحدهما ويؤلف بينهما.

     وشهادة الأمريكي "درابر" واضحةٌ جليةٌ جداً، لكنني مع ذلك أسوق شهادة واحدٍ من علماء الإسلام الأوائل هو القاضي عبد الجبار، وهي شهادة وجيزةٌ وغنية يقول فيها: إن روما ما تنصَّرت، ولكن المسيحيةَ تروَّمتْ، وفي هاتين الشهادتين ما يكشف عن ضآلةِ استفادة أوروبا وهي زعيمةُ الغربِ فكراً وحضارةً من هدي السماء.

     نريد أن نخلصَ من ذلك كلِّه إلى أن معرفةَ أوروبا بالله عز وجل معرفةً حقيقية تيسِّرُ لها سبيلَ السعادة؛ ظلتْ محدودة جداً، فأدّى هذا إلى مآلٍ وخيم ظهرت آثاره أكثرَ ما ظهرت في تدمير بشرية الإنسان وآدميته، واستلالِ روحه وخصائصه، وتركِه نَهْباً لشتى الصراعات، ومنها الصراع القائم الدائم في حسّهم بين الحرية والقدر، مما يظهر نتاجه بوضوح في النشاط المسرحي؛ القديم منه والحديث.

*****

القدر في نظر المسرحيين الغربيين

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

القدر في نظر المسرحيين الغربيين

     تستطيع أن ترى لدى طائفة كبيرة من المسرحيين الغربيين فكرة النظر إلى القدر على أنه سلطان قوي نافذ، يسوق الناس شاؤوا أم أبوا إلى مصائر قاسية لا يريدونها، إنهم ينظرون إليه وكأنه قوة من فوق تتسلط على رقاب الناس، قوة خفية، غامضة مجهولة لا تريد الخير بالناس، قوة مستورة محجوبة تغيّبها السُّتُرُ عن عيون البشر، قوة نائية، يسمونها القدر مرة، ويرون فيها الله عز وجل مرة أخرى، ويطلقون عليها عالم الخفاء والأرواح مرة ثالثة، والصدفة العمياء مرة رابعة، ومن أمثال هذه التسميات والأوصاف التي تكشف طبيعة نظرهم للقدر. إنه الحس اليوناني القديم يسري في أعصابهم، ويرسم لهم هذه الأفكار الخاطئة الضالة.

     إن هؤلاء يعيدون لنا بصورة أو بأخرى ما كانت تقوم عليه المأساة اليونانية القديمة من صراع مرير بين الإنسان وبين آلهة مزعومة تريد به السوء، وتضمر له الأذى، وتعبث به وبمصيره وهي قوية غالبة، وهو ضعيف مغلوب، فتكون النتيجة هزيمةً منكرة للإنسان إزاء كيدها الكبير الذي يسعى إلى سحقه وتدميره، والهزء به والسخرية منه، واتخاذه ألعوبةً يُقذَفُ بها ذات اليمين وذات الشمال، كأنها ريشة طائرة في مهب الريح، وبذلك يكون مصيره أن يظل سائراً في مسالك هذه الدنيا الحزينة المؤلمة التي تقسو عليه، وتحت سماء مغلقة لا ترحمه حتى تنتهي حياته بالموت الذي ما منه مهرب.

     إن هؤلاء المسرحيين يعترفون بالقدر ويشعرون به، ويجعلون منه قاعدة ضرورية لأي مسرحية تنأى عن الواقع اليومي، وتبتعد عن التفاصيل المباشرة الزائلة، وتبحث عن القيم الكبرى وعن الإنسان وصراعاته في عالمه الكبير، عن جدوى سعيه وكفاحه، وعن مصيره في خاتمة المطاف.

     نعم قد تختلف الاتجاهات بين كاتبٍ وآخر، بين طائفةٍ وأخرى، لكنه خلافٌ في الاتجاه فحسب، وليس خلافاً في أصل القاعدة. فابتداءً من المؤمنين بالجبرية المطلقة المسيطرة على رقاب الناس، وانتهاءً بالذين يرفضون أي وجود علوي فوق الإنسان وخارج إرادته الحرة، ويتبنون فكرة حريته المطلقة، مروراً بمن اتخذوا مواقف شتى بين هذين الخطين المتباعدين نجد الحس القدري يملأ نفوس أبطال هؤلاء الكُتّاب، ويحدد مواقفهم إزاء الأسئلة الكبرى التي يطرحها عليهم اضطرابهم في هذا العالم الشائك المعقد.

     يقول أحدهم: هناك أحداث تجري على مسمع منا ومرأى، وهناك أحداث أخطر وأبعد تتم في الخفاء، وليست الأحداث التي تقع فعلاً أمامنا إلا نتيجة حتمية وأثراً لتلك الأحداث الخفية.

     إننا نعرف على الدوام جزءاً من الحقيقة هي القشرة الخارجية، أما الحقيقة الأضخم، الحقيقة الفعالة التي تولِّدُ الحقيقة الظاهرية فنحن لا نراها بل هي موحاة لنا فحسب، علينا أن نُخمِّنها، وقد نتخبط وقد نصيب، ولكن الشيء المؤكد أن هناك حقائق غامضة مجهولة هي التي تسيطر على أقدارنا ومصائرنا، هناك قوى خفية مهولة تخط لنا حياتنا، أي الحقيقة الظاهرية، هناك أشياء كثيرة تحدث، وروابط كثيرة تتعقد في الخفاء في الظلام، ومع ذلك فهي تسطر على أقدارنا، وترسم تصرفاتِنا وسلوكَنا، وسعادتنا وشقاءنا، وتحركنا بخيوط غير منظورة.

     إنها صورة كئيبة هذه التي لمسناها في حس هذا الكاتب الذي سمعنا قولته هذه، حس كئيب يشهد بضخامة تصور القوم الخاطئ لفكرة القدر القاسي الذي يسيّر الإنسان وفق مصير سيئ لا اختيار فيه. على أنك تستطيع أن ترى بين المسرحيين الغربيين من يتبنى اتجاهاً مغايراً لكنه لا يخرج عن القاعدة الأصلية، فثمة طائفة ترى أن القدر ليس أبداً تلك القوة العلوية الفوقية التي تنصب على الإنسان من خارج ذاته، بل هو قدر نابع من داخله، من أعماقه ومن عاداته وتقاليده، ونسيج حياته اليومية، ومن ماضيه المنصرم. إن أبطال هذه الطائفة تأسرهم بيئتهم وإرثهم وتجاربهم.

     إن القدر ها هنا يكمن على الأرض، ويتفجر من الوجدان والضمير، ولكنه على أي حال قدر، قدر يرسم للناس مصائرهم المحتومة، ويجبرهم على سلوك طريق محدد ليس منه فِكاك، ويصل بهم آخر الأمر إلى غايات وأهداف لم يكونوا يريدون الوصول إليها، ولا سعوا لاختيارها.

     وبين هذه الطائفة، وبين الطائفة الأخرى خلاف لا شك، لكنه خلاف داخل الدائرة التي لمسناها منذ الحس اليوناني القديم، والتي لا ترى في صلة الإنسان بالقدر سوى صراع متصل سواءً نبع من تحتٍ أم جاء من فوقٍ، وإنه لحِسٌّ مُستكن في أعمق أعماق الوجدان الغربي ينأى به عن الطمأنينة والسكينة، والود والمحبة، والصفاء والرضى.

     لقد ظلت عيون القوم هناك في بلدان الغرب الحضاري مركَّزةً على الأرض، وظلت آمالهم وتصوراتهم، نشاطاتهم وأشواقهم، تطلعاتهم واهتماماتهم؛ حبيسةً بين جدران الحس الكثيف والمادة الطاغية، وظلت أقدامهم مغروزةً في الطين قلَّ أن تحاول النجاء منه والهروب، وظلت أمكنتهم وأزمنتهم نهباً للصراعات القاسية المريرة بين الكنيسة والدولة مرة، وبين البلد والآخر مرة أخرى، وبين أبناء البلد الواحد أنفسهم مرة ثالثة.

     وبسبب من ذلك، وبسبب من ضآلة استفادة القوم من هدي المسيح عليه الصلاة والسلام، جاءت نظرة الغربي للعلاقة بين القدر وبين الإنسان، أو بين الله تعالى وبين الإنسان؛ لأن القدرَ إنما هو إرادةُ الله عز وجل، وليدةُ تلك الظروف القاسية من ناحية، ووليدةُ ضآلة الاستفادة من رسالة المسيح عليه الصلاة والسلام من ناحية أخرى، جاءت مطبوعةً بطابع الصراع موسومةً بميسمه ولم تأتِ مطبوعةً بطابع الإنسان الذي يحب خالقه ويخشاه، ويفوِّض إليه أموره، ولا بطابع رحمةِ الله عز وجل التي تريد للبشر إسعادهم، وتحنو عليهم وترحمهم.

     خُذْ فترة الحياة الوثنية هناك؛ أترى فيها غير معنى هذا الصراع المدمر المرير؟! لقد ابتكر الخيال اليوناني القديم مئاتٍ من الآلهة المزعومة، كانت فيما يتوهمون تصارع الإنسان وتؤذيه، وتقسو عليه وتضطهده، وتنزل به عقابها الصارم، بل إنها لتتصارع فيما بينها ليعلو بعضها على بعض، ويستأثر دونه بالنساء والأموال والبنين.

     إن ثمة خطأين بالغين ها هنا: الأول خطأ الفكر الوثني الذي يؤمن بآلهة مزعومة من دون الله عز وجل، والثاني: خطأ طبيعة العلاقة مع الإنسان، حيث تحاول القوى التي هي أكبر منه إيذاءه باستمرار.

     ثم خذ فترة العصر المسيحي، وانظر إلى فكرة الخطيئة والخلاص؛ إننا نلمح هنا فكرة القدر القاسي الذي لا يرحم كما هو في حس القوم، حيث لا بد من التكفير عن خطايا بني آدم بتضحية وفداء عظيم، ومن ثم يكون الصلب كما يزعمون. إن الفكرة هي هي: مصيرٌ قاسٍ يحكمُ الإنسان، وإرادةٌ تعلو إرادتَه، تضطهده وتقسو عليه، ولا تريد به الخير قط، بل تؤذيه وتضع في طريق مطامعه الصعابَ والعقبات.

     ثم خذ العصر الأخير للقوم، عصر العلمانية المادية الحديثة، حيث طفق الغربي يتصرف بمعزل عن كل توجيه سماوي، سواء آمن بوجود خالق قدير مدبر، أم لم يؤمن به، الحالة سيّان من حيث التعامل المادي، والتحرك المعاشي، والسلوك العملي، والمطامح والرغائب، والأشواق والآمال، والتخطيط والتدبير؛ إن ذلك كله، وكل ما هو مثيلٌ له، إنما يصوغه الرجل الغربي منطلقاً من فكرة المنفعة فحسب، منعزلاً به عن أي هديٍ كريم أو توجيه سماوي نبيل. إنه يشعر بأن الحياة بين الأحياء غابة يجب أن يفوز بها بأي ثمن. هي صراع لا يهدأ سواء بين الناس بعضهم وبعض، وسواء بين الناس والقدر.

     والمسرح الحديث في الغرب اليوم، على الرغم من تقدم الإحساس بالمادة، وتراجع الشعور بالأخلاقيات الدينية، يعبّر بشكل أو بآخر عن قوة ما، قوة ينبغي أن يقف الإنسان منها موقف الخصام والصراع الذي يحمل طابع المأساة.

     وإن أكثر المسرحيين الغربيين بُعداً عن الفكر الديني لم يخلُ مسرحهم من هذا الإيحاء المسيطر على عصب الغربي، وذهنه ووجدانه، إنه يشعر أن ثمة قوةً لا قِبَلَ له بها تحكم المصائر، وتحدد النهايات، ويعبث بالوجود، قوة يسميها الغيبَ مرةً، ويسميها القدرَ أخرى، ولا يرى ثمة مجالاً لأن تحنو هذه القوة على الإنسان، وتحاول إسعاده، وتمد له يد العون.

     إن الحس القديم لدى اليوناني الوثني الذي أبدع المسرحيات المعروفة يمتلكه هذا المعنى حيث نشهد عند "سوفوكليس" وأضرابه من المسرحيين؛ ذلك الصراع المأساوي المحزن بين الإنسان وبين القوى الغيبية، غير المرئية التي تسوقه إلى مصير ظالم لا اختيار له فيه، وهذا الحس القديم نلتقي به جديداً لدى الغربي المعاصر، حيث يعبر عن هذا المعنى بأشكال شتى، وصور مختلفة، تظهر في المسرح أكثر مما تظهر في غيره من الفنون. قارن هذا الحال الكئيب، والحس الخاطئ المدمر، والمآل المأساوي المفجع بما يقابله في التصور الإسلامي لترى الفرق الشاسع والبون الكبير؛ إن نظرة المسلم للقدر ليست نظرة عداء قط، فالقدر إرادة الله عز وجل، الذي يريد له الهداية والخير، والذي هو أحنى عليه من أمه وأبيه، والذي لا يخطئ المسلم أن يلمس رحمته وثوابه قط حتى في حالة الضراء والمصائب، فضلاً عن حالة السراء والسعادة. إنه لفرق هائل ضخم، ولا غرابة في ذلك، فالفرق بين نظرة المسلم للقدر ونظرة الغربي له، هو الفرق بين هدي السماء وأوحال الجاهلية.

*****

الأكثر مشاهدة