الأحد، 23 يناير 2022

جود عثمان بن عفان

جود عثمان بن عفان

     اشتدت الضائقة بالمسلمين في المدينة المنورة، فقد شحّت الأقوات، وندر الزاد حتى صار لدى بعضهم كالسراب يتوهمه هنا وهناك ماءً عذباً فراتاً حتى إذا جاءه غلبه الهم والحزن، واستبد به القلق والضيق.

     ثمة رجال يسيرون في الطرقات ذاهلين مرهقين، كل منهم يبحث عن شيء من القوت يُسكت به صراخ بطنه المتواصل، وهبْ أنه قادر على الاحتمال إلى حين.. كيف الأمر للصغار الجياع الذين لا يحتملون مثل الذي يحتمل من جهد وشدة ونصب!؟ كأن على ظهره سوطاً حاداً يلهبه ويشتد عليه، سوط الزوجة إذ تطلب الطعام، وسوط الأطفال إذ يتلقونه على باب المنزل وقد أضرّ بهم الجوع المتواصل العنيف.

     لولا أن فيه رجولة تمنعه من البكاء لسارع إلى البكاء. إنه أبٌ مسؤول، لكنه لا يقدر على أداء حق هذه المسؤولية، وأنّى له ذلك وليس ثمة طعامٌ يشتريه مهما غلا الثمن وتضاعف. ولا بد أن بعض هؤلاء الجياع شكوا أمرهم إلى الخليفة أبي بكر، ولا بد أنه بذل صادق جهده كي يتدبره.. ولا بد أنه كذلك نصح هؤلاء بالصبر وانتظار الرحمة والفرج.
* * *

     وتعاظم الأمر وتفاقم، وكانت أيام جدباء، شاقة مضنية، عجاف صعاب.. رأى الناس هولها بالعين، وكابدوه في حركة الأمعاء، وضجيج البطون الخاوية.

     وطفق حديث المجاعة يفشو وينتشر هنا وهناك.. الأرض داكنة غبراء.. والقوت نادر عزيز، والبطون ترهق أصحابها، والطعام صار أمنية غريبة بعيدة، كأنها شبح يظهر ثم يختفي.. حتى بات كأنه قد اختفى من دنيا الناس، فلا يكاد يظفر به أحد. ويبحث الناس ثم يبحثون، ويدورون في ذهاب وإياب.. ويحتملون من العناء نصيباً مفروضاً صار حمله ثقيلاً ثقيلاً.. ويعودون آخر المطاف ليعتصموا بالصبر الذي نصحهم به والد شفوق ومسؤول وفيٌّ حنون.

     والتجأ الناس إلى الرحمة التي لا تنقطع، والعون الذي لا يغيب، فكان دعاءٌ حارٌّ مخبِت، وكانت إنابة صادقة كريمة، وكانت ضراعة خاشعة مبتهلة. واجتاح الطمع المؤذي المهلك طائفة من التجار ذوي النفوس المرضى، فإذا بهم يُغالون في الأسعار، وإذا بالجشع يصل فيهم غايته، يريدون الثراء العاجل الظالم، ثراء من لا يبالي كيف يجتمع لديه المال، ولبئس ما اختار هؤلاء الطامعون لأنفسهم! ولبئس ما صنعوا!.

     وذات يوم سرى في الناس نبأ حلو بهيج، كالحلم الذي يعطر قلب المحروم، كالطل يسقي النبات الظمآن، كالنسيم العليل يغدو بعد نهار صيف محرق، كالصحة توافي بعد مرض مزمن عضال، كالدفء يسري بعد صقيع طويل قاتل. قافلة كبيرة تحمل الأقوات على ألف بعير وصلت، فيها الزيت والزبيب، والسمن والحنطة.. وشتى أنواع المآكل التي صارت مثل ذكرى باهتة لدى بعض الناس.
* * *

     وتساءل الناس: لمن هذه القافلة الضخمة الكبيرة!؟ وعلموا أنها لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فاطمأنت بذلك القلوب، وسعدت النفوس، فعثمان رجلٌ طيب، هينٌ ليّن، سمحٌ جواد، وتراكض التجار إلى عثمان في سرعة ونشاط، ولعلهم كانوا بالقافلة أشد فرحاً من الفقراء المعوزين، ذلك أن لكل مِنهم حساباته التي طفق يديرها في ذهنه، ويتخيل الأرباح التي يمكن أن تعود عليه من وراء صفقة كبيرة كهذه، في ظرف خاص كهذا، ودخلوا على عثمان، يحدوهم ربح كبير، ويسوقهم حساب مالي ضخم.. ووقفوا بين يدي ذي النورين يريدون شراء بضاعته التي وصلت في الحال.

     ورحّب ذو النورين بهم، وانبسطت أساريره فدفعوا له في كل درهم درهمين.. وانتظروا، يا للعجب! إنه لم يبادر إلى القبول، على الرغم من هذا الكسب الوفير، لكنّ انتظارهم لم يطل فقد سارعوا يدفعون له بالدرهم الواحد أربعة دراهم.

     وامتلكهم العجب!.. إنه لم يقبل، بل قال لهم كما قال في المرة الأولى: "أُعطِيتُ أكثر".

     وكأن ألسنتهم انعقدت من الدهشة!.. إنهم يعرفونه صادقاً لا يكذب، لكنهم يعرفون أنه لا يوجد تاجر متغيّب فكيف الأمر!؟ إنها لحيرة بالغة.. لكنها لن تدوم.

     فإن حرص التجار على إنجاز الصفقة كان أكبر؛ لذا سارعوا يدفعون له بالدرهم خمسة دراهم.. وابتسم ذو النورين في هدوء.. وهو يقول: "أُعطِيتُ أكثر!". وسكت التجار وتلاحقت بهم الأنفاس، وسكتوا عن الزيادة وذو النورين هادئ ساكت، حتى إذا عَلِم أنه ليست لديهم زيادة يدفعونها قال في تواضعٍ وهدوءٍ وحياء: "فإني أشهِد الله أني جعلتُ ما حملَتْ هذه العيرُ صدقة على المساكين وفقراء المسلمين".

     ومضى عثمان يوزع البضاعة، وهو فرحٌ سعيدٌ هانئ، والتجار صامتون واجمون.. لقد آثر الباقية الخالدة على الفانية العاجلة، وهزم دواعي الشح والحرص في نفسه، لتكون وديعته تلك قرضاً ينمو ويتضاعف عند رب العالمين.
*****

السبت، 22 يناير 2022

صهيب الرومي شاري نفسه

صهيب الرومي شاري نفسه

     وُلِدَ في أحضان النعيم، ومات في أحضانِ النعيم كذلك، لكن شتّانَ بين هذين النعيمين شتّان.. ألَا إنّ البَوْنَ بينهما بعيدٌ ممتدٌ شاسع.

     فالنعيم الذي وُلِدَ في أحضانه نعيم الجسد شبعاً ورِيّاً وزينة، ومركباً فارهاً، وظلاً ظليلاً، وماءً عذباً جارياً، ومسكناً كبيراً يزدحم بالفاخر من الأثاث، ثم لا شيءَ بعد ذلك.

     أما النعيمُ الذي ماتَ في أحضانِه فهو نعيم القلب يرتوي بعدَ ظمأ والنفسُ تهدأُ بعد أن عرفَ الحق، واستيقنَ من وضوح السبيل، سبيل الحقِّ بيِّنةً شامخةً كريمة، ذلك أن صاحبنا شهد بزوغ شمس الإسلام في أيامِه الأولى في مكة المكرمة فما عَتَمَ أنْ أسلم، فكان من إسلامه في نعيمٍ يتجددُ ولا ينفد، يسمو ولا يقصُر، يعلو ولا يخبو، يمتدُّ ولا ينحسر.. ظَلَّ في بستانه الوارِفِ الفَيْنان حتى لقِيَ وجهَ ربِّه.

     كان أبوه والياً لكسرى وفي قصره على شاطئ الفرات الحالمِ مما يلي الجزيرة والموصل عاشَ الفتى هانئاً سعيداً في ظِلالٍ من النعيم، نعيم الجسد، ثم لا شيءَ بعدَ ذلك.

     واجتاحتِ المنطقة هجمة شديدة من قِبَلِ الروم، ما لبِثت أن تكشّفت فإذا بالفتى المُنعَّمِ أسيرٌ في بلاد الروم.. ويتنقل على أيدي تُجّار الرقيق فإذا به آخر الأمر في مكة المكرمة.. وقد لحقَ باسمِه وَصْفٌ يعودُ إلى البلد الذي أسَرَهُ أول مرة.. وإذا به يُعرَفُ بهذا الاسم الشامخ في تاريخ الإسلام "صُهَيْبُ الرومي".
* * *

     والتقى ذات يومٍ بعمار بن ياسر على باب الدار التي لها في قلوب المسلمين ذكرى باهرةٌ عاطرة، دار الأرقمِ بن أبي الأرقم قُرْبَ الصفا حيث يستخفي المسلمون بدينهم من بطشِ قريش، ويجتمعون إلى رسولهم صلى الله عليه وسلم، يتعلمونَ منهُ دينَهم، ويتواصَونَ بِنَشرِ رسالته بين الناس، ويتواصونَ كذلك بالحق والصبر.

     ولم يكن اجتياز عَتَبَةِ الدارِ الكريمة التي كانت مَحْضناً للحق والخير، والعفة والصدق، والفضيلة والإيمان أمراً ميسورَ التكاليف.. لا، كان أمراً شاقاً ثقيلاً لا يقوى عليه إلا نُدرةٌ من عظامِ الرجال.

     كان اجتياز عَتَبَةِ الدارِ الكريمة إيذاناً بعهدٍ زاخِرٍ من المسؤوليات الصِّعابِ الجِسام، سخريةً وأذى، وبطشاً وتنكيلاً، وحرباً خسيسةً ضارية، يشُنُّها قومٌ يكرهون مَقدِمَ الخير، ويُصِرُّون على البقاءِ في ليلِ الجاهليةِ والآثام.

     ولم يكن صهيبٌ يجهلُ ذلك، بل كان له علمٌ به واسعٌ بصير، ومع ذلك أقدمَ غيرَ هَيّابٍ ولا وَجِل، ذلك أنَّ نداء الإيمانِ لا يُقاوَم وشذى الحقِّ لا يُحبَس، وعبير الدين الجديد يملأ أفئدة الأبرار فضلاً وصِدقاً، وتضحيةً وهداية.

     أسلمَ صهيبٌ وأسلمَ عمار، ومنذُ لقائهما ذاك على باب الدار الكريمة.. كان لهما في تاريخ الإسلام دورٌ كبير.
* * *

     أخذ صهيبٌ مكانهُ في قافلة المُعذَّبينَ في سبيل الله، واحتملَ نتائجَ اختيارِه برجولةٍ كاملة، وشجاعةٍ بالغة، وعزمٍ لا يلين. وكشفتِ الأيامُ عن نقاءِ معدنه، وصفاءِ سريرته، وأصالة شخصيته؛ فإذا هو في مقدمةِ صفوفِ الباذلين والمجاهدين.

     اسمع حديثَه هذا لترى أيَّ رجلٍ كان، يقول صُهيب "لَمْ يشهَدْ رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً قط إلا كنتُ حاضرَه، ولم يُبايِع بيعةً قط إلا كنتُ حاضِرَها، ولم يَسِرْ سَريَّةً قط إلا كنتُ حاضِرَها، ولا غزا غَزاةً قط أوّلَ الزمانِ وآخرَه إلا كنتُ فيها عن يمينه أو شماله، وما خافَ المسلمون أمامهم قط إلا كنتُ أمامهم، ولا خافوا وراءَهم إلا كنتُ وراءَهم، وما جعلتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينَ العدو أبداً حتى لقِيَ ربَّه".

     كلماتٌ وِضاءٌ عِذابٌ تكشف بصدقٍ وجلاء عن عظَمةِ هذا البطلِ المجاهدِ الكريم. ألَا بورِكتَ يا صهيب! وبُورِكَ الدِّينُ الذي أنجبك! وبُورِكَ النبي الذي على يديهِ اهتديت!.
* * *

     وذات يومٍ هاجرَ المسلمون إلى المدينة المنورة، وكان مِمَّن هاجر صهيبٌ الرومي.. لقد مضى يقطعُ الصحراء صَوبَ مَأرِزِ الإيمان ليكون لَبِنةً قويةً في بناءِ المجتمعِ الجديد. لكنَّ عدداً من سُفهاءِ قريش لحقوا به فأدركوه يريدون أن يَرْجِعوا به إلى مكة المكرمة.. فسارَع إلى الأرضِ ونَثَرَ سهامه بين يديه، وصاحَ بالمُطارِدين: "يا معشر قريش! لقد علمتم أنّي من أرْماكم رَجُلاً، وايْمُ اللهِ لا تَصِلون إليَّ حتى أرميَ بكل سهمٍ معي في كِنانتي، ثم أضربكم بسيفي حتى لا يبقى في يدي منهُ شيء، فأقدِموا إنْ شِئتُم.. وإن شِئتُم دَلَلْتُكُمْ على مالي وتتركوني وشأني!".

     وأدركَ القومَ خوفٌ وطمع.. خوفٌ من تهديدِ صهيب، وطمعٌ بِمالِه.. فتركوه وشأنَه وعادوا يأخذون ماله بعد أن دَلّهم عليه. ينبغي ألا يفوتَنا أنَّ القومَ صدَّقوا قوله مُسارعين، ولم يسألوهُ بيِّنةً أو علامة، ولم يستحلِفوه على ما قال.. وذلك أنه كان وهو المؤمن، وهم الكفار فوقَ مستوى الظنون.

     ولقيَ صهيبٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في قُباء فإذا به يُبشِّرُه بقولِه: "ربحَ البيعُ أبا يحيى، ربحَ البيعُ أبا يحيى!".. وحقاً لقد ربحَ بيعُ صهيب أبي يحيى، فقد أعطى ما يَفنى ليكسبَ ما يبقى، وحَسبُكَ أنه نزلَ فيه قولُه تعالى: "ومِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ، وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ".
*****

أسعد بن زرارة يوم العقبة

أسعد بن زرارة يوم العقبة

     مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة عشر سنوات يدعو قومه إلى الإسلام، وهم يأبون عليه ويقابلونه بما يكره، إلا نفراً قليلاً أضاءت لهم نفوسهم حالك الظلام بما فيها من خير رشيد، وفطرة كريمة، فإذا بهم يُسلِمون على الرغم من كراهية قريش، وعلى الرغم من عدوانها، وعلى الرغم من فجورها وبذاءتها في الخصومة.

     ولم يتوقف عليه الصلاة والسلام عند قريشٍ وحدها، بل مضى يَتْبَعُ الناسَ في أسواقهم، في عكاظ، وفي مَجَنَّة، وفي المواسم، وهو يقول "من يُؤويني!؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي!؟" فلا يجد أحداً ينصره؛ ذلك أن قريشاً لم ترضَ بما هي عليه من العداوة والبغضاء للإسلام حتى طفقت تفتري على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وتخترع الأكاذيب وتلصقها به، فمرّةً هو –على زعمها– ساحر، ومرة شاعر، ومرة كاذب، وهكذا..،

     لقد شاع ما أطلقته من أكاذيب وانتشر، فشرّق في جزيرة العرب وغرّب، وتناقلته القبائل المختلفة، فتأثرَت بهذه الأكاذيب؛ حتى إن الرجل لَيَخرُج من اليمن أو مُضَر فيأتيه قومه وذوو رَحِمه، فيقولون له: "احذر غلام قريش لا يفتنك!"..

     وعلى الرغم من حملة الأكاذيب هذه الضارية الشديدة لَم يتوانَ صلى الله عليه وسلم قط في إبلاغ الدعوة، والطوف على الناس أفراداً وجماعات، يدعوهم للخروج من الظلمات إلى النور.. كان احتماله قوياً جداً.. وكان صبره فريداً جداً، وكان إيمانه بالحق الذي بُعِث به وثيقاً مكيناً لا حدود له.. وحسبك أن تعلم أنه إذ كان يطوف على القبائل في مواسم العرب يدعوها إلى الإسلام، كان يمشي وراءه عمه أبو لهب -لعنه الله- يحذِّرُ الناسَ منه .. فكانوا يصغون إليه وهم يقولون: أهل الرجل وذووه أعرف به مِنّا.. لكن هذا كله لم يفتَّ في عضده عليه الصلاة والسلام يطوف على الناس إذ يجتمعون في أيام الحج.. أو أسواق العرب وهو يقول "من يُؤويني!؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي!؟".

     وشاء الله عز وجل –وهو العليم الحكيم– أن يتراخى الزمن ويمتد قبل أن ينهض حيٌّ من العرب يعلن للرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيحميه وسيؤويه وسينصره حتى يبلّغ رسالة ربه إلى الناس. هذا الحي الذي انفرد بهذه المكرمة، واكتسب بها شرفاً ورِفعة حتى يوم الدين قوم من المدينة المنورة، هم الأنصار، رضي الله عنهم، وأجزل لهم الثواب.

     وأسلمَ عددٌ من الأنصار على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.. وعادوا إلى المدينة المنورة يدعون قومهم إلى الحق، ويُحذرونهم من الشرك، ويُخلِصون لهم في النصح. وفشا الإسلام في المدينة المباركة وانتشر.. وحين حَلَّ موسم الحج كان هناك سبعون رجلاً منهم قد واعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعب العقبة.. ليسألوه قائلين: "يا رسول الله علامَ نبايعك؟"..

     قال صلى الله عليه وسلم: "تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة".

     كلمات قلائل تلك التي قالها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.. لكنها في غاية الخطورة حين يمعن الإنسان فيها النظر، إنها التزام جدّي خطير بالغ الأهمية.. لما تحتاجه الدعوة الجديدة من عونٍ وقوة، وبذلٍ وتأييد، ونصرةٍ وعطاء.. ترى أأدركَ الأنصار الكرام خطورة هذه البيعة؟ ترى أكان وفاؤهم من بعد على مستوى إدراكهم؟ إن تلاحق الوقائع، وتدافع الحوادث.. ونمو حركة الإسلام فيما بعد.. هذا كله كشف عن عظمة الأنصار وبطولتهم، كشف عن إدراكهم العميق لخطورة البيعة، وكشف التضحيات.. وحين تُمعن النظر في السيرة النبوية الشريفة ترى الوفاء النادر الذي كان عليه الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته الكريمة.

     لكن قد يتساءل أحد: أكان الأنصار ساعة البيعة مُدركين خطورتها وجدّيتها وعِظمَ ثمنها وضخامة أبعادها!؟ الجواب: أجل؛ كانوا كذلك. يكشفُ عن ذلك موقف أسعد بن زُرارة رضي الله عنه الذي كان واحداً من السبعين، وكان أصغر القوم جميعاً إلا واحداً. وقف أسعد بن زرارة ليقول لقومه: "رويداً يا أهل يثرب! فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإنَّ إخراجهُ مناوأة للعرب كافة، وقتل خياركم، وتعضكم السيوف، فإما أنتم قومٌ تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قومٌ تخافون من أنفسكم خيفة فذروه وبَيِّنوا ذلك، فهو أعذر لكم عند الله"..

     أيُّ قولة رائعة هذه التي نطق بها أسعد!؟ أيُّ إدراكٍ عميق لضخامة ما هو مُقدِمٌ عليه هو وقومه!؟ أيُّ شعور نبيلٍ بشرف الكلمة ينطق بها الإنسان فيلتزم بها وإن عَظُمَت!؟ أي إحساس بجدية ما دعاهم صلى الله عليه وسلم إليه من أمر!؟

     لا شك أن أسعد بن زرارة كان له نصيب من ذلك يدل على عمق فَهْم من ناحية، وعلى أصالة نفس من ناحية أخرى. كان حريصاً أن ينظر قومُه فيما هم مُقدِمون عليه، لأنه يعلم يقيناً أنهم مُقدِمون على أمر عظيم.. إن هذه البيعة ذات نتائج كبيرة، منها حروب ضارية شديدة سيُقتل فيها أشراف القوم، وترميهم العرب عن قوس واحدة.. ستبذَلُ الأموال، وتُفقَدُ الأرواح، إنه لثمن باهظ ثقيل لولا أنه في مقابل الجنة!..

     وضَع أسعد بن زرارة الأمر جلياً واضحاً أمام قومه، ليختاروا عن بيِّنةٍ ووعيٍ وإدراك حتى لا يندموا ذات يوم. وهاهم الآن بعد أن أدركوا عِظَمَ المسؤولية، وفداحة الأمانة، وخطورة البيعة، مطالبون باتخاذ الموقف الذي يريدون. واختار القوم، فكان اختيارهم شاهد صِدقٍ على أصالة نفوسهم، وعميق إيمانهم، وصدق نيّتهم. لقد قال قائلهم لأسعد فيما يُشبِه اللوم: "أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نسلبها".

     لقد بايعوا من بعد موقف أسعد، وكانوا على مثل الشمس في رابعة النهار مما هم عليه مُقدِمون.

     رجالٌ كرامٌ أوفياء، سادةٌ نُجُب، موقفهم نبيل، وموقف أسعد نبيل وأكثر من نبيل! لقد جمع صدق الفهم والإدراك، إلى جدية الإحساس بالمسؤولية، إلى الشعور العميق بجدية ما يصنع هو، وما يصنع قومه. ولقد كانت الأحداث التي تلت فيما بعد أعظمَ شاهدٍ على نُبلِ الأنصار ووفائهم، وخير دليلٍ على عظمة ما صنع أسعد بن زرارة يوم بيعة العقبة، رحمه الله، ورحم قومه الأنصار، وجزاهم خير الجزاء.

*****

عذاب بلال الحبشي

عذابُ بلال الحبشي

     هو بلال بن رباح، ذلك الرجل الذي حوَّلهُ الإسلامُ تحويلاً عجيباً، وأحدثَ في حياته نقلةً هائلةً واسعة، فإذا به من بعد أن كان عبداً مغموراً يصبحُ رجلاً خالداً في دنيا المسلمين حتى يوم الدين.

     كان عمر بن الخطاب إذا ذَكَر أبا بكر قال عنه: "أبو بكرٍ سيدُنا، وأعتقَ سيدَنا"، يعني بِلالاً، وحسبك أن يصفه عمر بهذا الوصف العظيم لتعرف أي رجلٍ كان!.

     كان بلال شديد السمرة، ناحلاً نحيفاً، مُفرط الطول، كثَّ الشعر، خفيف العارضَين.. وكان إذا سمع كلمات الثناء حنى رأسه، وغضَّ طَرْفَهُ، وقال: "إنّما أنا حبشي كنتُ بالأمسِ عبداً".

     لقد صدق بلال فيما قال.. لكنَّ الحال لم يَثبُت على ما قال، فإنَّ بلالاً صار إحدى معجزاتِ الصدقِ والإيمان، إحدى معجزات الإسلام العظيم في صياغة الرِّجال.

     لم يكن مِن قبل –كما قال عن نفسه– سوى عبد رقيق يرعى إبل سيده لقاء شيء يسير من مال وطعام.. ولولا الإسلامُ لظلَّ هكذا ضائعاً في الناس وهو حي، مجهولاً مِنهم وهو ميت. لكنَّ بلالاً أخلف هاتيك الظنون كلَّها حين اختار الإسلام، ودفع ثمن اختياره هذا عذاباً وتعباً ومشقة.

     كان عبداً من الناحية الجسدية، لكنَّ روحَه كانت حرةً طليقةً كبيرة. لذا ما عَتَّمَتْ أن سارعَت تؤمِن بالإسلام حين اقتنعَت بصدقه، على الرغم من فداحة الثمن الذي اضطرت إلى دفعه.

     دُعِيَتْ روحه الحُرة الطليقة إلى الإسلام فأسلمت، ودُعِيَتْ مِن بعد ذلك إلى مواجهة نتائج إسلامها فما تردّدت ولا تراجعت، بل مضَت صوب غايتها الشريفة السامية كالسهم ينطلق من قوسه، دون هلعٍ أو جزَع، دون تردّدٍ أو اضطراب، دونَ ضعفٍ أو خوَر. وهذا الذي فعله بلال هو الذي منحه تلك المكانة العظمى في تاريخ الإسلام بطلاً من أبطاله الكبار العظام.

     إنَّ الرجل كان أسود البشرة، متواضع الحسب والنسب، غريب الأصل هيّناً على الناس، عبداً فقيراً مُستضعَفاً، لكن ذلك كله لم يمنعه قط من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يليق به، إذ يُؤهله إليه صدقه وصفاؤه، وطُهره ونصاعته، ويقينه وتفانيه.

     لقد هدم الإسلام كل المعايير الفاسدة التي يتفاضل الناس وفق اعتباراتها، دون أن تقعد بهم إذ يتفاضلون عوائق من نسب أو حسب، أو جنس أو قبيلة، أو لغة أو أرض. وتلك –والله- هي المعايير العادلة التي تتيح للناس جميعاً أن يستبِقوا، وتهيئ الفرصة الكاملة لأي صَدوق سَبَّاقٍ أن يحتل مكانه الذي يستحقه دون حيف أو عدوان.

     وذات يوم علم بلال بن رباح أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم طفق يدعو لدين جديد، وما كان الرجل ليجهل محمداً عليه الصلاة والسلام، فقد كانت سيرته الطاهرة تملأ مكة المكرمة بأريجها العطِر، وكان سلوكه مضرب المثل في الشرف والصدق والأمانة وفي الفضائل كلها. لقد بلغ الأربعين ولم تُعرَف عنه كذبة قط.. إنه لصادق صادق.. وغدا بلالٌ وراح.. ولم يحتج إلى جهد كبير ليعلم صدق الدعوة الجديدة وصحتها، فما عتم أن أسلم.

     وجُنَّ جنون أمية بن خلف سيد بلال!.. أيُسلم العبد الحبشي ويتحدى جبروته وطغيانه!؟ ألِهذا العبد أن يفكِّرَ ويُقدِّرَ ويختار!؟ ومَن هو حتى يعرف الحقَّ من الباطل، والخطأ من الصواب!؟ مثل تلك التساؤلات الحمقاء كانت تدور في خلد أمية بن خلف.. الذي ما أبطأ أن وضع بلالاً أمام الامتحان، وامتُحِنَ الرجل، فازداد صلابةً ومَضاءً وتضحية. كان كالتِّبْرِ إذ يُعرض على النار يزداد تألقاً ونقاءً وأصالة، وكالمطواة على الشحذ قَطْعاً وحِدّة.

     وُضِع بلال وهو عريان على أرض مكة التي ألهبتها الشمس المتقدة، فما وهَن ولا استكان، لعلك قد عرفت حرَّ مكة المكرمة إذ تسقط الشمس حادة حادة، فيلتهب التراب والحصى.. هناك كان بلال يُطرَحُ على الأرض.. وتوضَع على صدره الحجرة الكبيرة الصمّاء.. وهو لا يزيد على أن يقول: أحَدٌ أحَد.

     واشتدوا عليه في العذاب حتى ملُّوا.. وحتى أرادوا أن يستروا زيفهم وهزيمتهم أمام هذا العبد الحُر بكلمة واحدة يقولها، يذكر فيها آلهتهم المزعومة بخير ليحفظوا ماء وجوههم أمام قريش حتى لا تتحدث عنهم ساخرة عاتبة أنهم قد عادوا صاغرين أمام صمود عبد حبشي ضعيف. لكنَّ هذه الكلمة الواحدة لم تخرج من فم البطل الصابر كان لا يفتأ يردّد: أحَدٌ أحَد.

     كانوا يغضبون ويشتدون في الغضب، فيعذبونه ويشتدون في العذاب، لكنه كان يرد عليهم بقوله: أحَدٌ أحَد.

     وكانوا يملون ويتعبون فيرجونه أن يذكر اللات والعزى بخير، لكنه كان يرد عليهم بقوله: أحَدٌ أحَد.

     ويظل البطل الصابر سحابة نهارهِ في هذا العذاب المتصل حتى إذا انكسرت حِدة الشمس، وحان وقت الأصيل أقاموه عن الأرض، ووضعوا في عنقه حبلاً، ثم أمروا صبيانهم وسفهاءهم أن يطوفوا به في مكة المكرمة، في شوارعها وجبالها، وهو صابر محتسب، يردِّد فقط قولته الخالدة الرائعة: أحَدٌ أحَد.

     أحَدٌ أحَد.. تلكم كانت إجابته الحاسمة القاطعة على جميع الصعاب التي صُبَّت عليه، على جميع أنواع العذاب، على جميع أنواع الإغراء كذلك. موقف لا يُنسى لبلال قط. موقف من سخِر بإيمانه من الطغيان كله، وثبت ثبات الجبال على الحق هازئاً بالطغاة الذين حسبوا أنهم إذ امتلكوه عبداً رقيقاً قد امتلكوا روحه، فهي لديهم أسيرة لا اختيار لها.

     موقف بلال ذاك، درس بليغ في عصره، وفي عصرنا، وفي كل عصر، أن حرية الإنسان الداخلية لا تُباع بكل المال ولو كثر، ولا بكل العذاب ولو اشتد.

     قد يفتك الطاغي بالجسد لكن لا سبيل له إلى الروح، قد يكبل المعذب بالقيود، ويقطعه بالسكاكين، ويرميه مزقاً مزقاً، لكنه لن يتسلط على نفس المعذب وقلبه ما دام ذلك المعذب لم ينهزم من داخل نفسه. درسك يا بلال عبرة للناس حتى يوم الدين، خاصةً إن كانوا من المعذبين.

*****

الصدِّيق وابن الدغنّة

الصِّدِّيق وابن الدُّغُنَّة

     ثقُلَ المقام على الصِّدِّيق في مكة المكرمة بعد أن رأى أهلها لا يكتفون بأن يمتنعوا عن الدخول في الإسلام، بل يعمدون إلى إلحاق الأذى بمن يُسلِم، ويسخرون منه، ويسفّهون رأيه ويشتمونه، وربما أوسعوه من العذاب ألواناً يدفعهم إليها تعصب جاهل، وحقد ذميم، وحسد وسفاهة.

     ثقل المقام على الصِّدِّيق بسبب هذا الذي تفعله قريش، وكدّه الأمر وأحزنه، وأرّق ليله وأرهق نهاره، فهو محزون مكدود. إذا شاء جاهل أحمق أن يشرب من الماء الكدِر القذر ويدع الماء العذب الفرات، فلماذا يغضب إن فعل عاقل لبيب عكس ذلك؟ ولماذا يتجاوز الأمر عنده درجة الغضب ليصل إلى درجة السفاهة والجنون، فيعمد إلى تعذيب من ينأى عن المنهل الآسن الآجن، ويسارع إلى المنهل السائغ النمير!؟

     لماذا يغضب أقوامٌ إن سارع آخرون إلى حيث الربيع المخصب الممرع نأياً عن الأرض المجدبة المقفرة!؟ لماذا يستاؤون مِن مشهد مَن يكره الرائحة القذرة العفنة، ويحب الأريج العطر، والنشر الممسك!؟

     يا ويح هؤلاء الناس!.. إنهم لا يكتفون بأن يختاروا الأدنى دون الأحسن، بل يصرّون على منع كل لبيب عاقل يفضّل الأحسن والأطيب، والأنقى والأنظف، والأصح والأكرم، على الأسوأ والأخبث، والأقذر والأدنس، والأحقر والأسفه.. يصرّون على الوقوف في وجه كل عاقل يفعل ذلك، بل يضربونه ويظلمونه ويضطهدونه.

     كذلك كان حال قادة الوثنية والضلال في مكة المكرمة، إنهم اختاروا البقاء على سفاهة الجاهلية ودناستها وتفاهتها أولاً، وصدّوا عن سبيل الله ثانياً، وسلطوا فنون العذاب على من اهتدوا ثالثاً. وإنه لموقف منهم مُخْزٍ نذلٌ لئيم.. إذن فلم يكن غريباً أن تضيق مكة المكرمة على الصِّدِّيق، وأن يثقل بها المقام عليه.

     أخذت مدينته الغالية تبدو له في صورة أخرى تختلف عما كانت عليه من قبل حتى تقف على طرف مناقض، دروبها موحشة، وبيوتها كئيبة، ومرابعها باهتة، وأضواؤها خافتة، وأجواؤها خانقة، ومغانيها مُجدِبة، وأسواقها مُقفِرة، وحاراتها شاحبة، البسمة فيها كابية، والنظرة فيها حائرة، والمشية فيها مضطربة، والنفوس فيها متوترة، والأفكار حاقدة سوداء، والأماني غبية حمقاء، والأشواق كليلة رعناء.

     لا تبدو الحياة فيها طلقة بهيجة، ولا تظهر حلوة وضيئة، وإنما هي ائتمار حاقد، وجنون مدمر، وسفاهة وطيش ورعونة.

     ملَّ الصِّدِّيق حياته في مكة المكرمة وهي على تلك الحال، فمضى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الهجرة منها، فأذن له صلى الله عليه وسلم. وركب الرجل راحلته وانطلق بها مهموماً حزيناً.. ترفعه رافعة، وتخفضه خافضة، وتتابع الساعات، والرحلة شاقة، والطريق طويل، حتى إذا صار على بُعدِ يوم أو يومين من مكة المكرمة لقيه رجل من سادة مكة هو "ابن الدُّغُنَّة"، ويُلقَّبُ سيد الأحابيش.

     نظر السيد المسافر إلى السيد المهاجر، فقال له في عجب: أين تريد أبا بكر؟

     قال الصِّدِّيق وفي صوته رنّة الحزن والأسف: أخرجني قومي وآذوني وضيقوا عليّ، فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي.

     وسمع سيد الأحابيش قولة الصِّدِّيق، وتواردت إلى خَلَدِه عشرات الخواطر كلها تُذَكِّرُ بالصديق ومواقفه النبيلة الشامخة، وحياته مع قومه حيث يعين على النوائب، ويفعل المعروف، ويكسب المعدوم، ويزين العشيرة، كيف لا وهو السيد الأريحي الشهم المعطاء!؟

     عندها لم يملك نفسه أن قال للصدّيق: "إن مثلك يا أبا بكر لا يَخْرُج، ولا يُخْرَجُ مِثلُه، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتَقْري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جارٌ، فارجع فاعبد ربك ببلدك".

     وعاد السيدان إلى مكة المكرمة، ووقف سيد الأحابيش يقول: يا معشر قريش إني أجرت ابن أبي قحافة، فلا يعرض له أحد إلا بخير. عندها كَنَّ الناس عنهم أذاه.

     ولبث الصِّدِّيق يعبد الله في داره في أمن وعافية، ومرّت الأيام على ذلك، ثم بدا له أن يبني مسجداً صغيراً بفناء داره يصلي فيه، ويقرأ القرآن، وبنى المسجد، وطفق يعبد الله عز وجل فيه، وكان رضي الله عنه رجلاً رقيق القلب، سريع التأثر، فكان إذا وقف يقرأ القرآن بكى وانهمرت دموعه، وانساب صوته شجياً مؤثراً في رقة وحنان، وكان كثير من صبيان الحي وعبيده ونسائه يقفون حوله ينظرون إليه، وهم متعجبون متأثرون، مما جعل بعض قادة الوثنية في قريش يخشون من ذلك، إذ توقعوا أن تكون صلاة الصِّدِّيق وقراءته سبباً قد يؤدي بهؤلاء إلى الإسلام. لذا سارعوا إلى سيد الأحابيش قائلين: إنك لم تُجِرْ هذا الرجل ليؤذينا، إنه إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرِقُّ ويبكي، وكانت له هيئة ونحو، فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يفتنهم، فائته فمُره أن يدخل بيته، فليصنع فيه ما يشاء.

     واقتنع الرجل بما قاله القوم فسارع يقول للصدّيق: يا أبا بكر، إني لم أجِركَ لتؤذي قومك، إنهم قد كرهوا مكانك الذي أنت به، وتأذوا بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت.

     وسمع الصِّدِّيق ذلك، وأحس أنه بحاجةٍ إلى جوار مَن هو أعظم وأقوى من جوار سيد الأحابيش، ومن جوار الناس جميعاً، فالتفت إلى مُحدِّثِه وقال له: فإني أرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل. ورد الصِّدِّيق جوار ابن الدغنة الذي هتف بقريش يقول: "يا معشر قريش إن ابن أبي قحافة قد ردّ عليّ جواري".

     وقام الصِّدِّيق يمشي إلى الكعبة، فلقيه سفيه من سفهاء قريش فحثا على رأسه التراب، ومرّ في ذلك الوقت أحد سادة قريش، فقال له الصِّدِّيق: ألا ترى ما يصنع هذا السفيه؟

     قال السيد القرشي: أنت فعلت هذا بنفسك يا أبا بكر.

     واتَّقدت عينا الصِّدِّيق بالعزم والمضاء، وبدت على مخايل وجهه النبيل علامات الثبات والصبر، ورفع إلى السماء عينين مؤمنتين.. وضّاءتين طاهرتين، وهو يقول: أيْ ربِّ ما أحلمك! أيْ ربِّ ما أحلمك! أيْ ربِّ ما أحلمك!.

     وأحسّ إبليسُ بسوءِ ما أصابَ الصِّدِّيق فانتشى وزها وفرح، لكنه إذ تملَّى ما كان عليه من إيمانٍ مكين وثقة باللّه قوية، وعزمٍ على الثباتِ وثيق، خسِئَ وخَنَس، وتجمَّعَ وانكمَش، وأصابَه حزنٌ مُقْعِدٌ ثقيل.

*****

أبو بكر الصديق .. الخطوة الأولى

أبو بكر الصديق .. الخطوة الأولى

     عاد الرجل إلى مكة المكرمة بعد واحدة من رحلاته التجارية الموفقة بين الشام واليمن ليجدَ الناسَ يتحدثون بأمر جديد لم يُعْرَف له من قبلُ سابقة.. وإذ كان التاجر العائد محل ثقة واحترام، وموضع تقدير وإجلال، بما عُرِف عنه من حسنِ المعشر، ولين الجانب، وخفض الجناح، إلى شهامة وأريحية وكرم نفس، فقد سارع إليه بعضُ المكّيين يحدثونه بما جاء من الرجل الهادئ الرزين الذي لقّبوه بالأمين.. سارعوا يحدثونه عن ذلك لأنه واحدٌ من سادة مكة وأهلِ الرأي والنظر فيها، ولأنه كذلك الصديقُ الحميمُ للأمينِ الكريمِ الذي هُم بما جاء به ضائقون.

     جاءَ عددٌ من صناديد قريش، قادة الكفر والوثنية إلى التاجرِ العائد، منهم عقبةُ بنُ أبي مُعَيْط، وأبو جهل بنُ هشام، ليقولوا له: يا أبا بكر، أعْظِمِ بالخَطْبِ!، يتيمُ أبي طالب يزعمُ أنه نبي مرسل، ولولا أنتَ ما انتظرنا به، فإذ قد جئتَ فأنت الغايةُ والكفاية.

     ونظر أبو بكر إليهم في صمت، وصرفهم عنه في هدوء، ثم مضى إلى بيتِ خديجةَ رضي الله عنها ليقابلَ صاحبَه الصادق الأمين الذي بلغَ أربعين عاماً ولم يُعْرَفْ عنه إلا الخيرُ والفضيلة، والشرف والعفاف.

     ولم تَطُلِ المقابلة كثيراً، فقد كان أبو بكر يعلمُ صدق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فما كان منه إلّا أن أسلمَ سريعاً دونَ ترددٍ أو رَيْثٍ ليصيرَ من بعد ذلك أعظمَ رجلٍ في تاريخ الإسلام بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

     هو موقفٌ قد يحسبه بعضُ الناس تسرُّعاً غيرَ حميد، لكن الأمرَ أبسطُ من ذلك وأعمق، وقد تكون البساطةُ حليفةً للعمق.. إن أبا بكر كان قد عرف أخلاق محمد بن عبد الله دهراً طويلاً، وعرف أنه الفضائلُ كلُّها، والمكارمُ كلها، وعرف كذلك أنه الصدقُ كلُّه.. وإنَّ مَنْ يأبى أن يكذبَ على الناس حَرِيٌّ به ألّا يكذبَ على ربِّ الناس.

     مثلُ تلك المحاكمة العقلية البسيطة العميقة معاً كانت كافيةً لإيمانِ رجلٍ عاقل لبيب، قد بَلا الحياةَ حتى عرفَها، وحلبَ الدهرَ أشْطُرَه، وبلغَ سنَّ النضج والاكتمال، سنَّ الأربعين.. لذا سارع يصدِّقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤمنُ بصحةِ ما يقول، ويبدأُ رحلة الجهادِ الشاق المتواصل تأييداً لدينِ الله عز وجل، وحرباً على عالمِ الوثنيةِ والشرك والخرافةِ والجهالة.

     من أجل ذلك استحق أبو بكر الصديق رضي الله عنه تلك الشهادةَ العظمى من فمِ النبوَّةِ الطهور حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "ما دعوتُ أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كَبْوَةٌ وترددٌ ونظر إلا أبا بكر".

* * *

     هو موقف كبير نبيل ذلك الذي وقفه الصديق، التاجرُ الهيِّنُ الليّن المحبوب يوم أن بادر إلى الإسلام دونَ ريث أو إبطاء.

     وهو موقفٌ يُضاف إلى مواقفَ كثيرةٍ جداً كلها تشهد بعظَمةِ هذا الرجل، وصدقهِ وعبقريته، ومبادرته إلى سوابقِ الفضائل والمكرمات.

     كان إيمانُ الصِّدِّيق إيماناً جيّاشاً، حاراً دافقاً، يريد أن يعبرَ عن نفسه، ويستفرغَ أقصى إمكاناته في البذل والعطاء. وإذا كانت الدعوة لا تزالُ حتى ذلك الحين في طورها السري، وجد الصِّدِّيق أن ثَمّةَ عوائقَ تقفُ في طريقهِ وعقابيل.

     هو يريد أن يجهرَ بالدعوة ويهتف بها، ويقول كلمة الحق على مسامعِ سادةِ قريش أياً كانت النتائج.. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ما يزال ينتظر.

     وظلَّ الأمر يَعْظُمُ على الصِّدِّيق، وظلت رغبتُه الحارةُ الجياشة تملأ كيانَه، وتستبدُّ به ليلَ نهار.. وكان أنْ ألَحَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج لإظهار الدعوة حتى استجابَ له.. وخرج المسلمون إلى بيت الله الحرام حيثُ يجتمع سدنةُ الكفر والضلال والوثنية، وكان في حياة الصِّدِّيق يومٌ شهمٌ كبيرٌ عظيم.

     وقفَ الصِّدِّيق إلى جوار القوم خطيباً يدعوهم إلى عبادة الله عز وجل، وخلعِ تلك الأوثان الكالحةِ المقيتة، ومضى في خطبته، كالفرسِ المجلِّي.. كالسيل الأتِيّ.. كالمطر ينصبُّ مثل أفواه القرب.. كالصقرِ يشتد.. كالنمرِ ينقض.. كالبحر يهدر.. ذلك أن في صدره إيماناً أثبتَ وأرسى من الجبال، وفي قلبه حنيناً عنيفاً لا يهدأ لإبلاغِ الدعوة، والهُتافِ بكلمةِ الحق مهما تكنِ الصعاب.

     وكانت خطبةُ الصِّدِّيق تلك أولَ خطبةٍ جهرَ بها مسلمٌ يدعو فيها إلى الله ورسوله، لذا فالصِّدِّيق جديرٌ بهذا اللقب الجليل "الخطيب الأول". وكانت كلمةُ الخطيبِ الأول التي ألقاها على مسامع قريش تحدياً صريحاً لشيوخ قريش وسادتها، وسخريةً عنيفة بما يعبدون، لذا ما كادوا يرونه واقفاً حتى قاموا إليه ونزلوا به وبمن معه من المسلمين ضرباً مؤذياً، ولكماً حاقداً، وبطشاً مجنوناً.. أنما يريدون إسكاتَ هذا الصوت إلى الأبد، وبلغ من شدة الحقد أن رجلاً كعتبةَ بن ربيعة وهو من سادة قريش الموصوفين بالعقل والحلم خلع نعليه ونزل بهما ضرباً على وجه الصِّدِّيق.. ذلك الوجه الكريم النبيل الذي ما عُرِفَ صاحبُه إلا بالمروءات والمكارم. وظلّ عتبة يضربه في سفهٍ وجنون حتى سال الدم من وجهه الأبِيّ، وظلت المعركةُ دائرةً بين القومين حتى أقبلَ بنو تَيْم وهم قبيلة الصِّدِّيق فحملوه إلى داره، وهُم لا يشكّون أنه قد مات.
* * *

     وتعاهد بنو تيم أن يقتلوا عتبة بن ربيعة إن مات أبو بكر، وخيّمَ على مكة المكرمة جوٌّ ثقيل، وصار الناس في توجّسٍ وانتظار.. ولبثَ الصديقُ يومه لا يعي حتى إذا ما حرّكَ شفتيه كان أولُ ما نطق به أن سأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل أمه للبحث عنه والسؤال عن حاله.

     وعادت الأم تحمل إليه النبأ السار.. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وعافية.. وحاولت أن تفعلَ ما تفعله كلُّ أمٍّ في مثل حالها.. قدّمت له شيئاً من اللبن ليتقوّى به، لكن الصِّدِّيق أبى ذلك، وأقسم ألا يذوق شراباً أو طعاماً حتى يأتيَ رسولَ الله.. وانتظرَ القومُ حتى إذا جاء الليل ذهبوا به إلى دار الأرقم.

     وفرحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرح المسلمون معه برؤيتهم أبا بكر وهو حيٌّ يُرزق، وقد جاء إلى حيثُ كتيبة الإسلام الأولى، وأول كوكبةٍ من جنوده الأوفياء.

     وحين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالِه قال رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ليس بي إلا ما نال الفاسقُ من وجهي.

* * *

     أوعيتَ موقف الصديق هذا!؟ أنظرتَ فيه فاحصاً مدققاً معتبراً!؟ أما استوقفك ما فيه من بطولةٍ وتضحية وفداء!؟

· حين أفاق من غيبوبته كان أولُ ما فعل أن سأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهتم بأمر نفسه لا في قليل، ولا في كثير.
· وحين قُدِّمَ له ما يتقوّى به أبى ذلك، وأقسم ألا يذوق شيئاً حتى يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
· وحين وقف في منتدى قريش عند الكعبة المشرفة لم يكن يجهلُ الأذى الذي سوف يحلُّ به.

     أنْعِمْ بموقفِكَ أيها الخطيبُ الأول يوم أسلمتَ دون تردد! ويوم ألقيتَ أول خطبة دون وجل!.

     أنْعِمْ بذلك!.. وأنْعِمْ بمواقفك كلها! فهي لَعَمْري في خَلَدِ الزمان ملحمةُ صدقٍ وطُهر، وتضحيةٍ وجهاد، وثقةٍ واستعلاء، وإيمانٍ أثبتَ وأرسى من الجبال.

*****

الأحد، 2 يناير 2022

كتاب بقايا ذاكرة - المقدمات والمحتويات

مقدمة الطبعة الثانية

     لقي هذا الكتاب من القبول أكثر مما توقعت، والحمد للَّه على أفضاله، وهذا ما حفزني إلى إصدار الطبعة الثانية مزيدةً ومنقحةً عسى أن تكون أفضل من أختها.

· وأبدأ بشكر أخي الفاضل شمس الدين درمش الذي قال لي: أنت في نثرك شاعر!.. وتستمد شهادته قيمتها من معرفته الطويلة بي شعراً ونثراً، وأنه تابع الكتاب خلال تأليفه فصلاً فصلاً، وكان يقوم ويعدل ويقترح، وكنت في كثير من الأحيان آخذ بنصائحه، وفي أحيان قليلة أسمح لنفسي بعصيانه.

· وأشكر الأخ الكريم الدكتور أحمد البراء الأميري الذي قال لي أكثر من مرة: إن في هذا الكتاب ما هو جدير بأن يكتب بماء الذهب!.. ولشهادته قيمة خاصة لأن بيننا صحبة متميزة تقارب نصف قرن.

· أما الدكتور عبد الباسط بدر ذو الحاسة النقدية المتفوقة؛ فقد اتصل بي هاتفياً ليخبرني أنه استلقى على فراشه للنوم، وأخذ يقرأ في الكتاب، فأطار الكتاب عن عينيه النوم، واستمر في قراءته حتى فرغ منه، ووصف الكتاب بأنه شائق، وأنه لون من ألوان السيرة الذاتية، له خصوصية وتميز.

· وأما الدكتور أحمد الخراط؛ فقد أثنى على الكتاب ثناءً رائعاً مبنىً ومعنىً، وإني أثبتُّه كما جاءني منه تماماً، يقول: «ويأتي كتاب أبي معاذ (بقايا ذاكرة) راصداً للقيم التي حملها هذا اليراع في تطوافه الدؤوب، وتأملاته البصيرة فيما عاشه مع رجالات وأحداث ومواقف، بدءاً من رحلته الأولى إلى جامعة القاهرة، وتبين لي في قراءة وثيقته أنه ذو نظرٍ نفَّاذٍ عميق فيما نظر إليه آخرون نظرة عبور، وإني على يقين أن ما يحمله حيدر في أغوار فكره من صفحات لم ينشرها بعد؛ لقادر على أن يقدم المزيد من البقايا التي تخفق بين جنبيه، وأسأل اللَّه له القبول في آخرته، كما كان مقبولاً في دنياه».

     وإني إذ أشكره على هذا الثناء العاطر الذي أرجو أن أستحقه؛ أهنئه جداً على ما بلغه من البيان العالي، الموجز، المؤدي، الغني، وهو ما يؤكد لي صدق ما قلته عنه عدة مرات: إنه خليفة الأستاذ الجليل محمود محمد شاكر ؒ، الذي كان أعلم جيله بالعربية، وفارسها الأول.

     وأخيراً لا بد لي من شكر الدكتور معاذ الغدير، الذي عكف معي على قراءة الكتاب بدقة وصبر، وهو ما جعلنا نقف على أخطاء وملاحظات هنا وهناك، وقع استدراكها.

حيدر الغدير
1441هـ - 2020م

-----------------

مقدمة الطبعة الأولى

     ظل أخي وصديقي وابني الدكتور معاذ الغدير يلح عليَّ كثيراً بكتابة سيرة ذاتية لي، وكنت بين الإحجام والإقدام، بل كنت للإحجام أقرب، لأن الذين يكتبون سيرهم الذاتية هم صناع الأحداث والبارزون في مجتمعاتهم ولست منهم، وكنت أقول هذا للدكتور معاذ فيوافق، ولكنه ظل يؤكد باستمرار أني لست من صناع الأحداث، ولكني من المتابعين لها بدقة، وبذلك ينبغي لي أن أكتب، ففعلت.

     وقد اخترت لهذه السيرة عنواناً مميزاً وهو «بقايا ذاكرة»، فالإنسان حين يودع السبعين ويبدأ الثمانين، تبدأ ذاكرته بالضعف، ولذلك فهي «بقايا ذاكرة» لا ذاكرة كما كانت عليه أيام الشباب.

     وقد حاولت أن أعرض في هذه السيرة الوقائع المهمة في حياتي وهي قليلة، وحاولت - وهو الأهم - أن أعرض لتطوري الفكري والنفسي، وللمراجعات التي قمت بها، حياة، وسلوكاً، وفكراً، ونفساً، على ضوء الخطأ والصواب، ومتغيرات الظروف، وأنا إنسان مولع بالمراجعة الدائمة لنفسي، وتقويمها، والنظر في الظروف العامة التي تضع بصماتها علينا دائماً، بدرجة أو أخرى، والمراجعة والتقويم واختيار الأبدال من أمارات التوفيق والتجدد.

     وقد حرصت أن أكون صادقاً أميناً فيما كتبت، وكنت أحياناً أقسو في هذا الذي كتبت على نفسي وعلى سواي، على أمل أن تقتل هذه القسوة فينا التجمد والعجز وإلف العادة، وتدفعنا إلى التجدد والفاعلية واستشراف آفاق جديدة.

     وقد كنت منذ شبابي مولعاً بالتعرف إلى شخصيات لها أهميتها لأقترب منها – في حدود الممكن – فأتعلم منها، وقد وفقني اللَّه تعالى فاقتربت من أعلام، مروا بي في حياتي، أو بالأحرى مررت بهم في حياتهم مروراً طويلاً أو قصيراً، هم مستويات مختلفة: ثقافة، ومكانة وتأثيراً، واهتماماً، وسيرة، وكان لهذا المرور بصمات عليّ تختلف أهميتها، ونوعها، وقد استفدت من هؤلاء الأعلام، فكتبت عن ذلك.

     ومما يجدر ذكره هنا أن في كتابي «صلاة في الحمراء» مجموعة من الأحاديث والقصص تنتمي إلى أدب السيرة الذاتية، فيها طرافة وتشويق، فمن أرادها فهي هناك.

     ولكنني سمحت لنفسي أن أنقل منه إلى كتابي هذا المواد الآتية: «طه حسين وشجاعة الاعتذار»، و«محمود محمد شاكر شيخ العربية وفارس الفصحى»، و«رسالة إلى نجيب محفوظ»، و«شوقي ضيف أستاذي وأستاذ الأجيال»، ذلك أني رأيت فيها دروساً ثمينة جداً، ولعل القراء يجدون فيها ذلك.

     وإذا وجد القراء الكرام أن هذه السيرة تختلف في كثير أو قليل مع ما ألفوه من السيرة الذاتية فلهم ذلك، ولي عذري في هذه المخالفة، فلا حرج في تنوع الأساليب أولاً، ثم إن سيرتي هذه هي سيرة عقل ونفس أكثر منها سيرة وقائع وأحداث.

     وهكذا أردتها أن تكون.

     يبقى علي أن أشكر كل من حثني على كتابة هذه السيرة، وأتوجه بمزيد من الشكر للدكتور معاذ الغدير الذي ظل يحثني على إنجازها، ويقرأ ما أكتبه منها، ويذكرني بما نسيته منها، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.

     وعسى أن نلتقي في طبعة ثانية، تكون أحسن من أختها هذه، فإن تم ذلك فهو خير، وإلا ففيما أنجزته غناء، وحسبك من القلادة ما أحاط بالجيد، والحمد للَّه الذي بفضله تتم الصالحات.

حيدر الغدير
1439هـ - 2018م

---------------------------------

المحتويات

(روابط قابلة للضغط)

مقدمة الطبعة الثانية ..................................................... 7
مقدمة الطبعة الأولى .................................................... 9

صلح مع الهوى

صلح مع الهوى

     كان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، من ألمع الدعاة في هذا العصر، وكان كاتباً وخطيباً، وكانت له مواقف جريئة جعلته يومها حديث الناس في شرق البلاد وغربها، وقد قرأت له الكثير وتأثرت به، وشاء اللَّه تعالى لي أن أستمع إلى خطبته في الجامع الأزهر يوم كنت طالباً في القاهرة، وشاء لي أيضاً أن ألقاه في الرياض العامرة، يوم كان يأتي إليها للمشاركة في مؤتمر أو حفل.

     وقد أعجبني - من بين ما أعجبني فيه - أنه صاحب لغة متميزة جداً، ولو أنه أعطى الأدب عناية كبيرة لكان من أعظم أدباء العربية، لكن عنايته بالعمل الدعوي، ممارسة، وخطابة، وتأليفاً، صرفته عن ذلك، وهو من أفضال اللَّه تعالى عليه.

     ومما أسرني في لغته قدرته على الإيجاز البليغ المؤدي، بحيث يستطيع أن يقول في القليل ما يقوله الآخرون في الكثير، وبعض عباراته الموجزة المحكمة التي قد تجيء في سطر أو سطرين، تشعر أنها أشبه بالبرقية التي صيغت بأقصى درجات الإيجاز والإحكام، ولكنها أوصلت المعنى المطلوب تماماً، وهو ما يذكر الإنسان بروائع المتنبي الخالدة، التي كانت تأتي في لغة محكمة، موجزة، مشحونة، متوترة، فيسمعها الإنسان وهو مأخوذ مبهور، ويشعر أنها تعبر بغاية الدقة عن الموقف الذي هو فيه تماماً، وأكثر ما يظهر ذلك في حكمه الباهرة، التي هي أعظم أسباب خلوده وشهرته.

     وقد قرأت له جملة من هذا النوع الباهر، يقرر فيها أن بعض الناس يعقد صلحاً مع هواه ثم يبحث له عن غطاء ديني لتبريره. ولقد حاولت أن أضع الجملة كما قالها تماماً لأني استدعيتها من الذاكرة، ولعلها أدق وأبلغ. ولقد ظلت هذه الجملة العبقرية تسكن أعماقي، أنساها مرة وأذكرها مرة، وكلما تأملت فيها ازددت بها إعجاباً. إنها تصور حقيقة من حقائق التدين المعلول، أو المغشوش، أو المدخول، أو الزائف، الذي يشيع بين أنماط من المسلمين، بدرجات متفاوتة، وهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون يوهمون أنفسهم أنهم على خير، ويلتمسون المعاذير لعيوبهم السلوكية، أو النفسية، أو العقلية.

     وسوف أضع بين ناظري القارئ الكريم مجموعة من الوقائع عرفتها بنفسي، عن عدد من الأشخاص، لهم صفة دينية تتفاوت بين شخص وآخر، وحالة وأخرى، لكنها تتحد في أنها نماذج واضحة جداً للهوى الذي يلبس لبوساً شرعياً زائفاً.

     كان (...) رجلاً معروفاً بالتدين في مدينته، وكان يتحدث هنا، ويخطب هناك، ويشارك في أنشطة تضفي عليه صفة الداعية العملي. وكان يكثر من الصلاة في مساجد مدينته، ويطيل المكث فيها، ويصلي السنن المؤكدة وغير المؤكدة، وله عناية ملحوظة بتلاوة القرآن الكريم، والأدعية المأثورة. وكان ميسور الحال لكنه لا ينفق في الخير بعض ما يقدر عليه، وإذا ذكره أحد بهذا الواجب، أجاب بأنه لا يثق بمواقع الخير المطروحة ولا أصحابها في قليل أو كثير، والحقيقة أنه كاذب، وله القدرة على تمييز الصادق من الكاذب من المواقع والأشخاص، ولكن بخله شلّ يده عن العطاء، وأطلق لسانه بما لا يؤمن به في أعماقه، وأطال في جوانب السلوك الديني التي لا تكلفه شيئاً، علماً أن الأولوية الواجبة على ذوي اليسار هي بذل المال بسخاء ورضاء.

     أما صديقي (....) فقد اشترى أرضاً من تاجر غني يعمل في بيع الأراضي والعقارات، ولم يسدد المبلغ المطلوب منه، ومضت عشرون سنة على ذلك، والتاجر غني وكريم، ولا يستوعب التفاصيل الكثيرة لسعة أعماله فنسي الأمر. ثم جاء أحد الموظفين عنده فذكر صديقي بأنه لم يسدد، فأبدى امتعاضه من هذا التذكير، وظل يردد عدة مرات أن التاجر رجل ميسور، وأن مثل هذا المبلغ المطلوب منه لا يقدم عنده ولا يؤخر، وكأنه بذلك يبحث عن حيلة شرعية تبرر له عدم السداد، وحين كثر عليه التذكير أحس أن أصحابه - وأنا منهم - يتهمونه بأكل الحرام، فذهب إلى التاجر، وكتب له شيكاً بنصف المبلغ، وقال له: سبق أن كان لكم بذمتي مال بسبب أرض اشتريتها، وهذا المبلغ بين يديك فلعله يرضيكم، فأخذ التاجر الشيك الذي هو نصف المبلغ المطلوب والذي جاءه بعد زمن طويل، جار التضخم خلاله على قيمته، فكأن صديقي - سابقاً - سدد أقل من نصف الثمن. وانصرف وهو يحاول أن يقنع نفسه وصحبه وصاحب المال بأن ذمته قد برئت وما هي ببريئة. إنه كاذب كاذب من البدء إلى النهاية، وإنه لص حقيقي، وإنه مدان مدان.

     لقد مارس هذا الشخص مجموعة من السيئات بعضها أسوأ من بعض، مارس السكوت طويلاً عن السداد، ثم سدد بعد أن حوصر وانفضح، وسدد المبلغ منقوصاً من حيث القدر ومن حيث القيمة الشرائية، وسدده من خلال استحلال مبهم، والاستحلال المبهم لا تبرأ به الذمة كما يقرر الفقهاء، فإذا أضفت إلى ذلك حديثه المتكرر عن غنى التاجر، وأن المبلغ المطالب به لا يقدم عنده ولا يؤخر، تبين لك أنه لم يكن يريد أن يسدد شيئاً، لأن في نفسه معاذير زائفة توهمه أن عمله الدنيء ليس بسرقة وهيهات! إن عمله الدنيء سرقة مكتملة الأركان، ومع سبق الترصد والإصرار كما يقول أهل القانون.

     إن الإنسان الذي يسرق ولا يخترع لسرقته معاذير يرتكب جريمة دنيئة، لكن الإنسان الذي يسرق ويخترع لسرقته معاذير زائفة يرتكب جريمة أشد دناءة، وتزداد الجريمة دناءة وقذارة إذا كانت لصاحبها صفة دينية، وهكذا كان صديقي.

     يا صديقي: عد إلى الصواب، ودع عنك خداعك المفضوح لنفسك ولمن حولك، فإن فعلت فمرحباً بك وشكراً لك. وإن أصررت على ما أنت عليه فاخلع عنك لبوسك الدعوي الذي لا تستحقه، واخلع لحيتك التي اشتعلت شيباً، لكنك لم تجد فيه واعظاً يزجرك عما تفعل.

     أما القصة الثالثة فصاحبها الدكتور (...) وهو شخص ذكي جداً، وداهية محنك، ومعرفته بعلوم الشريعة ممتازة، ولغته كذلك، وهو يحسن التأتي لما يريد، ولو أنه وظف مواهبه في الخير لأحسن للعمل الدعوي كثيراً، ولنفسه، ولكنه وظفها لأهوائه وأثرته فأساء كثيراً.

     أرسل له أحد أصدقائه إلى حيث يقيم في أمريكا مقالة طويلة لينظر فيها، فراقت له، ونشرها باسمه في رسالة صغيرة كما هي لم يزد فيها ولم ينقص، ووضع على غلاف الرسالة اسمه وصورته، وكتب لها مقدمة تزعم أنها محاضرة له ألقاها على جمع من الناس فسروا بها، فطبعها لتعم بها الفائدة، ثم أخذ نسخة من الرسالة المطبوعة، وكتب عليها إهداء لصاحبها الحقيقي، وأرسلها إليه. كان الصديق المسروق يحسن الظن بالصديق السارق، لما سمعه عنه من الثناء المستطاب، ولما رأى من قدراته البارزة، وكان ينظر إليه على أنه من أساتذته، فلما رأى هذا الفعل الوضيع منه انهارت مكانته في نفسه، وانقلبت إلى احتقار شديد، وثار في نفسه سؤال منطقي أخذ يلح عليه كثيراً، وهو: إذا بلغت المطامع الدنيئة بهذا الشيخ الدكتور إلى الحد الذي جعله يسرق فيه مقالة صديق له، ويكتب لها مقدمة كاذبة، ثم يكتب عليها إهداء بخطه وتوقيعه إلى صديقه، فكيف يكون موقفه إذا تعرض لإغراءات كبيرة من مال ومناصب وشهرة!؟ لا شك أنه سيفعل ما يخطر على البال وما لا يخطر مهما بلغ من دناءة وصفاقة. إن الذي يسقط صريعاً أمام المطامع الصغيرة؛ سيكون سقوطه أمام المطامع الكبيرة أكبر وأسرع وأفتك.

     وشاء اللَّه تعالى أن يلتقي السارق والمسروق، وكان المسروق في غاية الغضب من السارق لأنه وجد فيه إنساناً يناقض الإنسان الذي تشكلت صورته في مخيلته عنه، ولأنه كان ولا يزال يحتقر المتاجرين بالدين الذين يوظفونه لأهوائهم الدنيئة أشد الاحتقار. وقد شهدت هذا اللقاء بنفسي، وفيما يأتي أرويه بغاية الدقة والأمانة.

     التقى الصديقان اللدودان، ومنذ البداية أحس السارق أن صديقه يتقد غضباً، فعزم على إطفاء غضبه مهما قسا عليه، وعزم على ألا يدافع عن سرقته، وألا يلتمس شيئاً من المعاذير لها. وبدأ المسروق بهدوء يحاسب السارق، فذكر له أن هذا لا يليق بالمسلم العادي فضلاً عن شيخ له سمعته، وذكر له أنه كان يثني عليه، ويدفع عنه التهم المخزية التي كان يسمعها عنه ممن يعرفون تاريخه بالتفصيل، ثم عقب على ذلك بأنه الآن مضطر لتصديق كل المخازي التي سمعها عنه من قبل، وذكر له واحدة منها ترقى إلى درجة الخيانة، حين وشى بعدد من رفاقه لجهة سيئة، فتسربت أسماؤهم إلى الطاغية الذي كان يتربص بهم فأعدمهم، وقال له بتحدٍ وازدراء بالغين: كم هو المبلغ الذي قبضته لقاء ما فعلت بهم!؟ وظل يقسو عليه حتى كاد يبصق عليه. هذا أهم ما قاله المسروق لصاحبه السارق، وثم تفاصيل كثيرة لا داعي لذكرها.

     والآن لننظر إلى موقف السارق؛ ظل يسمع دون أن يرمش له جفن، ولم يتغير له لون، ولم تبد عليه أي أمارة من أمارات الغضب، لأنه يعلم أنه مدان، ولأنه يخشى من الفضيحة، ولأنه - كما أقدر - معتاد على مثل هذه الشتائم ممن أساء إليهم من قبل، وأنه وطن نفسه على الصبر، والصمت، وابتلاع الإهانة مهما قست. ولما انتهى المسروق من كلامه، لم يرد السارق عليه بحرف واحد في موضوع السرقة، بل عرض عليه رشوة مالية صريحة فأباها. ويبدو أن الشيخ اللص خلا ببعض خلصائه للبحث عن حل لمّا وجدوا أن الرشوة لم تقبل، فاخترعوا أكذوبة جديدة، وبئس الخطأ الذي يعالج بخطأ جديد، خلاصتها أن اللص الدنيء ألقى محاضرة عنوانها مشابه لعنوان المحاضرة المسروقة، فوقع لها الاستحسان فأراد أن يطبعها لتعم بها الفائدة، فكلف موظفي السكرتارية في مكتبه بذلك، فأخطؤوا وطبعوا المحاضرة الأولى بدل الثانية. ثم أعادوا طباعة الرسالة، باسم الصديق المسروق، وقدموا لها بهذه الأكذوبة الغبية.

     أما القصة الرابعة فهي أوجز، ولكنها غنية جداً بالدلالة على الهوى الرديء الذي يلبسه صاحبه لبوساً دنيئاً زائفاً. كان الأستاذ (...) رجلاً معروفاً بين ذويه بأنه من أهل الدعوة، وكانت له مؤلفات نافعة، وكان يأخذ بالعزيمة في حياته، وهذه كلها مزايا له تذكر فتشكر. لكني لاحظت أن له مزاجاً سوداوياً، وأنه يميل إلى التشاؤم، وسوء الظن بالناس بدليل أو دون دليل، وأنه يتهم بعض الناجحين بأنهم بعيدون عن الدين أو معادون له، ولعله في أعماقه يحسدهم على نجاحهم من حيث يدري أو لا يدري، لكنني لم أجزم بذلك تماماً خوفاً من أن أظلمه.

     وذات يوم جاءني يحدثني عن أحد الناجحين، يتهمه فيه بأنه رجل بعيد عن الدين، بل هو معاد له. وكان أحد أصدقائي الأبرار الأذكياء يعمل في مكتب هذا المتهم الناجح، فسألته عن ذلك، فنفى هذه التهمة عنه جملةً وتفصيلاً، وشهد له بالطيبة، وحب الخير، وسلامة الطوية، والمسارعة إلى قضاء الحوائج، ففرحت بذلك كثيراً، ونقلت هذه البشارة الخيرة إلى من اتهمه بالسوء. هنا ذهلت ووجمت، ذلك أني توقعت أن يفرح لبراءة أخيه المسلم مما اتهمه به كما فرحت، لكنني وجدته يطرق محزوناً، فأكدت له صدق البشارة الخيرة، وذكرت له اسم صاحبها الفاضل، وهو صديق له كما هو صديق لي، ويعرفه جيداً، فازداد إطراقه وحزنه وقال عن الصديق المشترك صاحب البشارة والتزكية: أخشى أن يكون أسوأ من فلان المتهم، وذكر اسمه.

     هنا تيقنت أن صديقي هذا حاقد على الرجل الناجح الذي اتهمه، يحسده لتفوقه، وعلو مركزه، ورفعة شأنه، ويلبس حسده له لبوساً دينياً ليظهر بمظهر الغيور على الدين. إنه عقد صلحاً مع هواه كما قال الشيخ الغزالي، والتمس له المعاذير، ذلك أنه كان من الفاشلين الذين يحسدون الناس على ما آتاهم اللَّه من فضله، والنجاح فضل كبير.

***

     وبعد: فقد تخيرت القصص التي ذكرتها في هذا المقال، لأني أعرف وقائعها وتفاصيلها وأصحابها معرفة وثيقة جداً، وبذلك هي في غاية الدقة والمصداقية، ولأنها نماذج صريحة جداً للإنسان الذي يأسره هواه فيصبح عبداً له، ويمضي يلتمس له غطاء شرعياً زائفاً، ثم إن حدة هذه القصص، تمنع فرصة الدفاع عن أصحابها لثبوت الإدانة بأجلى صورها، وقد أغفلت ذكر الأسماء عامداً لا ناسياً لأني أردت التحذير لا التشهير.

     إن الهوى شر كله، وأكثره شراً ما ألبسه صاحبه لبوساً دينياً، لأنه جمع بين جريمتين: جريمة الخطأ، وجريمة الزيف، وهو بذلك أساء للدين بالصد عنه فيما فعل، أكثر مما أساء لنفسه.

     وإذا وجد القارئ الكريم في كلامي مرارة حادة، فليلتمس لي العذر، لأن مردها هو الغيرة على الدين ممن يسيئون إليه، من أذكياء يتاجرون به، أو حمقى مخلصين ينشطون لخدمته، وهم يفسدون أكثر مما يصلحون.

     إن الشيخ محمد الغزالي رحمه الله؛ أديب بليغ، وله جمل وجيزة غنية مسددة تذكر بجمل ابن عطاء اللَّه السَّكَنْدري الخالدة التي مضت عليها قرون، ولا تزال لها روعتها في الضمائر والألسنة. وإني إذ أدعو للشيخ الغزالي بالرحمة، أعترف له بالجميل في إنشاء هذا المقال، لأن جملته التي بدأت بها كلامي هذا بهرتني جداً، وسكنت في أعماقي، وحركت ذكرياتي ومشاعري، ودفعتني دفعاً إلى الكتابة، فكأنها كانت تملي علي وأنا أكتب.

***

أستاذي وأستاذ الأجيال شوقي ضيف

أستاذي وأستاذ الأجيال

شوقي ضيف

     رحل من العالم الفاني إلى العالم الباقي أستاذ الأجيال، وعلم العربية، وحارس ‏التراث، وسادن الفصحى، العلامة ‏الموسوعي، والعصامي الدؤوب، الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رحمه الله رحمة واسعة، وأغدق عليه شآبيب فضله، وعوض الأمة منه خير العوض، بعد حياة ملأى بالإنجازات، وعطاء أصيل متنوع، بلغ فيه ذروة عالية متفردة لا يشاركه فيها أحد.

     ‏ولد عام 1910م في إحدى قرى دمياط، وتوفي عام 2005م، أي أنه عاش قرناً من الزمن شهد تبدلات كثيرة: ثقافية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية، لكن الثوابت الكبرى في حياته لم تتبدل، فقد بقي طوال عمره المصري، الريفي، المسلم، العربي، الذي وهب حياته للعلم، وعاش في محرابه حتى مات.

     ‏ومراحل حياته معروفة متناولة - وهي في برقية موجزة - التحاقه بالمعهد الديني في دمياط الذي تخرج فيه عام 1926م، ثم التحاقه بقسم اللغة العربية - كلية الآداب - جامعة فؤاد الأول - «جامعة القاهرة فيما بعد» الذي تخرج فيه عام 1936م، وكان أول دفعته، فاختاره الدكتور طه حسين معيداً، وهنا تدرج حتى ظفر بالماجستير، فالدكتوراه، فالأستاذية، ثم صار عضواً في مجمع اللغة العربية، فأميناً عاماً له، فنائباً للرئيس، فرئيساً.

     ‏تلاقت في شخصية شوقي ضيف رحمه الله؛ مجموعة من العوامل، أدت إلى نجاحه الفريد الذي يشهد له الجميع به.

     ‏كان متديناً تديناً عميقاً محباً للإسلام، معتزاً به، واسع الثقافة فيه، ورث ذلك عن الريف المصري الطيب الذي يتنفس الإسلام في كل حياته منذ عهد عمرو بن العاص، وعن أبيه عبد السلام، الرجل الطيب الذي تخرج في المعهد الأزهري في دمياط، وعاد إلى قريته يعلم الناس، ويسعى في مصالحهم، وأخذ ذلك عن المعهد نفسه الذي درسه حقائق هذا الدين العظيم، فكان تأصيله الشرعي متيناً، وأخذ ذلك عن حفظه للقرآن الكريم الذي ظل وثيق الصلة به طوال حياته، يضاف إلى ذلك ‏قراءاته المستفيضة عن الإسلام التي كانت ركناً ركيناً في حياته.

     ‏حدد الرجل هدفه، ومضى إليه في خُطاً ثابتة، لم تشغله الصوارف وإن كان لها بريق، ولا المطامع وإن كان لها إغراء، مثله كمثل إنسان وقف في السهل، ونظر إلى القمة فأراد أن يبلغها، فخلا بنفسه، ورسم طريقه، وانطلق فيه، بهدوء وأناة، ولكن بتصميم وعناد، وما زال كذلك حتى ظفر بما يريد، وفي هذا درس مهم لطلاب المعالي؛ وهو أن يعرف أحدهم حقيقة قدراته، ونقطة تفوقه، والوسيلة المطلوبة، ثم يشمّر عن ساعد الجد، معتمداً على خالقه، صابراً مرابطاً مثابراً، مستعصياً على التشتت والصوارف. إن كثيراً من الأذكياء أضاعوا أنفسهم لأنهم جهلوا ذلك، وإن كثيراً من متوسطي الذكاء حققوا نجاحاً أكبر لأنهم عرفوا ذلك.

     ‏جمع الرجل بين الثقافتين: الثقافة الإسلامية الأصيلة التي تلقاها فطرة وتربية ودراسة، والثقافة الحديثة التي تلقاها في الجامعة، فحقق بذلك أفقاً واسعاً، ‏وتنوعاً، وخصوبة، أعانه على ذلك جده، وإتقانه، واعتدال مزاجه الفكري والنفسي.

     ‏كان رجلاً عفيفاً؛ عفيف السريرة، عفيف المظهر، لذلك كان لسانه في غاية الأدب مع من يوافقه، ومع من يخالفه، والعفة الحقيقية ليست فضيلة لسانية فقط، إنها أوسع من ذلك مجالاً، وأرحب مدىً، إنها فضيلة تومئ إلى فضائل أخرى، وحسنة تبشر بأخوات لها، والفضائل كالرذائل ينادي بعضها بعضاً، ويقود بعضها إلى بعضها الآخر، هذه العفة أكسبته - إلى جانب مزاياه الأخرى - احترام الجميع، وأضفت عليه جلال العالم، وحب الزملاء والأساتذة والطلبة، وثناء ‏الناس حيث كان.

     ‏كان فيه نوع من التصوف السوي الذي نجا من السلبية، والخرافة، وذوبان الشخصية، كما نجا من الضلالات والانحرافات، وكان لهذا ‏اللون من التصوف السوي السني فضل كبير عليه، فعاش عمره المديد المبارك، وفيه قناعة، ونقاء، وصفاء، وزهد، وعفاف، ورضا، وصبر، وتوكل، مع عمل دؤوب، وعزم قوي، وعقل يقظ، وتخطيط حكيم، وتحديد للهدف، وضبط للوسيلة، وتفان وإتقان، كل ذلك في إطار من التوازن والشمول والانسجام.

     ‏هذا التصوف السوي المتوازن أبعده عن القلق والسخط والتوتر والغضب والحسد، وما إلى ذلك من معاصي القلوب، وهي غوائل مدمرة، وصوارف ومثبطات، وملأه بالأفكار الصحيحة والمشاعر النبيلة، وهي حوافز دافعة، وقوى بانية، فكان بما نجا منه من ناحية، وما اكتسبه من ناحية؛ حريّاً ‏أن يصل إلى ما وصل إليه.

     ‏وتتسم كتاباته بالعمق والإحاطة التي تدل على ذاكرة قوية، وقراءة واسعة، وتفرغ تام، واستقصاء عميق، وقدرة كبيرة على حشد الأدلة بين يدي الأحكام التي ينتهي إليها، لذلك تظل تحترمه سواء أوافقته في الرأي أم خالفته، وتلك ميزة نادرة يشار إليها بالبنان.

     ‏كما تتسم هذه الكتابات بالوضوح، فلغته تجمع إلى الصحة الجمال، ولا بدع فهو حافظ للقرآن الكريم، عليم بأسرار البيان العربي، غائص على درره ونفائسه، ثم إن شخصيته الواضحة تجعل بيانه واضحاً، ذلك أنه يكره التكلف والتشدق، وينأى عن المصطلحات الغامضة، والرموز الغريبة، والعبارات الفضفاضة، التي يلجأ إليها بعض الكتاب ليستروا بزيفها ولمعانها خواءهم الفكري، أو ضلالهم العقائدي، وليوهموا السذج من القراء أن لديهم من التميز والإبداع والتجديد أكثر من الآخرين، فيعجب بهم هؤلاء المساكين، وهم لا يعلمون أنهم مخدوعون.

     ‏أحب أساتذته الأعلام، وكانت علاقته بهم وثيقة، فيها وفاء واحترام، أمثال: طه حسين، وأحمد أمين، وعبدالوهاب عزام، ومصطفى عبدالرازق، لكن هذا كله لم يفقده ثقته بنفسه واحترامه لخصوصيته، فلم يذب في أحد منهم قط، ولعل أبرز مثل لهذا هو موقفه من طه حسين الذي اختاره معيداً، ومنحه درجة الدكتوراه بتفوق، لقد حفظ له الجميل، ولكنه خالفه في أدب وصراحة في قضية الانتحال في الشعر الجاهلي.

     ‏أعانه على إنجاز ما أنجز أنه رجل منظم؛ منظم في كل شيء، في الوقت، والمال، والأولويات، والعلاقات، والأرشفة، والنوم، واليقظة، والطعام، وما إلى ذلك، والإنسان المنظم يتسع وقته، ويربو عطاؤه، وتهدأ أعصابه، ويتسع مداه العقلي والنفسي ‏والشعوري، وتعظم قدرته على التركيز والإبداع والتجدد، خلافاً للإنسان الفوضوي المشوش، وصدق من قال: قل لي: ما برنامجك؟؛ أقل لك: من أنت.

     ‏بعض الناس يحصلون على الشهرة من خلال مهاجمة أعلام كبار لهم وزنهم في الساحة، وبعضهم من خلال ثروة مالية يوظفها لمن يكتبون عنه وله، وبعضهم من خلال موقع إداري يتيح له أن يوظف جهود عدد من مرؤوسيه للكتابة عنه وله، وهذا كله ‏سرقة وعدوان ومجد زائف.

     ‏وبعضهم يحصل على الشهرة والمجد متحاشيًا ذلك كله سالكًا إلى هدفه السبيل القويم بكل ما يتطلبه هذا السبيل من أخلاق وعناء ومثابرة، ومن ‏هذا الصنف أستاذ الأجيال الدكتور شوقي ضيف، لم تصعد به إلى الذروة مصادفة عابرة، أو إرث مالي، أو مكانة اجتماعية، أو عصبية حزبية، أو شغب على الأعلام والثوابت، أو رعاية من ذي جاه وسلطان، بل صعدت به - بعون اللَّه تعالى - فضائله وحدها.

     ‏وبعد:

     ‏فإن الدكتور شوقي ضيف أعجوبة من أعاجيب عصرنا الثقافية، وهو قمة حقيقية تدعوك إلى الإعجاب وحين تعجب بالقمة، وتحاول احتذاءها وتقليدها، فالفضل لها، ذلك أن فضائلها هي التي حملتك على الإعجاب بها، فالشكر لها، والفضل لها من قبل ومن بعد.

     ‏أما الجوائز التي نالها فقد شرفها أكثر مما شرفته، وزانها أكثر مما زانته.

     ‏وسوف يبقى عطاؤه - بإذن اللَّه - دهراً طويلاً ينتفع به الناس، في الحين الذي يبيد فيه عطاء سواه من المتسلقين ‏والمدعين والمشاغبين والمزيفين والمزورين، وأهل الإيهام والإغراب والسارقين جهود غيرهم، والمستوردين نظريات غريبة عن دين الأمة وذوقها وتميزها؛ ولا غرابة، فذلك قانون إلهي نبأنا به العليم الخبير حين قال: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد: 17].

     ‏لو أن عصبة من أولي العزم والقوة استطاعت أن تنجز ما أنجزه الفقيد الكبير لكانت جديرة بالثناء والإعجاب، فما هو حقه علينا إذن، وقد أنجزه وحده؟

نثار من ذكريات خاصة:

     كنت طالباً متفرغاً في قسم اللغة العربية، بكلية الآداب، جامعة القاهرة «1959-1963م» عاشقاً للعربية، حريصاً على العلم، سعيداً بالقسم وأساتذته، وفي طليعتهم شوقي ضيف، وكنت أشعر في أعماقي بفرح وزهو، لأنني كنت من تلامذته، وكان يشجعني كثيراً، ويوليني عناية خاصة.

     ‏خرجت ذات يوم من بيتي في حي الروضة حيث يقيم وأقيم للذهاب إلى محاضرة له، فوجدته ذاهباً أيضاً، عندها استوقفت سيارة أجرة، وركب فيها وركبت، وسارت السيارة إلى الجامعة، وكنت في غاية السرور أني إلى جواره، وحين دفعت للسائق الأجرة، وكانت شيئاً يسيراً أبى: إلا أن يكون هو الدافع، وهو أحد الأساتذة الأقلاء الذين لا يتقبلون الهدايا.

     ‏حين تخرجت صيف عام 1963م‏ زرته في بيته برفقة الأخ الزميل أحمد مرسي «الدكتور فيما بعد»، يومها قال لي: لا تسافر من مصر، وابق معي حتى أمنحك الماجستير والدكتوراه في خمس سنين. ولم أطعه يومها، وقد أخطأت فيما فعلت، ولكن أقول: قدر اللَّه وما شاء فعل.

     ‏في كتابه «الترجمة الشخصية» تحدث عن أحد الأعلام، لعله محمد كرد علي، وذكر أنه زار تركيا في عهد أتاتورك وسماه «مصلحها الأكبر»، فعجبت من ذلك، ووجدت في نفسي الجرأة لأحدثه عن جنايات أتاتورك التي تجعله في مصاف المفسدين لا المصلحين، لم يغضب ؒ، بل شكرني وأخذ يدي بيده، ومشى معي قليلاً وهو يشجعني، فازددت إكباراً له.

     ‏جئت القاهرة صيف 1964م ‏لأقدم امتحان السنة التمهيدية للماجستير، وكان امتحانًا شفويًا، فوجدت اللجنة التي تختبر الطلاب قد انتهت من أعمالها، فأدركني حزن شديد لفوات الفرصة، ولما أبصرني رحمه الله، جاء إليَّ مشجعًا ومواسيًا، وقادني إلى اللجنة، وأثنى علي أمامها، وطلب منها أن تعقد لي جلسة خاصة فيما بعد، واستجابت له اللجنة، واختبرتني في موعد لاحق، وكان من أعضائها الدكتور عبدالعزيز الأهواني، ونسيت بقية الأسماء، وقد رضيت عني اللجنة، وسرت بإجاباتي فنجحت، وهي يد مشكورة له تضاف إلى أياديه الكثيرة عليَّ وعلى سواي.

     ‏زرته ذات مساء في بيته في حي الروضة، ثم تبين أن عنده لقاء مع مجموعة من أهل العلم والفضل، فأبى ‏له كرمه إلا أن يصطحبني معه، ودخلت معه الدار التي كان فيها اللقاء، وأنا بين الهيبة والفرحة، أنظر في وجوه الأعلام الذين يتحاورون، وكان من بينهم الدكتور محمد يوسف موسى، وشرَّق الحديث وغرَّب، حتى إذا وصل إلى نقطة سبق أن حاورته فيها، قال: ولكن لحيدر رأيًا آخر في الموضوع، وأوحى إلي أن أتكلم، وهو لون كريم من التشجيع يدل على نفسية كريمة.

     وفي عام 1983م؛ ‏وكنت يومها في الندوة العالمية للشباب الإسلامي في ‏الرياض، أصابتني فرحة غامرة وأنا أشارك في إعداد المذكرة المطلوبة لترشيحه لجائزة الملك فيصل العالمية في مجال الأدب العربي، ذلك أني وجدت في ذلك شيئًا من الوفاء، وشيئاً من رد الجميل، لعلم شهير، له أفضاله المشكورة على محبي الأدب العربي ودارسيه في كل مكان، وحين نال الجائزة كانت فرحتي أكبر.

     ‏وفي عام «1410هـ/ 1990م» أكملت رسالتي للحصول على درجة الماجستير في الأدب العربي، وكان الموضوع «الرثاء في شعر البارودي وحافظ وشوقي»، وكان الإشراف للأستاذ الدكتور طه وادي، أما المناقشان الآخران فهما أستاذ الأجيال الدكتور شوقي ضيف، والوزير الأديب الشاعر الدكتور أحمد هيكل، وقد لامني الدكتور شوقي في مودة حانية لأني تأخرت في متابعة دراستي العليا، خلافًا لما أوصاني به سنة التخرج، فاعتذرت منه وشكرته، وقلت له: ها قد عدت، وحين نوقشت الرسالة في المدرج العريق الشهير رقم 78 ‏ في الكلية العريقة، أبى له كرمه، وكرم الأستاذين الآخرين إلا منحي الدرجة العلمية بتقدير «امتياز»، كما أبى لهم حبهم للعلم وإخلاصهم له إلا تنبيهي إلى عدد من الأخطاء والملاحظات كنت بها سعيدًا.

     وخلال المناقشة أشدت كثيراً بشوقي من حيث حبه للإسلام، وصحة فهمه له، وفي شعره الكثير من إجلاله للَّه تعالى، وثنائه على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، وصحابته، وأبطال المسلمين، وفرحه لانتصاراتهم، وحزنه لمصائبهم، وله في ذلك قصائد شهيرة ذاعت وشاعت، غنت بعضها أم كلثوم فزادت ذيوعاً وشيوعاً.

     ولكني أخذت عليه أنه كان محباً للخمر، مدمناً عليها، بارعاً في معرفة أنواعها وأسمائها، حتى إنه سمى بيته الذي تحول إلى متحف خاص به «كرمة ابن هانئ»، وابن هانئ هو أبو نواس؛ أشهر شعراء الخمر في الأدب العربي، ومن باب الإنصاف له وصفت معصيته هذه بأنها «معصية سلوك لا معتقد»، تجرح سلوكه لا معتقده، ومع ذلك فهو مسلم صادق الإسلام، بل إنه من أعظم شعراء العربية الذين دافعوا عن الإسلام في عصره.

     وكنت فرحاً جداً بثنائي على شوقي، وبنقدي الموضوعي المنصف له، لكن حبَّ الأستاذ الكبير الدكتور شوقي؛ للشاعر الكبير شوقي، جعله يعترض علي جداً، فوقع في خاطري أن قلبَه غلب عقله، وإعجابَه غلب دقته وموضوعيته، فلُذْت بالصمت، وعذرته.

‏مقترحات:

     ‏إن النسيان سمة الإنسان، وطبع البشر، وهذا الأمر سوف يصيب أستاذنا الراحل بدرجة أو أخرى، لذلك أضع بين أيدي المهتمين هذه الاقتراحات، وفاء للراحل الكريم من ناحية، وإطالة لأمد الانتفاع من تراثه الغزير من ناحية.

- تخصيص قاعة في مجمع اللغة العربية، تحمل اسمه، وتوضع فيها مكتبته، وما كتبه، وما كتب عنه، وبعض متعلقاته الشخصية من أوسمة وجوائز وشهادات، وتفتح للدارسين.

- تشجيع طلبة الدراسات العليا على اختيار موضوعات للماجستير والدكتوراه تتصل به.

- تهيئة طبعات شعبية من كتبه ليكون بوسع الفقراء امتلاكها، وتوضع في الإنترنت ليتاح الحصول عليها دون مقابل.

- إطلاق اسمه على إحدى قاعات قسم اللغة العربية الذي أفنى فيه زهرة عمره، وعلى مدرسة أو مسجد أو شارع في قريته التي نشأ فيها.

- تبنِّي مجمع اللغة العربية، وقسم اللغة العربية، إصدار كتاب جامع وثائقي عنه، يشترك فيه الأعلام من كل مكان، يؤرخ لحياته العلمية والعملية بالتفصيل، ويحصي ما كتبه، وما كتب عنه بالتفصيل أيضاً، ويتم تجديده بين الحين والآخر، ليكون المرجع الأول لكل من يريد معرفة هذا العَلَم المتفرد.
***

رسالة إلى نجيب محفوظ

رسالة إلى نجيب محفوظ

     نجيب محفوظ أديب متفرد تجاوز الدائرة المصرية إلى الدائرة العربية، ثم إلى الدائرة العالمية، وأصبح بين أبناء جيله «ظاهرة» يتوقف عندها كل دارس لا مجرد أديب عادي، مثله في ذلك مثل شوقي الذي فرض نفسه بين شعراء عصره «ظاهرة» كبرى، وهما معاً يذكران المرء من بعض الجوانب بالمتنبي الذي لم يتوقف عنه الحديث حتى يومنا الحاضر لأنه فعلاً «مالئ الدنيا وشاغل الناس».

     وفي نجيب محفوظ أدباً وحياةً وفكراً الكثيرُ مما ينتزع الإعجاب، فهو في فنه صاحب موهبة صقلها بالدرس والصبر والمران، فارتقى بها حتى بلغ ما بلغ فكان القصاص العربي الأول.

     وهو في حياته رجل منضبط جداً بطريقة تدعو إلى الاحترام والإكبار، عرف موهبته فانكب عليها ونماها ومارسها وصقلها، ثم إنه انصرف عما لم يخلق له فنجا من شتات الأمر الذي أضاع - ولا يزال يضيع - مواهب الكثيرين، وعرف قيمة الوقت وهي من أجل النعم للناس عامة وللنابهين خاصة، فسيطر على وقته سيطرة رائعة، ووزعه توزيعاً دقيقاً بين واجباته المختلفة، وعرف قيمة المال فأحسن التعامل معه بقصد وحكمة، وعرف قيمة الصحة فعني بجسده فلم يسرف عليه، وظل حريصاً على قسط من الرياضة يؤديه باستمرار، ولم يتوقف عن المشي إلا بعد أن كَلَّ جسمه وضعف سمعه وبصره، وهو ما جعله عاجزاً عن ممارسة مشيته المحببة على شاطئ النيل. لذلك يمكن أن يوصف بأنه راهب من رهبان الأدب والحياة والفكر يعشق التأمل، ويحب الخلوة، ويجنح إلى الزهد، وهذا يفسر لنا لماذا لم يغادر مصر طوال عمره؟ ولماذا لم يذهب إلى السويد لاستلام جائزته في مهرجان عالمي رائع تتحلب أفواه الكثيرين إلى ما هو أقل منه؟

     وفي فكر نجيب محفوظ ما يروعك، فإذا كانت شهرته العظمى هي في المجال القصصي فإن ثمة مجالاً آخر قد يكون أعمق - وإن قلت شهرته فيه - وهو تلك الأفكار التي ينشرها في الصحف بأسلوب يتسم بالإيجاز شكلاً وبالعمق موضوعاً. وهنا أضع بين يدي القارئ الكريم نصين له نشرهما في صحيفة الأهرام يناقش فيهما قضية العنف، أنقلها من مقالة ممتازة للأستاذ فهمي هويدي عنوانها «إنصافاً لنجيب محفوظ» نشرها في صحيفة الشرق الأوسط في «19/5/1415هـ، 24/10/1994م».

     يقول النص الأول الذي يحمل اسم «فتح الطريق المسدود»: «يحدثونك عن الإرهاب فيربطون بينه وبين أشياء كثيرة، مثل الفتاوى الخاطئة، والأزمة الاقتصادية، والفراغ السياسي، والحكم الشمولي، والاستهانة بحقوق الإنسان. والإرهاب يمكنه أن يكون ثمرة مرة لجميع تلك الظاهرات مجتمعة أو لإحداها تبعاً للظروف والأحوال، غير أنهم ينسون ظاهرة أخرى، لا تقل عن أي من تلك الظاهرات عاقبة إن لم تزد، «إحباط وضيق لجيل صاعد يتطلع إلى حقوقه في الحياة»، ومن بينها، وربما في مقدمتها، حق تبوُّؤ السلطة.

     الحق أن كل جيل جديد يتطلع إلى السلطة أو الحكم باعتبار ذلك سبيله إلى تحقيق ذاته الفردية وحلمه الجماعي لتغيير المجتمع، ومن حق كل جيل جديد أن يتطلع إلى ذلك، بل إن واجبه وانتماءه وطموحه يملي عليه أن يتطلع إلى ذلك، ويعمل على تحقيقه بكل وسيلة مشروعة، فإذا بدا الطريق أطول مما يجب، أو طال بطريقة مفتعلة، أو سد تماماً فلا أمل في منفذ، أصبح اللجوء إلى العنف مما قد يرد على بعض الخواطر.

     لقد عاصرت الحياة قبل ثورة يوليو، وأشهد أنه لو كان الدستور قد احترم، وعرفت كل هيئة حدودها، لربما قدر لتاريخنا أن يكون غير ما كان، كان من المحتوم أن تفقد الأحزاب القديمة شعبيتها، وتحل محلها أحزاب شابة مبشرة بالتغيير الاجتماعي، وفي تقديري أن أجيال الشباب يميناً ويساراً كانت سترث الأغلبية في انتخابات 1950م، وتمضي في تطبيق ما طبقته ثورة يوليو في جو من الحرية والديمقراطية، كان خليقاً أن يجنبنا كثيراً من الأخطاء القاتلة.

     فلننظر إلى واقعنا على ضوء ماضينا من ناحية، والتسليم بالحقائق البشرية من ناحية أخرى، فنجعل لنا طريقاً ممهداً خالياً من العقبات المفتعلة والرواسب الشمولية، من أجل ذلك أقول: إن الحل الأمثل هو الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان».

     ويقول النص الثاني الذي يحمل اسم «أسرة الإرهاب»: «لعل أبسط تعريف للإرهاب هو استعمال القوة غير المشروعة في سبيل الوصول إلى غاية ما. إن صح هذا التعريف فليس الإرهاب المعروف هو الإرهاب الوحيد الذي يمارس في المجتمع، فكل ما يتحقق بالقوة لا بالقانون أو الشرعية هو نوع من الإرهاب، والقوة لا تعني الرصاص والقنابل فحسب، فهناك أيضاً قوة النفوذ والقرابة والحزب، والطائفة والدين، فيمكن القول: إن أية قوة تستعمل لخرق الشرعية أو تخطي القانون فهي إرهاب. ويجب أن نعتبرها كذلك، وأن نضعها في كفة واحدة مع الإرهاب الذي نطارده صباح مساء. فالوصول إلى السلطة قد يكون نتيجة جهاد مشروع أو ثمرة لعنف إرهابي، وشغل الوظائف العامة قد يكون برأي المجموع أو من خلال امتحان نزيه، وقد يعتمد على قوة النفوذ والواسطة، أي على الإرهاب، والصفقات التجارية قد تعتمد على قوانين السوق، وقد يتحكم فيها النفوذ والرشوة وغير ذلك من وسائل الإرهاب الاقتصادي.

     على هذا النحو تجري الخدمات، فانظر إلى ما يقع في الطريق والمستشفى والمواصلات والمصالح الحكومية، هل تتم المعاملة وفقاً لنظام ثابت شامل لا يفرق بين شخص وآخر، أم أنه يفتح ذراعيه بحرارة الترحاب لأناس، ويصب على الآخرين عذاب المعاناة بغير حساب؟

     بعد هذا التمهيد، فإنني أدعو كل قارئ لتأمل ما يحدث في مجتمعنا، وليحكم بنفسه، أهو مجتمع قانوني شرعي أم مجتمع إرهابي!؟ وأظنك تتفق معي على أن أولى درجات الحضارة أن يتحول المجتمع من مجتمع يقوم على الغريزة والقوة إلى مجتمع يحيا في ظل القانون والشرعية، ليحقق الحرية والعدل».

     والقارئ لهذين النصين لا يسعه إلا أن يتوقف عندهما معجباً بما فيهما من تركيز مؤدٍّ، ونظرة شمولية، وصراحة مشكورة، وحسن تعليل. إن حديثه حديث المثقف المتزن المسؤول الذي يحسب لكل كلمة حسابها، والذي يدرك أبعاد الخلل في البناء الثقافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والديني الذي أفرز ظاهرة العنف، والذي ينأى بنفسه عن تلك المجموعة من الناس التي اكتفت بإدانة العنف والتسابق في سب المتهمين به والتركيز في المحسوبين منهم - بحق أو باطل - على التيار الإسلامي.

     وإني أتوج ما حاولت أن أعدد به مآثر نجيب محفوظ بتلك الكلمة الموجزة الرائعة التي وجهها وهو لا يزال يعالج في المستشفى من آثار محاولة اغتياله إلى الندوة التي انعقدت في القاهرة تحت عنوان «نحو مشروع حضاري عربي» في شهر جمادى الآخرة 1415هـ/ نوفمبر 1994م، والتي ألقاها عنه الأستاذ محمد سلماوي، وهذا نصها: «أرحب شخصياً بجميع الإخوان المشاركين في المؤتمر من مصر والوطن العربي، وقد كنت أتمنى أن أشارك في استقبالهم جميعاً والعمل معهم في سبيل وضع مشروع حضاري عربي، ولكن نظراً للظروف التي أمر بها الآن فإني أكتفي بالمشاركة من بعيد بالإعلان عن رأيي دون الاستفادة من الاستماع لآرائكم التي كنت أتطلع إليها. ورأيي في اختصار هو: أن المستقبل الحضاري يجب أن يقوم في أساسه على الإسلام، وفي تطوره على الحوار مع سائر حضارات العالم، والاستفادة من كل نقطة نور لا تتناقض مع مبادئنا الأساسية، وأن يكون اعتماده في ذلك على دعامتين: القيم الموروثة من ناحية والعلم من ناحية أخرى؛ بالإضافة لكل ما أثبت أنه مفيد في تطوير البشرية، تمنياتي القلبية بأن يوفقكم ربنا إلى وضع الأسس الصالحة لمشرعنا الحضاري وإلى العمل على تنفيذها».

     وميزة هذه الكلمة المضيئة أنها حددت لنا بإيجاز مبين بليغ ما ينبغي أن يقوم عليه المشروع الحضاري المرجو بحيث يشيد على الإسلام فيكون روحه وقاعدته وأساسه، ويفتح بعد ذلك باب الانتفاع من الآخرين علماً وحواراً واقتباساً على ألا يتناقض شيء من ذلك مع مبادئنا الأساسية، وهو استدراك ذكي وحصيف يشكر عليه الأستاذ محفوظ، وأجدني مع هذه القاعدة الراسخة، والدعوة إلى الانفتاح، والاستدراك المشكور المحمود، مؤيداً للأستاذ محفوظ في كلمته هذه تمام التأييد.

     ومما يشكر عليه الأستاذ نجيب محفوظ إشارة طيبة جاءت خلال حديث أجري معه مؤخراً عن روايته الشهيرة «أولاد حارتنا» التي صدرت عام 1959م، وأثارت لغطاً كبيراً، وكانت من أكبر المآخذ الدينية عليه، ومؤدى الإشارة أن الأمور اختلفت منذ ثلاثين سنة، وهو كلام طيب يوحي بالاعتذار وإن كان لا يكفي، وأهم من هذه الإشارة قوله لمحاوره: «لعلي تبت يا أخي»، وهي كلمة وجيزة فيها عبق ديني يضوع من التوبة، وفيها لمسة إنسانية حانية تضوع من الأخوة، وأهم من هذين رؤيته للمشروع الحضاري العربي المأمول التي أوردناها آنفاً بنصها.

     تبقى بعد ذلك مجموعة من الملاحظات المهمة تفرض نفسها في هذا المجال:

· تعرض هذا الرجل ذو المكانة المتميزة إلى محاولة اغتيال في يوم «14/10/1994م» وهو يركب سيارة أحد أصدقائه شاء اللَّه أن يكرمه بالنجاة منها، وقد أثارت المحاولة - وهذا هو المتوقع - جدلاً واسعاً واستنكاراً كبيراً، وقد زاد من هذه الإثارة أن المحاولة استهدفت شيخاً كبيراً في الثالثة والثمانين من عمره المديد، وهن جسمه، وضعف بصره، وكل سمعه، وصار يعيش الحياة من خلال الآخرين أكثر مما يعيشها من خلال نفسه. الأمر الظالم في حملة الإثارة أنها انصبت على التيار الإسلامي بعامة، وقبل أن يقول القضاء كلمة واحدة بدعوى أن هذا التيار هو المحرض على القتل بطريقة أو بأخرى. والذي يمكن أن يحدد هوية القاتل ودوافعه هو قضاء حر نزيه فقط، هذه واحدة. وأما الثانية فإذا ثبت أن القاتل ينتمي إلى مجموعة إسلامية فلا ينبغي أن ينسحب هذا الحكم على كل المجموعات الأخرى. وفي مثل الظروف التي تمر بها مصر العزيزة الآن، وفي مثل طبيعة محاولة الاغتيال ترد كل الاحتمالات، فربما كان صاحب المحاولة مخلصاً مندفعاً من نفسه، وربما كان مخلصاً محرَّضاً من غيره، وربما كان مأجوراً، وربما كان يمثل نوعاً من الاختراق لمصلحة جهة من الجهات التي تريد بمصر وبالإسلام وبدعاته شراً مستطيراً، ومرة أخرى إن الذي يمكن أن يأتي بالقول الفصل في هذا الأمر هو قضاء حر نزيه، وفي مصر قانونيون عظام مشهود لهم بالنزاهة يمكن أن ينهضوا بمثل هذا الأمر وزيادة كالمستشار طارق البشري والدكتور محمد سليم العوا.

· ينبغي ألا يغيب عن بال الأديب الكبير أن في حياته الفكرية والأدبية ما يؤاخذ عليه، ففكره خليط من الليبرالية والعلمانية، أما الليبرالية ففيها جوانب مشكورة لكنها لا تؤخذ على إطلاقها، وأما العلمانية فقد كانت إحدى الكوارث التي أوردت الأمة موارد الدمار، ثم إن الأديب الكبير كان أحد الذين دافعوا عن سلمان رشدي علماً أن كتاب سلمان تافه من الناحية الفنية، وأما الناحية الموضوعية فليس له فيها أي نصيب مهما قلّ، إذ إن كتابه مملوء بافتراءات وأكاذيب لو قيل بعضها في حق أي واحد منا لحكم القضاء على سلمان بجريمة القذف في حقه، فكيف بها وقد قيلت في سيد البشر!؟ وإذن فلنا أن نقول: إن دفاع الأديب الكبير عن الكاتب الضال دينياً، التافه فنياً، الساقط موضوعياً، غلطة كبرى لا تقبل منه وهو الرجل المتزن المتعمق ذو الأناة والدقة.

· أما رواية «أولاد حارتنا» فربما كانت أكبر أخطاء محفوظ الدينية لأنها أساءت كثيراً في حق اللَّه U والأنبياء الكرام. ربما يقول محفوظ: إن الرواية فسرت خطأ، وإنه لم يقصد منها ما فهمه المعترضون، وهو دفاع غير مقبول لأن بوسعه - وهو الفنان المقتدر - أن يكتبها بالطريقة التي لا تسمح بفهم خاطئ، ولأن بوسعه أيضاً أن يتحلى بشجاعة الاعتذار، وهي شجاعة في الفكر لا تقل عن الشجاعة في القتال إن لم تزد عليها. ثم إن للأديب الكبير آراء في التطبيع مع اليهود تؤذي الشعور الديني والشعور الوطني على السواء، وهي آراء يجهر بها كثيراً، وهي إحدى مواد الحديث في ندوته المعتادة كل يوم جمعة حتى كادت هذه الندوة تغدو منبراً من منابر الدعوة إلى التطبيع.

· ينبغي ألا يغيب عن ذكاء الأديب الكبير أن من يسمون أنفسهم دعاة «التنوير» هم طبعة جديدة من العلمانيين جرى فيها من التعديل ما تدعو إليه الظروف، لكن الروح واحدة، وأن هؤلاء إنما يريدون استثمار محاولة اغتياله للإساءة إلى كل ما هو إسلامي، فهو مدعو إذن إلى أن يعي الأمر، وأن يضع الأمور في نصابها، والمحاولة في إطارها وحجمها.

· وينبغي ألا يغيب عن ذكائه أيضاً أن كلمته الرائعة في رؤيته للمشروع الحضاري العربي المأمول لا تكفي، بل ينبغي أن يؤكدها بطرق شتى لأنها تمثل خلاصة عمره الفكري، ولأن في هذا التأكيد ما يجعلها حَكَماً على فنه وفكره، ولعل الأديب الكبير يعي جيداً أن من أرادوا استثمار محاولة اغتياله استثماراً سيئاً قد وقعت كلمته عليهم وقوع الصاعقة لأن مؤداها في النهاية ضد ما يدعون وضد اتجاههم الفكري. ولن تزداد أيها الأديب العظيم إلا مكانة وعلواً حين تقرر أنك أصبت هنا وأخطأت هناك، ونحن بشر، وليس لأحد منا عصمة. لقد أصدر الأستاذ خالد محمد خالد كتابه الشهير «من هنا نبدأ»، وفيه قرر أن الإسلام دين لا دولة، ثم عاد بعد ذلك ليصحح نفسه بنفسه في كتابه «الدولة في الإسلام»، وهي شجاعة فكر وقلب يشكر عليها، ولي ولك فيه أسوة حسنة.

· لا يصح لنا أن ننظر إلى أهل الفكر أن لهم قناعات ثابتة لا تتغير، فالإنسان حصيلة بيئته وظروفه وتفاعله، والأغبياء هم الذين لا يتغيرون على ضوء ما يمر بهم، المهم أن يحتفظ المفكر بالثوابت التي لابد منها من عقيدة صحيحة، وولاء واضح، وغيرة على البلاد والعباد، وموضوعية وأمانة، واحترام للرأي الآخر، وقدرة على الاعتراف بالخطأ وتجاوزه، وحب صادق للناس، فإذا تم له ذلك فإن التغيير واقع لا محالة؛ من هنا علينا أن نرحب بكل بادرة خير ونرعاها ونوسع مداها لنفوز من أهل الفكر بخير كثير، ولعلنا جميعاً نتذكر هنا أن الدكتور محمد حسين هيكل بدأ في خندق العلمانية لينتهي كاتباً إسلامياً، وأن الأستاذ خالد محمد خالد بدأ في خندق الماركسية واليسار لينتهي مع الرعيل الذي يدافع عن الإسلام بحرارة وجرأة، ومثل هذا الكلام يصح أن يقال عن الدكتور مصطفى محمود، والدكتور محمد عمارة، والأستاذ محمد جلال كشك، والمستشار طارق البشري، والأستاذ عادل حسين.

· إذا كان اعتذار الأستاذ نجيب محفوظ عن حضوره حفل جائزة نوبل مع كل مغرياته الكثيرة أمراً يمكن أن يقبل، بل يمكن أن يشكر لأن فيه دليلاً على عفة وزهد وترفع؛ فإن اعتذاره عن أداء العمرة ممن دعاه إليها أمر لا يمكن أن يُفْهم، ولا يمكن أن يُقْبل. ربما يعتذر الأستاذ نجيب بظروفه الصحية وهي ظروف صعبة حقاً، لكن الرحلة إلى مكة المكرمة حرسها اللَّه لأداء العمرة يحفها ويحوطها كل ما يجعلها سهلة ميسرة من قرب ويسر وأمن ورفقة تعين على أداء النسك بما يجعله ممتعاً سهلاً جميلاً تراعى فيه كل ظروفه الصحية وغير الصحية، ومما يدعوني إلى الإلحاح على الأستاذ نجيب محفوظ بقبول الدعوة لأداء العمرة - وهو النجيب المحفوظ إن شاء اللَّه - أمران، الأول: أن العمرة ستكون تصديقاً عملياً لتوجهاته الدينية الأخيرة تؤكدها وتبارك فيها وتجهر بها، والثاني: أن العمرة ستحقق له الكثير مما يريد ويحب - وهو في ضيافة اللَّه تعالى - من أشواقه الروحية، وستمده العمرة بدفعة قوية من المشاعر النبيلة التي تلتقي مع فطرته من حب للخلوة، وحدب على الناس، وتأمل في الحياة، ومراجعة للنفس، وتجدد واستشراف.

· أيها الأديب الكبير: لو كنت بالقرب منك يوم «14/10/1994م» أثناء محاولة الاغتيال لحاولت مساعدتك، لكني مع ذلك لا أملك إلا أن أقول لك: أخطأت هنا، وأصبت هناك.

***

الأكثر مشاهدة