أسعد بن زرارة يوم العقبة
مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة عشر سنوات يدعو قومه إلى الإسلام، وهم يأبون عليه ويقابلونه بما يكره، إلا نفراً قليلاً أضاءت لهم نفوسهم حالك الظلام بما فيها من خير رشيد، وفطرة كريمة، فإذا بهم يُسلِمون على الرغم من كراهية قريش، وعلى الرغم من عدوانها، وعلى الرغم من فجورها وبذاءتها في الخصومة.
ولم يتوقف عليه الصلاة والسلام عند قريشٍ وحدها، بل مضى يَتْبَعُ الناسَ في أسواقهم، في عكاظ، وفي مَجَنَّة، وفي المواسم، وهو يقول "من يُؤويني!؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي!؟" فلا يجد أحداً ينصره؛ ذلك أن قريشاً لم ترضَ بما هي عليه من العداوة والبغضاء للإسلام حتى طفقت تفتري على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وتخترع الأكاذيب وتلصقها به، فمرّةً هو –على زعمها– ساحر، ومرة شاعر، ومرة كاذب، وهكذا..،
لقد شاع ما أطلقته من أكاذيب وانتشر، فشرّق في جزيرة العرب وغرّب، وتناقلته القبائل المختلفة، فتأثرَت بهذه الأكاذيب؛ حتى إن الرجل لَيَخرُج من اليمن أو مُضَر فيأتيه قومه وذوو رَحِمه، فيقولون له: "احذر غلام قريش لا يفتنك!"..
وعلى الرغم من حملة الأكاذيب هذه الضارية الشديدة لَم يتوانَ صلى الله عليه وسلم قط في إبلاغ الدعوة، والطوف على الناس أفراداً وجماعات، يدعوهم للخروج من الظلمات إلى النور.. كان احتماله قوياً جداً.. وكان صبره فريداً جداً، وكان إيمانه بالحق الذي بُعِث به وثيقاً مكيناً لا حدود له.. وحسبك أن تعلم أنه إذ كان يطوف على القبائل في مواسم العرب يدعوها إلى الإسلام، كان يمشي وراءه عمه أبو لهب -لعنه الله- يحذِّرُ الناسَ منه .. فكانوا يصغون إليه وهم يقولون: أهل الرجل وذووه أعرف به مِنّا.. لكن هذا كله لم يفتَّ في عضده عليه الصلاة والسلام يطوف على الناس إذ يجتمعون في أيام الحج.. أو أسواق العرب وهو يقول "من يُؤويني!؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي!؟".
وشاء الله عز وجل –وهو العليم الحكيم– أن يتراخى الزمن ويمتد قبل أن ينهض حيٌّ من العرب يعلن للرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيحميه وسيؤويه وسينصره حتى يبلّغ رسالة ربه إلى الناس. هذا الحي الذي انفرد بهذه المكرمة، واكتسب بها شرفاً ورِفعة حتى يوم الدين قوم من المدينة المنورة، هم الأنصار، رضي الله عنهم، وأجزل لهم الثواب.
وأسلمَ عددٌ من الأنصار على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.. وعادوا إلى المدينة المنورة يدعون قومهم إلى الحق، ويُحذرونهم من الشرك، ويُخلِصون لهم في النصح. وفشا الإسلام في المدينة المباركة وانتشر.. وحين حَلَّ موسم الحج كان هناك سبعون رجلاً منهم قد واعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعب العقبة.. ليسألوه قائلين: "يا رسول الله علامَ نبايعك؟"..
قال صلى الله عليه وسلم: "تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة".
كلمات قلائل تلك التي قالها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.. لكنها في غاية الخطورة حين يمعن الإنسان فيها النظر، إنها التزام جدّي خطير بالغ الأهمية.. لما تحتاجه الدعوة الجديدة من عونٍ وقوة، وبذلٍ وتأييد، ونصرةٍ وعطاء.. ترى أأدركَ الأنصار الكرام خطورة هذه البيعة؟ ترى أكان وفاؤهم من بعد على مستوى إدراكهم؟ إن تلاحق الوقائع، وتدافع الحوادث.. ونمو حركة الإسلام فيما بعد.. هذا كله كشف عن عظمة الأنصار وبطولتهم، كشف عن إدراكهم العميق لخطورة البيعة، وكشف التضحيات.. وحين تُمعن النظر في السيرة النبوية الشريفة ترى الوفاء النادر الذي كان عليه الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته الكريمة.
لكن قد يتساءل أحد: أكان الأنصار ساعة البيعة مُدركين خطورتها وجدّيتها وعِظمَ ثمنها وضخامة أبعادها!؟ الجواب: أجل؛ كانوا كذلك. يكشفُ عن ذلك موقف أسعد بن زُرارة رضي الله عنه الذي كان واحداً من السبعين، وكان أصغر القوم جميعاً إلا واحداً. وقف أسعد بن زرارة ليقول لقومه: "رويداً يا أهل يثرب! فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإنَّ إخراجهُ مناوأة للعرب كافة، وقتل خياركم، وتعضكم السيوف، فإما أنتم قومٌ تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قومٌ تخافون من أنفسكم خيفة فذروه وبَيِّنوا ذلك، فهو أعذر لكم عند الله"..
أيُّ قولة رائعة هذه التي نطق بها أسعد!؟ أيُّ إدراكٍ عميق لضخامة ما هو مُقدِمٌ عليه هو وقومه!؟ أيُّ شعور نبيلٍ بشرف الكلمة ينطق بها الإنسان فيلتزم بها وإن عَظُمَت!؟ أي إحساس بجدية ما دعاهم صلى الله عليه وسلم إليه من أمر!؟
لا شك أن أسعد بن زرارة كان له نصيب من ذلك يدل على عمق فَهْم من ناحية، وعلى أصالة نفس من ناحية أخرى. كان حريصاً أن ينظر قومُه فيما هم مُقدِمون عليه، لأنه يعلم يقيناً أنهم مُقدِمون على أمر عظيم.. إن هذه البيعة ذات نتائج كبيرة، منها حروب ضارية شديدة سيُقتل فيها أشراف القوم، وترميهم العرب عن قوس واحدة.. ستبذَلُ الأموال، وتُفقَدُ الأرواح، إنه لثمن باهظ ثقيل لولا أنه في مقابل الجنة!..
وضَع أسعد بن زرارة الأمر جلياً واضحاً أمام قومه، ليختاروا عن بيِّنةٍ ووعيٍ وإدراك حتى لا يندموا ذات يوم. وهاهم الآن بعد أن أدركوا عِظَمَ المسؤولية، وفداحة الأمانة، وخطورة البيعة، مطالبون باتخاذ الموقف الذي يريدون. واختار القوم، فكان اختيارهم شاهد صِدقٍ على أصالة نفوسهم، وعميق إيمانهم، وصدق نيّتهم. لقد قال قائلهم لأسعد فيما يُشبِه اللوم: "أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نسلبها".
لقد بايعوا من بعد موقف أسعد، وكانوا على مثل الشمس في رابعة النهار مما هم عليه مُقدِمون.
رجالٌ كرامٌ أوفياء، سادةٌ نُجُب، موقفهم نبيل، وموقف أسعد نبيل وأكثر من نبيل! لقد جمع صدق الفهم والإدراك، إلى جدية الإحساس بالمسؤولية، إلى الشعور العميق بجدية ما يصنع هو، وما يصنع قومه. ولقد كانت الأحداث التي تلت فيما بعد أعظمَ شاهدٍ على نُبلِ الأنصار ووفائهم، وخير دليلٍ على عظمة ما صنع أسعد بن زرارة يوم بيعة العقبة، رحمه الله، ورحم قومه الأنصار، وجزاهم خير الجزاء.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق