أبو بكر الصديق .. الخطوة الأولى
عاد الرجل إلى مكة المكرمة بعد واحدة من رحلاته التجارية الموفقة بين الشام واليمن ليجدَ الناسَ يتحدثون بأمر جديد لم يُعْرَف له من قبلُ سابقة.. وإذ كان التاجر العائد محل ثقة واحترام، وموضع تقدير وإجلال، بما عُرِف عنه من حسنِ المعشر، ولين الجانب، وخفض الجناح، إلى شهامة وأريحية وكرم نفس، فقد سارع إليه بعضُ المكّيين يحدثونه بما جاء من الرجل الهادئ الرزين الذي لقّبوه بالأمين.. سارعوا يحدثونه عن ذلك لأنه واحدٌ من سادة مكة وأهلِ الرأي والنظر فيها، ولأنه كذلك الصديقُ الحميمُ للأمينِ الكريمِ الذي هُم بما جاء به ضائقون.
جاءَ عددٌ من صناديد قريش، قادة الكفر والوثنية إلى التاجرِ العائد، منهم عقبةُ بنُ أبي مُعَيْط، وأبو جهل بنُ هشام، ليقولوا له: يا أبا بكر، أعْظِمِ بالخَطْبِ!، يتيمُ أبي طالب يزعمُ أنه نبي مرسل، ولولا أنتَ ما انتظرنا به، فإذ قد جئتَ فأنت الغايةُ والكفاية.
ونظر أبو بكر إليهم في صمت، وصرفهم عنه في هدوء، ثم مضى إلى بيتِ خديجةَ رضي الله عنها ليقابلَ صاحبَه الصادق الأمين الذي بلغَ أربعين عاماً ولم يُعْرَفْ عنه إلا الخيرُ والفضيلة، والشرف والعفاف.
ولم تَطُلِ المقابلة كثيراً، فقد كان أبو بكر يعلمُ صدق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فما كان منه إلّا أن أسلمَ سريعاً دونَ ترددٍ أو رَيْثٍ ليصيرَ من بعد ذلك أعظمَ رجلٍ في تاريخ الإسلام بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هو موقفٌ قد يحسبه بعضُ الناس تسرُّعاً غيرَ حميد، لكن الأمرَ أبسطُ من ذلك وأعمق، وقد تكون البساطةُ حليفةً للعمق.. إن أبا بكر كان قد عرف أخلاق محمد بن عبد الله دهراً طويلاً، وعرف أنه الفضائلُ كلُّها، والمكارمُ كلها، وعرف كذلك أنه الصدقُ كلُّه.. وإنَّ مَنْ يأبى أن يكذبَ على الناس حَرِيٌّ به ألّا يكذبَ على ربِّ الناس.
مثلُ تلك المحاكمة العقلية البسيطة العميقة معاً كانت كافيةً لإيمانِ رجلٍ عاقل لبيب، قد بَلا الحياةَ حتى عرفَها، وحلبَ الدهرَ أشْطُرَه، وبلغَ سنَّ النضج والاكتمال، سنَّ الأربعين.. لذا سارع يصدِّقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤمنُ بصحةِ ما يقول، ويبدأُ رحلة الجهادِ الشاق المتواصل تأييداً لدينِ الله عز وجل، وحرباً على عالمِ الوثنيةِ والشرك والخرافةِ والجهالة.
من أجل ذلك استحق أبو بكر الصديق رضي الله عنه تلك الشهادةَ العظمى من فمِ النبوَّةِ الطهور حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "ما دعوتُ أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كَبْوَةٌ وترددٌ ونظر إلا أبا بكر".
* * *
هو موقف كبير نبيل ذلك الذي وقفه الصديق، التاجرُ الهيِّنُ الليّن المحبوب يوم أن بادر إلى الإسلام دونَ ريث أو إبطاء.
وهو موقفٌ يُضاف إلى مواقفَ كثيرةٍ جداً كلها تشهد بعظَمةِ هذا الرجل، وصدقهِ وعبقريته، ومبادرته إلى سوابقِ الفضائل والمكرمات.
كان إيمانُ الصِّدِّيق إيماناً جيّاشاً، حاراً دافقاً، يريد أن يعبرَ عن نفسه، ويستفرغَ أقصى إمكاناته في البذل والعطاء. وإذا كانت الدعوة لا تزالُ حتى ذلك الحين في طورها السري، وجد الصِّدِّيق أن ثَمّةَ عوائقَ تقفُ في طريقهِ وعقابيل.
هو يريد أن يجهرَ بالدعوة ويهتف بها، ويقول كلمة الحق على مسامعِ سادةِ قريش أياً كانت النتائج.. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ما يزال ينتظر.
وظلَّ الأمر يَعْظُمُ على الصِّدِّيق، وظلت رغبتُه الحارةُ الجياشة تملأ كيانَه، وتستبدُّ به ليلَ نهار.. وكان أنْ ألَحَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج لإظهار الدعوة حتى استجابَ له.. وخرج المسلمون إلى بيت الله الحرام حيثُ يجتمع سدنةُ الكفر والضلال والوثنية، وكان في حياة الصِّدِّيق يومٌ شهمٌ كبيرٌ عظيم.
وقفَ الصِّدِّيق إلى جوار القوم خطيباً يدعوهم إلى عبادة الله عز وجل، وخلعِ تلك الأوثان الكالحةِ المقيتة، ومضى في خطبته، كالفرسِ المجلِّي.. كالسيل الأتِيّ.. كالمطر ينصبُّ مثل أفواه القرب.. كالصقرِ يشتد.. كالنمرِ ينقض.. كالبحر يهدر.. ذلك أن في صدره إيماناً أثبتَ وأرسى من الجبال، وفي قلبه حنيناً عنيفاً لا يهدأ لإبلاغِ الدعوة، والهُتافِ بكلمةِ الحق مهما تكنِ الصعاب.
وكانت خطبةُ الصِّدِّيق تلك أولَ خطبةٍ جهرَ بها مسلمٌ يدعو فيها إلى الله ورسوله، لذا فالصِّدِّيق جديرٌ بهذا اللقب الجليل "الخطيب الأول". وكانت كلمةُ الخطيبِ الأول التي ألقاها على مسامع قريش تحدياً صريحاً لشيوخ قريش وسادتها، وسخريةً عنيفة بما يعبدون، لذا ما كادوا يرونه واقفاً حتى قاموا إليه ونزلوا به وبمن معه من المسلمين ضرباً مؤذياً، ولكماً حاقداً، وبطشاً مجنوناً.. أنما يريدون إسكاتَ هذا الصوت إلى الأبد، وبلغ من شدة الحقد أن رجلاً كعتبةَ بن ربيعة وهو من سادة قريش الموصوفين بالعقل والحلم خلع نعليه ونزل بهما ضرباً على وجه الصِّدِّيق.. ذلك الوجه الكريم النبيل الذي ما عُرِفَ صاحبُه إلا بالمروءات والمكارم. وظلّ عتبة يضربه في سفهٍ وجنون حتى سال الدم من وجهه الأبِيّ، وظلت المعركةُ دائرةً بين القومين حتى أقبلَ بنو تَيْم وهم قبيلة الصِّدِّيق فحملوه إلى داره، وهُم لا يشكّون أنه قد مات.
* * *
وتعاهد بنو تيم أن يقتلوا عتبة بن ربيعة إن مات أبو بكر، وخيّمَ على مكة المكرمة جوٌّ ثقيل، وصار الناس في توجّسٍ وانتظار.. ولبثَ الصديقُ يومه لا يعي حتى إذا ما حرّكَ شفتيه كان أولُ ما نطق به أن سأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل أمه للبحث عنه والسؤال عن حاله.
وعادت الأم تحمل إليه النبأ السار.. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وعافية.. وحاولت أن تفعلَ ما تفعله كلُّ أمٍّ في مثل حالها.. قدّمت له شيئاً من اللبن ليتقوّى به، لكن الصِّدِّيق أبى ذلك، وأقسم ألا يذوق شراباً أو طعاماً حتى يأتيَ رسولَ الله.. وانتظرَ القومُ حتى إذا جاء الليل ذهبوا به إلى دار الأرقم.
وفرحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرح المسلمون معه برؤيتهم أبا بكر وهو حيٌّ يُرزق، وقد جاء إلى حيثُ كتيبة الإسلام الأولى، وأول كوكبةٍ من جنوده الأوفياء.
وحين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالِه قال رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ليس بي إلا ما نال الفاسقُ من وجهي.
* * *
أوعيتَ موقف الصديق هذا!؟ أنظرتَ فيه فاحصاً مدققاً معتبراً!؟ أما استوقفك ما فيه من بطولةٍ وتضحية وفداء!؟
· حين أفاق من غيبوبته كان أولُ ما فعل أن سأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهتم بأمر نفسه لا في قليل، ولا في كثير.
· وحين قُدِّمَ له ما يتقوّى به أبى ذلك، وأقسم ألا يذوق شيئاً حتى يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
· وحين وقف في منتدى قريش عند الكعبة المشرفة لم يكن يجهلُ الأذى الذي سوف يحلُّ به.
أنْعِمْ بموقفِكَ أيها الخطيبُ الأول يوم أسلمتَ دون تردد! ويوم ألقيتَ أول خطبة دون وجل!.
أنْعِمْ بذلك!.. وأنْعِمْ بمواقفك كلها! فهي لَعَمْري في خَلَدِ الزمان ملحمةُ صدقٍ وطُهر، وتضحيةٍ وجهاد، وثقةٍ واستعلاء، وإيمانٍ أثبتَ وأرسى من الجبال.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق