الأحد، 26 يونيو 2022

السيف الذي لم يغمد

السيف الذي لم يغمد

     يحاول الإسلام في توجيهاته الكريمة جميعاً أن يشدَّ بصرَ الإنسان صوبَ الآخرة لأنها الدار الخالدة الباقية، فالفوز فيها هو الفوز الحقيقي الذي ليس كمثله فوز قط، ومن أجل ذلك يهيب به أن ينفقَ أيامه في الدنيا في كلِّ سبيلٍ خيِّر يجعله من أهل الفوز في الآخرة، ومن أجل ذلك كان الموت في الوجدان المسلم مجردَ انتقالٍ من دار الاختبار والابتلاء والتجربة؛ إلى دار الحساب والجزاء. ولمّا كانت نشاطات المسلم جميعاً ينبغي أن تتحرك صوب رضوان الله عز وجل طلباً لجنته، كان من الضروري أن يجعل من الموتِ سبيلاً إلى ذلك وواسطة إليه.

     ها هو ذا القرآن الكريم يَعيبُ صنوفاً من الناس لأنهم يحبون الحياة حباً شديداً يجعلهم يتكالبون عليها أيّاً كانت: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة:96]. وها هو ذا يكشفُ خبيئةَ أقوامٍ آخرين كرهوا الموت في سبيل الله تعالى: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِۗ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَاۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران154].

     من أجل ذلك كان الموت قريباً في حسِّ المسلمين، وكان إلى جانب ذلك وسيلةً من الوسائل، ونشاطاً من النشاطات طلباً لرضوان الله عز وجل، فكان أعظمُ آمالهم أن يفوزَ الواحدُ منهم بالشهادة، ليكونَ موتُه عبادةً لله عز وجل، تماماً كما كانت صلاتُه وزكاته وبيعه وشراؤه، وجميع أنواع نشاطاته.

     ولم يكن ذلك ليغيبَ عن جيل المؤمنين الأوائل، ولم يكن ليغيبَ عنهم أن براعتَهم في صناعة الموت سببٌ من أسباب رقي الحياة واكتسابها، والتقدمِ فيها وصياغتها وفقَ ما يريد الإسلام، وربما كانت كلمةُ الصدّيق لخالد بن الوليد رضي الله عنهما تلخيصاً مُكثّفاً ممتازاً لهذا المعنى: "يا خالد! احرصْ على الموت توهب لك الحياة"، ولربما استحال الموتُ لدى بعضِهم غائباً حبيباً يُنْتَظَرُ ويُشْتاقُ إليه ويُؤْنَسُ بقدومِه، يتمثل ذلك في كلمة الخليفة الراشد عليٍّ بن ابي طالب رضي الله عنه عن نفسه: "واللهِ لَابْنُ أبي طالب آنسُ بالموتِ من الطفلِ بثديِ أمه".

     وهذا هو الذي يفسر لنا فِعْلَة ذلك الذي أصيب فأخذ يلطخ يدَه بدمه السائل ويمسحُ بها وجهَه، وهو أشدُّ ما يكون فرحاً واستبشاراً وسعادة، ويفسر لنا لماذا كان معاذُ بن جبل رضي الله عنه يقبِّلُ راحةَ يده لمّا أصيبت بالطاعون ويخاطبها قائلاً: "ما أحبُّ أنَّ لي بما فيكِ شيئاً من الدنيا"، ويفسر لنا لماذا كان بلال بن أبي رباح رضي الله عنه، يقول إذ حضره الموت: وا طرباه، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، وأمثال هذه الروايات التي تَكْثُرُ في التاريخ الإسلامي وتنتشر فيه.

     وما أحسب واحداً منا إلّا ويعرف حرصَ خالد بن الوليد رضي الله عنه على الشهادة في سبيل الله ورَمْيَه نفسَه في أشدِّ المخاطر طلباً لها، ذلك أن هذه الميتة هي أعظمُ آمالِه في الحياة على الإطلاق، ولعلنا جميعاً نحفظ جملته التي قالها قبلَ موته: "لقد شهدتُ كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضعٌ إلا وفيه ضربةُ سيف، أو طعنةُ رمح، أو رميةُ سهم، ثم ها أنذا أموت على فراشي حتفَ أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعينُ الجبناء". كلماتٌ مضيئة رائعة تكشف عظمةَ الآمال الكبار التي كانت تملأ خَلَدَ البطل المسلم، ذلك الذي دوَّخَ الدنيا، وانتصر في كل مكان، لكن شوقَه إلى الشهادة كان أعظمَ من ذلك جميعاً في وجدانه. لقد حوَّله الإسلامُ تحويلاً عجيباً، وصاغه صياغةً فريدة، فإذا هو في حياته جميعاً يطلبُ الموت، وإذا هو فيمن يقتلُ من الأعداء، وفيمن يُقْتَلُ من جماعتِه يصنعُ الحياة ويصوغها، ويشيِّدها وفقَ ما يريده الإسلام، كانت حركتُه حياةً تؤدّي إلى الموت، وموتاً يؤدّي إلى الحياة، ولذلك امتلكه حبُّ الجهاد، وسيلة ذلك وواسطتِه، امتلاكاً شديداً جداً حتى إنه ليقول: "ما ليلةٌ يُهْدى إليَّ فيها عروسٌ أو أُبَشَّرُ فيها بوليد، بأحبَّ إليَّ من ليلةٍ شديدةِ الجليد في سريةٍ من المهاجرين أُصَبِّحُ بهم المشركين".

     وشاء الله عز وجل لحكمةٍ هو أعلم بها أن لا يموت شهيداً، ويعجبني في تعليل هذا خاطرةٌ ذكية لعالمٍ هندي معاصر يذكر فيها أن خالداً ما كانَ له أن يموتَ شهيداً مهما حاول لأنه سيفُ الله، وسيفُ الله لا يُغْمَد! وأيّاً كان فإن العبرةَ في حياةِ خالد وموته، وآمالِه وأمانيه تَمْثُلُ أمامنا بوضوح بالغ، لتؤكد لنا فكرةَ الحياةِ التي تصنعُ الموت، والموتُ الذي يمنحُ الحياة.

     وإني لأرى لزاماً علينا اليوم، ونحن أمةٌ تحاولُ القيامَ والنهوض أن نرتب قائمة الفنون والصناعاتِ والمهارات التي علينا أن نحصلَ عليها، على أن يكونَ هذا الترتيبُ بحسبِ أهميتِها وأولويتها، وعلينا أن نضعَ في هذا الجدول المرتب فَنَّ الموتِ الشجاع الكريم، ونرسّخه، لأنه السبيلُ إلى الشهادة في سبيل الله عز وجل من ناحية، ولأنه من ناحية أخرى إسهامٌ في بناءِ الحياة وصياغتها، وإتقانها واكتسابها، والسبقِ فيها والظهور.

*****

الساحر والراهب والغلام

الساحر والراهب والغلام

     لعلنا جميعاً نعرف قصة الساحر والراهب والغلام تلك التي جاءت في الحديث النبوي الشريف عن رسول الله ﷺ، وهي قصة غنية بالعبر والدلالات، حافلة بالمواعظ والدروس، ولعل أهمَّ ما يعنينا الآن فيها هو أن الغلام ظل حتى بعد موته يمارس دوره في الدعوة إلى الله عز وجل والإيمان به.

     فهذا الغلام الذي تم اختياره ليتعلم السحر، شاء الله عز وجل له الهداية على يد راهبٍ صالح، وحين عرف بذلك الطاغية الذي أرسله حكمَ عليه بالموت، لكنه كان ينجو من الموت في كل مرة حتى حار الطاغية في الأمر، وهنا دلَّه الغلام على السبيل إلى قتله؛ وهو أن يجمع الناس كلَّهم في صعيد واحد، ثم يصلب الغلام على شجرة، ويأخذ سهماً من كنانته، ويقول "باسم الله رب الغلام"، ثم يطلقه، فحينذاك يصاب الغلام فيموت.

     وقع الطاغية الجائر في الفخ الذي نصبه له الفتى، وفعل ما أمره به، فإذا بالفتى يموت، وهنا هتف الناس جميعاً: آمنّا برب الغلام!.. وذلك بالضبط ما كان يهدفُ إليه الغلام حين دلّ الطاغية على طريقة قتله.

     فهؤلاء الناس الذين انتشر فيهم نبأُ الغلام وعَجْزِ الطاغية عن قتله إذ يُؤْخَذُ لتنفيذ حكم الموت به فيقول: اللهم اكفنيهم بما شئت، فيهلكُ مَنْ معه ويعودُ وحدَه ناجياً إلى الطاغية، علِموا أن في الأمر سراً، فلما شاهدوا الغلام يموت بالطريقة التي اختارها، سارعوا إلى الإيمان بالله عز وجل، وهتفوا: آمنا برب الغلام، لأنهم أيقنوا بأنه على الحق، وأن الطاغية الذي كان يزعمُ لهم أنه ربُّهم على الباطل.

     موضع العبرة في عملِ الغلام المؤمن واضحٌ بيّن، لقد اختار الميتة التي تثبت أنه على الحق وأن الطاغية على الباطل، وكان اختياره في غاية التوفيق والسداد حين طلب أن يكونَ الناس كلُّهم على صعيد واحد ينظرون ما الذي يجري له، لينهارَ زيفُ إيمانهم ويقينهم بالكافر الطاغية، ويحلَّ بدلاً منه الإيمان بالله عز وجل.

     إن بوسعنا أن نقول: إن هذا الغلام كان يمارس دوره في الدعوة إلى الله عز وجل وصُنْع الحياة وفقاً لتوجيهاته الربانية الكريمة حتى بعد أن مات. فالناس أعلنوا إيمانهم بعدَ موته، ثم ثبتوا على هذا الإيمان، حين خُدَّتْ لهم الأخاديد في الأرض أوقِدت فيها النيران، ثم جُعلوا بين أمرين: أن يعودوا عن إيمانهم أو أن يُلْقَوا في النار، فكان أن أقدموا على النار جميعاً فماتوا شهداء مبرورين. وبوسع المرء أن يحيط بالأمر في تفسير سورة البروج من الجزء الثلاثين من القرآن الكريم إذا أراد الزيادة[1].

     إننا نريد أن نستخلص من هذه الحادثة الفذة أن الشهيدَ يظلُّ يمارسُ دورَه في الدعوة إلى الله عز وجل بشكل أو بآخر، وإني لعلى يقين كبير أن الطاغية الذي فعل بالغلام ما فعل لو كان يعرف هذا المآل، لَما استمع إلى ما نصحَه به الغلام عن طريقة موته، تلك الطريقة التي أوقعه نجاحها في مأزق كبير، إذ إن الغلام قد مات، لكن الناس جميعاً سارعوا للإيمان، لقد رأى الطاغيةُ بعينِه شخصياً ما الذي استطاع الغلام أن يفعله بقتلِه.

     وكثيرون هم أولئك الذين كان مَثَلُهم في النفعِ بعد موتهم كمَثَلِ الغلام، ولا يخطئ المرء أن يلمح في التاريخ الإسلامي شهيداً أعزل يسوقه الطاغية إلى الموت لأنه داعية إلى الله تعالى، ويحسبُ أنه قد ارتاح منه، فإذا بالذي كتبه هذا الشهيد من معينِ الإيمان والقرآن، يدافع به عن دينِ الله، ويهاجمُ الأفكارَ الكافرة، يمتدُّ ويمتد، ويتعاظم وينتشر، ويشرّق ويغرّب، وإذا بالناس ينتفعون به، وإذا به يمارسُ دوره في الدعوة إلى الله عز وجل حتى بعد أنْ مات، فتهتدي بما كتبَ طائفةٌ من الناس، وتحاولُ أن تصوغ الحياة وفق أوامر الله عز وجل. ومَنْ يدري لعل الطاغية لو عرفَ هذه النهاية لَما ساق الشهيدَ نحو الموت، فقد رأى بعينه نفعَه بعدَ استشهاده تماماً كما رأى الطاغية صاحبُ الغلام.

     يا للعجب!.. إنه الموت الذي يصنع الحياة، إنه الموت الذي يظل أصحابه يمارسون دورهم في الدعوة إلى الله عز وجل، وهداية الناس، حتى بعد أن تخمدَ منهم الأنفاس.

     إن هذا الضربَ من ضروب الموت هو ما تحتاجُه حياتُنا اليوم لتصحَّ وتزكو، وتطيبَ وتطهر، وتتخلص من مواقع التخلف والهوان، وتستشرف مواقع السيادة والبطولة، والعظمة والطموح، والهداية والاستعلاء.

     ولقد كان إتقان الأمة المسلمة لهذا الضرب من ضروب الموت سبباً فعّالاً من أسباب سيادتها وتفوقها وانتصارها. والشواهد على صدق هذه الحقيقة كثيرة جداً في تاريخنا البطل، تلتقي بها في كل سطوره العطرة، ومنها قصة الشاعرة الخنساء التي كان حديثُها من أعجب العجب!..

     إن أبناءها الأربعة يُسْتَشْهَدون في القادسية فما تزيد على أن تقول: الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو أن يجمعني بهم في مستقر رحمته!.. وهم فلذات كبدِها، وكانت من قبل قد ملأت الدنيا صراخاً وبكاءً على أخٍ لها قد قُتِل في الجاهلية.

     إن الفرق بين موقف الخنساء من أولادها، وبين موقفها من أخيها صخر، هو الفرق بين ما تصنعه الجاهلية، وبين ما يصنعه الإسلام، وإني لأجدُ عبارتَها عن أولادها الشهداء لأكبرُ من التعليق، خاصة قولها: شرَّفني بقتلهم.

     وكالخنساء نجد تلك الصحابية الكريمة التي استشهد ثلاثةٌ من ذويها يوم أحد فما يَفْتِكُ بها الحزن، وإنما تسارعُ للسؤال عن رسول الله ﷺ، حتى إذا اطمأنت عليه قالت: كلُّ مصيبةٍ بعدَه جَلَل، أي هيّنة.

     لقد هان عليها استشهاد ذويها الثلاثة لنجاة الرسول الكريم ﷺ!.. موقفٌ كريم يليقُ بالمرأة المسلمة، ويليقُ قبلَها بالأمة المسلمة التي ترى أن الموتَ ربما يكون سبباً.. لا للفوزِ بالجنة فحسب، بل لدفعِ عجلة الحياة إلى الأمام، وصياغتها وفقَ ما يريدُه الإسلام.

----------------
[1] ورواه الإمام مسلم عن صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، برقم: 3005.

بلال على ظهر الكعبة

بلال على ظهر الكعبة

     لعلنا جميعاً نذكر أن رسول الله ﷺ اختار بلالاً الحبشي وأمره أن يصعد فوق الكعبة المشرفة ليؤذن ويعلي كلمة الحق. والكعبة هي الحرم المقدس عند العرب في الجاهلية، وهي القبلة المعظمة في الإسلام، ومع ذلك تم اختيار بلال ليكون أول من يرفع فوقها الأذان.

     ترى أيمكن أن يحدث مثل هذا أو قريب منه في الغرب مثلاً؟ لا ريب أن الجواب بالنفي، كيف لا، والغرب الغني المتمدن لا يزال يظلم مواطنيه الزنوج لا لذنب سوى أنهم سود!؟ ألا إنها مبادئ الوحل والتخلف في الغرب الذي جاب الفضاء ورَكَز أعلامه على القمر، لكنه لم يستطع إنقاذ نفسه من ربقة فكر جاهل متخلف يحمله على اضطهاد السود.

     أما حضارتنا، فإننا لا نخطئ أن نلمس فيها إذ يصعد بلال على ظهر الكعبة المشرفة قبل أربعة عشر قرناً، إعلاناً لكرامة الإنسان من حيث هو إنسان، له كرامته ومنزلته ومكانته وتقديره يستحق ذلك لعلمه وعقله، واختياره وإيمانه، لا لبشرته السوداء أو البيضاء، فما يقدم الإنسانَ في الإسلام بياضُه إذا قعد به عمله، ولا يؤخره سوادُه إذا قدّمه إخلاصُه وذكاؤه وجِدُّه واجتهاده. ولذلك لم يرضَ رسول الله ﷺ لأبي ذر -وهو من أكرم صحابته- أن يسب آخر فيقول له: يا ابن السوداء!.. لم يرضَ ذلك منه قط، بل قَرَّعه ولامَه وقال له: أعيّرته بسواد أمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية!.. وإنها لكلمة منه ﷺ، على إيجازها الشديد، غنية جداً، شديدة الخصوبة، حافلة بالدلالات واسعة الأمداء.

     "إنك امرؤ فيك جاهلية!.." لكأن هذه العبارة إعلان ضخم للفارق بين الحضارتين، الحضارة التي تكرم الإنسان فهي ذات نزعة إنسانية، والأخرى التي تهدر كرامته فهي ذات نزعة جاهلية.

     إن الحضارة التي لا يستعلي فيها عرق على عرق، ولا لون على لون هي الحضارة التي يصنعها الإنسان العاقل الكريم، وتسعد بها الإنسانية، وذلك ما فعلته حضارة الإسلام. أما الحضارة الأخرى التي يعلو فيها الأبيض ويُحتقر الأسود، ويَسعد بها البيض ويشقَى بها الملوّنون؛ فهي الحضارة الجاهلية الجائرة التي تنحدر وتتخلف، وذلك ما فعلته حضارات أخرى في القديم والحديث، وفي أيامنا المعاصرة حين نادت بالتمييز العنصري الذي هو جناية حمقاء حاربتها حضارتنا المشرقة في كل ميدان، في المسجد والمدرسة والشارع والمنصب والمحكمة والقيادة في السلم والحرب مع الأصدقاء ومع الأعداء.

*****

عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم

عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم

     كثيرون من الناس المشهورين الذين يحتلون في الدنيا مراتب كبيرة، ويبرزون فيها علماء وقادة، وساسة ومفكرين، لا يحتلّون في منازلهم نفس الدرجة من العظمة والإعجاب التي يحتلونها خارجها. والسبب أنهم يظهرون للآخرين بصورة لمّاعة جذابة تضفي عليهم هالاتٍ من الإكبار يصل إلى حد التقديس حيث يُحِلُّهم أتباعُهم منزلةً ساميةً عالية، يرفعونهم فيها إلى أعلى الذرى، ذلك أنهم لا يعلمون دخائلهم وحياتهم الخاصة، وما قد يكون فيها من بُعْد عمّا يقولون، وإنما يكتفون بما يعرفونه عنهم في حياتهم العامة، وتتكفل خيالاتهم، من خلال اتصال الأمل بالواقع، وتداخل الرغبة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، برسم صورهم في حياتهم الخاصة لا كما هي حقاً بل كما يطيب لهم أن يتصوّروها.

     لكنّ هذا لا يحدث لهؤلاء العظماء والمشهورين في داخل بيوتهم لسبب بسيط وهو أنّ ذويهم يعرفونهم عن قرب، ويشهدون نقاط ضعفهم، وزلاتهم، ومباذلهم، لذلك لا يمنحونهم من الإكبار والإعجاب ما يمنحهم إياهم الغرباء البعيدون، ولعل هذا هو المعنى الذي دفع الكاتب الفرنسي المشهور فولتير إلى أن يقول: إن الرجل لا يكون عظيماً في داخل بيته ولا بطلاً في أسرته.

     تُرى هل ينطبق هذا الأمر على الرسول الكريم ﷺ؟

     من خلال دراسة سيرته الشريفة بوسع الإنسان أن يقول: لا، فقد كان ﷺ يتمتع بمنزلة عالية جداً من الحب والإكبار، والإعجاب والتقدير، والثقة والتصديق، في خارج بيته وفي داخله على السواء.

     لقد كان المكان الذي احتلّه من قلوب صحابته الكرام مكاناً ضخماً جداً، وهو بالضبط ما احتلّه في قلوب ذويه الذين كانوا يعيشون معه، ذلك أنّ حياته الداخلية لم تكن تناقض حياته الخارجية قط، فقد كان فيهما على المستوى الرفيع الكريم هنا وهناك.

     ولقد كان ذوو الرسول الكريم ﷺ والمقيمون معه والقريبون منه من أشد الناس إعجاباً به، وإيماناً بدعوته، وتصديقاً لها، وحماسةً لنصرتها، ورغبةً في فدائه وفدائها بكل غالٍ ونفيس، وفي هذا دليل عظيم على صدقه ﷺ، وخاصة أن أول من أسلم هي السيدة الجليلة العاقلة الحصيفة خديجة رضي الله عنها وهي زوجته الكريمة، فقد رأت منه ما حملها على تصديقه. وحليلةُ المرء بشكل خاص أكثر الناس علماً بباطن الإنسان وعيوبه وهناته، وقد صرحت بذلك حين أخبرها بالوحي فجاء في رواية البخاري لخبر الوحي: (فَرَجَعَ بهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حتَّى دَخَلَ علَى خَدِيجَةَ، فَقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، فَقالَ: يا خَدِيجَةُ، ما لي؟ وأَخْبَرَهَا الخَبَرَ، وقالَ: قدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي، فَقالَتْ له: كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ...).

*****

السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - المقدمات والمحتويات

مقـدمة الطبعة الثانية

     يسعدني أن أضع بين يدي القارئ الكريم، الطبعة الثانية من كتابي «عاشق المجد عمر أبو ريشة شاعراً وإنساناً» بعد أن أعدت النظر فيه طويلاً، مستفيداً من ملاحظات متنوعة، بعضها من مراجعتي الشخصية لما كتبت، وبعضها من حصولي على مواد جديدة للشاعر وأخرى عنه، وبعضها مما قاله أو كتبه عدد من أهل العلم والفضل وجدت من واجبي أن أشكرهم شكراً جزيلاً، وهم:

❊ أستاذ الأجيال، الأديب العلامة الموسوعي، الشيخ الجليل علي الطنطاوي رحمه الله، الذي أثنى على الكتاب ثناء كبيراً، ووصفه بأنه مدهش وممتاز ومنصف، ووصف لغته بأنها عالية.

❊ الأخ النبيل الأستاذ عبد العزيز السالم الذي قرأ الكتاب قراءة دقيقة، وكتب عنه ست حلقات في جريدة الرياض الغراء، وفي كتابته متابعة واستقصاء، وفيها ملاحظات عامة وأخرى جزئية، بل إن فيها رصداً لأخطاء طباعية وغير طباعية، وهي مما لا يكاد ينتبه إليها القارئ، وقد فاتتني وفاتت سواي، ومع ذلك استوقفته فنبه إليها وحدد مواقعها، فله الشكر الجزيل مرتين، مرة لما فعل، والأخرى لأنه فعل ذلك وهو مشغول جداً بأعباء عمله المتنوعة والمهمة والكثيرة.

❊ الأخ الكريم الأستاذ الدكتور محمد علي الهاشمي الذي قرأ الكتاب قراءة دقيقة، وزودني بملاحظاته المشكورة، التي يظهر فيها حرصه ودقته وإتقانه، وهي صفات معروفة عنه في حياته وكتابته على السواء.

❊ الأستاذ الدكتور يوسف عز الدين الذي كتب في الأربعاء ــ وهو ملحق أسبوعي تصدره جريدة المدينة ــ مقالاً جميلاً علق فيه على ما كتبه الأستاذ السالم، وهو مقال فيه ذوق وأدب وثناء، وأفكار نافعة، أرجو أن أستفيد منها.

❊ الأخ الكريم الأستاذ عبد الرزاق ديار بكرلي، الذي قرأ الكتاب وكتب عنه مقالة جميلة، ضافية ودقيقة، أعانه عليها حســه الأدبي، ومعرفته بالكتاب منذ أن كان فكرة تقدم للجامعة، ثم رسالة تجاز منها، ثم عملاً منشوراً بين أيدي الناس، فضلاً عن الصلة الطويلة بينه وبيني، وهي صلة وثقى شدت عراها أخوة ومودة، وتقارب كبير في الفكر والثقافة والطباع.
❊ ❊ ❊

     أشرت في مقدمة الطبعة الأولى إلى أن أصل هذا الكتاب هو رسالة علمية تناولت الجانب الفني عند عمر أبو ريشة، وقد أضفت إليه طائفة من الموضوعات يوم خرج من حيز الجامعة إلى حيز النشر، لكني وجدت أن هذه الإشارة مجملة ولابد من شيء من التفصيل.

     أصل هذا الكتاب هو رسالة تقدمت بها إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة عين شمس، للحصول على درجة الدكتوراه، وعنوانها هو: «عمر أبو ريشة - دراسة فنية»، وقد نوقشت الرسالة مساء يوم الأربعاء 7/12/1414هـ ــ 18/5/1994م، ونالت درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الثانية. وقد أشرف عليها الدكتور يحيى عبد الدايم رحمه الله، وشاركه في مناقشتها الأستاذان الدكتوران إبراهيم عبد الرحمن، وأحمد مرسي.

     أما موضوعات هذا الأصل فهي: الوحدة العضوية ــ الصورة الشعرية ــ الموسيقى الشعرية ــ لغة الشعر ــ الرمز الشعري ــ تبديل وتعديل ــ القصة الشعرية ــ الملحمة الشعرية ــ المسرح الشعري.

     وكان هذا الأصل موزعاً على بابين وعدد من الفصول، لكني حين طبعته كتاباً للناس ألغيت هذا التوزيع، وجعلته موضوعات متوالية، كل موضوع يحمل عنوانه المذكور دون أن تسبقه كلمة «فصل» أو كلمة «باب» فقد وجدت ذلك أيسر على القارئ وأسهل، لأنه يتيح له أن يستمر في قراءة الكتاب دون أن تشغله تقسيمات فنية تتــــوزع عليها موضوعاتـــه، وأياً كان الأمر فإن هذا التغيير لم يجر على منهج الدراسة ومادتها ونتائجها، كما أنني حذفت من هذا الأصل بعض المواد التي بدت لي مغرقة في التخصص، مما لا يهم القارئ العادي، بل ربما أدى به إلى الملل.

     أما الإضافة فهي الموضوعات التالية: صورة كلية ــ مسيرة الحياة ــ في رحاب فيصل ــ إباء وكبرياء ــ مواقف جريئة ــ مبالغات وادعاءات ــ شعره الوطني ــ شعره الإسلامي.

     هذا وإن موضوع «مبالغات وادعاءات» يأتي إضافة جديدة في هذه الطبعة الثانية، ولقد كان لها جذور في الطبعة الأولى، لكنها أخذت مداها الآن.

     وقد جعلت المواد المضافة تسبق الأصل لأنها بمنزلة تمهيد شامل تعرف بالشاعر وحياته، وتعين على فهم شعره.

     ولقد تعاملت مع مناهج الدراسة الأدبية بمرونة وانفتاح في الحدود التي رأيتها تخدم البحث، ولكن همي الأكبر كان هو استنطاق النصوص، والغوص فيها، واستجلاء أبعادها، واكتشاف غوامضها، وإدراك مراميها، وإعادة النظر فيها، مؤملاً أن تكون دراستي هذه لشعر عمر أبو ريشة «دراسة نصية» بالدرجة الأولى وعساي نجحت.

     هذا وأود أن أشير إلى أن الشاعر كان يلتزم الواو في اسم عائلته أينما وقعت لأنها شهرة ثابتة له، وقد وجدت عدداً من الكتاب يفعل ذلك، ففعلت مثلهم ومثله. أما النصوص التي أنقلها عن هذا الكاتب أو ذاك فأورد اسم الشاعر فيها كما كتبه صاحب النص.

     وعسى أن يفسح الله في العمر، ويبارك في الوقت والجهد والهمة لنلتقي في طبعة ثالثة تكون خيراً من أختيها السابقتين.

     اللهم لك الحمد على ما أعنت ويسرت، فمنك العون، وعليك الاعتماد، وإليك المآب، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.

حيدر الغدير
الرياض - 1426هـ/ 2005م
---------------------------------------

مقـدمـــة الطبعة الأولى

     عمر أبو ريشة شاعر كبير، بدا لي بعد أن سمعته ينشد شعره، وبعد أن عكفت على هذا الشعر، وبعد أن تتبعت أخباره، أنه رجل عاشق للمجد، تغلغل عشقه للمجد في أعماقه وسيطر عليه ووجه الكثير من مواقفه طيلة عمره شاعراً وإنساناً.

     عشق المجد لأمته فأراد لهــا العــزة والظفر، وعشق المجد لوطنه فأراد له الحرية والاستقــلال، وعشق المجد لشعره فبذل فيه جهداً كبيراً وتطلع فيه إلى أعلى المراتب وبالغ في شأنه كثيراً، وعشق المجد لنفسه فأراد لها المكانة العليا وحرص على مصاحبة المشاهير والعلية من الساسة والأدباء والوجهاء والأعيان، وأدرك من ذلك حظاً طيباً كان يبالغ فيـــه. ومن هنــا جاءت تسمية هذا الكتاب التي أرجو أن تكون موفقة.

     أصل هذا الكتاب رسالة علمية تناولت الجانب الفني عند الشاعر، ولكني حين عزمت على طباعته كتاباً للناس أجريت فيه بعض التعديل، وأضفت إليه مواد تتناول حياة الشاعر ونفسيته ومواقفه، وموضوعات شعره، وطائفة من أخباره، لذلك يجد القارئ فرقاً واضحاً بين الأصل الذي تحكمه التقاليد العلمية المقررة وبين الإضافة التي لاتلتزم بذلك.

     ومن الله جل جلاله العون، وعليه الاعتماد، وإليه المآب، وله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.

حيدر الغدير
الرياض - 1417هـ - 1997م
--------------------------------

المحتـويــات

(روابط قابلة للضغط)

الموضوع .......................................... الصفحة


المحتـويــــــــــــــات ........................................... 1
مقدمة الطبعة الثـانية ........................................... 2
مقدمة الطبعة الأولى ........................................... 5
ديـــــــوان الشاعــــر .......................................... 6
صــــــورة كليـــــــة ........................................... 9
مســــــــيرة الحيـــاة .......................................... 16
في رحـــاب فـيصـل .......................................... 43
إبــــــاء وكـبريـــــاء ......................................... 54

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - المراجع العربية والأجنبية

المراجع العربية والأجنبية

المراجع العربية:

· إبراهيم أنيس: موسيقى الشعر. ط٦، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1988م.
· إبراهيم السعافين: مدرسة الإحياء والتراث. ط١، بيروت، دار الأندلس، 1401هـ ــ 1981م.
· إبراهيم عبد الرحمن محمد: بين القديم والجديد دراسات في الأدب والنقد. ط٢، القاهرة، مكتبة الشباب، 1987م.
· ابن الأثير: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، البابي الحلبي، 1939م.
· ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون. القاهرة، دار الشعب.
· ابن رشيق: العمدة في صناعة الشعر ونقده. القاهرة، مطبعة هندية، 1344هـ ــ 1925م.
· ابن طباطبا: كتاب عيار الشعر. تحقيق الدكتور عبد العزيز المانع، الرياض، دار العلوم، 1405هـ ــ 1985م.
· ابن عبد ربه: العقد الفريد. تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الإبياري، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1967م.
· ابن قتيبة: الشعر والشعراء. ط٢، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، القاهرة، دار المعارف، 1966م.
· أبو القاسم الشابي: الخيال الشعري عند العرب. تونس، الشركة القومية للنشر والتوزيع، 1961م.
· أبو هلال العسكري: كتاب الصناعتين. ط٢، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، عيسى البابي الحلبي، 1971م.
· أبو يعلى التنوخي: كتاب القوافي. ط١، تقديم وتحقيق عمر الأسعد ومحيي الدين رمضان، بيروت، دار الإرشاد 1389هـ ــ 1970م.
· إحسان عباس: فن الشعر. ط٤، عمان، دار الشروق، 1987م.
· إحسان عباس ومحمد يوسف نجم: الشعر المهجري. ط٢، بيروت، دار صادر ودار بيروت.
· أحمد أبو سعد: الشعر والشعراء في العراق. بيروت، دار المعارف، 1959م.
· أحمد أمين: النقد الأدبي. ط٤، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1972م.
· أحمد بسام ساعي: حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه. دمشق، دار المأمون للتراث، 1398هـ ــ 1978م.
· أحمد بسام ساعي: الصورة بين البلاغة والنقد. ط١، جدة، دار المنارة، 1404هـ ــ 1984م.
· أحمد الجندي: شعراء سورية. بيروت، دار الكتاب الجديد، 1965م.
· أحمد حسن الزيات: في أصول الأدب. ط٣، القاهرة، مطبعة الرسالة، 1952م.
· أحمد زكي أبو شادي: قضايا الشعر العربي المعاصر. القاهرة، الشركة العربية للطباعة والنشر، 1959م.
· أحمد الشايب: أصول النقد الأدبي. ط٧، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1964م.
· أحمد هيكل: تطور الأدب الحديث في مصر من أوائل القرن التاسع عشر إلى قيام الحرب الكبرى الثانية. ط٥، القاهرة، دار المعارف، 1987م.
· أكرم زعيتر: بدوي الجبل وإخاء أربعين سنة. ط١، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987م.
· أنطون غطاس كرم: الرمزية والأدب العربي الحديث. بيروت، دار الكشاف، 1949م.
· جابر قميحة: الأدب الحديث بين عدالة الموضوعية وجناية التطرف. ط١، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 1412هـ ــ 1992م.
· الجاحظ: البيان والتبيين. ط٣، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، القاهرة، مؤسسة الخانجي.
· جمال الدين الرمادي: خليل مطران شاعر الأقطار العربية. القاهرة، دار المعارف.
· جميل علوش: عمر أبو ريشة حياته وشعره مع نصوص مختارة. ط١، بيروت، دار الرواد للنشر والتوزيع، 1994م.
· جورج غريب: سليمان البستاني في مقدمة الإلياذة. بيروت، دار الثقافة، 1986م.
· جورج غريب: الشعر الملحمي تاريخه وأعلامه. بيروت، دار الثقافة، 1985م.
· حسن محسن: الشعر القصصي. القاهرة، دار النهضة المصرية، 1980م.
· الحسين المرصفي: الوسيلة الأدبية. القاهرة، مطبعة المدارس الملكية، 1874م.
· الحصري: زهر الآداب. ط١، تحقيق علي محمد البجاوي، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1953م.
· حلمي محمد القاعود: محمد صلى الله عليه وسلم في الشعر الحديث. ط1، المنصورة، دار الوفاء، 1408هـ ــ 1987م.
· حلمي محمد القاعود: القصائد الإسلامية الطوال في العصر الحديث قراءة ونصوص. القاهرة، دار الاعتصام.
· حلمي مرزوق: تطور النقد والتفكير الأدبي الحديث في الربع الأول من القرن العشرين. بيروت، دار النهضة العربية، 1983م.
· حنا الفاخوري: الجامع في تاريخ الأدب العربي. بيروت، دار الجيل، 1986م.
· خليفة محمد التليسي: قصيدة البيت الواحد. القاهرة، دار الشروق، 1411هـ ــ 1991م.
· خليل مطران: ديوان الخليل. القاهرة، دار الهلال، 1949م.
· زكي المحاسني: شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي إلى عهد سيف الدولة. القاهرة، دار المعارف، 1961م.
· سامي الدهان: الشعراء الأعلام في سورية. ط٢، بيروت، دار الأنوار، 1968م.
· سامي الدهان: الشعر الحديث في الإقليم السوري. القاهرة، معهد الدراسات العربية العالية، 1960م.
· سامي الكيالي: الحركة الأدبية في حلب. القاهرة، 1957م.
· سامي الكيالي: الأدب العربي المعاصر في سورية. ط١، القاهرة، دار المعارف، 1968م.
· السعيد الورقي: لغة الشعر العربي الحديث مقوماتها الفنية وطاقاتها الإبداعية. ط٣، بيروت، دار النهضة العربية، 1984م.
· سليمان البستاني: مقدمة إلياذة هوميروس. القاهرة، مطبعة الهلال، 1904م.
· سيد حنفي: الشعر الجاهلي مراحله واتجاهاته الفنية. القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1971م.
· سيد قطب: كتب وشخصيات. ط٢، بيروت والقاهرة، دار الشروق، 1401هـ ــ 1981م.
· سيد قطب: مهمة الشاعر في الحياة. عمان، مكتبة الأقصى.
· سيد قطب: النقد الأدبي أصوله ومناهجه. بيروت والقاهرة، دار الشروق.
· شكيب أرسلان: شوقي أو صداقة أربعين عاماً. القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، 1936م.
· شكري عياد: الرؤيا المقيدة. القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1978م.
· شكري عياد: موسيقى الشعر العربي. ط١، القاهرة، دار المعرفة، 1968م.
· شوقي ضيف: البارودي رائد الشعر الحديث. ط٣، القاهرة، دار المعارف.
· شوقي ضيف: دراسات في الشعر العربي المعاصر. ط٥، القاهرة، دار المعارف، 1974م.
· شوقي ضيف: شوقي شاعر العصر الحديث. القاهرة، دار المعارف.
· شوقي ضيف: فصول في الشعر ونقده. ط٢، القاهرة، دار المعارف.
· شوقي ضيف: الفن ومذاهبه في الشعر العربي. ط10، القاهرة، دار المعارف، ٨٧٩١م.
· شوقي ضيف: في النقد الأدبي. ط٧، القاهرة، دار المعارف، 1988م.
· صالح جودت: بلابل من الشرق. القاهرة، دار المعارف، سلسلة اقرأ، العدد 335، 1972م.
· صبحي البستاني: الصورة الشعرية في الكتابة الفنية الأصول والفروع. ط١، بيروت، دار الفكر اللبناني، 1986م.
· الطاهر أحمد مكي: الشعر العربي المعاصر روائعه ومدخل لقراءته. ط٤، القاهرة، دار المعارف، 1990م.
· طه وادي: جماليات القصيدة المعاصرة. ط٢، القاهرة، دار المعارف، 1989م.
· طه وادي: شعر شوقي الغنائي والمسرحي. ط٣، القاهرة، دار المعارف، 1985م.
· طه وادي: شعر ناجي الموقف والأداة. ط٣، القاهرة، دار المعارف، 1990م.
· عاطف جودة نصر: الخيال مفهوماته ووظائفه. القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984م.
· عباس محمود العقاد: اللغة الشاعرة. القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1960م.
· عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني: الديوان في النقد والأدب. ط٣، القاهرة، دار الشعب.
· عباس محمود العقاد: ابن الرومي حياته من شعره. ط٥، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1383هـ ــ 1963م.
· عباس محمود العقاد: في بيتي. القاهرة، دار المعارف، سلسلة اقرأ، 1945م.
· عباس محمود العقاد: عرائس وشياطين (ضمن مجموعة أعلام الشعر). بيروت، دار الكتاب العربي، 1970م.
· عباس محمود العقاد: جميل بثينة (ضمن مجموعة أعلام الشعر). بيروت، دار الكتاب العربي، 1970م.
· عباس محمود العقاد: ساعات بين الكتب. ط٣، القاهرة، مطبعة السعادة، 1950م.
· عباس محمود العقاد: فصول من النقد عند العقاد. تقديم محمد خليفة التونسي، مكتبة الخانجي بمصر ومكتبة المثنى ببغداد.
· عباس محمود العقاد: أشتات مجتمعات في اللغة والأدب. ط٦، القاهرة، دار المعارف.
· عبد الحميد الرشودي: الزهاوي دراسات ونصوص. بيروت، مكتبة الحياة، 1966م.
· عبد الرحمن الوجي: الإيقاع في الشعر العربي. ط١، دمشق، دار الحصاد، 1989م.
· عبد القادر القط: الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر. ط٢، بيروت، دار النهضة العربية، 1401هـ ــ 1981م.
· عبد القادر القط: في الشعر الإسلامي والأموي. بيروت، دار النهضة العربية، 1979م.
· عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز. طبعة محمود محمد شاكر، ط٣، جدة، دار المدني، 1413هـ ــ 1992م.
· عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة. طبعة محمود محمد شاكر، ط1، جدة، دار المدني، 1412هـ ــ 1991م.
· عبد الله الطيب المجذوب: المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها. ط١، القاهرة، مصطفى البابي الحلبي، 1955م.
· عبد الله يوركي حلاق: من أعلام العرب في القومية والأدب. ط٢، حلب، منشورات مجلة الضاد، 1978م.
· عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية. ط٣، القاهرة، دار الفكر العربي.
· عز الدين إسماعيل: التفسير النفسي للأدب. بيروت، دار العودة ودار الثقافة.
· عز الدين إسماعيل: الأسس الجمالية في النقد العربي. القاهرة، دار الفكر العربي، 1955م.
· عزيزة مريدن: القصة الشعرية في العصر الحديث. دمشق، دار الفكر، 1404هـ ــ 1984م.
· عمر الدقاق: نقد الشعر القومي. دمشق، دار الأنوار للطباعة، اتحاد الكتاب العرب، 1987م.
· عمر الدقاق: فنون الأدب المعاصر في سورية. بيروت، دار الشرق العربي.
· علي الجارم: ديوان علي الجارم. ط٢، القاهرة، دار الشروق.
· علي الجندي: الشعراء وإنشاد الشعر. القاهرة، دار المعارف، 1969م.
· علي شلش: في عالم الشعر. القاهرة، دار المعارف، 1980م.
· علي عبد الواحد وافي: الأدب اليوناني القديم. القاهرة، دار المعارف، 1988م.
· فايز الداية: جماليات الأسلوب الصورة الفنية في الأدب العربي. ط٢، دمشق، دار الفكر، 1411هـ ــ 1990م.
· القاضي الجرجاني: الوساطة بين المتنبي وخصومه. ط٤، تحقيق وشرح محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، القاهـرة، عيسى البابي الحلبي، 1386هـ ــ 1966م.
· قدامة بن جعفر: نقد الشعر. تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، 1398هـ ــ 1978م.
· ماهر حسن فهمي: قضايا في الأدب والنقد رؤية عربية وقفة خليجية. قطر، دار الثقافة، 1986م.
· ماهر حسن فهمي: شوقي شعره الإسلامي. ط٢، القاهرة، دار المعارف.
· مارون عبود: مجددون ومجترون. ط٥، بيروت، دار الثقافة ودار مارون عبود، 1979م.
· محمد بن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء. شرح محمود محمد شاكر، القاهرة، دار المعارف، 1952م.
· محمد حسن عبد الله: الصورة والبناء الشعري. القاهرة، دار المعارف، 1988م.
· محمد عادل الهاشمي: أثر الإسلام في الشعر الحديث في سورية من 1920م إلى 1946م. الزرقاء، مكتبة المنار، 1986م.
· محمد عبد المقصود خوجة: الإثنينية. كتاب يجمع وقائع ندوة محمد عبد المقصود خوجة التي تعقد في جدة كل يوم اثنين، جدة 1411هـ ــ 1991م.
· محمد غنيمي هلال: النقد الأدبي الحديث. بيروت، دار العودة، 1987م.
· محمد فتوح أحمد: الرمز والرمزية في الشعر المعاصر. ط٣، القاهرة، دار المعارف، 1984م.
· محمد فتوح أحمد: واقع القصيدة العربية. ط١، القاهرة، دار المعارف، 1984م.
· محمد مندور: الشعر المصري بعد شوقي. القاهرة، دار نهضة مصر.
· محمد مندور وعبد العزيز الدسوقي وأديب مروة: أعلام الشعر العربي الحديث. بيروت، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، 1970م.
· محمد مندور: الأدب وفنونه. القاهرة، دار نهضة مصر، 1974م.
· محمد مندور: فن الشعر. القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر.
· محمد مندور: النقد والنقاد المعاصرون. القاهرة، دار نهضة مصر.
· مختار الوكيل: رواد الشعر الحديث في مصر. ط٢، القاهرة، دار المعارف.
· المرزباني: الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء. ط٢، طبعة محب الدين الخطيب، القاهرة، المطبعة السلفية ومكتبتها، 1385هـ.
· المرزوقي: مقدمة شرح ديوان الحماسة. ط٢، نشر أحمد أمين وعبد السلام هارون، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1967م.
· مصطفى السعدني: التصوير الفني في شعر محمود حسن إسماعيل. الإسكندرية، منشأة المعارف.
· مصطفى عبد اللطيف السحرتي: الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث. ط٢، جدة، مطبوعات تهامة، 1984م.
· نازك الملائكة: قضايا الشعر المعاصر. ط٨، بيروت، دار العلم للملايين، 1989م.
· نسيب نشاوي: مدخل إلى دراسة المدارس الأدبية في الشعر العربي المعاصر. دمشق، 1980م.
· النعمان القاضي: كافوريات أبي الطيب دراسة نصية. القاهرة، مركز كتب الشرق الأوسط ومكتبتها، 1975م.
· النعمان القاضي: أبو فراس الحمداني الموقف والتشكيل الجمالي. القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1982م.
· هلال ناجي: الزهاوي وديوانه المفقود. القاهرة، مطبعة نهضة مصر.
· يوسف بكار: بناء القصيدة العربية. القاهرة، دار الثقافة، 1979م.
· يوسف خليف: ذو الرمة شاعر الحب والصحراء. القاهرة، مكتبة غريب.
· يوسف خليف: نداء القمم. القاهرة، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 1965م.
· يوسف عز الدين: التجديد في الشعر الحديث بواعثه النفسية وجذوره الفكرية. جدة، النادي الأدبي الثقافي، 1986م.


المراجع الأحنبية:

H. L. Yelland, S.C. Jones and K.S.W. Easton: A Handbook of Literary Terms Angus & Robertson Publishers, Sydney, Australia, 1983.
A Dictionary of Modern Critical Terms Ed. Roger Fowler, Routledge and Kegan Paul, London, 1975.
The Oxford Classical Dictionary, Ed.M. Cary et. al., Oxford University press, London, G.B. 1964.
Websters Third New International Dictionary, Merriam-Webster Inc., Publishers Springfield, MA 01102, U.S.A. 1986.
Robin Mayhead, Understanding Literature, Cambridge University Press, Cambridge, G.B., 1969.
M.H. Abrams, A Glossary of Literary Terms, Rinehart and Winston, New York, U.S.A,
- Critical Approaches to Literature, David Daitehes Longman, London, 1974.
❊ ❊ ❊

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - المسرح الشعري

المسرح الشعري

     يبدو أن عمر أبو ريشة كان يطمح إلى أن يكون شاعراً مسرحياً إلى جانب كونه شاعراً غنائياً، ولذلك نشر مسرحية كاملة هي «ذي قار» كانت أول أعماله المنشورة، وأوبريت باسم «عذاب» ضمن ديوانه، ونشر فصولاً من ثلاث مسـرحيات لم تكتـمل هي «محكمة الشعراء» و«الطوفان» و«سمير أميس»، وأعلن عن ثلاث مسرحيات هي «تاج محل» و«علي» و«الحسين»، ولكن لم ير النور منها شيء مع تكرار الإعلان وتطاول الزمان.

     ودراسة المسرحية الوحيدة المكتملة «ذي قار» التي لم يعد طباعتها قط، مع مرور قرابة ستين عاماً على طبعتها الأولى[1]، ودراسة الأجزاء المنشورة من مسرحياته الثلاث، والتساؤل عن جدية ما وعد به من مسرحيات أخرى، كل هذا يحمل الدارس على أن يقرر أن عمر أبو ريشة انصرف عن المسرح الشعري لأنه لم يرض عما أنجزه فيه، مما جعله يؤمن أنه شاعر غنائي قبل كل شيء، وهذا ما يؤكده الواقع حيث صب معظم اهتمامه على الشعر الغنائي حتى مات، ولقد كان محقاً فيما فعل فهذا الشعر هـــو مجال تفوقه وهو الذي عاش معه حتى آخر عمره.

     ومن المقرر لدى الدارسين والنقاد أن الأدب المسرحي أدب جديد على العربية، وأن الشعري منه أكثر جدة. وكان أحمد شوقي أول من أدخل المسرح الشعري إلى الأدب العربي، وقد وهب السنوات الأخيرة من عمره لهذا الفن، فأخرج مسرحياته «مصرع كليوباترة» و«مجنون ليلى» و«الست هدى» و«علي بك الكبير» و«عنترة» و«قمبيز».

     ومع الجهد الكبير الذي بذله شوقي في هذه المسرحيات، ومع أنه كتبها، وهو في أوج نضجه واكتماله إلا أن النقاد وقفوا عند عدد من العيوب والثغرات فيها، ولعل كونه الرائد الأول في هذا الباب يشفع له. وخلافاً لشوقي كان صنيع عمر أبو ريشة. بدأ شوقي شاعراً غنائياً وظل طيلة حياته كذلك، وعني بالمسرح الشعري أواخر عمره، أما عمر أبو ريشة فقد عني بالمسرح الشعري في أوائل حياته لكنه انصرف عنه مبكراً وركز على الشعر الغنائي.
❊❊❊

     مسرحية «ذي قار»: هي المسرحية الأولى للشاعر، وهي المسرحية الوحيدة المكتملة لديه، أما باقي مسرحياته فهي أجزاء غير مكتملة أو وعود، ولذا يجدر بنا أن نتوقف لديها لأنها أجدر من سواها بكشف قدرات عمر أبو ريشة المسرحية.

     تعود مسرحية «ذي قار» إلى العام 1929م، حيث نظمها الشاعر وهو لا يزال في العشرين من عمره ومثل هذه السن لا تؤهله للعمل المسرحي الذي يحتاج إلى دربة وخبرة ومعرفة جيدة بالفن المسرحي. وتأخر نشر المسرحية عامين فرأت النور عام 1931م، حين نشرها الأستاذ محمد صبحي اللبابيدي، صاحب المكتبة الحلبية في حلب، وهي تقع في مئة وست عشرة صفحة من القطع الصغير، وقد ألـحق بها الناشر عشر صفحات أخرى للأستاذ حمدي كامل، عنوانها «نظرة في شعر المؤلف».

     تدور مسرحية «ذي قار» حول قصة حب يلتقي فيها أبطال المسرحية في مسلسل من الوقائع يتداخل فيها هذا الحب بالصراع بين العرب والفرس الذي كانت ذروته يوم ذي قار الذي وقع مع بداية البعثة النبوية الشريفة أو قبلها بقليل.

     وأصل الواقعة التاريخية لذي قار أن كسرى ملك الفرس غضب على النعمان ملك الحيرة، وكان تابعاً له فقتله، وعين مكانه إياساً الطائي، وكانت للنعمان ودائع عند هانئ بن مسعود الشيباني فطالبه إياس بها فأبى، ومن هنا اندلعت شرارة الحرب بين الفرس والعرب، واستمرت الحرب أياماً انتهت بانتصار العرب في يومها الأخير الذي عرف بيوم ذي قار، وهو ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة.

     ولم يكن لهذا النصر قيمة إستراتيجية ذات بال، إذ ظل الفرس في موقع القوة والسيادة، وظل العرب في موقع الضعف والعجز حتى جاءت الفتوح الإسلامية بعد ذلك بقليل، فغيرت المعادلة وقلبت مجرى التاريخ، لكن هذا النصر كانت له قيمة معنوية كبيرة فقد فرح به العرب، وطربوا له، وارتفعت روحهم المعنوية إذ وجدوا أنفسهم ــ وهم الضعاف الفقراء الممزقون ــ منتصـرين على دولـة عظمى كانت أحـد قطبين يحكمان العالم: الفرس والروم.

     أما عمر أبو ريشة فلم يأخذ بالأصل التاريخي للواقعة، وإنما اختار منها وأضاف وتخيل، فكانت وجهتها عنده أن الأحداث وقعت في زمن النعمان نفسه، وخلاصتها أن كسرى أراد أن يتزوج ابنته الحرقاء، فرفض النعمان فاشتعلت المعركة، وانتصر العرب على الفرس، وتزوجت الحرقاء من المنذر بن الريان وهو ابن عمها وكان محباً لها.

     تتكون المسرحية من أربعة فصول يمكن إيجاز أحداثها على النحو التالي:

الفصل الأول: ويغطي الصفحات من 8 إلى 38، وتجري أحداثه إلى جوار غدير ماء، حيث نجد مجموعة من الشبان يرقصون «الدبكة»، وهم ينشدون أبياتاً على بحر راقص هو مجزوء الرمل، تقول اللازمة المكررة فيها:

كلما الصـب المعنَّى     أبصر المحبـوب أنّا
وإذا ما الليـل جــــنَّا     أترع الكــأس وغنَّى

     ويتفرق الشبان حين يدخل عليهم الأمير المنذر بن الريان، لكن الأمير يأبى أن يفسد صفوهم فيعودون، ويعود المجلس للغناء والراح، ويتفاعل الأمير مع المجلس فيكشف عن أحزانه ويبوح بحبه للحرقاء بنت النعمان، وتدخل وهو في حاله هذا من الوجد والبوح فتاتان هما هند ومريم فتعلمان حقيقة الأمر فتقوم مريم بإبلاغ الحرقاء بعشق ابن عمها لها، فيلتقي العاشقان المنذر والحرقاء، ويتبادلان الغزل ويتعاهدان على الإخلاص والوفاء.

أما الفصل الثاني: الذي يستغرق الصفحات من 39 إلى 59، فتدور أحداثه في بلاط كسرى ملك الفرس، حيث نرى كسرى ومعه وزراؤه وندماؤه وشعراؤه، أحدهم يمدح، والثاني يداعب، والمنشدون يغنون، وكسرى يطرب ويهب، وحين يدخل الطميح أحد قادة كسرى يزف لسيده بشرى انتصاره على بني شيبان، ويعرض عليه من سباهن من بناتها، وهن حسناوات كواعب يعجب كسرى بهن، فيشيد أحدهم بجمالهن الذي يكاد يشبه جمال الحرقاء، وهنا يسأل عنها كسرى فيعلم عنها ما يدعوه إلى الرغبة في الزواج منها، ويرسل إلى أبيها النعمان في طلب ذلك، وينتهي الفصل وعلى خشبة المسرح عربيان هما عصام وعناد، يعبران عن ضيقهما برغبة كسرى، ويريان أنه لا يليق بالحرقاء، فهو مزدكي إباحي غصوب، لا يرقى وإن كان ملكاً إلى مستوى الحرقاء الفتاة العربية الحرة.

أما الفصل الثالث: وهو يستغرق الصفحات من 59 إلى 81، فتدور أحداثه في الحيرة في قصر النعمان، حيث نشاهد الحرقاء تتحاور مع مريم وهي قلقة على ابن عمها المنذر الذي تأخر الوقت ولم يظهر، ومريم تهدئ من مخاوفها، ثم نشاهد النعمان مع وزرائه وحاشيته، يصرف شؤون دولته فيرى شيخاً يهودياً اعتدى عليه أحد وزرائه، فيحمله حبه للعدل على إنصاف اليهودي وتحقيق مطلبه وإلقاء الوزير الظالم له في السجن، ثم يدخل الشعراء ومنهم النابغة الذبياني الذي يلقي بين يدي النعمان قصيدة مطولة تقع في ثمانية وعشرين بيتاً مطلعها:

اعقل قلوصي أيهذا الحادي     إنا بربع بثيــــنة وسعــــــاد

     وينتهي الفصل وقد جاء الطميح يخطب الحرقاء بنت النعمان لسيده كسرى، فيرفض والدها رفضاً قاطعاً مع ما في الرفض من أخطار ومهالك، ومع تهديد الطميح إياه.

أما الفصل الرابع: وهو الأخير أيضاً فإنه يغطي الصفحات من 82 إلى 116، وتدور أحداثه قرب قصر الريان، حيث نشاهد العاشقين المنذر والحرقاء يتلاقيان ونذر الحرب تتوالى، ويتعاهدان على الوفاء، ويتواصيان بالصبر والاحتمال، وتطلب الحرقاء من المنذر أن ينسى الغرام، وأن يبذل نفسه في طلب المعالي، وهي هنا بطبيعة الحال التصدي لكسرى ومطامعه، ثم نرى النعمان وحاشيته بملابس الحرب وهو ينشد أبياتاً حماسية يظهر فيها اعتزازه بملكه وعروبته وهزؤه بكسرى، ثم يبدأ القتال الذي يأخذ شكل مبارزات فردية يقتل النعمان في إحداها، وفي ثانية يلتقي الطميح وهو عربي موال لكسرى مع ابنه عصام الموالي للنعمان، ويدور بينهما حوار طويل تظهر فيه عروبة عصام وإخلاصه لقومه، ويتبارز الأب والابن فيسقط الابن قتيلاً. أما الحرقاء فتهرب إلى الصحراء حيث يجيرها بنو بكر بن وائل، وينتهي الفصل بانتصار العرب ومبايعة قبائلهم للمنذر ملكاً عليهم، وزواج المنذر والحرقاء، ويقفل الستار والعرب ينشدون أنشودة الانتصار على الفرس والاعتزاز بمجدهم وعروبتهم.

     ودراسة المسرحية تنتهي إلى النتائج التالية:

(1) لم يستطع الشاعر أن يبني مسرحيته بناء درامياً متقناً، يأخذ الثاني منه برقاب الأول، ويفضي إلى الثالث، بحيث تتدافع الأحداث وتتعقد، حتى تأخذ ذروتها ثم يكون الحل، فمثلاً نجده في الفصل الأول يطيل مجالس اللهو والشراب والغناء إطالة تخرج بها عن وظيفتها منذ أن نلتقي بمجموعة الفتيان الذين يرقصون ويغنون وينشدون إلى أن يدخل عليهم المنذر بن الريان فينشد هو الآخر أبياتاً دالية يعبر فيها عن حبه، وأبياتاً أخرى رائية يدعو الفتيان فيها إلى أن يستمروا في لهوهم حين هموا بالانسحاب توقيراً له واحتراماً، ويغفو الأمير ويصحو لنعلم خلال ذلك في أبيات له تطول كثيراً حتى تبلغ تسعة عشر بيتاً أنه وقع في حب ابنة عمه الحرقاء.

     ويتصل بهذا الملحظ أننا نرى في المسرحية مواقف استطرادية دخيلة تماماً كموقف الشيخ اليهودي المتظلم الذي نلقاه في الفصل الثالث، وهو موقف مقحم تمام الإقحام ليست له أي فائدة في دفع الأحداث أو تفسيرها ولو حذف كله لما خسرت المسرحية شيئاً، ومثل ذلك يقال عن القصيدة الطويلة التي يلقيها النابغة الذبياني بين يدي النعمان في الفصل الثالث، وهي قصيدة لا صلة لها قط بأحداث المسرحية، وليس لها أي داع مسرحي أو ضرورة درامية، بل إنها زيادة على كونها مقحمة تبتعد بالنظارة عن أصل المسرحية ومادتها الأساسية حين يسمعون إليها، وهي تتحدث في لغة فخمة جزلة بدوية عن القلوص والنؤي والأوتاد والأظعان والوجناء والشآبيب والعير والأثفان والرسيم والقتاد والقفر والرميم والذئب والمشطب والسيل والوادي، مما يصور فيه الشاعر رحلته في الصحراء حتى يصل إلى النعمان طالباً رفده وصفحه.

     إن هذا الطول في الأبيات، وهي مقحمة ابتداء، ثم هذه اللغة الحوشية الغريبة التي لا يكاد يستوعبها النظارة يشعرهم بالافتعال والتكلف، ويبعدهم عن جو المسرحية. وربما كان لهذه القطعة التي وضعها عمر أبو ريشة على لسان النابغة سبب نفسي لا علاقة له بالمسرحية وهو رغبته في أن يثبت مقدرته اللغوية فحشد لنا ما حشد في هذا الاستطراد، ويؤكد صحة هذا الاستنتاج ما رواه الدكتور سامي الدهان حين قال: «وكم فعل عمر مثل هذا حين كنا نخلو إليه في جلساتنا في حي قريب من قلعة حلب، يهدر بالشعر القديم ويقلده متندراً ساخراً، ولن أنسى أنه كان يخدعنا عن أنفسنا ونحن في مطلع الشباب فنحسب أن الشعر قديم حقاً، ويلهو بنا زمناً نبحث فيه عن صاحب الشعر في المصادر القديمة، ونعود إليه لنقرأ في ثغره ضحكة الشباب المنتصر الساخر»[2].

     وما قيل عن هذا الاستطراد يقال عن استطراد مماثل نراه في المبارزة التي تقع بين الطميح وابنه عصام، فهو استطراد مقحم هو الآخر لا يدفع بالأحداث ولا يضيف أي خيط إلى بناء المسرحية.

     وبهذا يتبين لنا أن في المسرحية مواقف مقحمة وطولاً يعطل الحركة، ويدفع إلى الملل، تفقد الأحداث معه تواليها وتسلسلها وتصاعدها.

(2) خالف الشاعر قاعدة الوحدات التي تحرص عليها المسرحية الكلاسيكية، وهي وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الموضوع، فبعض الأحداث يجري على الغدير، وبعضها يجري في قصر النعمان، وبعضها يجري في قصر كسرى، وبعضها يجري في منطقة ذي قار ليمتد عدة أيام، وكان أثر ذلك في المسرحية أن بدت مفككة تراخت معها الحبكة، وغاب التركيز وضعف عنصر الصراع وترهل.

(3) لم يستطع عمر أبو ريشة أن يصور خصوصية الأبطال الرئيسيين في المسرحية فكان عرضه لهم عرضاً سطحياً لم يغص فيه على أعماقهم، وإذا كان هذا مقبولاً حيال أي واحد منهم، فإنه لا يقبل قط فيما يتصل بالبطل الرئيسي المنذر بن الريان الذي يريد الشاعر أن يقدمه لنا بطلاً قومياً يتصدى لأعداء أمته ومقاتلاً شجاعاً لا يهاب ولا يضعف. إن صورته هذه تتناقض مع مشاهدتنا له عاشقاً رقيقاً رهيفاً يقول عن نفسه:

يميل بي اللحن ميل الزهور     وقد قبــلتها شفــــــاه السحر

     ومع مشاهدتنا له شاباً رومانسياً كثير البكاء والشكوى وهو يقول:

يا غراماً بين أحشائي نما     ورماني في بحور التعس
أترى تهجر قلبــاً مكلمـــا     يتلظى في سعـــير النفس

     ومع مشاهدتنا له دنفاً كأنه مراهق واهم حالم وهو يقول:

أيها الموت اقترب واشفق علي
يـا أخي
وانبتي يا أرض من بعد مماتي
كل نبت عاطر فـــوق رفــاتي
عله يقتـــاد من كنـــــــــت أود
فاستــبد

     إن المنذر بن الريان هو الشخصية المحورية في المسرحية، وهذا يستدعي من الشاعر أن يصور ملامحه النفسية تصويراً يجمع كل خيوطها ليبرزه لنا شخصاً مندفعاً مقداماً حياً، ذا ميل جامح يشد النظارة ويستأثر باهتمامهم، خاصة أن عمر أبو ريشة كان يريد أن يقدمه لنا بطلاً قومياً ومقاتلاً يدافع عن عروبته ضد عدو خارجي، لكن المشاهد التي عرضت لنا المنذر لم تتعاون كلها في بناء هذه الصورة الموحدة، بل تفرقت لترسم لنا عدة صور لشخصية محورية واحدة.

(4) هناك مواقف يشق على النظارة الاقتناع بها لأن عمر أبو ريشة لم يحشد لها المسوغات المنطقية المقنعة التي تخفف من غرابتها وتجعل الإنسان قادراً على افتراض إمكانيتها. فالموقف الذي يتبارز فيه الطميح مع ابنه عصام موقف غريب لم يستطع الشاعر أن يصوره التصوير الدقيق. نحن هنا أمام مأساة أخطر من حب المنذر والحرقاء، إنها ذروة مأساة درامية يقتتل فيها الأب الذي يوالي كسرى مع ابنه عصام الذي يوالي المنذر، ويقتل الأب ابنه مع إعجابه بانحيازه إلى قومه ودفاعه عن ذويه، وبعد وقوع القتل لا نجد من الأب القاتل الندم الذي يليق بمأساة من هذا النوع، وهي مأساة كانت جديرة بوقفة نفسية تحليلية ربما يتسرب بسببها شيء من الإقناع إلى النظارة الذين لابد أنهم استغربوا كثيراً وهم يرون والــــداً يقتـــل ابنــه دون تردد شديد قبل القتل، ودون ندم أشد بعده.

(٥) يلاحظ على الحوار امتداده واتساعه، وتحوله أحياناً إلى مقطوعات غنائية لا تدفع الحدث ولا تطور الشخصية بحيث يمكن أخذها كما لو كانت قصائد مستقلة والأمثلة على ذلك كثيرة، منها الأبيات العشـــرون التي ينشدها المنذر في الفصل الأول والتي تبدأ بقوله:

يا غراماً بين أحشائي نما     ورماني في بحور التعس

     ومنها الأبيات التي تقولها مريم للحرقاء، وهي تحدثها عن حب المنذر لها ومعاناته، وتبدأ بقول الشاعر:

حرقـاء في كنف الغدير     صـب بمضطرم السعير

     وهي أبيات تقع في خمسة وعشرين بيتاً.

     ومنها أبيات عمر أبو ريشة التي تقع في ثمانية وعشرين بيتاً قالها على لسان النابغة الذبياني ومطلعها:

اعقل قلوصي أيهذا الحادي     إنا بربــــع بثيــنة وسعــــاد

(6) مسرحية ذي قار مسرحية تعليمية تنحو نحواً وطنياً يشيد بالعرب والعروبة بشكل تغلب عليه السذاجة، وهذا المنحى يتسق بشكل عام مع عمر أبو ريشة فقد كان شاعراً وطنياً جهيراً، ويتسق أيضاً مع المرحلة التي ظهرت فيها المسرحية (1929م ــ 1931م)، حيث وقع العالم العربي في قبضة الاستعماريين الفرنسيين والإنجليز والطليان والإسبان مما دعا الكتاب والأدباء والشعراء إلى استنهاض همم العرب ضد أعدائهم، ومن هنا جاء عمل عمر أبو ريشة ليكتسب صبغة وطنية بما نجده فيه من ثناء على العرب وإعجاب بشجاعتهم وتمرد على أعدائهم، ولذلك لا نستغرب أن نجد في المسرحية خطاباً مباشراً كقول النعمان:

نفس الملوك أبيــــــة لا سيما     من ينطقون طبيعـــة بالضـاد
إن الحياة وإن علت لرخيصة     إن قام أمر مواطــن وبــــلاد

     وكقوله أيضاً مخاطباً الطميح رسول كسرى إليه:

فأخـــبر مليـــــكك أني     ذو نخــــــوة وحميـــة
تـراه يجهــــــــــل أني     من أمـــــــــة عربــية
لله أمــــــــــة مجــــــد     به النفـــــــوس أبيــــة

     ومثل ذلك قول الحرقاء تستثير مروءة العرب ونخوتهم:

واذل يعرب أين الســــادة النجــب     وأين منهم أسود الغاب إن غضبوا
وأين مجدهم السامي الذي رفعــوا     وأين ملكهم العالي الذي ضربـــوا

     ومثل هذه الأبيات تذكر المرء بالمظاهرات الحماسية التي كان يقوم بها الشباب العربي ضد الاستعمار والصهيونية، وكانت تلقى فيها قصائد خطابية حماسية تثير حمية العرب ضد المستعمرين، وكأن أبيات عمر أبو ريشة هذه جزء منها. والنظر في أبيات الشاعر هذه وفي قصائده الوطنية الأخرى يدل على أنها من روح واحدة.

     ومما يؤكد التوجه العربي الوطني للشاعر في هذه المسرحية أنه وضع صورته في بدايتها وقد وضع على رأسه الكوفية والعقال، وأنه أهداها إلى الأستاذ حبيب العبيدي بهذه العبارة الدالة «إلى الرجل العربي الأستاذ حبيب العبيدي»، والعبيدي هذا عالم عراقي عمل من أجل العرب والمسلمين، وله كتاب باسم «جنايات الإنجليز على البشر عامة وعلى المسلمين خاصة»، طبع في بيروت عام 1916م، «فدلل عمر على حب للعرب وتفان في العقيدة، وكره في الاستعمار حين أهدى إليه المسرحية وهو ما يزال طالباً في الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1929م»[3].

     أما آخر ثلاثة أبيات في المسرحية فهي هذه الأبيات التي نجد الجميع ينشدونها بعد انتصارهم على الفرس:

نلنا المنى بعـــد العنـــــا     بالسيف والرمح السنـين
فلتخـذل الحســـــــاد ولـ     ـتخسف عماد الظالمـين
وليبق مجـد العـرب طـو     ل الدهر وضاء الجبـين

     ومن صورة الشاعر وإهدائه في أول المسرحية، إلى ختامها بالأبيات الثلاثة السابقـة، مروراً بالأبيات الأخرى المماثلة التي جاءت في ثنايا المسرحية، نجد مسرحية ذي قار، مسرحية تاريخية وطنية لا تلتزم بالتاريخ تماماً، ولكنها تقتبس منه وتضيف إليه، وتسقط وقائعه القديمة على وقائع العصر الحديثة مؤملة أن يصنع أحفاد اليوم نصراً يماثل النصر الذي صنعه أجداد الأمس.

     ويقرر الدكتور عمر الدقاق هذا التوجه الواعي لدى عمر أبو ريشة في استدعاء التاريخ وتوظيفه توظيفاً وطنياً فيقول: «لقد طلع أبو ريشة على جيل ما بين الحربين وهو في نحو العشرين من عمره بمسرحية شعرية اسمها «ذي قار»، وقد قبس حوادثها من تاريخ العرب في الجاهلية، والحق أن أبا ريشة أحسن انتقاء هذه الزاوية من التاريخ، فأكسب بذلك مسرحيته روحاً قومية بالإضافة إلى ما هو مرتسم حولها من هالة تاريخية، فمعركة «ذي قار» أول التحام ذي شأن بين العرب وبين الفرس تجلت خلاله شهامة العرب وإباؤهم وعنفوانهم كما انجلى عن انتصار مبين للعروبة المتفتحة على الصلف الفارسي. وما من ريب في أن أبا ريشة كان يؤلف مسرحيته تلك وهو يضع نصب عينيه حال قومه في ظل الاحتلال البغيض، وتحت وطأة الصراع المرير بين حق العرب وباطل الغرب، واضعاً عيناً على الغابر، وعيناً أخرى على الحاضر، وكأنه يرمي من وراء ذلك إلى إلهاب المشاعر المتوثبة وإمدادها بروح الثقة ونسغ الأمل، يؤيد ذلك تلك النزعة الرومانتيكية التي تطالعنا في تتويج المسرحية بهذين البيتين اللذين جعلهما تصديراً لذي قار، مرافقين لصورته بالزي العربي:

يا فؤادي ألا تـــــــــــزال كئيبــاً     شـــــاكياً باكياً على دون جدوى
لا تكن ظـــــالماً فإنـــك إن مـت     تركت الآلام من غير مأوى[4]

(٧) وعلى كل حال تبقى المسرحية في العمر الذي نظمها فيه عمر أبو ريشة في سن العشرين محاولة شجاعة منه أصابت حظاً من التوفيق، ومثلت على المسارح السورية، أما أخطاؤها فهي مغفورة للسن ولحداثة التجربة. ومن الواضح أن الشاعر قد اكتشف هذه الأخطاء، فلم يعدل في المسرحية قط، ولم يعد طباعتها قط، وكأنه أسقطها من تراثه، وقد نبه إلى ذلك الدكتور عمر الدقاق فقال: «ولعل أبا ريشة نفسه قد أدرك بعد نضجه تلك الصفة السطحية في مسرحيته، فضرب عنها صفحاً وأغفلها من بين ما عاود نشره من شعره»[5]. أما الدكتور سامي الدهان فإنه يمضي خطوة أبعد من خطوة الدكتور عمر الدقاق حيث يرى أن مسرحية ذي قار هي ديوان عمر أبو ريشة في شبابه وليست مسرحية، ذلك أن ذي قار «وحدها ديوان الشاعر المطبوع الذي يمثل صباه والطور الأول من حياته الشعرية صب فيها مختارات شعره لتلك السن على شكل حوار. أجل إننا نظرنا إليه كديوان لا كمسرحية، ففيه ألوان مختلفات من الأدب في الوصف والغزل والهجاء»[6].
❊❊❊

     أما العمل المسرحي الثاني لعمر أبو ريشة الذي يأتي بعد مسرحيته ذي قار فهو «محكمة الشعراء» وهي مسرحية يحاكم فيها عمر أبو ريشة الشعراء، وهو أمر لا يبدو غريباً على شاعر مثله ظل معتداً بنفسه شخصاً وشعراً في كل مراحل حياته، ونحن نعرف عنه أنه ذم البحتري وسخر منه وهو طالب في الجامعة الأمريكية في بيروت، ووصف نفسه أكثر من مرة بأنه أكبر شعراء العربية وهو شيخ كبير متزن. وقد نشر الشاعر فصلين من هذه المسرحية في مجلة الحديث الحلبية عام 1934م، ووعد بنشرها حين تكتمل لكن الوعد لم يتحقق، مثله مثل وعود أخرى يبدو أن الشاعر الكبير انصرف عنها إما لأن الظروف لم تتح له إكمالها، وإما لأن ما أنجزه منها لم يرق له.

     وقد حشد عمر أبو ريشة في هذه المسرحية شعراء عصره المشهورين مثل أحمد زكي أبو شادي، وشفيق جبري، وجميل صدقي الزهاوي، وعلي الناصر، وأنطق كلاً منهم بما تخيل، وحكم لبعضهم، وحكم على بعضهم الآخر، وجعل "أبولون" إله الشعر في الأساطير اليونانية حكماً يستدعي الشعراء ويحاكمهم ويسألهم ويحاورهم، وجعل "منيرفا" إلهة الحكمة في الأساطير نفسها شاهدة على ما يجري، والمسرحية في حقيقتها نصرة للشعراء المجددين وهجوم على الشعراء التقليديين، بل هي ثناء على شعره هو لأنه أحد المجددين الذين يريدون أن يفسحوا لهم مكاناً إلى جوار المشاهير، يدل على ذلك أنه جعل أبا شادي ينشد أبياتاً سبق له أن قالها في أمين الريحاني عام 1932م وهي:

أرضعته الطبيعـــــة الفتانـــة يوم أن فتح الصبـــا أجفانـــــه
ورمى الفجر هالــــة فــوق فــوديــه بشتى أضوائه مزدانــة
وضمير الظلمــــاء فض عليــــــه ختم سر لم يستطع كتمانه
وحباه الخيــــال من أفقــــه الرحــب جناحـــين ذللا ميدانــه
وغفا الوحي لاثمـــاً شفتيـــه ولســـــان الإلهــام يهدي لسانه
فـــإذا الكون كله نصـــب عينيـه تجـــلت أسراره عريــــانة
نسمة من هداية نفح الله بها الناس فجاءت معطارة ريانة[7]

     وحين يسمع الزهاوي هــذه الأبيات يسخر منها، لكن "أبولون" وهو الحكم يحكم لها ويشيد بها.

     على كل حال يبدو أن هذه المسرحية كانت محاولة فيها اعتزاز الشباب وسرعته، لذلك لم يرض عنها عمر أبو ريشة وطواها فيما طوى من أعمال. وإلى هذا الرأي ينتهي الدكتور عمر الدقاق إذ يقول عنها: «غير أنه فيما يبدو أيضاً قد أنكر هذه المسرحية وعدها من نزوات الشباب لما انطوت عليه من آراء نقدية متطرفة في بعض الشعراء أغلب الظن أنه عدل عنها، فقد حشد أبو ريشة مشاهير شعراء عصره في الشرق العربي، وأجرى بينهم محاورات على أساس كونهم محافظين ومجددين»[8].
❊❊❊

     أما العمل المسرحي الثالث لعمر أبو ريشة فهو أوبريت «عذاب» الذي نظمه عام 1935م، ويستحق هذا العمل وقفة فيها شيء من الأناة والبسط لأنه عمل مسرحي مكتمل، ذلك أن أعمال عمر أبو ريشة المسرحية المكتملة اثنان هما «ذي قار» و«عذاب»، أما باقي أعماله فهي ناقصة أو أنها مجرد أحلام ووعود.

     الأوبريت هي أوبرا مصغرة، وهي تجمع بين المسرح والموسيقى والإنشاد، وهي أيضاً من الفنون التي لم يعرفها العرب. وقد نظم عمر أبو ريشة أوبريت «عذاب» عام 1935م، أي بعد ست سنوات من «ذي قار»، وسنة من «محكمة الشعراء»، فلا غرابة إذا رأيناها أنضج من الناحية الفنية وأكمل، وهذا يفسر سر احتفاء الشاعر بها، إذ حرص على نشرها في كل طبعة تالية من ديوانه خلافاً لـكل من «ذي قار» و«محكمة الشعراء» اللتين أسقطهما من تراثه.

     لم تلحن أوبريت «عذاب»، ولم تخرج إخراجاً مسرحياً، بقيت على الورق مثلها مثل قصائده الغنائية، فكأنها ألحقت بالمسرح الذهني حيث ينصرف إليها القارئ يقرؤها ويتخيل مشاهدها دون نظارة أو تمثيل أو إخراج إذاعي. وبذلك يكون أدق تصنيف لها أنها من المسرحيات الذهنية ذات الفصل الواحد.

     ويبدو موضوع الأوبريت غريباً عن البيئة الشرقية، لأنه حكاية الزوج والزوجة والعشيق، ولعل ذلك من أثر الحياة الغربية على عمر أبو ريشة الذي قضى فترة من شبابه في إنجلترا، حيث لا تعد هذه الحكاية في الأسر الغربية شذوذاً مستغرباً، بل إنها إرث مألوف ومعروف في الحياة الاجتماعية والأدبية على السواء.

     أبطال الأوبريت ثلاثة هم: الزوج واسمه جميل، وهو فنان مثالي حالم يخلص لفنه وينصرف إليه ولا يعنى بأمور رزقه مع أنه ضعيف الحال قليل الموارد. والعاشق وهو نزار، وهو رجل لهو وملذات بوهيمي التوجه كان يحب سعاد قبل زواجها من جميل ولا يزال يطمع فيها، والزوجة وهي سعاد، وتتراوح اهتماماتها ونوازعها بين مثالية الزوج وبوهيمية العاشق، فلها عين على المثل والفن والقيم والطهارة، ولها عين على الملذات والمال والنعيم، وينتهي أمرها بالسقوط ثم الانتحار.

     يرفع الستار عن جميل وهو جالس في بيته المتواضع يرسم صورة فتاة، ومن البداية نكتشف أن الرجل مثالي رومانسي حالم ومحب أيضاً، فهو ينشد مخاطباً زوجته سعاد:

عرفت بك الله بعد الضـــلال     فدل البديــــــع على المبــدع
أغنيــك حبي وهـــذا الوجود     ضحــوك الثنـــايا يغني معي
سعاد منى القلب خلي الرؤى     تذوب على دافئ المضجـــع
لقد أومــأ الصبـح للساجعات     فهبت تفـــــتش عن مرتــــع

     وتدخل سعاد لتخاطب زوجها الفنان بدلال يزيد منه أن رأته يرسم صورتها، لكن الصورة رسمت المظهر الخارجي لسعاد، أما روحها التي سنكتشف بعد حين أنها حائرة مضطربة فلم تنلها ريشة جميل الذي يقول لزوجته محزوناً بعد أن سألته هاتفة بدلال وتشوف «أصورتني»:

ظلال الهيولــــى وألوانـــــــه     وراء بنـــــــــاني ولم أقـنــــع
ومن دون روحــك هذا القناع     وما نسج الظــــــن من برقــع
كأن حـــدود الفنـــــون انتهت     وما بلغتـني مـــــــدى مطلعي

     وفي هذه الأبيات إشارتان تنسجمان تمام الانسجام مع منحى الأوبريت، وتومئان إلى شخصية جميل، فنراه في الأولى فناناً مخلصاً لفنه لا يرضى بما أنجز، ويحس أنه مطالب بالغوص على الأعماق لاستخراج أقصى قدراته، ونراه في الثانية يتخوف من القناع الذي تتسربل به روح سعاد، فيحمله على الظنون السيئة وهو ما وقع بعد ذلك فعلاً. وتبدو سعاد غير سعيدة حين يقبلها زوجها فتقول له فيما يشبه الاستنكار:

تقبلني إن خــد الوســاد     تململ في ليلنـــا الممتع

     وحين تنظر من النافذة إلى البيوت البديعة، تعبر عن رغبتها فيها مما يشي بضيقها من فقر زوجها ورقة حاله:

أحن إلى مثل تلك القصور     كستها الخمائل أبهـى حلل
فكم مرغ الفجر أجفانـــــه     عليها ولم تتفتـــــح مقــــل

     وحين يدخل نزار ويرى الزوجين تتملكه الغيرة والحسد، فيقول لهما مغيظاً محنقاً:

لتجر لياليكما كلهـــــــــا     مضمخة بالأماني الغرر

     ويحاور جميل صديقه فنعلم من حديثه له أنه عابث عاكف على الملذات:

تجدد في كل يوم هــــــــواك     وتقطف من حيث شئت الثمر
كطير لعوب سريــع الجنـاح     فما قر فـــي الدوح حتى نفـر

     وتشي إجابة نزار برغبته الآثمة التي لا يرى لها سبيلاً:

رويدك لا تنكأن الجراح     على ذكريات رؤى هجد
لقد نفض اللهو مني يديه     فلن نتلاقـــى على مورد

     وحين ينظر جميل إلى سعاد يحزن، إذ يرى رداءها ممزقاً، وهو بسبب مثاليته وحبه لها يخجل من نفسه لأن فقره يحول دون أن يهيئ لها ما يود وما تود، فيقول:

ولو أستطيع خلعت الضياء     وشاحاً على قدهـــــا الأملد

     فتخجل سعاد مما يدل على أن فيها قدراً من العفة والمثالية والشرف لا يزال يصارع النوازع الهابطة فيها، فتقول لزوجها شاكرة لعواطفه مقدرة لظروفه:

تحملني العطف حتى أنوء     به يا جميـــــل فلا تـــزدد

     وحين ينفرد المشهد بسعاد نراها وحدها تنشد، وقد عرفت أهواء نزار وغرامه، ورغبته الآثمة التي تطل من عينيه، وإمكاناته المالية المسعفة له فيما يريد:

كأني أراه وفي مقلتيــــــــه     بريق من الغـــــيرة العاتية
أعاد لينشر مــــن أمســـــه     صحائف أهوائــه الماضية
أهاجته ذكراي أم رفــرفت     عليه طيوف الهوى الدامية
تفيض يداه بذوب اللجــــين    إذا ظمئت نفســه الطاغيــة

     وحين يدخل نزار يعترف لها بنوازعه الآثمة، فتذكره بزوجها مما يدل على استمساكها ومقاومتها حتى الآن فلا يبالي، ويعمد إلى تهشيم حصون امتناعها واحداً واحداً، فيذكرها بجمالها البارع الذي تهينه أسمالها البالية، ويخطف بصرها صوب الصبايا الملاح اللواتي يرفلن في زاهي ثيابهن، فتبدأ تتهاوى خاصة بعد أن يطالبها بقبلة وهو يريها خاتماً نفيساً يكون ثمناً لها، وتناجي سعاد نفسها وهي بين نوازع الثبات والانهيار، وتعبر عن مخاوفها من القبلة التي ستجر وراءها ما تجر من مسلسل التنازلات. وحين تستسلم سعاد لرغبة نزار يدخل جميل، فيبلغ التوتر أقصى درجاته، يسقط الخاتم ــ وهو ثمن الإثم ــ على الأرض، وتفترق سعاد ونزار، ويهتف جميل ذاهلاً:

تبسم على الجرح يا خافقي     فقد وثب الســـهم من قوسه

     ويطرق نزار، وتذهل سعاد، ويخاطب الزوج صديقه الخائن في سخرية مرة:

ألست صديقي وهـــــــــل بيننا     حجاب نخــــــاف أذى لمسه!؟
وماذا يضـــر الـكـريـــم الوفي     إذا شرب الصحب من كأسه!؟

     ويلتقط جميل الخاتم من الأرض فيناجيه وهو ثمن الإثم والخيانة، بأبيات بديعة غاص فيها عمر أبو ريشة على أعمق مشاعر الزوج الطيب المخدوع:

هو الثمن البخس رد الهوى     ذبيحاً إلى قلبي المضـــــرم
أخاتم إنـــــــي أرى مبسـماً     على شفتيه بقـــــــايا الـــدم
وألمح أشبـــاح بغي الورى     تموج في ماســـــــك الأقتـم
خيال الضحيـة يبكي عليـك     ويشتم فيك فــم المـــــجـرم
وما لفتـة منك في خنصري     بأهون من عضة الأرقــــم

     ويستبد الألم بسعاد وتندم، وتحاول الاعتذار من زوجها الذي يسخر منها سخرية مرة، يسخر وهو يشيد بحبه لها وسعادته بها، ويقدم لها رداء جميلاً، هدية باع الكثير مما هو أثير لديه ليحصل عليها، ويسخر وهو يحرك الخاتم بإصبعه وهو يضع الرداء بين يديها:

عصارة فكري لقـد بعتهـا     وجئت إليك بهــــذا الرداء

     وينتهي الأوبريت حين يستبد الجنون والندم بسعاد فتلقي بنفسها من النافذة منتحرة، وحين يستبد الجنون بجميل الذي يضحك ضحكة وحشية يفرغ فيها كل عذابــــه وإحباطه وأحزانه، لذلك يهدأ بعد هذا الضحك الجنوني الذي أعانه على تجاوز محنته، ويجلس هادئاً أمام الصورة التي كان يرسمها ويبدأ بإتمامها.

     إذا أمكن النظر إلى المرأة المنتحرة على أنها رمز للحياة بكل نقائصها وشهواتها وضعفها، وأمكن النظر إلى الفن على أنه رمز للمثالية والطهر والنقاء والقيم الجميلة، يمكن لنا أن نقول: إن عمر أبو ريشة قد نصر الفن على الحياة، فقد ماتت المرأة وبقي الفن، وهو آخر لوحة من لوحات الأوبريت، وفيه تنتحر المرأة الآثمة، ويضحك الفنان المثالي ضحكة وحشية يتطهر بها من معاناته ويعود بهدوء لإتمام رسالته الفنية. ومثل هذه النهاية تتسق مع شخص عمر الذي يمكن وصفه بأنه ــ من بعض الجوانب ــ رجل مثالي عرف بإبائه وعزته وترفعه، كما يمكن وصفه أيضاً بأنه فنان يتعنى في شعره ويتأنى، ويبذل فيه غاية جهده في الإتقان، ويكثر فيه من التبديل والتعديل، فلا غرابة إذن أن تدفعه مثاليته أولاً، وإعلاؤه للفن ثانياً؛ إلى اختيار هذه النهاية.

     ويمكن أن يوصف هذا الأوبريت بإتقان الحبكة، وتنامي الحدث، والنجاح في رسم ملامح الشخصيات والحوار المركز المؤدي والخلو من الاستطرادات، فضلاً عن إشراق اللغة وجمال الصياغة والوقع الموسيقي الجميل الذي يسكبه في الآذان البحر المتقارب بتفعيلاته المتوالية الهادئة المتسقة الذي اختاره عمر أبو ريشة لتجري عليه أبيات الأوبريت. وهذا كله يكشف عن تقدم الشاعر في صناعته الفنية المسرحية خاصة حين نقارنه بمسرحية «ذي قار» وما كان فيها من نقائص وعيوب. وأخيراً يبقى أوبريت «عذاب» لعمر أبو ريشة خير أعماله المسرحية، فقد تفوق على ما قبله كما رأينا، أما ما بعده فلم يكتمل منه شيء، وربما كان من أسباب هذا التفوق أنها أشبه بالمسرحية ذات الفصل الواحد التي يعين صغرها على التفرغ لها وحشد الطاقة الفنية لإخراجها إخراجاً متقناً.
❊❊❊

     أما العمل المسرحي الرابع لعمر أبو ريشة فهو مسرحية «الطوفان»، وقد نشر منها مقاطع تنتمي إلى الشعر الغنائي في ديوانه الأول الذي نشره عام 1936م، وهي تنضم فيما يبدو إلى الوعود الكثيرة التي وعد بها الشاعر لكنه لم يستطع الوفاء بها لسبب أو لآخـر، مع مضي أكثر من نصف قرن على الوعـد، وهي مدة كافية للإنجاز وللنشر لو كان هناك إنجاز.
❊❊❊

     أما العمل المسرحي الخامس لعمر أبو ريشة فهو مسرحية «سمير أميس» وسمير أميس هي فيما تروي الأساطير ملكة قديمة تكونت من جسد امرأة وروح إله، فكان فيها عنصران متناقضان، فيها شعور الجسد الذي تشعر به كل امرأة، وفيها الروح الإلهي الذي يظل متطلعاً إلى الأعلى. وتزوجها القائد نينوى ومنحته كل شيء إلا روحها، فظل يحاول استرضاءها دون جدوى، وأخيراً قتلته. وثار عليها الناس يريدون الانتقام لمصرع مليكهم واقتحموا قصرها ففاجأتهم بأن وقفت أمامهم عريانة، فبهت الناس وسجدوا لها فعلمت بذلك أنهم وصلوا درجة عالية من الإحساس بالجمال، وهذا يعني أنها أدت رسالتها على الأرض، فانسحبت منها ومضت إلى الملأ الأعلى.

     وقد ذكر عمر أبو ريشة أنه بدأ كتابة هذه المسرحية عام 1943م، وانتهى منها عام 1958م، وأكد أنها تتكون من ألف وأربع مئة بيت صب فيها كل قدراته الفنية، وأنه نظمها ست مرات، ومزقها خمس مرات قبل أن تستقر على السادسة، وبذلك جاءت أسلوباً جديداً في العرض، وتفكيراً جديداًن وأجواء جديدة في دنيا المسرحيات[9]. ويبدو أنه لابد من الشك فيما قاله عمر أبو ريشة إزاء هذه المسرحية لسبب بسيط جداً وهو: لماذا لم ينشرها وقد أنجزها عام 1958م خاصة أنه معتز بها أشد الاعتزاز!؟

     وعلى كل حال يدل الجزء المنشور من هذه المسرحية[10]؛ على أنها عمل فيه الكثير من العيوب المسرحية. فهي ملأى بالشعر الغنائي الذي يتكون من مقاطع مطولة، وتأملات تجريدية مطلقة، وقواف لا تتنوع كما يقتضي الحوار المتنقل، فضلاً عن بطء الحركة، وضعف الحبكة، والنبرة الخطابية، واللهجة الجهرية، والأسلوب التقريري، وغياب الملامح المميزة للشخصيات، وهذا يعني أن العيوب التي سجلها النقد على تجاربه الأولى استمرت معه حتى آخر إنتاجه، وربما أدرك عمر هذه العيوب فانصرف عن المسرح الشعري.
❊❊❊

     أما مسرحيات عمر أبو ريشة «تاج محل» و«علي» و«الحسين»؛ فلم ير النور منها شيء مع إعلانه المتكرر عنها في مناسبات كثيرة مختلفة. إن الإنصاف يدعونا الى أن نحكم على العمل المسرحي من خلال دراسته كاملاً، وهو ما حاولناه في «ذي قار» و«عذاب»، والنظر في هذين العملين يدل على بدايات واهنة واعدة في الأول، وعلى تقدم مشكور في الثاني، وبين العملين ست سنوات، إذ يرجع الأول إلى عام 1929م، ويرجع الثاني إلى عام 1935م. ولكن يبدو أن الشاعر توقف نضجه الفني في المسرح الشعري منذ ذلك التاريخ، لذلك لا غرابة أن وجدناه يعد كثيراً بأعمال ثم لا يقدر على إنجازها، وربما كان السبب هو أن الشاعر عرف من خلال المعاناة أنه شاعر غنائي قبل كل شيء، وليس شاعراً مسرحياً، فلم يعد طباعة ما نشر، ولم ينجز ما وعد، ولعله أحسن بذلك غاية الإحسان، فلكل امرئ قدرات يحسن به ألا يحملها ما لا تطيق.
❊❊❊
----------
[1] ألف المسرحية عام 1929م، ونشرها عام 1931م، ومات عام 1990م.
[2] الشعراء الأعلام في سورية، ص311.
[3] المرجع السابق، ص308.
[4] فنون الأدب المعاصر في سورية، ص224-225.
[5] المرجع السابق، ص237.
[6] الشعراء الأعلام في سورية، ص312.
[7] هذا البيت مكسور، وفيه زيادة.
[8] فنون الأدب المعاصر في سورية، ص227.
[9] سامي الكيالي، الأدب العربي المعاصر في سورية، ص373.
[10] نشر منها فصل واحد فقط، في مجلة الحديث الحلبية، عام 1944م.

الأكثر مشاهدة