الأربعاء، 3 أغسطس 2022

من أدب محمد إقبال

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

من أدب محمد إقبال

كـــلُّ مَنْ أنــــــكـرَ ذاتِيَّـــــتَــهُ     فَهْوَ أولى النــــاس طُرَّاً بالفناءْ
لن يرى في الأرضِ شخصيتَهُ     كلُّ مَنْ قـــلَّدَ عيشَ الغربـــــاءْ

     هذان البيتان اللذان قالهما الشاعر الكبير المؤمن الدكتور محمد إقبال، لهما معنى عميق بليغ يجدر بالأمم أن تستفيد منه، وهما يعبِّران عن جملة من الحقائق النفسية والاجتماعية في مسيرة الشعوب في تاريخها صعوداً أو هبوطاً.

     إن للمرء أن يؤكد بأنه ما من أمة في التاريخ فقدت قدرتها على الاحتفاظ بشخصيَّتها، والاستقلال بمنابع فكرها المتميز؛ إلا تبددت وانهارت وأسلمت طائعةً أو كارهة لغيرها القياد.

     وما من أمة في التاريخ خسرت إيمانها بقضيتها الأساسية التي كان عليها أن تضع في سبيل حمايتها وصيانتها كل الذي تملك؛ إلا فقدت سيادتها وقدرتها على الكفاح.

     وإن بين الحفاظ على الشخصية والاستقلال بمنابع الفكر من ناحية، وبين الاندفاع في سبيل القضية الأساسية من ناحية ثانية، علاقةً وثيقةً جداً، فبقدر ما يكون الاحتفاظ والاستقلال قويين بارزين مستحوذين على الاهتمام والجد والفاعلية، يكون العمل الجاد الدؤوب من أجل القضية الأساسية قوياً بارزاً مستأثراً بطاقة الأمة ونشاطها، والعكس بالعكس.

     ولقد كان العرب قبل الإسلام جماعةً من البشر لا قضية لها تحقق وحدتها، وتعيِّن هدفاً مشتركاً عاماً لها، وتعبِّئ طاقاتها الكفاحية في مسيرة إيجابية صادقة صوب هذا الهدف المشترك؛ لذلك كانت جهودهم تضيع هدراً في جملة من التناقضات التافهة، والأحقاد الصغيرة، على فخار يتطاول زوراً وبهتاناً، أو مجد ضائع فيما لا طائل وراءه، أو حرب تقوم بسبب سباق بين فرسين، أو بسبب ناقة اعتدي عليها وما إلى ذلك، فكان أن تفرَّقت بهم السبل فإذا هم ضائعون مشرَّدون، بأسهم بينهم شديد، وليس لهم فكر مستقل محدد الملامح، ولا شخصية خاصة واضحة السمات، ولا قضية كبرى يتمسَّكون بها وعنها يدافعون.

     هذه الأمة نفسها بُعِثَ فيها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فإذا بالأمر يختلف تمام الاختلاف، بعد أن ألقت إليه الأمة قيادها. لقد نشأت لها شخصية مستقلة وفكر خاص، وتحدد لها لون شديد الوضوح، يختلف عن كل لون آخر، ومعالم واضحة، وسمات بيّنة، وملامح في غاية الجلاء. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نشأت لها قضية لا كالقضايا، قضية كبيرة جداً، هي حمل رسالة الإسلام للناس حيث كانوا، والقيام على حرية اعتناقها، وحراسة مواكبها من الحاقدين والظالمين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متمُّ نوره ولو كره الكافرون. ومن الجلي أن الناحية الأولى مقدمة للثانية تمهِّد لها وتفضي إليها.

     وسجل التاريخ أن أمة العرب يومذاك تحول حالها، وتغيرت تغيراً جذرياً، فإذا بها تجعل هدفها في الحياة هو إعلان كلمة الله تعالى وإعلاؤها، واستحالت نخوتها وبطولتها وطاقاتها الكثيرة المبعثرة؛ إلى مادة للقوة والاندفاع تحقق النصر لدين الله، وتُعْلي رايته، فكان أن تطامنت رؤوس الكافرين، وانهارت قواعد الظلم، وتساقط أعداء الله تحت مطرقة الزحف المسلم الشجاع، وتراجعت حدود دول كثيرة وباد بعضها نهائياً، واستمر نجم الأمة المؤمنة في تصاعد وظهور. فلما فقدت الأمة روح المبادرة، وأضاعت ينابيع فكرها المستقل، وفقدت خصائصها الشخصية النادرة، تبدل به الحال شر تبدل، فإذا بها تُؤثِر العافية ،وترضى الدنيَّة في أمرها، وتتطامن بعد شمم وإباء، وتلتمس السلامة في الانطواء على نفسها، وتدفع ثمن ذلك غالياً؛ وهو التخلّي عن دورها قيِّمةً على الناس، وصيَّةً على البشرية قائدةً هاديةْ. لكنها بالرغم من فداحة ما دفعته من تنازلات لم تستطع الحصول على العافية الكسول، أو السلامة المرذولة. وما شأن الأمة في عصرها الأخير ببعيد عنا، فالجراحات ما زالت فاشية فيها، والكلوم كثيرة هنا وهناك.

     ويمكن للمرء أن يخلص مما تقدم إلى معادلة هامة تصاغ هكذا: حيث يتم الاحتفاظ بشخصيتنا، والاستقلال بمنابع فكرنا وتراثنا، فإن انصرافنا إلى قضايانا الكبرى الأساسية يغدو أكبر جداً وفاعلية ونشاطاً، وتكون ثمار ذلك أحسن ما تكون. والعكس بالعكس، فإذا لم يتم ذلك الحفاظ والاستقلال كانت العاقبة الوخيمة، وكان الأذى والدمار والهزيمة.

     وما مِن ريب في أن أمتنا لم تضع هذه المعادلة في إطارها الصحيح، ولم تستفد منها، وهذا هو سبب ما تلقاه من نكبات. على أن الإنصاف يجعلنا نقرر أن هذه الأمة لا تزال تملك من النخوة والأصالة والتفرد، ما تستطيع به وضع المعادلة في مكانها الصحيح، وعندها سيختلف الحال تماماً، وتنقلب الأمور لمصلحتها بشكل حاد عنيف. وهي تحتاج -حتى يتم ذلك- إلى أن ينهض عدد من أبنائها من ذوي الجرأة الفكرية، والتمسك بالحق ولو كان مُرّاً، ليقولوا للأمة ها هنا هو الطريق، وتلكم ملامحه ومعالمه.

     فإذا كان ذلك، بدأ عهد التحول الحق والنهضة الصادقة، وعهد الانخلاع من الثقافة الانهزامية والفكر الضال، وعهد التحرر من الشعور بالنقص والإحساس بالصَّغار. وهو شعور قاتل سيطر على عدد من حملة الأقلام، لذلك لم يظلمهم مستشرق يهودي فرنسي لقيهم في بيروت عقب نكبة (1967م) وقال لهم: ما حيلتي -أيها السادة- إذا كنتم تعوَّدتم أن تستوردوا أفكاركم من الخارج!؟

     نقطة البداية إذاً أن نكف عن استيراد الحلول لمشكلاتنا من الخارج، ونُعْنى بالحفاظ على شخصيتنا وفكرنا المستقلين، ليتسنى لنا الانصراف إلى قضايانا الكبرى، والخروج منها غالبين ظافرين.

*****

الثلاثاء، 2 أغسطس 2022

ماذا تجاهل الكتاب والمفكرون من فكر إقبال ورسالته؟

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

ماذا تجاهل الكتاب والمفكرون من فكر إقبال ورسالته؟

     لقد تحدث الدكتور جاويد إقبال -وهو ابن الشاعر الفيلسوف العظيم محمد إقبال رحمه الله- في إحدى الاحتفالات التي أقيمت عام (1397هـ/ 1977م) بمناسبة الذكرى المئوية لولادة أبيه في دلهي الجديدة، فقال: إن الدكتور محمد إقبال لم يكن كما يحسبه الناس من أكبر شعراء الفارسية والأوردية فحسب، وإنما كانت ميزته أنه كان إنساناً عملياً، وقد ترك للأجيال من بعده رسالة معينة واضحة، تحث العالمَين الآسيوي والأفريقي على تطوير مصادرهما لتحقيق الحرية الاقتصادية لبقائهما، بدلاً من التطلع إلى الغرب لنجدتهما، وقد تجاهل الكتاب والمفكرون هذه الناحية المميزة لفكر إقبال ورسالته.

     وأكَّد الدكتور جاويد إقبال على هذه الناحية التي ظلَّت خافية على أذهان محبّي إقبال أنفسهم، فأضاف قائلاً: لقد ألَّف الدكتور محمد إقبال قصيدة طويلة بالفارسية في آخر أيام حياته خاطب فيها الأمم الشرقية، وذكر فيها حل مشكلاتها، وعلاج أسقامها، وتدور هذه القصيدة حول أهمية الفرد والمجتمع وشرفهما واعتمادهما على النفس عن طريق تطوير التعليم والاقتصاد للاحتفاظ بالوجود الآسيوي والأفريقي في خريطة العالم، وقد نالت أفكار إقبال العملية ومعالجته لمسائل آسيا وأفريقيا اهتمام المسلمين المثقفين حديثاً في كثير من البلدان النامية.

     وأضاف الدكتور جاويد إقبال يقول: إن والده الدكتور محمد إقبال كان يقدم نظرية "إنسان أعلى"؛ وهو الإنسان الذي يتبع دينه ومعتقداته بإخلاص، ويتمسك بها تمسكاً متيناً في حياته، ثم يعيش في هذا العالم كإنسانٍ واعٍ متحضِّر. وكان يتطلع إلى إنسان الغد، الإنسان المثالي، وكان يرفض في نظريته الاقتصادية الرأسماليةَ والشيوعيةَ معاً، وكان يؤمن بنظام يقوم على أساس التوازن بين رأس المال والعمل.

     وكان الدكتور جاويد إقبال قد افتتح قبل ذلك المتحف الأثري لوالده، الذي يضم من بين ما يضمُّه بعض قصائد الشاعر العظيم، وهي في مرحلة التنقيح.

*****

مواقف إقبال الفكرية .. كشفت عن شجاعته وذكائه وأصالته

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

مواقف إقبال الفكرية .. كشفت عن شجاعته وذكائه وأصالته

     من الإنصافِ لأمتنا، ومن الإنصاف لرجالها الكرام، ذوي المواقف الفكرية، أن نقررَ أن الموقفَ الفكري الشجاع الذي وقفه الدكتور محمد إقبال؛ يكشف عن أمرين بالغين: أمرٍ عامٍّ، وآخَرَ خاصٍّ.

     أما الأمر العام فهو قدرة الأمة الإسلامية على إنجاب القادة العظام في أوقات شدتها ومحنتها، وأما الأمر الخاص فهو أن موقفَ إقبال، يمتاز بالشجاعة والجرأة من ناحية، والذكاءِ والعمق من ناحية ثانية، والأصالة والتميز من ناحية ثالثة. وإنَّ نظرةً متأنية في تراث الرجل تكشف عن هذا بوضوح وجلاء.

     ومما لاحظه إقبال أن بعض المسلمين المبهورين بالثقافة الغربية المفتونين بتقليدها، يفرِّقون بين الدين والدولة تقليداً لفكرة الفصل بين الدين والسياسة التي نشرت أوروبا بين تلاميذها عَدْواها البشِعةَ الآثمة، فصاروا بذلك يزعمون أنه لا علاقة بين الدين والسياسة، وأنهما لا يلتقيان على فكرة جامعة. فالدين -كما يزعمون- يعني أموراً تشريعية تعبدية لها رجالها المتخصصون. والسياسة معناها الخوض في أمور دنيوية وحكومية ومعاشية، ولها رجالها كذلك.

     ولقد انبرى الشاعر الكبير محمد إقبال يحارب هذه الفكرة الزائفة الكاذبة ويُبَيِّنُ خَطَلَها في شعرهِ العذب الجميل الذي شاء الله تعالى له أن ينتشر بين الناس، وأن يُكتَبَ له القبول والذيوع.

     ومن أروع أقواله في ذلك: "إذا انفصلت الدولة عن الدين فلن تبقى سوى الهمجية الجنكيزية". ولا شك أنه قدَّم بهذه المقولةِ الوجيزة المركزة، ملخصاً دقيقاً رائعاً وجامعاً للبحوث الكثيرة، والمؤلفات الكبيرة التي أُلِّفَت أو تؤلَّف حول هذا الموضوع الخطير، فما أغدر السياسة إذا انفصلت عن هَدْي الدين، وما أفتكَ الدولة إذا تنكَّبت نوره وطريقه.

     إن أمر الدولة والسياسة لا يستقيم قط ما لم يصحبه الدين مرشداً ودليلاً، وإنه سيقع في كل المهالك، ويتخذ جميع الوسائل الكاذبة حين يجافيه. وإنه سوف يقود السفينة نحو النجاة، ويصطنع الوسائل الصادقة النافعة الكريمة حين يهتدي بهديه، ويستضيء بنوره.

أكَّد الشاعر العظيم ذلك للمسلمين، كما أكَّد لهم أنهم أمةٌ ذات عقيدة واحدة، وحضارة واحدة، وأن حضارتهم تختلف عن حضارة الآخرين الذين يفترقون عنهم في العقيدة والإيمان، لأنها ربّانيةُ المصدر، إنسانيةُ النفع. بينما الحضارات الأخرى ماديةُ المصدر، قومية النفع. وبذلك أوقدَ في قلوب المسلمين الشعورَ بالوحدة، وأعلن لهم أن الأمة الإسلامية في العالم كلِّه وحدةٌ متماسكةٌ وجسدٌ حيٌّ متكاملُ البنيان.

وإذا كان المسلمون في العالم عامةً، وفي القارة الهندية خاصة، يُلِحُّون على إبقاءِ كيانهم الحضاري، وتراثهم المتميز، وشخصيتهم الأصلية، وذاتيتهم المستقلة؛ فإن ذلك يعود –وبدرجة كبرى– إلى تلك الروح الحية الجياشة التي أوقدها الشاعر محمد إقبال في أفئدةِ المسلمين؛ من أجل هذا يمكن لنا أن نقررَ مِن دون مبالغة أو تعسف أن إقبالاً واحدٌ من عظامِ الرجال في الأمة الإسلامية، النجيبة الولود، الذكية المعطاء، الذين يظهرون بين الحين والآخر، فيبذلون جهودَهم لتحرير الناس من الأوهام والأساطير والضلالات والجهالات والخرافات الجديدة التي تظهر في أشكال عنصرية براقة، وتحاول أن تلبسَ مسوح العلم والحضارة لتكون أقدرَ على خداع الساذجين والبسطاء.

لقد فعل ذلك إقبال مازجاً بين عمق فكرته، وحماسةِ عاطفته، وبيانِه المشرق الرائع. فعل ذلك يحدوه حرصه العظيم على أمته المسلمة، أداءً لواجب الإبلاغ، واستشرافاً لبناءٍ أكمل وغدٍ أفضل، ومستقبلٍ أنصعَ وأطهر.

لقد أرادَ إقبال لأمته المسلمة أن تمتلك أسباب القوة المطلوبة منها بحكم إسلامها، فهي بهذا الإسلام الراشدةُ الوصيةُ، ولا بد للراشد الوصي مِن أن يمتلك درجةً من القوة تهيئ له القدرة على القيام بهذا الدور الكبير. أراد لها قوةً في العقيدة، وقوةً في الأخلاق، وقوةً في التنظيم، وقوةً في الإعداد. كما أراد لها أن تتجاوز مواقف السلبية والهوان، والضعف والكسل، والعجز والتواكل. وأن تصير أمةً شجاعةً لا جبانة، قائدةً لا مقودة، مبدعةً لا مقلدة، حرةً لا أسيرة، ذكيةً لا غبية، متماسكةً لا متفرقة، قويةً لا مهترئة. أراد لها أن تكون عزيزةً كريمةً منيعة. أراد لها أن تكون جديرة بالإسلام الذي تنتسب إليه.

لقد كان إقبال -وهو الشاعر والمفكرُ النافذُ البصيرة- حريصاً أشدَّ الحرص على أن يتخلص المسلمون من كل السلبيات، ويرتفعوا إلى آفاق البطولة والسيادة والطموح، ويستشرفوا شوامخ القيادةِ والريادة، وحب العبادة، والحنين إلى الشهادة.

كان حرصه حاراً ملحاحاً أن يتقدم المسلم لإنقاذ البشرية كلها من قياداتها الخاطئة؛ لذلك اتجه إليه بمثل هذه القول:

إنَّ هذا العصرَ لـيــلٌ فـــأَنِرْ     أيها المســــلمُ ليلَ الحائرينْ
وسَفيـنُ الحقِّ في لُجِّ الهوى     لا يرى غَيْرَكَ ربّان السفينْ

*****

محمد إقبال .. رائد الفكر الذي لم يكذب أهله


الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

محمد إقبال .. رائد الفكر الذي لم يكذب أهله

     من رحمة الله تعالى بالأمة المسلمة أن يظهرَ من أبنائها رجالٌ شجعانٌ روّاد يكونون حُداةً لها، هُداةً لمسيرتها، أدلّاء أوفياء يحمونها من عثارِ الطريق، وصحراء التيه، وبيداء الضلالات، ومهالكِ السفاهةِ والطيش والرعونة.

     وهؤلاء الرجال تتنوع مواقفهم بتنوعِ استعداداتهم وقابلياتهم، وتتباينُ باختلافِ طبيعة المرحلة التي تجتازها أمتُهم؛ إذ تكون حاجتها لنوعٍ من المواقف أعظمَ من حاجتها لنوعٍ آخر. وإنه لَمِن النقص في الفهم، والقصور في التصور أن يتوقف بنا الحديث عند أبطال المعارك، ومواقف الجود والحلم والإباء، وننسى مواقفَ أخرى هي أعظمُ خطراً، وأكبر أثراً حين تأتي في زمنها المناسب ألَا وهي المواقفُ الفكرية.

     فكما أن الأمة بحاجة إلى رجال ذوي شجاعة جسدية يحمون ذمارها، هي بحاجة كذلك إلى رجالٍ ذوي شجاعة فكرية عالية يستطيع أصحابُها بما يتخذونه من مواقفَ أصيلةٍ شجاعة أن يقودوا قافلة أمتهم صَوْبَ الحق، ويستشرفوا بها آفاق الصدق والفضيلة، ويُبيِّنوا لها خطورة الفكر الضال، ووخامة المبدأ العقيم، وهشاشة الآراء الفاسدة المنحرفة.

     وقد يحسبُ المرء أن الشجاعةَ الفكرية أمرٌ هيِّن بالقياس إلى الشجاعة الجسدية، لكن هذا خطأٌ بالغ. فالشجاعةُ الفكرية تحتاج ثقةً أكبر، وصموداً أعظم، وبُعداً في النظر وثباتاً في المُعتقد، وقدرةً على تجاوز الآخرين من مضلِّلين ومضلَّلين، ثم هي بحاجةٍ كذلك إلى مواجهةِ الكثرة بخطأ ما هي عليه، والإصرار على ذلك، والصبرِ على ما يُوَجَّهُ إلى أصحابها من تُهَمٍ وأكاذيبَ وإشاعات، وحربٍ نفسيةٍ وفكريةٍ وجسدية.

     من رحمة الله عز وجل بالأمة المسلمة أن يظهرَ فيها رجالٌ ذوو مواقفَ فكريةٍ شجاعةٍ صادقةٍ معاً، كلَّما اشتدت الخطوب، وعظمت المصائب، وازدادت الفتن، واحلولكت الليالي، وفشا الفساد، وذاع اليأس والعجز، وتلفَّت الناس حيارى محزونين يبحثون عن يدٍ أمينة تقود سفينتَهم في بحرهم الهائج المضطرب لترسو بها في شاطئ الأمان، ومَأْرِزٍ يلجؤون إليه عند الشدائد.

     ومن غير ريبٍ كان الدكتور محمد إقبال، الفيلسوف الشاعر المؤمن واحداً من هذه القلة النادرة الممتازة التي تظهر بينَ الحين والحين، ليكونَ الواحدُ منها حادياً صادقاً، ودليلاً أميناً، ورائداً لا يَكْذِبُ أهلَه.

     لقد أوقدَ قلبُه الشجاع المؤمن، وعقلُه الذكيُّ الحصيف في نفوس المسلمين شعوراً قوياً بخلودِ رسالة الإسلام، وأصالة الشخصية المسلمة، وتميزِها واستقلالها وإبداعها، كما ركَّز في أذهان المسلمين بشعره المؤمن العميق، ونثره الأصيل الدقيق أن الإسلام دينٌ خالد يقوم على مبادئَ ثابتةٍ خالدة، وأنَّه من المستحيل أن يطرأَ عليه القِدَمُ والبِلى في أي حين، وأن أنظمتَه تصلحُ لكل زمانٍ ومكان، وأنه المنهجُ الوحيد القادر على إنهاضِ المسلمين مما هم فيه، وأنه السبيلُ الوحيد لإنقاذِ المسلمين، ولإنقاذِ البشرية كلِّها مما هي فيه من مآسٍ وأحزانٍ، وإنقاذ الحضارةِ مما تتردَّى فيه من تخبطٍ وجهلٍ وضياع.

     ومن الإنصاف أن نقرر أن غَيْرَ إقبال كان يقوم بمثل هذا الدور، ويؤدي حقَّ الشهادة بكمالِ الإسلام، وخلودِ رسالته، واستمرارِها وصلاحها لكل زمانٍ ومكان. لكن إقبالاً حين وقف يشهد بصدق الدين الإسلامي وخلودِه، وعظمتِه وكماله، كان أعمقَ تأثيراً في قلوب الناس، بسبب ما عرفوه عنه من ثقافةٍ غربيةٍ واسعة، بالإضافة إلى ثقافته الإسلامية، مما يؤكدُ اطلاعَه على الثقافتين، واستيعابَه لهما على وجهٍ قلَّ أن يكونَ له نظير.

     وقد شهد لإقبال بهذا الدورِ الرائدِ الأستاذُ العلامةُ أبو الأعلى المودودي، فقرر -وهو خيرُ مّنْ يتحدث في هذا المضمار- أن الشاعرَ الفيلسوف المؤمن قد استطاع إنقاذَ الجيل المسلم الذي كانت تتلقفه فِتَنٌ جديدة، ونظرياتٌ مختلفة في ذلك العصر.

     استطاع إقبال -وهو الرجل الذي تربَّى في أحضان الغرب، وعاش في أجوائِه وبين فلسفته وحضارته، وتثقَّفَ بثقافته- ما لم يستطعْه الرجال الكبار والعلماء الأجلّاء. ولا شك أنه حين أدى شهادتَه تلك في ثقةٍ كبيرة، واعتزازٍ بالغ، ويقينٍ واستعلاء أيقظَ في الجيل المسلم الجديد شعوراً إسلامياً يمتاز بكثيرٍ من عناصرِ اليقظةِ والوعي والإحاطة.

     ومن جلائل الأعمال التي أدّاها إقبال هجومُه على توثينِ القوم والجنس والوطن والأرض، والعِرْق واللغةِ، واللونِ والسحنة، والجاهليات التي واكبتها على الرغم من كل ما أحاط بها من ضجيجٍ وبُهْرج، وزخرفة وبريق.

     ما أروع الدورَ الكبير الذي أداه الشاعر الكبير! إنه لَدَوْرٌ طليعيٌّ ريادي، استطاع به أن يتجه إلى المسلمين بنداءٍ حار ملتهب، عميقِ الغور، كَأَنْ يقول لهم محذِّراً من نتائج التقليد:

كـــلُّ مَنْ أنــــــــــكـرَ ذاتِيَّـــتَه     فَهْــوَ أولى الناس طُرَّاً بالفنــاءْ
لن يرى في الأرضِ شخصيتَه     كلُّ مَنْ قـــلَّدَ عيشَ الغربـــــاءْ

*****

الأربعاء، 13 يوليو 2022

كتاب أفراح الرُّوح في ظلال الدوح - المقدمة والمحتويات

كتاب أفراح الرُّوح في ظلال الدوح

مقــدمة:
     هذه مجموعة من المقالات كتبها الدكتور حدير الغدير بعنوان (أفراح الروح)، ورأيت أن أجعل العنوان "أفراح الروح في ظلال الدَّوح"، وهي دوح الإيمان والإسلام. وهل للروح أن تفرح فرحاً حقيقياً إلا في ظلال هذا الدوح الوارف الآمن.

     ذلك أن القلب المؤمن يطمئن بذكر الله سبحانه كما أخبرنا خالقها وبارئها، قال تعالى: {ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ} (الرعد:28).

     وقد لمست هذه المقالات شغاف القلوب في الحديث عن النبي المصطفى، والرسول المجتبى محمد صلى الله عليه وسلم، في مولده ومعانيه، إذ يتجدد ذكراه عند المسلمين في كل عام، فيخوضون في جدل ومراء يكدر صفو المعاني، وجلال الدلالات لذلك المولد العظيم، الذي قال فيه أمير الشعراءهمزيته الشهيرة:

وُلِـدَ الـهُـــــدى فَـالكائِناتُ ضِيــــاءُ     وَفَــــمُ الـزَّمـانِ تَـبَـسُّــــــمٌ وَثَـنـــاءُ
الـروحُ وَالـمَـلَأُ الـمَلائِـــكُ حَــــولَهُ     لِلــديـنِ وَالـدُّنـيــــــــا بِهِ بُشَـــــراءُ
وَالـعَـرشُ يَزهو وَالحَظيرَةُ تَـزدَهي     وَالـمُـنــــتَـهى وَالسِّدرَةُ العَصـــماءُ
وَحَـديـقَـــةُ الفُرقانِ ضاحِكَةُ الرُّبـــا     بِـالـتُّـرجُــــــمـانِ شَـذِيَّــــــةٌ غَنّـــاءُ
وَالـوَحيُ يَقطُرُ سَلسَـــلاً مِن سَـلسَلٍ     وَالـلَّـوحُ وَالـقَــــــلَـمُ البَــديــعُ رُواءُ
نُـظِمَت أَسامي الرُّسلِ فَهيَ صَحيفَةٌ     فـي الـلَّـوحِ وَاسمُ مُحَـــــمَّدٍ طُغَـراءُ

     فقد كانت ولادته صلى الله عليه وسلم ولادة أمة، وتناول د.حيدر بداية الدعوة إلى الإسلام، والمجتمع الإسلامي الأول، وعدل النبي وتواضعه، وحكمته في المواقف الحرجة الصعبة كغزوة حمراء الأسد، وتناول بالحديث الهجرة النبوية وبعض أحداثها، ودلالات الهجرة في الترايخ الإسلامي، وعقد مقارنة بين هجرة المسمين إلى يثرب التي طابت بالرسول وأصحابه، وبين هجرة اليهود إلى فلسطين التي فسدت بفسادهم، وتحدث عن غزوة بدر الكبرى ودلالاتها، وعن الفتح الأعظم فتح مكة المكرمة، وختم هذه المقالات بمقال: "إن الله معنا"، التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبها في الغار ليلة الهجرة العصيبة، فنصره الله إذ أخرجه الذين كفروا، وأيده الله إذ حاربه الذين أشركوا، وأمنه الله إذ مكروا به وأخافوه. إن الله معنا.. كلمة الأمان والاطمئنان، تجد فيها الروح أنسها، والنفس أمانها، والقلب سكينته.

     وفي الفصل الأخير يطل بنا الدكتور حيدر على بعض معاني الصلاة والصبر مستلهماً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، وجوانب من أحكام التشريع في آيات التوجيه.

     وإذا كان من حقي أن آمل أو أتمنى، فقد تمنيت بعد قراءة هذه المقالات أن يكون الدكتور حيدر الغدير أفاض في هذا المجال، فتعمق في خوض لجج المعاني في أركان الإسلام وفرائضه بأسلوبه الشاعري، لنقرأ له شعره النثري، كما نقرأ له شعره الحقيقي في دواوينه المتألقة، ولكن "سبق السيف العذل" كما يقول المثل!.

أ. شمس الدين درمش
----------------------------

المحتويات

(روابط تنقلك للمقالات)

- المقدمة ............................................................... 3
- الفصل الأول: مولد الرسول ﷺ وعظيم خلقه.. تأملات في بعض المعاني .. 5
- الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس ................. 42
- الفصل الثالث: بدر الكبرى والفتح الأعظم بشائر النصر ونفحات الإيمان .. 71
- الفصل الرابع: من حكم التشريع الإلهي ................................ 87

*****

أضرار أكل لحم الخنزير

الفصل الرابع: من حكم التشريع الإلهي

أضرار أكل لحم الخنزير

     قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3].

     نقلاً عن صحيفة (بي. تي) الصادرة في كوبنهاجن بتاريخ أول نوفمبر ۱۹۷۷م في مقال نشرته الجريدة تحت عنوان: "المخاوف الطبية من أضرار الخنزير" يسرّنا أن نقدم الآن أحدث ما ظهر عن أضرار الخنزير، علماً بأن الدانمرك من أولى بلاد العالم في تربية وتصدير لحوم الخنزير، التي تعد من أهم مصادر الثروة القومية...

     اكتشف مؤخراً بعد دراسة مستفيضة استمرت عدة سنوات نوع جديد من الأمراض التي يسببها أكل لحم الخنزير، وهو الروماتيزم المزمن... والتي ينتقل بالعدوى إلى الآخرين عن طريق المعاشرة والاختلاط، وقد ثبت أن عدد الحالات المصابة بهذا النوع من الروماتيزم الذي تسببه البكتيريا "الياسينية" يبلغ (۲۰۰) ألف حالة أو أكثر، وهذه المعلومات أعطيت عن طريق كبير الأطباء في معهد تحاليل الروماتيزم القومي، واتضح أن هذا النوع من البكتيريا يكمن في أغشية فم الخنزير، وما زال العلماء حیاری في كيفية انتقال هذه البكتيريا من شخص إلى آخر...

     أعراض المرض: إسهال مفاجئ، يعقبه حُمَّی (إنفلونزا)، وتشبه أعراضه النزلة المعوية الحادة، وتستمر هذه الحالة من يومين إلى أسبوع أو أكثر، وفي حالة إهمال العلاج تتحول الحالة إلى روماتيزم مزمن يصعب الشفاء منه ...

     يقول الدكتور يورن هانوفر لارسن: إن من بين حالات الإصابة بالروماتيزم المزمن نجد ۲۳ حالة منها تبدأ بالإصابة بالبكتيريا (الياسينية)...

     ومن أسباب عدم اكتشاف هذا المرض بسهولة هو أن أعراضه تشبه أعراض الإنفلونزا العادية، فيصعب على الطبيب غير المتخصص اكتشافه...

     وأضاف الدكتور لارسن: إنه يمكن معالجة هذا المرض إذا اكتُشِف في مهده وذلك بمادة الأنتيبيوتيك...

     الإهمال: كثير من الأطباء لا يعتقدون فيما أقول، ولكن السؤال الآن: كيف ننقذ هذه الحالات الخطيرة؟... وأنا أضع أمامكم بحثي واضحاً جلياً بعد أن قمت بفحص 25,585 حالة عن طريق تحليل الدم، وذلك من مارس ۱۹۷۱ حتى مارس 1976م...، وتم ذلك في معهد الفحوص الدانماركي، وأنا على يقين أن السبب الرئيسي في هذا المرض هو البكتيريا الياسينية... وقد قمت بنشر بحثي هذا في مجلة (الطبيب)، حتى يكون الأمر واضحاً للجميع، وإبراءً لذمتي أمام الله وتحقيقاً لأمانة البحث العلمي...

     وقد صرح الدكتور لارسن لمندوب جريدة (بي. تي) قائلاً: إن الباكتيريا الياسينية لم تفحص بهذه الدقة إلا بعد انعقاد المؤتمر الدولي لأبحاث البكتيريا الياسينية المنعقد في مونتريال بكندا... وأضاف الدكتور لارسن قائلاً: إن الإصابة بهذه البكتيريا لا يتوقف عند حد الإصابة بالروماتيزم المزمن فقط، بل يصل إلى إصابة الكلى والكبد والدورة الدموية... إذا لم يتم معالجة المصاب في الوقت المناسب...

     وقد سأل مندوب الجريدة: لماذا يحمل الخنزير هذه البكتيريا دون غيره من الحيوانات؟ فقال الدكتور لارسن: إن أحد الأطباء المتخصصين في الطب البيطري ذكر له أنه عندما تناول عينات من حيوانات مختلفة وجد أن نسبة 30% من الخنزير مصابة بهذا النوع من البكتيريا، وكان يأمل أن تكون محصورة في عدد أقل.

     وقد سأل مندوب الجريدة: ما الذي تنصح به المصابين بهذه الأعراض؟ فقال الدكتور لارسن: إنه قد تعرض شخصياً للإصابة بهذا المرض، وقام على الفور بالذهاب لتحليل الدم، وهذا ما ينصح به الآخرين.

*****

أحكام التشريع في آيات التوجيه

الفصل الرابع: من حكم التشريع الإلهي

أحكام التشريع في آيات التوجيه

     يحرص الإسلام حرصاً شديداً على الترابط والتوحد بين مختلف توجيهاته وحقائقه سواءً في ميدان العقيدة، أو في ميدان الشريعة. إنه في هذين الميدانين شامل كامل، لم يدع جانباً من جوانب الحياة إلا وعُني به أحسن العناية، لكنه مع شموله وكماله، يربط بين أموره المختلفة، ويوحّد بينها توحيداً يجعلها متينة الصلات والأواصر، وليس من الصدفة في شيء. والإسلام لا يعترف بالصدفة في قليل أو كثير، في أن يربط بين أنظمته الشاملة الكاملة، بفكرته الكلية الكبرى، وتصوره العام للكون والحياة والإنسان، ووظيفة هذا الإنسان في الوجود.

     وليس من الصدفة أيضاً أن يورد القرآن الكريم، قواعد التشريع ومبادئ الحكم والاقتصاد والاجتماع في طي آيات التوجيه والأخلاق، ولعل قوله تعالى في سورة الشورى يوضح ذلك بجلاء: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ* وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ* وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 37-40]، فآية الشورى التي تحدد قاعدة الحكم الأساسية للإسلام، وتضع خطوطه الكبرى، تأتي مرتبطة بالتوجيه، ويأتي التوجيه مترابطاً مع التشريع.

     فالسياسة والصلاة، والعفو والإنفاق، والعفة والإصلاح، ذلك كله، يأتي مترابطاً، ذلك أن الإسلام لا يتعامل مع الإنسان على أنه أجزاء مقطعة، يعطي كل جزء نصيبه، في معزل عن الأجزاء الأخرى، بل يتعامل معه، على أنه كلٌّ مترابطٌ متوحّد، لذلك كان هذا الدين بالإضافة إلى كونه شاملاً متكاملاً، كان مترابطاً متوحداً أيضاً، وبذلك تأتي توجيهات الإسلام لتملأ شعاب الإنسان العقلية والروحية والنفسية والسلوكية من كل جانب، وبذلك لا تهمل جانباً من جوانبه قط، كما أنها إذ تقدم ذلك له، تقدمه بناءً عضوياً مترابطاً يصوغ إنساناً حياً مترابطاً.

     ولعل هذا الأمر بجانبيه، يكشف بجلاء لماذا كانت الشخصية المسلمة، شخصيةَ التكامل والترابط، والتوحد والانسجام، والتوازن والشمول، بينما غير المسلمة، هي شخصية التمزق والفصام، والتقطع والازدواجية وما إلى ذلك.

     وهذا يؤكد حقيقة كبيرة، كثيراً ما غفل عنها الناس، وهي الوحدة العميقة في الإسلام بين التوجيه والتشريع وعدم الفصام بينهما، ولا ريب أن رسوخ هذه الوحدة، يجعل تطبيق الإسلام العملي أيسر وأسلم وأقرب إلى الصدق، إذ التوجيه عون كبير للقانون، يجعل الناس يطيعونه بذاتهم، ويجعلهم كذلك يسعون بأنفسهم إلى العقاب حين يخالفونه، ولو أدّى بالمرء إلى فقد حياته كما حدث مع الصحابي "ماعز" مثلاً.

     ومما لا شك فيه أن غياب هذه الوحدة بين التوجيه والتشريع، وهما مَعْمَلان كبيران في حياة الناس، كان نتيجةً لظروف سيئة مرت بالبشرية المعذبة وما تزال، ولا يزال حتى ساعتنا الحاضرة مَصْدَرَ كثير من متاعبها ومآسيها الكثيرة المتنوعة.

     إن تلاحم الأنظمة بالفكرة المطلقة الكبرى عن الوجود والحياة والإنسان، يوجِد بين الإنسان وما حولَه انسجاماً وتفاهماً، ويدفعه إلى ممارسة دوره الإيجابي الكبير، دور الخلافة عن الله عز وجل، وعمارة الأرض والسيطرة عليها بالحق والعدل والمعروف، بعمق وقوة وبصيرة، لذلك تنشأ الحضارة الإنسانية في ظلال هذا المنهج الكريم، حيّةً ربانية، تحقق الارتباط بين الإنسان والحياة، وتمنحه السكينة والسعادة، والخُطا المتوازنة الرشيدة، وتحمي مسيرته في الحياة، من الخلل والتمزق، والتناقض والاضطراب، كما أنها فوق ذلك كله، تجعل النشاط البشري كله، عبادة لله عز وجل يتقرب بها المرء إليه.

     إن الإسلام دين الشمول الكامل، والترابط المتوحد، في كل مناحي الحياة الصغير منها والكبير على السواء، وهو صالح لكل زمان ومكان، لم يترك مرفقاً من مرافق النشاط البشري إلّا سَنَّ له قاعدة، أو أعطاه حكماً، أو أفرد له أدباً أو توجيهاً، وهو حين يطالب الناس أن يلتزموه تماماً ويتقيدوا بجميع أحكامه وآدابه وتوجيهاته، ويحتكموا في كل أمورهم إليه، ولا يطلبوا من غيره أي أمر، ولا يلتمسوا في سواه أي حل، إنما يرسم لهم طريق الهداية والفلاح، ويأخذ بأيديهم إلى درب السعادتين في الدنيا والآخرة، وهو المنهج الرباني الصحيح، وهو الحق وحده، وكل الذي سواه باطل: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62]. كيف لا.. وقد نزل قرآنه الكريم، تبياناً لكل شيء، وهدى ورحمة لقوم يوقنون، يهدي للأقوم والأكمل في كل شؤونه!؟

     وإذن فللإسلام، من حيث إنه سبيل الإنقاذ الوحيد لا للمسلمين فحسب!.. بل لكل الناس، أن يطالب بَنيه خاصة، والناس عامة بالعودة إليه، والعيش في رحابه، لأنه كلمة الله الأخيرة إلى الأرض، أكملها وأتمها وارتضاها، وجعلها الدرب الوحيد للفوز حتى يوم الدين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

*****

الصبر في القرآن الكريم

الفصل الرابع: من حكم التشريع الإلهي

الصبر في القرآن الكريم

     في القرآن الكريم يتكررُ ذكرُ الصبرِ كثيراً، وتتكرر مكانة الصابرين عند الله عز وجل، والوعدُ بأن ينالوا الثوابَ الجزيل والعطاء الوافر. وهذا التكرار يجعل المرء يقلبُ أوجهَ النظر، ويتفكر ويتفحص عن الحكمة في ذلك ظهرت أم غابت.

     والمرء بفكرِه المحدود، وبنظره القاصر، يستطيع أن يلمحَ الكثيرَ من أسرارِ الحكمة في منزلة الصبر حثاً عليه وثواباً من طرف، ومنزلةً ضخمة بالغة الخطورة في حياة الفرد المسلم وحياة الجماعة المسلمة من طرف آخر.

     إنه لَجهدٌ ضخم كبير ذلك الذي تحتاجه الاستقامة على درب الله تعالى بينَ شتّى النوازعِ والدوافع، والشهوات والأهواء، والمنزلقات الكثيرة التي تزيّن الانحراف. والقيامُ على دعوةِ الله في الأرض وعياً صادقاً، وسلوكاً أميناً، والتزاماً تاماً في الأداءِ والبلاغ هو بحاجة كذلك إلى جهدٍ كبيرٍ جداً.

     إن في الحياة صراعات وعقبات، ومتاعبَ وتحديات، والمسلمُ مطلوبٌ منه في ذلك كلِّه أن يبقى يَقِظَ النفس، مشدودَ الأعصاب، مجند القوى، بالغ الحذر والانتباه، وإن ذلك لأمرٌ صعب جداً، نحتاج فيه إلى زادٍ قويٍّ عميق، وهذا الزاد هو الصبر، لا بد للمسلم من جرعات قوية من الصبر الوثيق، ليكون بمقدوره أن يستمرَّ في دربه على الاستقامةِ الطاهرة، بينَ المنزلقات الكثيرة، ودواعي الهبوط والسقوط التي تتكاثر هنا وهناك.

     إنه بحاجة إلى الصبرِ على الطاعات، والصبرِ عن المعاصي، والصبر على جهاد أعداء الله، والصبر على كيد الخصوم، والصبر في ارتقاب النصر الذي يبدو بعيدَ المنال، والصبر على بُعْدِ الطريق وامتداد الأيام، والصبر على الباطل الذي ينتفش ويطغى، والصبر على قلةِ الناصر والمعين، وضآلةِ العَدَدِ والعُدَد، والطريق الذي يطول ويزدحم بالأشواك، والنفوس التي تجادل وتلتوي، والقلوب التي تضل وتفسد، والعناد الذي يَرْكَبُ رؤوسَ الحمقى والمستكبِرين.

     إنه بحاجة إلى مثل هذه الأنواع من الصبر، وإلى غيرها كذلك؛ بحيث يبدو المقدار الذي يحتاجُه المسلم في الحياة من جرعات الصبر كبيراً بحق. وإذا طال الأمد، وشق الجهد، وكثرت الجراحات، وعظم البلاء، ربما ضعُف الصبر أو نفد. وإذن؛.. فلا بد للصبر من مَعِينٍ ثَرِّ دفّاق، لا ينفد ولا ينضب، ليجدد العطاء تلو العطاء، فيظل يمنح المسلم الوقود الذي هو بأمسّ الحاجة إليه ليتابع مسيرَته في الحياة متشبثاً بدرب الاستقامة أيّاً كانت الصعاب.

     ترى ما هذا المَعين الذي يستطيع تقديم وقود الصبر باستمرار؟ إنه الصلاة!.. ولذلك يَرِدُ في القرآن الكريم اقترانُ الصلاةِ بالصبر، يقول جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]. فالصلاة هي المعينُ الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد، والعطاء الذي لا يَبْلى، والطاقة المتجددة خمسَ مراتٍ في اليوم.

     إنها المعين الذي يجدد العزم، والزاد الذي يوقد الهمة، والعطاء الذي يزوِّدُ القلب، والطاقة التي تمنح النشاط والفاعلية، وهذا من شأنه أن يجعل حبل الصبر يمتد فلا ينقطع، ويطول فلا يتوقف، ويتوالى عطاؤه الخيِّرُ المبارك، فلا يكون شحٌّ أو عجزٌ أو نضوب. وإذا امتد حبل صبر المؤمن، فَخُذْ ما شئت من خيراتٍ حسان، وعطايا كريمة من ثقةٍ ورضى، وجودٍ وسماحة، وبِشرٍ وبشاشة، وأملٍ ورجاء، ويقينٍ وطمأنينة، وعزمٍ يتجدد، وهمة وقّادة طموح.

     إن الإنسان القاصر العاجز، الضعيف المحدود، الخاطئ الفاني، بحاجة أن يتصلَ بالقوةِ الكبرى، قوةِ الله عز وجل، يستمد منها العون والقوة على مواصلة طريقه في الحياة بينَ الصوارف الكثيرة عن الحق، التزاماً بالاستقامة، ونأياً عن الباطل، وإعذاراً في الدعوة إلى الله، ما كان فيه نَفَسٌ يتردد.

     وإن حاجته لتقوية الصلة بالله عز وجل، لتكبر وتتعاظم إذا ما تجاوز الجهدُ قوتَه المحدودة، وطاقته الضعيفة، وتدبيره الواهن، وذلك حين تواجهه قوى الشر ما بطن منها وما ظهر، ويثقل عليه جهد الاستقامة على الحق، بين الشهوات والمطامع والإغراءات، والمخاوف والمخاطر والصعاب، وإنها لصوارفُ ما أشدَّها وما أشقَّها! ما لم يكن للمسلم من الله عز وجل عونٌ ومدد.

     حين تثقل على المسلم محاربة الطاغوت، ومجاهدة الفساد، وحين يطول به الطريق، ويتعاقب الجديدان، ثم ينظر فيشعر أنه لم يبلغ غايتَه بعد، والأيام قد تطاولت، وشمس العمر آذنت بمغيب، وحين يجد الشر قد انتفش، والباطل قد تضخم، والحق قد انعزل، والخير قد انحسر، وليس في الأفق علامة، وليس في الطريق شعاع، حينذاك تكونُ حاجته للصبر أعظمَ وأعظم.

     وهنا تبدو قيمةُ الصلاة، وواحدٌ من أسرارها العظيمة، فهو ينبوع كريم، عظيم العطاء، مُخْصِبٌ دفّاق، يقدم للمسلم الجرعةَ إثرَ الجرعة، والشحنةَ تلوَ الشحنة، من وقود الصبر؛ إذ تكبر الحاجة إليه وتتعاظم، وبذلك يشعر المسلم بنسائمِ القوة والأمل تتدفق في حناياه وهو يردد قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

*****

الصلاة صلة مباشرة بين العبد وربه

الفصل الرابع: من حكم التشريع الإلهي

الصلاة صلة مباشرة بين العبد وربه

     الصلاةُ هي الصلةُ المباشرة بين الإنسان الفاني والخالق الباقي، بين المخلوق الضعيف والخالق القوي، بين القوة المحدودة العاجزة، والقوة الربانية التي لا حدود لها ولا قيود، بين الذي يزول ويَمَّحي، ويخطئ ويجهل، ويلاحقه القصور والعجز، وبين مَنْ يبقى فلا يزول، ويعلمُ فلا يجهل، ويصيب فلا يخطئ، ويَخْلُدُ فلا يمَّحي.

     إنها الموعد الذي اختارته العناية الإلهية لتسمو الفطرة فيه وتطهر، وتصدُق النفس فيه وتزكو، ويطيب فيه الوجدان ويصفو، ويعلو الإنسان فيه على حطام الدنيا ومتاعها، وما فيها ممّا يبعث على الطمع والجشع، أو الخوف والإشفاق، كيف لا وهو يردّد إبّانَ الصلاة هذه العبارةَ الوجيزةَ جداً، الغنيةَ جداً: الله أكبر!؟

     إن كلَّ ما يَؤوده ويتعبه، ويشقُّ عليه ويُضْنيه، ويُسبِّبُ له المتاعب والأحزان، ويبعث فيه القلق والتوجس، ليغيبُ عن ناظريه، وعن ساحة إحساسه وشعوره، كيف لا وهو يردد إذ يصلّي: الله أكبر!؟

     إنّ مشاقَّ الدنيا جميعاً، وطغيانَ الباطلِ جميعاً، وانتشار الشر والفساد، وتكالب الأعداء والمجرمين، إن ذلك كلَّه لَيتضاءل ويتضاءل، حتى يتلاشى أو يكاد، كيف لا وهو يردد: الله أكبر!؟

     إن الصلاة -والتكبيرةُ من أعظم وأروع ما فيها- مفتاحُ الكنز، كنزِ الثقةِ والقوة، والاستعلاءِ واليقين، والبشاشةِ والرضى، والسكينةِ والطمأنينة، والأملِ الحي المتجدد، والزاد الكريم النبيل، الكنزِ الذي يُغْني النفس ويزكّيها، ويسمو بها ويطهّرها، فتفيض بالعطاء المبارك، وتجود بالخير العميم.

     إن الصلاة -والتكبيرةُ من أعظم وأروع ما فيها- موعد الإنسان لينطلقَ من حدودِ الواقع الأرضي الصغير، والحيّزِ الترابي المحدود، والاهتمامات القريبة المُسِفَّة، وحمأةِ الطين المسنون، وجَذْبَةِ الصَلْصال إلى أسفل، إلى مجال الواقع الكوني الكبير، والصلةِ بقدرة الله عز وجل، الباقيةِ العظيمة، الخالدة أبداً، المستعصيةِ على البِلى والفَناء.

     إنها الواحة المُخضرَّة الفينانة في صحراءِ التعب والمشقة، والسعي الموصول وراءَ مطالبِ العيش التي لا تنتهي. وإنها الندى المخضل، والظلالُ الوارفة في الهجيرِ اللافح.

     إنها اللمسةُ الحانية الودود للفؤاد المكدود، والنفسِ المتعبة، والصدر المرهق الثقيل. وإنها النهر الذي يسارع إليه الإنسان خمسَ مراتٍ في اليوم ليتطهرَ فيه من كلِّ الشوائب التي تحل به، والأدران التي تعلق بجسدِه ونفسِه، عقلهِ وروحِه، لسانِه وخواطره، فيكون التجددُ والطهر، ويكونُ الصفاءُ والنقاء.

     إن مثل هذا العطاء الكبير الذي تقدمه الصلاة، وسواه مما يضيق عنه المجال، وسواه مما لا تحيط به عقولُنا المحدودة القاصرة، يفسر لنا لماذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ من الصلاة إذا حَزَبَهُ أمر، واشتدت به حال؟! ويفسر لنا كذلك لماذا كان يقول لبلال رضي الله عنه وأرضاه: "أَرِحْنا بها يا بلال"؟!

     إن العبادة في الإسلام -والصلاةُ في المقدمة منها- زادٌ للطريق، وجلاءٌ للروح، ومددٌ للقلب، وتجديدٌ للعزيمة، وتوكيدٌ للعهد، ونفضٌ للغبار والران، والكسل والإخلاد، والشوائب والأدران.

     إنها استعلاءٌ على كل ما يعوِّقُ المرء عن الوفاء بعهد الله عز وجل، واستمساكٌ بكل ما يحقق له القربَ الدائم منه، نأياً عن الشرور، وحرصاً على الخيرات، واستمراراً في الدعوة إلى منهج الله الصحيح الكريم.

     وفي العبادة عامة، والصلاة خاصة؛ تدريبٌ للمسلم على احتمال التكاليف، والقيام بأمر الواجبات، ولذلك نجد في سورة المزمل أن الله عز وجل حين أمر محمداً صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس، وهي أمر شاق طويل، قال له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا* إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (المزمل:1-5). إن قيامَ الليل بالصلاة والتضرع، والترتيل والذكر؛ إعدادٌ للقولِ الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم.

     إنَّ مهمةً خطيرةً جداً كُلِّفَ بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لهِي مهمةٌ عظيمة جداً، فلا بد له من إعدادٍ خاصٍّ جداً، عظيمٍ جداً، ولا عجب فإن العظائمَ كفؤها العظماء، وهل ثمةَ رسالةٌ أعظمُ من رسالة الإسلام؟! وهل ثمةَ رسولٌ أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم؟!

     إن العبادةَ عامةً، والصلاةَ خاصةً، تفتحان القلب للإشراقات الربانية، والعطاءِ الروحي، وتوثّقان الصلةَ بالله عز وجل، فيكون من ذلك ما ييسرُ الأمر بإذن الله، ويجدد العزم والأمل، ويُشْرِقُ بالنور، ويَفِيضُ بالعزاء والصبر، والسلوى والاحتمال، والراحة والاطمئنان.

     من أجل ذلك يَجْدُرُ بالمؤمنين -وهم على أبواب مشقات كبيرة، وإزاءَ مطالب خطيرة- أن يفزعوا إلى الصبر، وأن يفزعوا إلى الصلاة، ففيهما كلُّ خيرٍ وبركة، وقوةٍ وغوث، وزادٍ يساعد على استمرار المسيرة وِفْقَ مرضاةِ الله عز وجل حتى نهايةِ الحياةِ الدنيا، على أمل اكتسابِ الفوز والرضوان، والفوزِ بالجنة يومَ القيامة، يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون، إلّا مّنْ أتى اللهَ بقلبٍ سليم.

*****

فتح مكة المكرمة .. الفتح الأعظم

الفصل الثالث: بدر الكبرى والفتح الأعظم .. بشائر النصر ونفحات الإيمان

فتح مكة المكرمة.. الفتح الأعظم

     ما مرّ على المسلمين شهر رمضان المبارك، إلا مرت عليهم في أفيائه الطهور ذكريات غالية أثيرة، ففي رمضان كان يوم بدر، وفي رمضان أيضاً كان فتح مكة المكرمة.

     خرج المصطفى ﷺ إلى مكة مع جنوده الأوفياء حين عدا رجال من بني بكر وهم حلفاء قريش؛ على أناس من بني خزاعة وهم حلفاء المسلمين، فغدروا بهم وقتلوهم، فرحل عمرو بن سالم إلى المدينة المنورة، وأنشد بين يدي رسول الله ﷺ قوله:

يــا ربِّ إني ناشــــــدٌ محمدا     حِلـــــفَ أبينا وأبيهِ الأتــــلدا
إنَّ قريشاً أخلفوكَ الموعـــدا     ونقضوا ميثــــاقكَ المُؤكـــدا
هُم بيّـــــتونا بالوتيرِ هُجَّـــداً     وقتـــــلونا رُكَّعاً وسُجَّــــــدا
وزعموا أنْ لستُ أدعو أحداً     وهُـــمْ أذلُّ وأقــــــلُّ عـــددا
فانصرْ هداكَ الله نصراً أيِّدا     وادعُ عبـادَ اللهِ يــــأتوا مـددا

     وأجاب رسول الله ﷺ عمرواً بقوله: نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم!.. ثم كان الخروج إلى مكة المكرمة.

     وأحسَّ بنو بكر بعِظم الجناية، وشعرت قريش بفداحة ما فعله حلفاؤها، فحاولت أن تتدارك الموقف، وكان لأبي سفيان جهد متصل وحركة ناشطة، لكنه عاد بالخذلان.

بني بــــكرٍ وما يُغْـــني المَــــلامُ     تَلَظَّى البأسُ وانتفضَ الحسامُ[1]
ذِمامٌ صــــادقٌ ودمٌ حــــــــــرامٌ     وعِـــــزٌّ من خــــزاعةَ لا يُــرامُ
يقــــومُ عليهِ حـــامٍ لا ينـــــــــامُ

أعانـــــــكمُ الأُلى نبذوا الوفــــاءَ     وراحَ القــــومُ يمشونَ الضَّــراءَ
وما تَخـــفى جريـرةُ مَنْ أســــاءَ     سيــــوفُ محمدٍ جُعِــــلَتْ جَزاءَ
فـــما البَغْيُ الذميمُ وما العُـــرامُ

قَتــــلتُمْ من خزاعــةَ بالوَتيـــــرِ     رجــــالاً ما أتــــاهمْ منْ نذيــــرِ
لبئسَ الغـــــدرُ من خــــلقٍ نكيرِ     ويــــا لَلناسِ للحــدثِ الكبيــــــرِ
أكــــانَ محــــمدٌ مِمّـن يُضــــامُ

أَتَــــوْهُ يَنْشــــدونَ الحِلْفَ وفــدا     تَهُــــدُّ شَـــكاتُهُ الأحــــرارَ هَـدَّا
فأيَّــــدَهُمْ وســـــارعَ واستـــعدّا     وراحَ يســـوقُهُ للحربِ جنـــــدا
تُظَلِّـــــلُهُ الملائكــــــةُ الـكــرامُ

     وحينَ جاء أبو سفيان إلى المدينة المنورة ليجدد العهد ويزيدَ في المدة لم يُوَفَّق لشيءٍ قط، وانطلق محزوناً مهموماً تتقاذفهُ شوارعُ المدينةِ الكريمة، فالرسول الكريم ﷺ لم يَرُدَّ عليه بشيءٍ قط، والصحابةُ الكرام الذين لجأ إليهم ليساعدوه فيما يؤمل أخلفوا ظَنَّه الواهم، فهو حائرٌ مرهق، مضطربُ الخُطا، زائغُ النظر، أنَّى لكَ النجاةُ أبا سفيان مما أنتَ غارقٌ فيه وقد عزمَ رسول الله ﷺ وصمّم!؟

أبـــا سفيـــــانَ ذلك ما تـــراهُ     هو البـــأسُ المصمِّمُ لا سـواهُ
أليسَ الحِلفُ قد وهنــتْ عُراهُ     فكيـــفَ تشُدُّ بعـــــدئذٍ قُــــواهُ
أبـــا سفيــــانَ ليسَ لكم ذِمــامُ

كتمتَ الحقَّ تطمعُ في المُحالِ     فما بالُ الثِّقاتِ من الرجـــــالِ
فتحتُـــــمْ بالأذى بابَ القتـــالِ     فما دونَ اللقــــاءِ سوى ليــالِ
ويَفْتَحُ مكةَ الجيـــــشُ اللُّهــامُ

دعِ الأرحـامَ ليسَ لكمْ شفيـــعُ     لقد حـــــاولتَ ما لا تستطيـعُ
رُويــدَكَ إنه الرأيُ الجميــــعُ     وإنَّ اللهَ ليسَ لـــــــــهُ قريــعُ
تعــــالى جَـدُّهُ وسما المقــــامُ

     عاد أبو سفيان من رحلته إلى المدينة المنورة، وطيفُ الإخفاقِ بادٍ على وجهه المُتْعَبِ المكدود، وهو بفطنته ومعرفته يعلمُ جيداً أن رسول الله ﷺ لا بد صانعٌ شيئاً، لكن ما هو هذا الشيءُ يا ترى؟ أين وِجْهَتُه؟ ما هي أبعادهُ وأمداؤُه؟ متى يكون توقيتُه؟ إنَّ شيئاً من هذا لم يكن يعرفه أبو سفيان قط، وأنَّى له أن يعرفَه والرسول الكريم ﷺ كَتومٌ حازم، بعيدُ النظر، شديدُ الحَيْطَة، بالغُ الدقةِ فيما يفعل!؟

     إذن؛.. فقد عُدْتَ يا أبا سفيان خاويَ الوِفاض، ليس في كِنانتِكَ إلا ما تتوقعه من خطوبٍ جسام، عدتَ مُتعَباً مُزعَجاً لا تدري كيف تقودُ قريشاً وأنتَ سيُّدها، ذلك أنك ترى صولَتها تَذْبُلُ يوماً بعدَ يوم، وشجرتَها تجفُّ وتُصوِّح، أما دولةُ الإسلام فهي تنمو وتَعْظُم، وأما شجرةُ الإيمان فهي تسمو وتَخْضَوْضِر:

رجعتَ وأسْكتتكَ الحادثـاتُ     فسِرْتَ تقولُ هل قَدِمَ الغُزاةُ
نعـــمْ قَدِمَ الميــــامينُ الهُداةُ     وتلكَ جيـــادُهمْ والمُرهَفاتُ
فدعْ دِينَ الغُـــواةِ وقلْ سلامُ

     وفي مَرِّ الظهرانِ ذُهِلَ أبو سفيان حينَ شاهدَ نيرانَ الجيشِ المسلم يقوده رسول الله ﷺ متجهاً لفتح مكة. كانت هناك عشرةُ آلافِ نارٍ أمرَ النبيُّ الكريم عليه الصلاة والسلام بإيقادِها لتعلمَ قريشٌ قوة المسلمين وبأسَهم فتنهدَّ عزائمها وتستكينَ وتستخذي:

أبا سفيانَ هل أبصرتَ نــــارا     كنارِ القومِ إذ باتوا سُهــــارى
أَبَتْ وأَبوْا فما تَــــأْلو استعارا     ولا تُحصى وإن عُدَّتْ مِرارا
هو الفزعُ المؤجَّجُ لا الضِرامُ

لقد أنذرتَ قومَكَ فاستــطاروا     وراحـــوا ما يَقِـــرُّ لهم قــرارُ
نَبَتْ بهمُ المنــــازلُ والديـــارُ     وضاقَ سبيلُهمْ فيها فحـــاروا
وقالَ سَراتُهم: خَطْبٌ جِســامُ

     ودخل الجيش المسلم مكة المكرمة فاتحاً منصوراً، ولم تكن لقريشٍ إلا مقاومةٌ بائسةٌ يائسة ما أسرعَ ما انتهت!.. وعفا المصطفى ﷺ عنها وهي التي آذته وحاربته، عفا عنها أكرمَ عفوٍ وأشرفَه وأنبلَه، عفا عفوَ القادرِ المتمكن، الغالبِ المنتصر، عفا وهو ينظر إلى البيتِ الحرام وقد تمَّ تطهيرُه من أدناسِ الشركِ والوثنية، عفا حينَ قالَ لأهلِ مكة المكرمة وهم مأخوذون مذهولون: اذهبوا فأنتم الطُلقاء.

وأرســـلَ الصرخـةَ الزهراءَ فانطـــلقت
               كتــــائبُ اللهِ ترعى البيــــتَ والحرَمــــا
فمـــــا هــوى صــــارمٌ إلّا رمى عُـنُقــاً
               ولا هـــوى مِعْــوَلٌ إلّا رمى صَــــــنَـما
ولا بَــــــــــــدَتْ سِـــــدَّةٌ إلا تَسَــــنَّمهــا
               مُؤَذِّنٌ لم يَـــدعْ في مَسْــــــمَعٍ صَـــــمَما
فتـــــــابَ مَنْ لم يـــكنْ باللهِ معتـقـــــــداً
               وثــــــابَ منْ لـــم يـكنْ باللهِ معتصِــــما
وأقبـــــلت سَــــرواتُ العُرْبِ خـاشعـــةً
               تجـــــلو بإيمـــــانِها عن دينِـــــها الـتُهما
وتحــــملُ الشُّهْبَ في راحـاتِها قُضُــبـــاً
               والخيـــــلُ تَعْــــــلِكُ في أشداقِها اللُّجُــما
وأحـمــــــدٌ يـتـــلقّـاهـــــــا وبَسْــــــــمَتُهُ
               تَـــــرُدُّ كـــــلَّ فــــــمٍ للمجــــدِ مُبْتَسِـــما
والفتـــــحُ يغمِــــزُها حتى إذا وثبَـــــــت
               لم تُبْقِ في الشرك لا عُرْباً ولا عجما[2]

     تم الفتح وانهارت دولة الشرك والوثنية، وصارت مكة المكرمة حصناً للإسلام، فَعَلا فيه الأذان، وتُلِيَ فيها القرآن، وتَمكَّن من أعماقها الإيمان.

     يا ذكرى الفتح الأعظم!.. مرحباً بأنسامك الندية العاطرة، مرحباً بريّاك التي يُضمِّخها الشذى والطيب والعرار، مرحباً بك اليوم وأمتنا تخوض جهادها المتصل ضد أعداء الله من اليهود وتلاميذ اليهود، ومن الصليبيين والملاحدة.

     أنتَ قَبَسٌ يضيء في الحوالك، وعزيمةٌ تتقدُ في القلوب، وتيارٌ يسري في الضمائرِ والأخلاد، فيشدّ عليها، ويقوّي أزرها، ويبشرها بيوم النصر القريب.

----------------------
[1] للشاعر أحمد محرم، في ديوانه: مجد الإسلام.
[2] للشاعر عمر أبو ريشة.

الأكثر مشاهدة