‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب مواقف ومرافئ. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب مواقف ومرافئ. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 7 يوليو 2022

عبد الكريم الخطابي

عبد الكريم الخطابي

     يوم اجتاح العدوان أرض الجزائر الأبية، وقف مجاهدوها الأبطال يقودهم البطل المؤمن الفارس الشجاع، الأمير الشاعر، عبد القادر الجزائري يقاتل قتالاً ضارياً لا هوادة فيه، سيظل دائماً موضع الفخار والإعجاب، والتقدير والإكبار، ذلك أنه موقف عملاق ثبت فيه ضد قوى كبيرة، تفوقه في العدد والعدة، والتدريب والتنظيم.

     ويوم وقف عبد الكريم الخطابي بطل الجهاد الدائب الصبور في الريف المغربي المسلم، يقاتل الجيوش الباغية الضخمة، ويحقق انتصارات عجيبة مذهلة، بأسلحته المتخلفة البسيطة، وموارده المحدودة الضعيفة، وإمكاناته المادية الفقيرة، عجب الناس أشد العجب لما تستطيع هذه الأمة المسلمة أن تقوم به حتى في أيام ضعفها ومحنتها مما يدل على أصالة ذاتية متميزة وقدرة مكنونة جبارة، وقوى مذخورة بالغة الخطورة.

     وموقف الخطابي –مثله كمثل موقف الأمير عبد القادر– موقف عملاق ينبغي للوفاء بحقه أن يُدرس بأناة وإحاطة، فهو مع الأسف مجهول من أكثر الناس بالرغم من ضخامته وعظمته.

     وإن ما قيل عن الجزائري والخطابي، يقال عن جهاد المختار في ليبيا ضد الطليان، وجهاد عرابي في مصر ضد الإنكليز، والمهدي في السودان، وأحمد بن عرفان في الهند، ومحمد حتَّى وسوموتو في إندونيسيا والأفغان، والشام والعراق.

     لقد كان جهاداً كبيراً جداً نهض به رجال عظام أوفياء، كرام شرفاء، مواقفهم في الشجاعة والصدق والبلاء شامخة باذخة، خالدة رائعة. لقد عوضوا عن نقص الموارد بعظمة الإيمان، وعن قلة العدد بالإقدام الجسور، وعن ضعف الإمكانات بالإقدام والجرأة.

     وأمثال تلك المواقف الكبرى مواقف الشجاعة البدنية الخارقة، كانت تستمد من معين ثرٍّ دفاق، هو الموقف النفسي الذي كان يملكه أولئك الرجال المجاهدون، وهو موقف يمتاز بالثقة والاستعلاء، والأصالة والذاتية، والشموخ والترفع، والأنفة والإباء، واليقين الراسخ المكين، بأنهم وحدهم على الحق الذي لا شائبة فيه من باطل، مهما توالت عليهم الهزائم، وأن عدوهم على الباطل مهما استطاع أن يحقق من انتصارات.

     أن يكون للمرء مثل هذا الموقف النفسي الشجاع وهو في حالة النصر أمر منطقي، وبدهي ومتوقع، لأنه ينسجم مع طبائع الأمور، وحقائق الأشياء، ونواميس الحياة، والفطرة البشرية التي فطر الله الناس عليها. ولكن أن يكون للمرء مثل هذا الموقف، وهو مهزومٌ جسداً، مقهورٌ أرضاً، مغلوبٌ جيشاً، مغلولٌ سلاحاً، مقتَحَمٌ داراً وموطناً؛ فهو أمر يستدعي الإكبار والإعجاب، ويستثير الدهشة والتقدير ويستأثر بالألباب والأبصار، وإنه لبعض عطايا الإسلام ومنحه لأبنائه.

*****

مجاهدو التحرير

مجاهدو التحرير

     تعاني الأمة المسلمة اليوم من حروب كثيرة متنوعة، بعضها علني مكشوف.. وبعضها مستتر خفي. بعضها مباشر واضح، وبعضها مُلْتَوٍ ملفوف. قد تختلف ضراوة هذه الحرب، وقد تتباين صورها وأشكالها، وقد تتعدد دوافعها، لكن الدافع الأكبر لها، كراهية الأعداء لهذه الأمة، بسبب انتمائها إلى الإسلام، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [البروج:8]. هذه الحقيقة يجب أن نعيها بغاية الوضوح والجلاء، ونحن ندرس مواقع أقدامنا وصراعنا مع أعدائنا.

     ومن البشريات الخيّرة في حياة الأمة المسلمة اليوم، أنها على الرغم من كل الذي حلّ بها من كوارث لا تزال في جملتها صحيحة الولاء لإسلامها، ولا يزال دينها الخالد العظيم قادراً على تفجير طاقاتها حين تتوافر شروط ذلك.

     إن الإسلام هو عقيدة هذه الأمة، ومحاولات إبعادها عنه ليست دليلاً على أن الأمة عامة قد غيّرت قِبلتها، وإنما هي محاولات قام بها الأعداء ووكلاؤهم في المنطقة. وضراوة المحاولة المعادية لفصل الأمة عن إسلامها تؤكد الانتماء ولا تنفيه، لأنها ما كانت ضارية إلا بسبب ولاء الأمة الوثيق لإسلامها.

     إن الأمة قد استقر في أعماقها أن الإسلام ليس دينها الصحيح النقي فحسب، بل هو إلى جانب ذلك، يشكل لها العاصم والملجأ والملاذ في هذه الدنيا، حين تقسو عليها الظروف، وتكثر في مواجهتها التحديات.

     وحين يقول المرء: إن الإسلام حَمى وجود الأمة وكيانها، فإنه يقرر بذلك حقيقة ضخمة كبيرة باتت في غاية الجلاء، وكثرت عليها الشواهد.

     خذ ليبيا مثلاً.. إن ليبيا لا تاريخ لها إلا الإسلام، ويوم أن وجدت نفسها تحت وطأة المستعمرين، يذلّون كرامتها، ويضطهدون خصائصها، لم تجد سوى الإسلام تلوذ به ليحميها، ولقد حماها الإسلام حقاً وحفظ وجودها حين أشعل بعقيدته روح الجهاد في نفوس أبنائها.. فقاتلوا المستعمرين قتالاً موصول الأنفاس والدمار والشهداء.

     وليست ليبيا وحدها هي التي حماها الإسلام، ووصل من خلالها، جهاده القديم في حركة الفتوح، بجهاده الحديث في حركات الاستقلال في العالم الإسلامي التي نشبت ضد الغزاة الطامعين.

     إن حركات الاستقلال في العالم الإسلامي كله، فجّرها إسلاميون مجاهدون رأوا في الوجود الاستعماري ذلاً مفروضاً على الأمة، وأيقنوا بقوة أن السكوت على هذا الاستعمار والاحتلال طعن في إيمانهم، ونقص في دينهم، واتهام لشجاعتهم وكرامتهم.

     حركة استقلال إندونيسيا قامت على أكتاف رجال مؤمنين كانوا يخططون للمعارك في المساجد، ويقاتلون باسم الإسلام وتحت رايته.

     والحركة المهدية في السودان نسجها الإسلام، وجمع المجاهدين حولها، وهي حركة كانت لها أهداف واسعة، فلقد كانت تعتزم تحرير العالم الإسلامي كله من الاستعمار، ولم تجعل غايتها سودانية فحسب.

     وفي مصر كانت أفواج المقاومة الشعبية وقودها الدين، فأيامَ الحملة الفرنسية كان الأزهر خليّة الجهاد، وأيامَ الإنكليز كانت الأفواج الشعبية المؤمنة تخرج من الأزهر الشريف ومن جامعة القاهرة التي ظهرت فيها هي الأخرى طلائع مؤمنة في غاية الشجاعة والرجولة، وكانت هذه الأفواج تقوم بنفسها بالجهاد وتحرّض الجماهير عليه.

     وفي غينيا كان الشيخ توري ومَنْ سبقه من العلماء يَصِلون ليلهم بنهارهم ضد الاستعمار.

     وفي الجزائر بدأت حركة الجهاد من الكهوف التي عكف فيها العلماء على تحفيظ الأجيال الجزائرية، القرآن الكريم، من خلال جمعية العلماء التي أسسها عبد الحميد بن باديس، وخلفه محمد البشير الإبراهيمي رحمهما الله. ولقد ظلّت حركات الجهاد الجزائرية من عبد القادر الجزائري إلى آخرها التي انتهت بالاستقلال، وقودها ودافعها الإسلام، ومن الريف الجزائري المسلم تَشَكّل الجيش الذي قدّم مليوناً من الشهداء.

     في الريف المغربي كان الأمير عبد الكريم الخطّابي ورجاله الشجعان يخوضون حرباً دينية جهادية خاصة ضد الإسبان.

     وفي الأفغان كانت قبائل الباتان تقاتل بروح جهادية مؤمنة، وفي الهند كان أحمد عرفان الشهيد وأضرابه من المجاهدين يقومون بالذي يقومون به من قتال ضد الإنكليز، ودوافعهم في ذلك إيمانية جهادية خالصة تشهد بذلك أقوالهم ومواقفهم وسيرهم المدوّنة المعروفة.

     وفي فلسطين شعر الشيخ عز الدين القسام رحمه الله بالحياء لأنه يدرّس لطلابه في المسجد، الجهاد وأحكامه وآدابه، وهو عنه قاعد، فترك مداد العلماء وكتبهم، واختار دماء الشهداء وأسلحتهم، وقاتل بمن معه حتى استشهد رحمه الله.

     وبعد دخول الإنكليز إلى العراق، كان العراقيون يقاتلون المستعمرين بدوافع دينية، وكانت فتاوى العلماء ومواقفهم خير مفجّر لحركة الجهاد، وثورة عام 1920م؛ في العراق خير دليل على ذلك.

     وفي سوريا كان حسن الخرّاط وأمثاله، من عامة الناس يقاتلون بروح دينية جهادية، أما العلماء والمشايخ فإن أمرهم في ذلك أوضح وأبْيَن وأشهر.

     وحين اقتحم الغزاة من يونانيين وغيرهم تركيا بعد الحرب العالمية الأولى كان الشعب التركي، بجنده وعلمائه وعامته يخوض حرباً دينية جهادية في غاية الصراحة والوضوح، كانت الحرب عنده، حرباً بين الهلال والصليب، بين المسلمين والكفار. فالإسلام، هو دين هذه الأمة، وطريقها إلى الهداية والفلاح والفوز في الآخرة.

     وهو كذلك سبيل سعادتها الدنيوية، إنه حصنها وملاذها وملجؤها أيام الصعاب، ووقود الجهاد والتحرير فيها. وقوتها الدافعة الضخمة الجبارة إلى النجاة من الغزاة والمعتدين فحسب، وإلى اقتحام مواقع المجد والعزة، وتسنُّم ذرى الكرامة والغلبة.

*****

سليمان الحلبي طالب العلم المجاهد

سليمان الحلبي طالب العلم المجاهد

     لقد كان حرصُ المسلمين على دينهم، وتمسكهم به، ويقينهم الراسخ بصحة ما فيه، واستعلاؤهم على الآخرين بالحق الذي يملكون، وتحويلُهم الإيمانَ من قناعةٍ عقلية وجدانية إلى ممارسة عملية تطبيقية، السببَ الذي يقف وراء انتصاراتهم الكبرى أيامَ الامتداد والزحف والتقدم، وكان أيضاً السببَ الذي يقفُ وراءَ تماسكِ مجتمعهم أيامَ التوقف والانحسار، وكان كذلك عِلَّةَ جهادهم الضخم الواسع، ومقاومتهم الفذة الشجاعة، أيامَ أنْ اقتحم العدوُّ دارَهم، ووطئ بخيله ورَجِلِه بلادهم، وسلب خيراتها، واستباح حرماتها، وبغى فيها وظلم، وعدا واستأسد.

     تلك حقيقة تكاد تحتل مكانةَ البداهةِ لمن درسَ التاريخ الإسلامي ووعى عبره ودروسه، واستقرأ أخبارَ معاركه، ومتى كان النصرُ ومتى كانت الهزيمةْ، والظروفَ والملابساتِ التي أحاطت بذلك.

     وانظرْ إلى أي مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي يَأْتِكَ نبأُ هذه الحقيقةِ الكبيرة أوضحَ من الشمس وأبين. خُذْ مثالاً على ذلك ما جرى لدى هجوم نابليون بونابرت على مصر، أي في المرحلة التي اقتحم الأعداء فيها ديار الإسلام، وحكموا فيها معظم العالم الإسلامي الذي سقط في أسر الغزاة، ففي مصر كان الإسلامُ وقودَ الجهاد ضد بونابرت، فكان الهتاف العظيم: "وا إسلاماه!.." جذوةَ القتال، وكان الشعار الرباني الكريم: "الله أكبر!.." قبسَ الصراع في الليل المظلم، وشعلة الفداء والإيمان، وحافزَ الناس نحو الاستشهاد.

     بهذا كان المصريون يكافحون ويستبسلون، بالإسلام العظيم، عقيدة الحق والبطولة، والإباء والشموخ، والرفعة والبذل، لذلك لم يكن عجيباً أن ينجحَ المسلمون في قهر نابليون وهو القائد الذي أذلَّ معظم أوربا، نعم قهروه وأذلوه، حتى تظاهرَ المسكينُ بأنه مسلم، وأنه حامي حمى الإسلام، محاولاً بذلك خديعةَ الناس وغِشَّهم، ومضى في مزاعمه فقال: إنه سيعمل على إعادةِ حكم الإسلام، وإقامةِ نظامٍ على مبادئ القرآن، بل إن مينو القائدَ الثالث في الحملة الفرنسية على مصر أعلنَ إسلامه على رؤوس الأشهاد.

     أما القائد الثاني الذي جاء بعد نابليون وقبل مينو، وهو كليبر فقد قُتِل على يد شاب أزهري، جاء من حلب ليدرس الإسلام في الأزهر الشريف، وهو سليمان الحلبي الذي فاز بالشهادة بعد أن حكم عليه الفرنسيون بالإعدام لقتله كليبر.

     كان المصريون إذن يقاتلون نابليون ومَنْ بعده بالإسلام الذي يبثُّ فيهم البطولة والقوة، وكان الصراع واضحاً جلياً في نفوسهم، وهو أنه جهاد في سبيل الله جل جلاله، وبهذا الجهاد الصادق المشرِّف أخفقت الحملة الفرنسية مصر، وهي الحملة الصليبية الأولى في العصر الحديث التي اقتحمت ديار العالم الإسلامي. أخفقت هذه الحملة ببقيةٍ من روح "وا إسلاماه!.." التي كانت تتدفق في صدور أبناء مصر، وجاهدَ المماليكُ إلى جانبِ المصريين ضد أولئك الذين جاؤوا يستترون وراءَ شعاراتِ الحرية والإخاء والمساواة، كما استتروا قبل ذلك وبعده وراء شعارات مضلِّلة كثيرة.

     "وا إسلاماه!.." إذن هي الطريق، هي الطريق الوحيد لاستثارةِ مكنوناتِ الأمة المسلمة، واستجاشةِ قدراتها المبدعة الكبيرة في حركةٍ إيجابية بنّاءة، وهي الطريق لنغلب اليهود العادين الذين يجثمون في قلب ديار الإسلام، ويَأْسِرونَ المسجدَ الأقصى الطهور منذ سنوات شداد عجاف، هي الطريق لتدميرِ معنويات اليهود المتغطرسة، وتحويل الحرب معهم إلى حرب دينية مقدّسة شاملة، وهذا أشدُّ ما يخشاه اليهود.

     إنهم يخشون انتفاضةَ الأمةِ المسلمة ودويَّ "وا إسلاماه!.." في جنباتها لأنهم يعلمون أن ذلك هو نهايتُهم التي لا ريب فيها، لأن الأمة المسلمة بهذه الانتفاضة، وذلك الدوي ستتحرك فيها إيجابياتٌ لا عدَّ لها. سيقف فيها تراثُ حضارةٍ شريفة هي حضارة الإسلام خلالَ أربعةَ عشرَ قرناً، وأكثر من مليار مسلم هم الرصيد البشري لأمة الإسلام، ضد عشرين مليوناً من عبيد المال، وتجّار الأعراض، ومدمّري الحضارات، وصانعي الفتن والحروب والمفاسد، وناكثي العهود، وأعداء الفضائل والأخلاق.

     سيقف تراث الإسلام وحضارته البانية المباركة، ضدَّ تراثِ اليهود وحضارتهم الفاسدة المدمرة. وكما انتصرت حضارةُ الإسلام ضد التتار والصليبيين تحتَ راية "وا إسلاماه"، ستنتصرُ ضد اليهودِ تحت الرايةِ نفسها التي ما رفعتها الأمة المسلمة إلّا عادتْ عليها بأطيبِ الثمار.

*****

من ثمرات الأقلام

من ثمرات الأقلام

     كتب الدكتور عماد الدين خليل، الباحث الجاد المبدع يقول في خاطرة له تحت عنوان "أنت قدر الله":

     جئت اليوم يا أخي لأحدثك حديث الأعماق المؤمنة إلى الأعماق المؤمنة، فالذين تحرقهم نار العقيدة لا يستطيعون السكوت على ظلام الجاهلية وزيفها وخداعها، والذين تغلغلت في دمهم وأعصابهم فكرة الإسلام العظيم لا يستطيعون القعود والانتظار، وقوى الطاغوت تأخذ بزمام البشرية، وتسير بها في طرقات الشيطان فتعذبها وتسحقها وتشقيها.

     واليوم ترتفع صرخات كبار مفكري العالم تنذر بالويل من المصير الأسود الذي ستؤول إليه المسيرة المعاصرة وتطالب بالإنقاذ... إنقاذاً يتطلب من طلائع البشرية أن تسير على طريق جديد، متوحد مستقيم، تظلله القيم الروحية والأخلاقية، ويحكمه التوازن بين المادة والروح، ويوجهه الله الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى.

     لقد تكلم "برناردشو" و"اشبنجلر" و"توينبي" و"كولن ولسون" و"برغسون" و"ياسبرز" و"ماسنیون" و"ديورانت" وغيرهم كثيرون، كلهم أعلنوا عن مأساة الإنسان المعاصر، وعن اليوم الذي ستنهار فيه حضارة المادة التي لا توائم الإنسان ولكنهم كلهم لم يعرفوا الطريق.. لأن الطريق بأيدينا نحن المسلمين، فما دامت البشرية تشقى بنُظُمِها وتجاربها الوضعية، وما دامت شعوب الأرض في كل مكان تعيش أقسى تجربة عرفها التاريخ، فإن البديل لن يكون إلا المبدأ الذي رسمه الله طريقاً حقاً لمسيرة الإنسان نحو الغاية التي خُلِق من أجلها، لن يكون إلا الإسلام "ذلك الدين القيم".

     فهل عرفت ضخامة المسؤولية الملقاة على عاتقنا، أن نحمل عقيدتنا الإسلامية إلى شعوب الأرض، أن نقدم للنداءات الشقية المرتفعة من هنا وهناك، التجربة التي تحدد لهم معالم الطريق، وأن نتسلم زمام حضارة جديدة لا تهددها بالدمار قنابل واشنطن وموسكو، ولا تمزق أعصاب أبنائها مبادئ الوضعيين الذين اتخذوا من الشعوب والأمم حقولاً لتجاربهم.

     فويل للذين يقفون في وجه القوى الإسلامية المكافحة في كل مكان من العالم الإسلامي، إنهم إذ تأسرهم شهوة الحكم، أو تحركهم قوى الاستعمار، أو تدفعهم شهوة الطغيان لصب حقدهم الأسود على رؤوس المجاهدين، إنهم إذ يفعلون ذلك يعتقدون أنهم سيقفون إلى الأبد أمام سنة الله التي لن تجد أية قوة في الارض لها تبديلاً أو تحويلاً... السنة التي تقرر أن الأرض الله يورثها من يشاء من عباده الصالحين الذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً، وما مأساة الحضارة المعاصرة ونُظمها الوضعية سوى في تعالي الطاغوت وإفساده في الأرض في كل مساحات الحياة: عقيدة وتصوراً وسلوكاً.

*****

شكراً أيها القاضي!

شكراً أيها القاضي!..

     يُحكى أنه في عام 1934م قرأ عبد القيوم خان الأفغاني المسلم في كتاب هندوكي بذيء، مطاعن كاذبة توجه إلى صفوة الخلق محمد ﷺ، فامتلكه الغضب لكنه مضى في القراءة، فإذا بالكتاب يزدحم بأكاذيب وافتراءات مشينة كثيرة.

     وانعقدت محاكمة مَثُلَ أمامها الكاتب الهندوكي المفتري، فحرص عبد القيوم خان على أن يشهدها ليرى بنفسه أي حكم سيَصْدُر على المتهم الكذوب.

     وفي المحكمة استمع إلى المناقشة بين القاضي والمتهم، وكم كانت دهشته بالغة عندما علم أن الحكم يقضي بسجن المتهم أياماً أو شهوراً فقط، فغلى الدم في عروقه، وقرر أن يعاقبه بنفسه، وأن يكون هو القاضي الذي يُصدِر الحكم، والشرطي الذي ينفّذه، فما كان منه إلا أن استلَّ خنجره الرهيف، وصرخ صرخة مدوّية، وقفز إلى الجاني فقتله وسط الذهول الذي سيطر على القضاة والحضور وهو يهتف: خذها طعنة قاتلة جزاء افترائك على الرسول سيدي محمد ﷺ، لقد ثأرتُ لك، وما أعذب الموت في سبيلك!.

     وسيق الفدائي إلى السجن، وجرت محاكمته، ولم تكن ثمة حاجة إلى شهود وبيّنات فهو مُقِرٌّ بفعلته، بل مفتخر بها. وقال القاضي في نص الحكم: إن المتهم عبد القيوم خان لم يقتل المؤلف الهندوكي لعداوة سالفة أو إحنة سابقة، وإنما قتله دفاعاً عن رسوله، وانتصاراً لنبيّه، ولكن القانون لا يبيح هذا القتل المتعمّد المقصود، وعليه فقد تقرر إعدامه، وليرحمه الله.

     وهنا وقف عبد القيوم وقد ارتسم الفرح والبِشرُ على وجهه، وارتفعت هامته اعتزازاً، وهتف بصوت جهوري: "شكراً أيها القاضي! إن سيدنا محمداً ﷺ هو رسولنا وهادينا إلى الصراط المستقيم، ولو قُدِّرَ لي أن أحيا ألف مرة، وأن أموت ألف مرة في سبيله لَما وفّيتُه بعض حقه على الإنسانية، ولكنها ميتة واحدة مع الأسف، وإني لفخور بهذا الحُكم. شكراً أيها القاضي لأنك مهّدتَ لي طريق الاستشهاد من أجل محمد ﷺ. اللهم تقبّل شهادتي في سبيل شرف رسولك، وأَلْحِقني بأصحابه، الله أكبر".

*****

خطبة جمعة على ظهر سفينة

خطبة جمعة على ظهر سفينة

     أثر القرآن الكريم في النفوس حقيقة مقررة، وفِعله في القلوب غريب وعجيب، ولكن الأغرب والأعجب أن يثير القرآن الكريم مشاعر امرأة غير مسلمة، لا تعرف اللغة العربية من قريب أو بعيد، ويجعل عينيها تفيضان بالدمع.. ومع ذلك نحتاط فنقول: لا عجب ولا غرابة!.. فالقرآن كلام الله، وهو موجّه للناس جميعهم.

     يحكي الشهيد العالم الأديب سيد قطب رحمه الله، قصة جميلة في هذا المجال، عاشها على ظهر سفينة تتجه به إلى أمريكا يوم سافر إليها، وقد ذكرها في تفسيره في ظلال القرآن، وذلك في آخر تفسير قوله تعالى‏: ﴿أمْ يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ (يونس:38)، فيقول:

     "أذكر حادثاً وقع لي وكان عليه معي شهود ستة، وذلك منذ نحو خمسة عشر عاماً... كنّا ستة مسلمين على‏ ظهر سفينة مصرية تمخر عباب المحيط الأطلسي إلى‏ نيويورك، من بين (120) راكباً وراكبة أجانب، ليس فيهم مسلم.. وخطر لنا يوم الجمعة أن‏ نقيم صلاة الجماعة في المحيط على‏ ظهر السفينة! واللَّه يعلم -أنّه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة لذاتها أكثر ممّا كان بنا حماسة دينية إزاء مبشِّر كان يقوم بمزاولة عمله على‏ ظهر السفينة، وحاول أن يزاول تبشيره معنا!... وقد يسَّر لنا قائد السفينة -وكان إنجليزياً- أن نقيم صلاتنا، وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمتها -وكلهم نوبيون مسلمون- أن يصلي معنا من لا يكون في (الخدمة) وقت الصلاة!. وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً، إذ كانت المرة الأولى‏ التي تقام فيها صلاة الجماعة على‏ ظهر السفينة... وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة، والركاب الأجانب معظمهم متحلقون يرقبون صلاتنا، وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على‏ نجاح (القدّاس)! فقد كان هذا أقصى‏ ما يفهمونه من صلاتنا! ولكن سيدة من هذا الحشد -عرفنا فيما بعد أنّها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم تيتو وشيوعيته!- كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع، ولا تتمالك مشاعرها.. جاءت تشد على‏ أيدينا بحرارة، وتقول -في إنجليزية ضعيفة-: إنّها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح!.. وليس هذا موضع الشاهد في القصة... ولكن ذلك كان في قولها: أي لغة هذه التي يتحدث بها (قسيسكم)!؟ فالمسكينة لا تتصور أن يقيم (الصلاة) إلّا قسيس -أو رجل دين- كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة! وقد صححنا لها هذا الفهم! وأجبناها، فقالت: إنّ اللغة التي كان يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب!.. وإن كنت لم أفهم منها حرفاً... ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول: ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه.. إنّ الموضوع الذي لفت حسي، هو أن (الإمام) كانت ترد في أثناء كلامه -بهذه اللغة الموسيقية- فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعاً.. هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث فيَّ رعشة وقشعريرة! إنّها شيء آخر! كما لو كان الإمام مملوءاً من روح القدس! حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها!. وتفكرنا قليلًا، ثم أدركنا أنّها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة! وكانت -مع ذلك- مفاجأة لنا تدعو إلى‏ الدهشة، من سيدة لا تفهم مما نقول شيئاً!".

*****

أدب الانحلال.. أدب العبيد

أدب الانحلال.. أدب العبيد

     كتب سيد قطب يقول:

     أدب الانحلال هو في الغالب أدب العبيد، عبيد الطغيان أو عبيد الشهوات، وحين تُسْتَذَلُّ النفس البشرية لطاغية من طغاة الأرض أو لشهوة من شهوات الجسد فإنها تعجز عن التحليق في جو الحرية الطليق، وتلصق بتراب الأرض، وترتكس في وحل المستنقع، مستنقع الشهوة أو مستنقع العبودية سواء.

     فأدب الانحلال على هذا هو أدب العبودية، وهو لا يَرُوج إلا حين تفرغ الشعوب من الرغبة أو من القدرة على الكفاح في سبيل مثل أعلى، مثل أرفع من شهوة الجسد، وأعلى من تملق الطغيان لتحقيق مطمع صغير أو مطمع حقير، أي عندما تصبح الدنيا "سيجارة وكاس!.."، أو تصبح الحظوة عند الطغاة أمنية المتمنين في دنيا الناس.

     عندئذٍ يظهر في الأمة كُتّاب، ويظهر في الأمة شعراء، ويظهر في الأمة فنانون يلبّون هذا الفراغ من المثل العليا، ويمثلون هذا الارتكاس في حمأة الشهوة أو حمأة العبودية، وعندئذ يستمع الناس إلى هؤلاء الكُتّاب والشعراء والفنانين لأنهم يصوّرون مشاعرهم ويصوّرون أحلامهم، ويُزيّنون لهم الراحة من الكفاح والاطمئنان إلى الدَّعَة، والإخلاد إلى حياة الفراغ والترهل والانحلال.

     إن هؤلاء الكُتّاب والشعراء والفنانين يقومون حينئذٍ بمهمة تخدير الشعوب وتنويمها، سواءً سبّحوا بحمد الطغاة أو سبّحوا بحمد الشهوات، فأمّا حين يسبّحون بحمد الطغاة فهم يزيّفون الواقع على الشعوب، ويستنفدون طاقتها في الرجس والدنس، ويدغدغون غرائزها فتظل مشغولة بهذه الدغدغة، لا تفكر في شأن عام، ولا تحسّ بظلم واقع، ولا تنتفض في وجه طاغية لتناديه: "مكانك فنحن هنا!.."، فالشعب المستغرق في ذلك الخدر اللذيذ ليس هنا وليس كذلك هناك.

     والتاريخ يشهد أن الطغيان يملي دائماً لهذا الصنف من الكُتّاب والشعراء والفنانين، ويهيّئ لهم الوسائل، ويتيح لهم الجو الذي يسمح لهم بالعمل: جو الفراغ والترف والانحلال.

*****

أفحكم الجاهلية يبغون!؟

أفحكم الجاهلية يبغون!؟

     قال الأستاذ الشهيد سيد قطب -رحمه الله- في تفسيره المشهور "في ظلال القرآن"، وهو يفسّر قول الله عز وجل: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].

     الجاهلية ليست فترة تاريخية، إنما هي حالة توجد كلما وُجِدت مقوماتها في وضع أو نظام، وهي في صميمها الرجوع بالحكم والتشريع إلى أهواء البشر لا إلى منهج الله وشريعته للحياة، ويستوي أن تكون هذه الأهواء أهواء فرد، أو أهواء جماعة، أو أهواء طبقة، أو أهواء أمة، أو أهواء جيل كامل من الناس، فكلها ما دامت لا ترجع إلى شريعة الله أهواء.

     يشرّع فرد لجماعة فإذا هي جاهلية لأن هواه هو القانون أو رأيه هو القانون، لا فرق في العبارات. وتشرّع طبقة لسائر الطبقات فإذا هي جاهلية لأن مصالح تلك الطبقة هي القانون. ويشرّع ممثلو جميع الطبقات وجميع القطاعات في الأمة لأنفسهم فإذا هي جاهلية لأن أهواء الناس الذين لا يتجردون أبداً من الأهواء، ولأن جهل الناس الذين لا يتجردون أبداً من الجهل هو القانون. وتشرّع مجموعة من الأمم للبشرية فإذا هي جاهلية لأن أهدافها هي القانون أو رأي المجامع الدولية هو القانون.

     ويشرّع خالق الأفراد وخالق الجماعات وخالق الأمم والأجيال للجميع فإذا هي شريعة الله التي لا محاباة فيها لأحد على حساب أحد، لا لفرد ولا لجماعة ولا لدولة ولا لجِيل، لأن الله ربُّ الجميع، ويعلم حقيقة الجميع ومصلحة الجميع، فلا يفوته سبحان أن يرعى مصالحهم وحاجاتهم بدون إفراط ولا تفريط. ومن هنا خطورة هذه القضية في حياة بني الإنسان وفي نظام الكون كله، وصدق الله العظيم: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون:71]، فالحكم بغير ما أنزل الله معناه الشر والفساد والخروج في النهاية عن نطاق الإيمان بنص القرآن.

*****

الأربعاء، 6 يوليو 2022

الطريق إلى الغاية النبيلة

الطريق إلى الغاية النبيلة

     قال الكاتب الكبير سيد قطب رحمه الله:

     من الصعب عليّ أن أتصور كيف يمكن أن نصل إلى غاية نبيلة باستخدام وسيلة خسيسة!. إنّ الغاية النبيلة لا تحيا إلّا في قلبٍ نبيل، فكيف يمكن لذلك القلب أن يطيق استخدام وسيلة خسيسة، بل كيف يهتدي إلى هذه الوسيلة!؟

     إننا حين نخوض إلى الشط الممرع بركة من الوحل، لا بد أن نصل إلى الشط ملوّثين. إن أوحال الطريق ستترك آثارها على أقدامنا وعلى مواضع هذه الأقدام، كذلك الحال حين نستخدم وسيلة خسيسة. إن الدنس سيَعْلَقُ بأرواحنا، وسيترك آثاره في هذه الأرواح وفي الغاية التي وصلنا إليها.

     إن الوسيلة في حساب الروح جزء من الغاية، ففي عالم الروح لا توجد هذه الفوارق والتقسيمات. الشعور الإنسانيّ وحده إذا أحسّ غاية نبيلة لن يطيق استخدام وسيلة خسيسة، بل لن يهتدي إلى استعمالها بطبيعته.

     الغاية تبرر الوسيلة، تلك هي حكمة الغرب الكبرى لأن الغرب يحيا بذهنه، وفي الذهن يمكن أن توجد التقسيمات والفوارق بين الوسائل والغايات.

*****

الإصلاح والتربية

الإصلاح والتربية

     على الرغم من فكرة الإصلاح تستهوي كثيراً من الناس، وتُعجب بها طوائف كثيرة من البشر، وتنجذب إليها عن رغبة صادقة في الخير، ورجاء حقيقي نبيل في تحقيق الإصلاح بالفعل، وعلى الرغم من ذيوع هذه الفكرة وتداولها بين الناس واستمرار الحديث عنها في صور شتى وأشكال متباينة، فإن هذه الفكرة لم تحظَ عند الكثيرين بالفهم العميق الجاد، والدراسة المتأنية البصيرة، فضلاً عن أن تستحيل لديهم من فكرة نظرية إلى خطة عملية قابلة للتطبيق في واقع الحياة العملي.

     إن إصلاح الأمم والأفراد أمر عسير حقاً لا يجيء جزافاً ولا يتحقق عفواً، ولا يتم بجهد يسير ولا يمنح قياده لكل مُطالِب به حتى لو كان هذا المُطالِب به حسن النية صادق الرغبة فيما يفعل ويقول ويدعو إليه، ذلك أنه لا بد للإصلاح كي يتم من مُصْلِحٍ مخلص بصير، ومن عمل دائب صبور، ومن جهد متكامل متوازن، بحيث يحقق المصلح من خلال ذلك تربية عميقة أصيلة تبعد السلبيات، وتزيد الإيجابيات، وتدفع بحركة الإصلاح إلى الأمام.

     والأمة -فضلاً عن الفرد- لا تنهض من كبوة، ولا تقوى من ضعف، ولا ترتقي من هبوط، ولا تنجو من عيوب، إلّا بعد تربية أصيلة متكاملة، عميقة حقة، جادة ذكية. وقد تبدو التربية أمراً سهلاً لكنَّ هذا في الواقع خطأ كبير، فالتربية الهادفة التي نطلبها هي أشقُّ عمل في هذه الحياة على الإطلاق، وشتان بين تربية النفوس وإنمائها وصقلها، وتهذيبها والسموّ بها، وتفجير طاقاتها وإمكاناتها، وإنقاذها من عيوبها، وزرع الفضائل والمكرُمات فيها، وبين أي عمل آخر مثل إنشاء المباني وإقامة الجسور وشق الطرقات وتشييد المباني، بناء السدود، فذلك كله وإن كان لازماً ونافعاً ومطلوباً أقل بكثير من تربية الناس، أفراداً وأمماً، أقل من حيث الثمرة المطلوبة، وأقل من حيث الجهد المبذول.

     وإذن فإصلاح الأمم لا يتم إلا بتربية صادقة متكاملة، متناسقة متوازنة، تُحدِثُ فيها التغيير النفسي العميق، وتغوص بعيداً في الأعماق، وتحوّل الهمود إلى حركة، والغفوة إلى صحوة، والركود إلى يقظة، والفتور إلى عزيمة، والقعود إلى طاقة فعّالة بنّاءة، وتُوَزَّعَ الاهتمامات وتشتتها وتفرقها، إلى وجهة محددة بدقة، عرفت وسائلها بدقة وحددت طرقها التي تقود إليها. تربية تحوّل الوجهة والأخلاق والميول والعادات، وتهذب الغرائز والرغبات، وتُحدِث تبديلاً عميقاً جداً في حياة الأمة يجعل إمكاناتها تتدافع في طريق الخير والحق على كافة المستويات، وبدون ذلك يكون الإصلاح كذباً ولهواً، والنهضة حبراً على ورق، وشعارات التطوير والتنمية والرقي وما إلى ذلك كلاماً أجوف يتبدد في الهواء.

     ولقد قرر القرآن الكريم سنة قائمة ثابتة من سنن الله عز وجل في هذه الحياة ... وذلك في الآية الكريمة المعجزة، الوجيزة جداً، الغنية جداً: ﴿إِنَّ اللّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، فبدء التغيير إذن يكون من داخل النفس الإنسانية قبل أي شيء آخر، ولكن هذا التغيير ليس بالأمر السهل الهيّن، إنه عبء ثقيل شاق وإنْ كان عبئاً نبيلاً، تنوء به الكواهل، وتعيا دونه الهمم، ما لم تستند إلى القوة التي لا تنفد، والمعين الذي لا ينضب، إلى الإيمان، ذلك أن الإنسان مخلوق مركّب معقّد جداً، ومن أصعب الصعب تغيير نفسه وسلوكه وقلبه، لكنه إن تم تغييره وفقاً لتعاليم الإيمان الخيّرة، جاء الإصلاح الحقيقي الجاد، والتربية المنشودة المأمولة، وتدفق منه العطاء النافع المبارك، وصحّت مسيرته، واستقامت طريقته، وعاد بالنفع على نفسه، وعلى مَنْ حوله، وعلى جماعته وبلده.

     ولا شك أن التحكم في مياه نهر كبير، أو تحويل مجراه، أو حفر الأرض، أو نسف الصخور، أو شق الطريق، أو بناء المعامل والسدود، أو أي تغيير في معالم الكون المادي أسهل بكثير من تغيير النفوس وصياغة القلوب والعقول، فبناء تلك الأشياء المادية أمر سهل حين تتوفر أدواته ووسائله، أما بناء الإنسان فهو أمر شاق حقاً.

     إن من العسير الصعب الشاق حقاً أن تبني الإنسان، الإنسان القادر على نفسه، المسيطر على رغباته ونوازعه، الموجّه لطاقاته في سبيل الخير، النائي بمحض اختياره عن الشرور، الملتزم بإرادته الحرة بالفضائل والمكرمات، المتحكم في شهواته، المحدد لغايته ووسيلته معاً، الذي يؤدي واجبَه قبل أن يطلبَ حقه، الذي يعرف الحق ويتبناه ويدافع عنه، ويعرف الخير ويحبه لنفسه، ويحبه للناس كذلك، الذي يتحمل مسؤولية في إصلاح الفاسد وتقويم المعوج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

     إن صياغة مثل هذا الإنسان أمر شاق جداً، صعب حقاً، ثقيل وعسير، لكنه بالرغم من كل ذلك أمر مطلوب وممكن:

     مطلوب لأن الفائدة المرجوة منه بعد تمامه عظيمة جداً، تعوّض كل الجهد المبذول، وتقدم محصولاً عظيم النفع للفرد وللجماعة، بل وللإنسانية كلها.

     وممكن لأنّ مفتاحه موجود، وهو الإيمان، الإيمان الذكي البصير الجاد، المترفع عن السفاسف، المتوجه إلى الله عز وجل فيما يفعل، إنه هو المفتاح القادر على ذلك، ولقد حققه بالفعل في صورة جماعة بشرية متكاملة مثالية هي صورة المجتمع الإسلامي الأول، وفي صور فردية متألقة، تظل تظهر بين الحين والآخر، لتكون شواهد صدق على مقدرة الإيمان على تربية الرجال، وإعدادهم إعداداً مشرفاً في غاية التألق والسمو، والنفع والإيجابية.

*****

العقاد وسرُّ بقاء العربية

العقاد وسرُّ بقاء العربية

     قال الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد رحمه الله وهو يتحدث عن سر بقاء اللغة العربية بينما بادت لغات كثيرة ساد ذووها حيناً من الدهر:

     لقد قيل كثيراً: إن اللغة العربية بقيت لأنها لغة القرآن الكريم، وهو قول صحيح لا ريب فيه، ولكن القرآن الكريم إنما أبقى اللغة، لأن الإسلام دين الإنسانية قاطبة، وليس بالدين المقصور على شعب أو قبيل، وقد ماتت العبرية وهي لغة دينية، أو لغة كتاب يدين به قومه، ويحسبون أنهم وحدهم المخصوصون بالخطاب من عند الله، ولم تمت العبرية إلا لأنها فقدت المرونة التي تجعلها لغة إنسانية، وتخرجها من حظيرة العصبية الضيقة، حيث وضعها أبناؤها منذ قرون.

     إن هذه الفضيلة الإنسانية التي لا تفرق بين العربي والأعجمي، ولا بين القرشي والحبشي، لهي التي أنهضت لخدمة اللغة أناساً من الأعاجم غاروا عليها من حَيْف الأعجمية، أي غاروا عليها من لغة أمهاتهم وآبائهم، لأنها "أي العربية" لغتهم على المساواة بينهم وبين جميع المؤمنين بالقرآن الكريم، كتاب الإسلام، ولو كان هذا الكتاب عصبياً لا يشرك في تراث الدين أحداً غير أبناء لغة من اللغات، لما جاءت الغيرة عليه من الأعاجم كما جاءت من أبناء قحطان وعدنان.

     ونحن معاشر المتكلمين بالعربية في عصرنا، نسير على نهج الأقدمين في خدمتها كلما حرصنا على قواعدها، وحرصنا إلى جانب القواعد على مرونتها، وعلى مزيتها الكبرى من قبول التجديد والموافقة لمطالب بني الإنسان في جميع العهود.

     وستبقى اللغة العربية ما دام لها أنصار يريدون لها البقاء، ولم ينقطع أنصارها في عصرنا الحاضر، بل نراهم بحمد الله يزدادون ويتعاونون، ويتلاقى أبناء البلاد المختلفة على خدمتها ودعمها، لأنهم مختلفون بمواقع البلاد، متفقون بمقاصد الضمائر والألسنة.

*****

خالد محمد خالد بين موقفين

خالد محمد خالد بين موقفين

     في شهر رمضان من عام 1397هـ (1977م) كتب الأستاذ خالد محمد خالد مقالاً في جريدة الأخبار في القاهرة أعلن فيه أن الإسلام دينٌ ودولة، وقبل ذلك التاريخ بأكثر من ربع قرن، كان قد أعلن في كتابه "من هنا نبدأ" قوله: "إن الدين لا يعنيه أن يكون دولة، ولا يعنيه أن يتدخل في بناء الدولة".

     ولا ريب في أنّ عدول الأستاذ المؤلف عن رأيه الأول المخطئ، عمل مشكور وشجاعة أدبية وخُلُق كريم من أخلاق العلماء.

     وحين سُئل عن ذلك أجاب: هذا رجوع عن رأيي وتصحيح له، والكاتب الأمين هو الذي لا يفتأ يراجع نفسه ويتقصّى أفكاره فإذا اكتشف فيها خطأ صحّحه وهتف به.

     وقال عن كتابه "من هنا نبدأ" الذي حمل رأيه الأول المخطئ:

     الكتاب سيظل كما هو كتاباً مقروءاً ذلك لأنه لم يقتصر على قضية الحكم في الإسلام فحسب، بل هو ينتظم قضايا أخرى لا تزال لها أهميتها ولم يتغير رأيي فيها، وسيبقى الكتاب كما هو شاهداً على مسار التفكير وتطوره عند المؤلف وعند عصره، بيد أني في الطبعات التالية من الكتاب سأصدرها برأيي الجديد مع تفنيد الرأي القديم وطرحه من الحساب.

     وحين سُئل عن تصوّره للإسلام ديناً ودولة كيف هو هذا التصوّر أجاب:

     الإسلام دينٌ متكامل وشريعة عميمة شاملة، جاء ليعطي الإنسان منهجه، روحاً ومادة، فرداً ومجتمعاً ودولة. إنّ النصّ القرآني ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: 26]، يشير إلى ما يمكن أن نسمّيه الوظيفة السياسية للأنبياء والمرسلين، إنه أمر بتحمل أعباء الخلافة والحكم.

     ونحن حين نقول الإسلام "دين ودولة" لا نهضم الدولة بل نرفع من قدرها إذ نضعها في كنف الله العلي القدير وفي صحبة قوانينه وكلماته. وحين نتقبل من الأنبياء رعايتهم السياسية إنما نأوي إلى ركن شديد ونصوغ حياتنا في أحسن تقويم.

     إن الفقه الإسلامي لم ينل من الأمة المسلمة حتى الآن ما يستحقه من ولاء وهو كفيل بإغنائها عن كافة القوانين الدخيلة في غير تخلف أو جمود.

*****

العرب والمُلْك

العرب والمُلْك

     "إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية، بسبب خُلُق التوحش الذي فيهم، فهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة، وبعد الهمة، والمنافسة على الرئاسة فقلّما تجتمع أهواؤهم، فإذا وُجِد الدين كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة فيهم، فيسهل انقيادهم ويتم اجتماعهم، ويحصل لهم التغلب والملك، وهم مع ذلك أسرع الأمم قبولاً للحق والهدى، لسلامة طباعهم من ذميم الأخلاق". (مقدمة ابن خلدون).

     "وكم استنجد أهل غرناطة!.. كم استصرخوا إخوانهم العرب والمسلمين في كل مكان!.. وكان الحل والإنقاذ في أيديهم لو أنهم اتفقوا فيما بينهم، لو نسي كل واحد منهم نفسه، لو ذكر كل واحد منهم أن الأمر يتعلق بمصير شعب وحضارة وعقيدة، إذاً لنجا الأندلس. ولكن كل شيء كان ممكناً إلا الاتفاق، كل شيء كان في نظرهم مقبولاً إلا أن يسلم أحدهم للآخر، كلهم أرادوا أن يكونوا ملوكاً، وفي أثناء الصراع ضاعت المملكة فأصبحوا متسوّلين مشرّدين". (د.حسين مؤنس: في كتابه "في رحلة الأندلس).

*****

شعراء ومشاعر

شعراء ومشاعر

     تزدحمُ المشاعر الكريمة، وتتدفق المعاني النبيلة في فؤاد الشاعر العربي القديم "معن بن أوس"، هو كالمقنع الكِندي أصالةً وشموخاً وارتفاعَ نفس في أبياته التي يقدمها بين يدي ابن عمه دلالةً على الوفاء والإخلاص.

     هو المعنى الرائع الذي يتجاوز حدود "الأنا" الضيقة ليتصل برحاب المودة والعطاء وتَدَفُّقِ الوجدانِ بالخير، وازدحامِه بالنُبل، وارتفاعه على الصغائر.

     إنه يصفح عن الإساءة عسى أن يكون هذا الصفح سبيلاً إلى تطهير نفسه:

لعَــــمْرُكَ مـا أدري وإني لأوجــلُ     على أيِّنـــا تعـــدو المنيّــــــــةُ أوَّلُ
وإني أخـــوك الدائمُ العهـدِ لم أخنْ     إذا ســـاءَ خصمٌ أو نَبــــا بكَ منزلُ
أحاربُ مَنْ حاربتَ من ذي عداوة     وأحبـــسُ مالي إنْ غُرِمْتَ فأعقــلُ

     إنّ الشاعر يؤمل أن تصنعَ هذه الحسنى صنيعَها في قلب قريبة فتجعلَه يدركُ أنَّ شاعرَنا كنزٌ له، قوةٌ ومضاء، عدةٌ يقابل بها الحادثات، إنه يدُه اليمنى، وإنه سيقطعها ويخسرها إن تخلى عنه وأهمله:

وإن سُؤْتني يوماً صفحتُ إلى غدٍ     ليعقـــبَ يوماً منـــكَ آخرُ مُقبِــــلُ
كأنـــكَ تشفي منـكَ داءَ إســـاءتي     وسخطي وما في رِيبَتي ما تعجّلُ
وإني على أشيــــاءَ منك تَرِيبــني     قديماً لَذو صَفْحٍ على ذاك مجــملُ
سَتُقْطَعُ في الدنيا إذا ما قطعـــتني     يمينُـــكَ، فانظرْ أيَّ كفٍّ تبــــــدّلُ

     وهذا الاتجاه الكريم نجده عند شاعرٍ آخر يتجاوز مواضعَ الهوان والإسفاف، ويرنو ببصره إلى أفقٍ سامق كريم، تشده الأخلاق العالية، وتأسِرُ قلبَه فضائل الصفات فإذا به يرى أن العفو والتسامح زينةُ الفتى، وأنّ أحسنَ خلائقِه أن يبتعد بسمعه عن الفواحش حتى كأنّ في أذنيه صَمماً عن كلِّ قولٍ مشين.

     وهذا الفتى النبيل الذي يشدُّ ناظرَيْ شاعرنا "سالم بن وابصة الأسدي" سليمُ دواعي الصدر، لا يبسطُ أذى، لا يمنعُ خيراً، لا يقولُ سوءاً ولا هُجْراً. وهو إلى جانب ذلك عاقلٌ ماجد، كريمٌ حر، يلتمسُ الأعذارَ لزلةِ صديقه إذا أخطأ، غنيُّ النفس لا يذهبُ بلبِّه بريقُ الدنيا، ولا تهزُّ أعصابَه أكداسُ المال والذهب لأنه إذ ذاك سيتحولُ إلى فقيرٍ لا يشبع مهما ازداد مالُه كأن المتنبي بعينه يقول:

ومَنْ ينفق الساعاتِ في جمع ماله     مخـــافةَ فقرٍ فالـــذي فعَلَ الفقــــرُ

     يقول سالم بن وابصة الأسدي عن الفتى الذي يراه نموذجاً للفضائل التي يحبُّها ويتعشقُها:

أحبُّ الفتى ينفي الفواحشَ سمعُـــه     كـــأنَّ به عن كل فاحشـــةٍ وَقْـــرا
سليمُ دواعي الصدر لا باسطاً أذى     ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هُجْـــــرا
إذا شئتَ أن تُدْعى كريماً مكـــرَّماً     أديباً ظريفاً عاقلاً ماجداً حُــــــــرّا
إذا ما أتتْ من صـــــاحبٍ لكَ زلّةٌ     فكنْ أنتَ محتالاً لزلّتــــه عُـــــذرا
غِنَى النفسِ ما يَكْفيكَ من سَدِّ خَــلَّةٍ     فإن زادَ شيئاً عادَ ذاك الغنى فَقــرا

     ومن أروعِ نماذج هذا الاتجاه في الشعر العربي أبياتُ الشاعرِ الحماسي "الحارث بن وَعْلة الجرمي" إذْ قتلَ قومُه أخاه "أُمَيْماً"، فهو يتحملُ المرارةَ في أسى واصطبار، وشجاعةٍ ورجولة، فيلوذُ بخُلُقِ العفو والتسامح، ويعتصمُ بمعانيهما فتحميهُ فضائلها من لذةِ الانتقام، وشهوةِ البطش والثأر.

     إنّ سهمَه سيرتدُّ إليه إذا أطلقه نحوَ قومه، فهُمْ منه، وهو منهم، وستكونُ البليةُ أشدَّ وأنكى حينذاك:

قــومي هم قتلوا أُمَيْــــمَ أخي     فـإذا رميتُ يُصيبني ســهمي
فلئــنْ عفـــوتُ لأَعْفُوَنْ جَلَلَاً     ولئنْ سطوتُ لأوهِنَنْ عظمي
لا تـــأمننْ قوماً حقـــــــرتهمُ     وبدأتـــهمْ بالشتــــمِ والرَغْــمِ
أن يأبـــــروا نَخْلاً لغيـــرهمُ     والأمرُ تحقـــــرهُ وقـد يَنْـمي
وزعمتـمُ أن لا حلـــــومَ لنــا     إن العصا قُرِعَتْ لـذي الحِلْمِ

     لقد ارتقى الشاعر في أبياته هذه درجاتٍ رائعة في فضائل الرجال والكمال، وبلغ غايةً مشرفة منيفة في درجات قهر النفس والسيطرة على نوازعها.

     وفي موقف مشابه نلتقي بالشاعر العربي الذي قَتل أخوه ابناً له فأدركته الحيرة ولم يدرِ ما الذي يفعل، ثم وجدَ الخلاص في أن يراهما مثلَ يَدَيْنِ إحداهما أصابته بالأذى؛ فماذا يفعل بها؟ يقول:

أقولُ للنفس تَأْســــاءً وتعـــزيةً     إحدى يدي أصابتني ولم تُـــرِدِ
كلاهما خَلَفٌ عن فقدِ صــاحبِه     هذا أخي حينَ أدعوه وذا ولدي

     أمّا بشار بن بُرْد فإنه يصل إلى مستوى أبعدَ من ذلك، إذْ يجعلُ من معاني العفو والتسامح منطلقاً وقاعدةً يُبْنى عليها سلوكٌ حيوي، ويحاول أن يجعلَ من هذه القاعدة قانوناً يحكمُ بين الناس، وتقومُ عليه صِلاتُ الود والمرحمة والمحبة. فعلى المرء أن يغفرَ لصديقه زلّته، وألّا يبالغَ في تعقبِ أخطائه، ويلتمسَ له العذر، وإلّا فإنه سيجدُ نفسه وحيداً في خاتمة المطاف:

إذا كـنــتَ في كل الأمور معــــاتـباً     صديقَـــك لمْ تــلقَ الذي لا تعــــاتبهْ
فعِـــشْ واحداً أو صِلْ أخـــاك فإنـه     مقــــارفُ ذنـــــبٍ مرةً ومجــــانبهْ
ومن ذا الذي تُرْضى سجـــاياه كلها     كفى المرءَ نبـــــلاً أن تُعَدَّ معـــايبهْ
إذا أنتَ لم تشربْ مِراراً على القذى     ظمئتَ وأيُّ النـــاسِ تصفو مشاربهْ

     في شعرِنا العربي روائعُ خالدةٌ من الشعرِ الأصيل، وإنما يَغْفُلُ عنها جاهلٌ أو متجاهل.

     وجديرٌ بنا أن نلتقيَ بها ونتعرفَ إليها، وننظرَ بازدراء إلى أولئك الذين يحتقرون تراثَ أمتهم، ويقلدون الآخرين تقليدَ القردة لأنهم قبلَ كلِّ شيء مهزومون، مهزومون نفسياً وفكرياً وحضارياً. وإن التخلصَ من هؤلاء المهزومين خطوةٌ مهمةٌ جداً لا بد أن نقطعها ونحن نبحث عن الأصالة ونحثُّ الخطى نحو النهضة الصحيحة، ونرقبُ بشوقٍ عظيم وأعصابٍ مشدودة طلوعَ الفجرِ الصادق.

*****

وا إسلاماه!

وا إسلاماه!

     بلغت موجة التتار منتهى عنفها وزخمها وضراوتها عام 656هـ= 1258م؛ حين وصلت بغداد فاجتاحتها، وقتلت خليفة المسلمين فيها، وفتكت بالمدينة فتكاً ذريعاً جداً، فكانت نكبة بغداد عاصمة الخلافة من أفدح نكبات التاريخ وأشنعها.

     وبعد السقوط المريع لبغداد صار واضحاً جداً أن مركز الثقل الجديد لمقاومة التتار انتقل إلى القاهرة التي كان يتولى السلطة فيها أمير مملوكي شجاع هو السلطان المجاهد قطز؛ الملقب بالملك المظفّر، الذي يُعَدُّ بلا جدال مَعْلماً بارزاً من معالم الجهاد في تاريخ المسلمين.

     وامتدّت أنظار التتار إلى مصر، وكتبوا إلى قطز محذّرين منذرين، فأشار علماء المسلمين عليه ألّا يضيع الوقت، وأن يأخذ بأسباب الجد والاجتهاد والجهاد، وطالبوا بإعلان الجهاد، والأخذ بزمام المبادرة لأنه "ما غُزِيَ قومٌ في عقر دارهم إلا ذلّوا"[1]، ولأن اتباع مبدأ "ذات الشوكة"، وملاقاة العدو هو الحل المشرّف لسلطان القاهرة وساكن القلعة.

     وانتشر العلماء في البلاد يزيلون أركان الوهن والفساد، ويطهّرونها من الضعف والترف، ويجتثّون منها كل ما يُغضب الله عز وجل، ويحرّكون وجدان الأمة وضميرها بعقيدة التوحيد وراية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويحثّونها على الجهاد، ويشجّعونها على البذل والفداء.

     وحين اكتملت العدة عبرت جيوش الإسلام بقيادة قطز وحوله العلماء وقادة المماليك سيناء تسبقهم فرق خاصة من الفدائيين كانت تُعرف باسم "الجهادية". ودخلت هذه الجيوش بلاد الشام الجنوبية باسم الله وعلى بركته، وعلى نيّة الجهاد في سبيله، وعَفَّرَ قطز وأمراء المماليك وجوههم بالتراب سائلين الله عز وجل أن يكتب النصر للإسلام والمسلمين.

     وكانت "وا إسلاماه" صرخة الحرب وشعارها وهتافها المدوّي، كانت تهزّ القلب، وتفجّر الشجاعة، وتستنهض العزيمة، وتستثير كوامن البطولة وحبّ الموت. كانت "وا إسلاماه" كلمة وعى حقيقتها ومغزاها البربريُّ والسوداني، والتركي والعربي، والكردي والفارسي، وغيرهم من مختلف الألسن التي ضمّها جيش الإسلام الماجد يومذاك.

     وفي الثالث من أيلول/ سبتمبر (1260م= 658هـ) دارت رحى معركة عين جالوت قاسية عنيفة رهيبة، وانتصر الإسلام نصراً حاسماً خالداً. ودُفِنَ في ساحة المعركة ذلك القول الانهزامي الاستسلامي الذي سار من أقاصي آسيا إلى بلاد الشام وهو "إذا جاءك أن التتار انهزموا فلا تصدّق".

---------------
[1] قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تعليقٍ له على مقالة الشيخ أحمد شاكر حول تصحيح الكتب (ط: دار البشائر الإسلامية، بيروت): هذا من قول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في خطبة طويل. وجاء في رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية إلى السلطان الملك الناصر (ص16) مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالله أعلم بثبوته. اهـ. https://al-maktaba.org/book/31615/32132

صلاح الدين الأيوبي.. الوجه الآخر

صلاح الدين الأيوبي.. الوجه الآخر

     كلما ألمّت بالمسلمين نكبة، من النكبات العسكرية خاصة، فزعوا إلى تاريخهم يتذكرون أبطاله العظام الذين صنعوا لهم انتصارات رائعة ومذهلة، كخالد والمثنى، وسعد وأبي عبيدة، وعقبة وطارق، وقطز والظاهر، ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم.

     ولعل أكثر شخصية من هؤلاء تقفز إلى دائرة الاهتمام في الحس الإسلامي إبّان الظروف القاسية، هي شخصية القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي، ذلك أن الرجل ظهر في ظروف قاسية كانت تحيط بالمسلمين وتفتك بهم، داخلياً وخارجياً. أما العدو الصليبي فقد كان في عزّ قوته وغلبته وغطرسته ولم تلبث حال المسلمين أن انتقلت على يد صلاح الدين إلى الأفضل فالأفضل باستمرار، حتى كان مسك الختام أن حرر القدس من يد الصليبيين بعد أن امتدت سيطرتهم عليه قرابة قرن من الزمان.

     وإذن فإنه من البدهي أن تحتل شخصية صلاح الدين في نفوس المسلمين طوال عصورهم، وإبّان الفترات القاسية منها خاصة، مساحة كبيرة من الاهتمام والتعلق والتشبث لا تحتلها شخصية أخرى، وإنه من البدهي أيضاً أن يكون اهتمام مسلمي اليوم، وتعلقهم وتشبثهم بصلاح الدين، يحتل مساحة كبيرة، ويأخذ حجماً واسعاً، ذلك أن القدس التي حررها صلاح الدين، قد وقعت أسيرة بيد اليهود، وهي تنتظر بطلاً كصلاح الدين، يحررها من بغي اليهود ودنسهم ويعيدها إلى الراية المسلمة.

     أمّا بطولة صلاح الدين العسكرية، وأمّا جوده ونُبْله، وأمّا إيثاره وعلوّ نفسه؛ فهي أمور مشهورة جداً، ذائعة في الشرق والغرب على السواء، لكنّ غير الذائع هو وجهه الآخر الذي لا يكاد يعرفه الناس وهو ما نحاول جلاءه الآن.

     يقول القاضي بهاء الدين بن شداد عن صلاح الدين، وقد كان قاضي عسكره، وملازمه في حله وارتحاله، وكاتب سيرته:

     كان شديد المواظبة على الصلاة بالجماعة، حتى ذكر يوماً أن له سنين ما صلى إلّا جماعة، وكان إن مرض يستدعي الإمام وحده، ويكلف نفسه القيام ويصلي جماعة. وكان يواظب على السنن الرواتب، وكانت له ركعات يصليها إذا استيقظ بوقت في الليل، وإلّا أتى بها قبل صلاة الصبح، ولقد رأيته يصلي في مرضه الذي مات فيه، وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى. وأما صدقة النفل فإنها استنفدت جميع ما ملكه من الأموال، فإنه ملك ما ملك، ومات ولم يخلّف في خزانته إلّا سبعة وأربعين درهماً، وديناراً ذهبياً واحداً، ولم يترك داراً ولا عقاراً، فجُهِّزَ وأُخْرِجَتْ جنازته بالدَّيْن وهو ما يؤكده القاضي ابن شداد ويُقسم عليه.

     وكان يجلس للعدل كل اثنين وخميس، وكان يستقرئ من يحضره في الليل الجزأين والثلاثة والأربعة من القرآن الكريم وهو يستمع، وكان شديد الرغبة في سماع الحديث الشريف، وكان الجهاد وحبه، والشغف به، قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاءً عظيماً، بحيث ما كان له حديث إلّا فيه، ولا نظر إلّا في آلته، ولا كان له اهتمام إلا برجاله، ولا مَيْلَ إلا لمن يذكره ويحث عليه.

     وقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده، وسائر ملاذه، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تتقاذفها الرياح يمنةً ويسرة، ولقد وقعت عليه الخيمة في ليلة ذات ريح شديدة، ولا يزيده ذلك إلا رغبة ومصابرة واهتماماً. وكان الرجل إذا أراد التقرب إليه، حثّه على الجهاد، أو ذكّره بأخبار الجهاد، ما استكثر عدواً قط ولا خافه، ولا فقد أعصابه في هزيمة ولا ظفر، وكان اعتماده على الله تعالى.

     ذلكم هو الوجه الآخر لصلاح الدين، الصلاة والقرآن، والذكر والجهاد، والصدقة والثبات، والعدل والإخلاص. وإنّ هذا الوجه المشرق الذي يكاد يكون مجهولاً من أكثر الناس، هو سبب ظهور ذلك الوجه المعروف، وجه الحرب والنبل والغلبة والانتصار، والمروءة والأريحية.

     لقد انتصر صلاح الدين على نفسه؛ قبل أن ينتصر على أعدائه، لقد حرر نفسه وجيشه وأمته من الشوائب، وجعلها ملأى بالعقيدة الصحيحة والإيمان القوي؛ قبل أن يحرر القدس من النصارى الصليبيين. لقد هزم في نفسه الشح والأثَرَة والإخلاد والتواكل والسفاسف والدون؛ قبل أن يهزم في ديار المسلمين الفرقة والشتات، والبدع والفساد، والكفر والضلال. وإن معركته الكبرى التي خاضها في أعماق نفسه هي التي مهّدت له السبيل إلى الفوز في المعارك الكبرى التي خاضها بغية توحيد ديار المسلمين وطرد الصليبيين المعتدين.

*****

الزنكيَّان والأيوبيُّ والحروب الصليبية

الزنكيَّان والأيوبيُّ والحروب الصليبية

     كان دخول الصليبيين ديارَ الإسلام، وإقامتهم أربع دول فيها نكبة كبرى أصيب بها العالم الإسلامي. فقد قامت حكومات هؤلاء الغزاة في قلب ديار الإسلام، أما المسجد الأقصى فقد حُوِّلَ إلى كنيسة، وأما القتل فقد كان صعباً مرعباً. وحسبك أن تعلم أنَّ الغزاة حين اقتحموا القدس، وتوجَّهوا إلى الأقصى ذبحوا فيه سبعين ألفاً، حتى علت دماء الشهداء؛ فإذا بخيول الغزاة تخوض فيها حتى رُكَبِها كما جاء في رسالة بعث بها بعض المنتصرين إلى أوربا يصفون فيها ما كان من أمرهم في يوم الاقتحام الدامي المشهور.

     حدث هذا كله، وكان بلا ريب نكبة عظمة، وكارثة كبرى، لكن المسلمين أفاقوا من روعة الذبح المستمر، والغفلة والفرقة، وعادوا إلى مصدر قوتهم، وسر انتصارهم، ومفتاح شخصيتهم، عادوا إلى الإسلام فصححوا أخطاءهم، وأقاموا طريقهم على هدي كريم، من هدي الإسلام، فإذا بالحال يختلف، وإذا بموجة امتداد الأعداء وانحسار المسلمين تتوقف، وإذا الأمر ينعكس، فيبدأ المسلمون في الامتداد، ويأخذ الصليبيون بالانحسار، ويحدث في التاريخ ما سمي بحركة الاسترداد، أي استرجاع المسلمين لبلادهم وتطهيرها من رجس الغزاة.

     فمنذ أن ظهر الزنكيان العظيمان، عماد الدين زنكي الذي استعاد الرُّها من الصليبيين، وابنه نور الدين زنكي، الذي أكمل جهاد والده، بل ومن قبل ذلك ببعض الوقت بدأ المد الإسلامي ونشطت حركة الاسترداد، أي أن ذلك تمَّ منذ أن قررت الأمة الإسلامية أن تجاهد، وتركت الراحة الكسلى، والقعود الكئيب، والحلول الاستسلامية الانهزامية، وقررت أن تكون على مستوى إسلامها، فتنهض بالجهاد وأعبائه خير نهوض، وتلتمس في ذلك معين القوة الذي يتدفق فيها فيمدها بالعزيمة والهمة والحركة، وتكتشف خلال ذلك كله حقيقة نفسها ومفتاح شخصيتها، إذ تعود للإسلام وتحرص على الاستمساك به، وعندها يكون لديها من البديهي المقرر أن تجاهد لتطهر أرضها من الغزاة الظالمين.

     ويشهد التاريخ أن الأمة المسلمة منذ أن قررت القتال لم تسترح، وبذلت الكثير من التضحيات، لكنَّ كل ما بذلته كان أقل مما خسرته يوم هانت وتنكبت سبيل الجهاد، وصدق مَنْ قال: ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، هذه واحدة.

     أما الثانية فهي أنها حين قررت أن تجاهد، ارتفعت إلى مسؤولية إسلامها، وهذا فوز عظيم لها عند ربٍّ كريم، وهذا يؤكد ما نقوله دائماً من أن الإسلام سبيلُ سعادتنا في الدين والدنيا معاً، فها هم المسلمون إذ طفقوا يجاهدون الصليبيين، أثبتوا جدارتهم بإسلامهم من ناحية، فإذا بهم يغلبون العدو، ويكون لهم النصر المظفر في دنياهم، فضلاً عن أمل الفوز في أخراهم عند رب العالمين من ناحية ثانية.

     وتنقلت راية الجهاد الإسلامي من الزنكي الأب عماد الدين، إلى الزنكي الابن نور الدين، ثم انتقلت من نور الدين إلى صلاح الدين الأيوبي، الذي شاء الله تعالى أن يكتب على يديه أعظم فصول مرحلة الاسترداد، وهو معركة حطين وفتح بيت المقدس. لم يرهبْ صلاحُ الدين خطورةَ المعركة قط، ولم يخشَ أن أوربا كلَّها وراءَ عدوِّه اللدود، بل اعتصم بالله تعالى، واستمدّ منه العون، ثم أخذ يبذل كل جهوده، ويحشد كل ما يقدر عليه من وسائل وإمكانات وأسباب، ولجأ إلى الإسلام سرِّ قوة المسلمين ومفتاحِ شخصيتهم، ورفعَ رايةَ "وا إسلاماه"!.. فامتصَّ الهزائم، وانتقل من نصر إلى نصر، وزحف عام 583هـ= 1187م إلى حطين، حيث قصم ظهر العدو هناك، وفي العام نفسه فتح بيت المقدس.

     عادت القدس إلى المسلمين من جديد، وعاد المسجد الأقصى إلى ما كان عليه من قبل، ودوّى الأذان من جديد، وعبقتِ الأرض ريّا الساجدين، وضاعَ في الجو عِطْرُ الجُمَعِ الحسان، بعد انقطاعٍ دام حوالي قرن من الزمن.

     وبعد صلاح الدين واصل مَنْ خَلَفَهُ من الأيوبيين والمماليك تطهير ما بقي من ديار الإسلام بأيدي الصليبيين، حتى استرجع قلاوون في آخر الأمر عكّا، ولم يبقَ للعدو في البلاد شيء قط.

     ترى أثمةَ شكٌّ في أنَّ هذه الانتصارات العظيمة إنما تعود إلى الإسلام، دين الله الخالد المحفوظ، سبيلِ سعادتنا، وموئلِ فخارنا، وسرِّ قوتنا، ومفتاحِ شخصيتنا!؟

*****

الخميس، 30 يونيو 2022

ألب أرسلان وملحمة ملاذكرد

ألب أرسلان وملحمة ملاذكرد

     هو السلطان المجاهد الشجاع ألب أرسلان السلجوقي رحمه الله، نلتقي به في مطلع النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، شاباً في العقد الرابع من عمره، متقد الآمال، جياش المُنى، قوي النفس والعزيمة، يحكم دولة واسعة عظيمة، تمتد من تركستان إلى ضفاف دجلة. كان له ولع بالجهاد، فخاض كثيراً من المعارك الطاحنة، وصارع الدولة البيزنطية التي كانت يومذاك من أشد خصوم الإسلام في العالم، وخاض معها سلسلة من المعارك، كان أعظمها على الإطلاق معركة "ملاذكرد".

     ففي عام 463هـ= 1071م سارع الإمبراطور البيزنطي رومانوس إلى حشد جيش ضخم لهّام بلغ عدده في رواية 100,000 مقاتل، وفي أخرى 200,000 مقاتل، وسار به لمحاربة دولة السلاجقة الذين كانوا يمثلون في تلك الأيام وثبة قوية شابة من وثبات الإسلام الكبرى.

     ولما سمع ألب أرسلان بهذا، سارع من فوره لملاقاة رومانوس بجيش يبلغ عدده في رواية 40,000 فارس، وفي أخرى 15,000 فارس فقط. وفكّر السلطان المسلم حين رأى التفوق الهائل لصالح جيش العدو أن يعقد هدنة مع رومانوس فبعث إليه بذلك، لكن رومانوس رأى في طلبه دليل ضعف وإحجام فرفض الهدنة، وردّ على ألب أرسلان ردّاً خشناً جافياً، فكان لهذا الرد عند السلطان المسلم موقف ضخم عملاق، كتب للإسلام والمسلمين صفحة فخار وبطولة، شامخة باذخة متفوقة.

     اختار السلطان المسلم يوم الجمعة موعداً للاشتباك مع الروم البيزنطيين، وصلّى بجنده، وبكى خشوعاً وتأثّراً، وبكى الناس معه، ثم امتطى فرسه وقد لبس البياض وتحنّط استعداداً للموت، وعزم على أن يكون في طليعة المجاهدين، وأعلن لجنوده أنه إذا استشهد فإن ساحة الحرب مأواه الأخير.

     كان ألب أرسلان يؤمل أن تُغْنِيَ شجاعة القلة المؤمنة، وحسن ثقتها بالله عزّ وجل عن العدد الكبير والعتاد العظيم، ولم لا!؟ أليست له في تاريخ الإسلام شواهد كثيرة على ذلك؟ أما انتصر المسلمون وهُم قلة، على خصوم لهم، هم أكثر عدداً وعدة في بدر والأحزاب، وحُنين، والقادسية، واليرموك، ونهاوند،.. وغير ذلك من المعارك!؟

     لقد اتضح للمسلمين أنّ لهم قانوناً مع النصر والهزيمة لا يتخلف ولا يحيد. إنّ لهم النصر والفوز والغلبة، ما أخلصوا لله النية، وترفعوا عن حطام الدنيا، واتخذوا ما بوسعهم من الأسباب، ولو كانوا أقل وأضعف في العدد والعدة.

     أما إذا ضلّت منهم النية أو شابتها الشوائب، فتعلقوا بالمتاع الزائل، وانحرفوا عن هدفهم الرباني الكبير، فإن مآلهم إلى الهزيمة والخسران وإن كانوا أكثر عدداً وعدة. وإذن فليتعامل السلطان المجاهد مع هذا القانون بما يكفل له النصر، ويحقق له الفوز والغلبة، فليأت بمقدمات النصر كما يحددها ذلك القانون وليرقب ثماره وعطاياه.

     والتزم ألب أرسلان مقدمات النصر والفوز خير التزام، ومضى ومَنْ معه على خير ما يكون المُضيُّ المؤمن الملتزم، إخلاصاً لله عز وجل، وترفعاً عن حطام الدنيا، واتخاذاً للأسباب المتاحة الممكنة.

     ودارت المعركة عنيفة ضارية، واستبسل فيها الجانبان، وثبتا في الميدان، وأبدى المسلمون منتهى البراعة والصبر، والجَلَد والثبات، والاستماتة والبطولة، وأبدى الرومان مثل ذلك، لكنّ النصر تنزّل على القلة المسلمة، فما حلّ المساء حتى أحدث المسلمون في جيش العدو ثغرة أخذت تتسع، حتى وقعت بالرومان الهزيمة الفادحة المنكرة، وظفر المسلمون بنصر عملاق متفوق، ووقع الإمبراطور نفسه أسيراً بيد السلطان المسلم.

     لقد كانت معركة ملاذكرد، مصداقاً للقولة الخالدة الذكية، قولة الصدّيق أبي بكر رضي الله عنه: "اطلُبِ الموتَ تُوهَبْ لكَ الحَياة"، وكانت إكليل غار وفخار يتوّج هامة السلطان البطل، ويؤكّد صدق القاعدة الخالدة المؤمنة التي يتعامل المسلمون مع قانونها الباقي حيال النصر والهزيمة.

*****

محمود الغزنوي وصنم الهنود الأكبر

محمود الغزنوي وصنم الهنود الأكبر

     ولِد السلطان العظيم المجاهد محمود الغزنوي عام 361هـ، وتولّى الإمارة عام 389م، وكان دأبه غزو الهند الوثنية كل عام حتى فتح الله عز وجل على يديه بلاداً شاسعة، وعُرِفَ في التاريخ بلقب محطم أصنام الهند. وكان لتحطيمه قصة وعبرة يسوقهما ابن كثير في حوادث سنة 418هـ، أي قبل وفاة السلطان بنحو ثلاثة أعوام.

     وكان الناس يَفِدون إلى ذلك الصنم الأكبر كما يروي ابن كثير من كل فج عميق، كما يفدُ المسلمون إلى البيت العتيق بمكة المكرمة، وينفقون لديه الأموال الهائلة التي لا تُعَد، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية ومدينة مشهورة، وقد امتلأت خزائنه أموالاً، وكان عنده ألف رجل يخدمونه، وثلاثمئة رجل يحلقون رؤوس حجيجه، وثلاثمئة رجل يغنّون ويرقصون على بابه، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وكان البعيد من الهنود يتمنّى لو وصل إلى هذا الصنم بأي سبيل.

     ولما سمع السلطان محمود بخبر هذا الصنم وكثرة عُبّاده، وكثرة الهنود في طريقه، والمفاوز المهلكة والأرض الخطرة، استخار الله تعالى في تجشّم مشاق الجهاد والسفر إليه، وندب جيشه لذلك فانتدب معه ثلاثون ألفاً من المقاتلة سوى المتطوّعين.

     ووصل الجيش المجاهد سالماً إلى حيث الوثن، وغَلبَ أنصارَه، وامتلك زمام الموقف، وحلّت الهزيمة المنكرة بالهنود الذين بذلوا للسلطان محمود أموالاً جزيلة ليترك لهم الصنم الأكبر.

     وأشار بعضهم على السلطان أن يوافق فيأخذ الأموال ويترك الصنم فقال لهم السلطان: حتى أستخير الله عز وجل. فلما أصبح قال: إني فكرت في الأمر الذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديتُ يوم القيامة: "أين محمود الذي كسر الصنم؟" أحبُّ إليّ من أن يُقال: الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا.

     ثم عزم رحمه الله فكسر الصنم، فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلئ والذهب والأحجار النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة.

     لقد انتصر الرجل مرتين، مرةً حين خاض بجيشه غمار معركة دونها أهوالٌ ومفاوزُ وصعابٌ، ومرةً حين آثرَ ما عند الله على المال الكثير، فإذا به يحوز أكثر من المال الذي عُرِضَ عليه، فجمع بذلك إن شاء الله الثواب الجزيل، والثناء الجميل، والإيثار النبيل، والمال الضخم الكثير، فقد آثر الآخرة فكانت له الآخرة والدنيا معاً.

*****

الفتوحات الإسلامية والمنجِّمون

الفتوحات الإسلامية والمنجِّمون

     لقد عانى قادة المسلمين في جهادهم كثيراً من صنوف التثبيط الذي هو وسيلة من وسائل الهزيمة النفسية، لكنهم حين ارتفعوا بالإسلام، وامتلكوا إرادة الجهاد نجوا مما عانوا وكابدوا، وكان لهم النصر بفضل الله عز وجل.

     ودور المنجمين في التاريخ الإسلامي -وهو دخيل على المجتمع المسلم غريب عن تصوره النقي- يمثل في حينه أسلوباً من أساليب الهزيمة النفسية التي يحاول دعاتها تثبيط همم المجاهدين. فمِن المعروف مثلاً أن المعتصم قبيل معركة عمورية حذره المنجمون من المعركة وأرادوا له أن يتأخر في قتاله العدو بحجة أن عمورية لا تفتح إلا بعد نضج التين والعنب!.. ولم يكن أوان ذلك قد حلّ يوم عزم المعتصم على الجهاد.

     لكن المعتصم رفض أكاذيب المنجمين وضرب بدعاواهم عرض الحائط، وصمم على الجهاد، وكان له النصر المبين وفتح عمورية في الوقت الذي أخبره عنه المنجمون أنها لن تفتح فيه. وخلّد ذلك أبو تمّام تخليداً ساخراً حين وصف قتلى الروم فقال:

تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت     جـــلودهم قبل نضج التين والعنب

     ويروى أن بعض المنجمين حذر صلاح الدين الأيوبي بفقد إحدى عينيه إن هو حاول فتح القدس، فأجابهم بهذا الجواب الرائع: "إني لأوثر أن أفقد بصري كله إذا كان من وراء ذلك فتح بيت المقدس". وأتمّ الله نعمته على صلاح الدين، فكان الفتح ولم يصب بسوء، وكذب المنجمون ودعاة الهزيمة والتخاذل.

     وفي عصرنا الحاضر نجد كثيراً من دعاة الهزيمة النفسية الذين يقومون بما كان يقوم به المنجمون من قبل، ولكن بأسلوب عصري. فدعاة الهزيمة النفسية اليوم يثبطون الهمم عن القتال، ويحاولون تصوير الأعداء بأنهم على جانب ضخم جداً من القوة والتماسك، وأنهم يستندون إلى أقوى دول الأرض، وأن الانتصار عليهم انتصاراً نهائياً ضرب من الجنون وما إلى ذلك من الأباطيل والخزعبلات.

     وكما سخر المسلمون قديماً من المنجّمين وجاهدوا؛ علينا الآن أن نسخر من هؤلاء المثبطين ودعاة الهزيمة والاستسلام ونجاهد حق الجهاد، وسيكون لنا النصر إن شاء الله حين نرفع شعار: "وا إسلاماه!".. وننهض بجميع شروطه ولوازمه، ونعيد دعاة الهزيمة النفسية والمتخاذلين والمستسلمين للعدو إلى أمكنتهم في الجحور.

     ومن أهم ما ينبغي علينا أن نصنعه للنجاة من الهزيمة النفسية وقطع الطريق على مضاعفاتها الخطيرة المتوقعة أن تكون قيادات المسلمين بمنأى عن الهزيمة النفسية تماماً، وألّا يتبوّأ أحد من الناس مكاناً في هذه القيادات إلا إذا كان مستعلياً بالإيمان، بريئاً من كل أنواع الجبن والخور، واثقاً أنّ المستقبل لهذا الدين، واثقاً أنّ النصر له مهما اشتدت الظلمات وكثرت الخطوب.

*****

الأكثر مشاهدة