الأربعاء، 23 أغسطس 2023

فرجينيا هنري المسلمة (1)

فرجينيا هنري المسلمة (1)

     هي فرجينيا هنري قبل إسلامها، وعائشة عبد الله بعد أن أكرمها الله تعالى بالهداية للحق، عاشت حياتها الأولى في أمريكا في قلب الحضارة الغربية، بل وفي مكان من أشدِّ أمكنتها انحرافاً وفساداً وجاهلية، لقد كانت في هوليود، وكانت تقوم بصناعة الماكياج للممثلات في المدينة السينمائية المشهورة. ويبدو أنّ هذه الأمريكية كانت منذ شبابها المبكر تفكر كثيراً في الله عز وجل وفي اليوم الآخر، وكان لها تأملات وخطرات وسبحات، وكانت ذات نفس شفافة تحمل خيراً كبيراً.

     وحين التحقت بجامعة نيويورك درست جميع الأديان حتى البوذية باستثناء الإسلام حيث كان أساتذة هذه الجامعة بسبب التعصب والجهل يعطون فكرة غير واضحة ولا صحيحة عن الإسلام. وبعد زواجها تعرّفَتْ هي وزوجها إلى صديق مسلم، قدّم لهما فكرة واضحة عن الإسلام، ودلّهما على المركز الإسلامي في واشنطن حيث تعلّما القرآن الكريم ودرسا اللغة العربية، ثم بدا لهما أن يذهبا إلى الأزهر الشريف كي يزدادا علماً، وذهبا بالفعل، وظل النور يتدفق فيهما بعمق وقوة حتى امتلأت جوانحهما به فأسلما.

     ويقول الشيخ رجب العابدي عن المسلمة المهتدية عائشة عبد الله –فرجينيا هنري سابقاً– التي تعمل الآن مدرّسة لمادة اللغة الإنكليزية بمعهد الفتيات بالمعادي: إنها نموذج فاضل للمُدرِّسة الجادة، المحافِظة على أداء الصلوات في أوقاتها، وهي تعتزم أداء فريضة الحج هذا العام.

     ويعمل زوجها الذي اختار لنفسه اسم "رحمة الله"، مترجماً للغة الإسبانية في الأزهر الشريف. وقد سمّت عائشة ابنتها الأولى هاجر، وسمّت ابنها مصطفى تيمّناً وتبرّكاً بالرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.

     هذا .. وقد صحب العائلة الأمريكية المسلمة من أمريكا إلى القاهرة، أسرة أمريكية كاملة أسلمت على يديها، وقررت الإقامة في القاهرة. وتقول عائشة عبد الله: كل سنة سآتي إلى الإسلام بأسرة أمريكية جديدة إن شاء الله.

     والحقيقة أنّ المرء لا يسعه إلا أن يُعجَب بهذه الأسرة الأمريكية المسلمة، ومن اهتماماتها ونشاطاتها وآمالها المرجوة، ولا يسعه كذلك إلا أن يُعجَب كذلك بقدرة هذا الدين على التحرك والامتداد والانتشار في كافة الظروف، ذلك أنه لا يني يفوز من هنا وهناك بعناصر مؤمنة كريمة تستجيب لدعوته وهداه.

     إنّ فرجينيا هنري التي أسلمت فصارت بعد ذلك عائشة عبد الله، فتاة أمريكية عاشت عمرها الأول في بلدها أمريكا، المعقل الأول للحضارة الغربية اليوم، وأغنى بلدان العالم في كثير من الأشياء. ولقد جعلتها ظروفها الأولى تحيا في هوليود، تصنع الماكياج للممثلات، وهوليود في المفاسد والمباذل، والبُعد عن التأمل والاهتمامات الدينية والخُلقية، والإغراق في المُتَع والشهوات، أشهر من أن يتحدث عنها الإنسان، وربما كانت في عصرنا الحاضر أفسد مجتمع على الإطلاق.

     لكن فتاتنا ملكت حاسة التأمل، وتحركت فطرتها تبحث عن الحقيقة، وطفقت أشواقها الروحية تفتش عن النور. وحين أخذت تدرس الأديان في جامعة نيويورك أتيحت لها فرصة دراسة الأديان المختلفة، ما كان منها ذا أصل سماوي وأدركه التحريف كالمسيحية واليهودية، وما كان منها وثنياً كالبوذية. لكنها لم تمتلك فرصة دراسة الإسلام والتعرف إليه، ذلك أنّ أساتذة الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية من الممكن أن يكونوا موضوعيين في عرض حقائق الأديان والمعتقدات المخالفة لآرائهم، لكن أكثرهم يفقِدُ هذه الموضوعية حين يتصل الأمر بالإسلام، وهنا يجتمع التعصب والجهل معاً ليجعلهم يقدمون صورة مشوهة عنه.

     لكن عناية السماء التي كانت تقود خطى هذه الفتاة نحو النور هيّأت لها فرصة ثمينة إذ التقت بمن قدّم لها عن الإسلام فكرة صحيحة واضحة، نقية من الشوائب، فتركت هذه الصورة المشرقة في نفسها أحسن الآثار، ثم دلّها على المركز الإسلامي في واشنطن فإذا بها مع زوجها تتعلم القرآن وتدرس اللغة العربية، وفي النهاية أسلم الزوجان عن قناعة عميقة بعد بحث واستقصاء وتنقيب، فكانت عملية انتقالهما إلى الهداية، تمثل العقل الحر، والقلب الحي، البعيدَيْن عن التعصب، المتعطشَيْن لأنوار الحقيقة، يصلان إلى الهداية بعد رحلة جسدية وعقلية وقلبية وروحية انتهت بهما إلى السعادة والفوز والفلاح.

     وتحية من الأعماق لعائشة عبد الله التي ذهبت مع زوجها إلى مصر لتتعمق في دراسة الإسلام وتتمكن من اللغة العربية.

     وتحية لها إذ تدرّس في معهد للفتيات، وهي مثال للاستقامة والجد والمحافظة على الصلاة.

     وتحية لها وهي تبدو في لباسها الإسلامي السابغ الجميل، صورة من صور العفة والطهر.

     وتحية لها إذ أسلمت عائلة أمريكية كاملة على يديها.

     وتحية لها إذ اعتزمت أن تأتي للإسلام في كل عام بأسرة أمريكية جديدة بإذن الله.
*****

الثلاثاء، 22 أغسطس 2023

جيمس بار وعائلته إلى الإسلام

جيمس بار وعائلته إلى الإسلام

     لعل كثيراً من الناس في الإسكندرية لم يهتموا بذلك الشاب الأمريكي الأسود، يسير في أحد شوارعها ومعه زوجته الأمريكية الشقراء، ومعهما طفلان صغيران، طفل أسود مثل والده تماماً، وطفلة شقراء مثل أمها تماماً. إنه مستر جيمس بار القادم من جامعة هارفارد، وأمّا زوجته فهي ماريان، وأمّا الطفلان فهما أريك وإيفا.

     قال جيمس بار، الشاب الأمريكي الأسود، والذي لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره بعد: إنه درس الفلسفة، وعلم النفس الجنائي في جامعة "هارفارد"، وألقى عدداً من المحاضرات في جامعات سويسرا وألمانيا الغربية، ثم سافر إلى بيروت وعمل محاضراً في جامعتها الأمريكية، وأخيراً جاء إلى مصر ليَدرُس الإسلام والقرآن الكريم، ويتعلم اللغة العربية في الأزهر الشريف. وقد بدأت قصته مع الإسلام في أمريكا، عندما سمع واحداً من الزعماء الأمريكيين السود يتحدث عن تعاليمه.

     لكنّ فكرته عن الإسلام في البداية كان فيها خطأ كبير، ذلك أنه كان يعتقد بسبب جهل من علّموه في أمريكا أنّ الإسلام دين خاص بالسود، وأنه دين الخلاص لهم وحدهم، لكنه فيما بعد اكتشف خطأه، وصحّح من موقفه، واقتنع أنّ الإسلام دين الجميع بدون أي تمييز في اللون أو اللغة أو الجنس أو الطبقة الاجتماعية. واهتمّ جيمس وزوجته ماريان بالإسلام، وعندما سافرا إلى بيروت وجدا أمامهما فرصة أكبر لدراسة تعاليم هذا الدين العظيم.

     وما زالا يدرسان الإسلام، ويفكران فيما يتعلمان من أموره، ويقارنان بينه وبين المسيحية التي كانا عليها، حتى انتهى بهما الأمر إلى الاقتناع التام بعظمة الإسلام وصحته، وأنه دين الهداية والإنقاذ، فكان أن أسلما في بيروت، وأشهرا إسلامهما أمام أحد القضاة المسلمين، ثم قررا دراسة الإسلام في الأزهر الشريف، وسافرا إلى مصر من أجل ذلك، ومن أجل تعلم اللغة العربية كذلك.

     يقول جيمس: إنه سوف يُمضي في مصر ثلاث سنوات على الأقل، حتى يفهم الإسلام على حقيقته وتفهمه زوجته على حقيقته كذلك، وبعد ذلك يعودان إلى أمريكا لينشرا تعاليمه الكريمة، ويدعوان إليه بين الأمريكيين، وليسعيا –ما وسعهما الجهد– إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام بين المسلمين الأمريكيين، الذين اقتنعوا بصحة هذا الدين، وأسلموا عن قناعة تامة، وصدق وإخلاص، لكنه لم تُتَحْ لهم الفرصةُ من أجل أن يدرسوا الإسلام دراسة شاملة، صحيحة ونقية.

     وحين سُئِلت زوجته ماريان: لماذا اقتنعتْ بالإسلام وغيّرتْ ديانتها!؟ تلقف طفلها الصغير أريك وهو في السادسة من عمره الإجابة ليقول بسرعة: من أجل أن نكون أناساً طيبين!.

     وهنا ابتسمت ماريان في سعادة وقالت للسائل: تماماً كما يقول ابني، لقد عبّر رغم صغر سنه بأمانة ووضوح وبعبارة وجيزة عن سؤالك إياي: لماذا صرتُ مسلمة؟

     ونظرت ماريان إلى زوجها وطفليها وقالت: لقد اكتشفنا أنّ المساواة قاعدة أساسية في الإسلام، فهو الدين الذي يسوّي بين الناس جميعاً، ولا يفرّق بينهم لأي سبب من أسباب العنصرية كاللون أو الطبقة الاجتماعية.

     إنّ الإسلام يعلمنا كيف نكون أنقياء بسطاء رحماء، وإننا نؤمن بالله عز وجل، وبالقرآن الكريم وتعاليمه، وجئنا لندرس القواعد السليمة لديننا الجديد.

     هذا .. وقد قررت ماريان تغيير اسمها إلى عائشة، واختار زوجها اسم عبد الله، أما الطفل أريك فاسمه هو علي، وأما الطفلة إيفا فقد صار اسمها مُنى.

     وإننا إذ نفرح حين نورد خبر هذه الأسرة الأمريكية التي هداها الله تعالى للإسلام لا يفوتنا أن نرى فيها أكثر من درس وأكثر من دلالة. فالرجل الذي أسلم أستاذ في الجامعة، ومعنى ذلك أنه على مستوى ثقافي جيد بين ذويه، ولم يعمل في الجامعة في بلده فقط، بل عمل كذلك في سويسرا وألمانيا الغربية وبيروت.

     هذه ناحية يحسن ألا تغيب عنا، وثمة ناحية ثانية، هي أنّ الرجل ذو نفس تبحث عن الحق حتى إذا اكتشفته خضعت له وانصاعت لتعاليمه وأحكامه.

     إنّ الرجل بدأ يصغي للإسلام وهو في بلده، وبدأ يقتنع به خلال إصغائه ذاك، لكنه حين جاء إلى البلاد العربية وتبيّن له أنّ فكرته عن الإسلام فيها أخطاء كبيرة، سارع يصححها، ويعدل عن قناعاته، على ضوء ما عرف من حقائق عن هذا الدين كان يجهلها من قبل، بل إنه أكّد أنه سيسعى بعد عودته إلى بلده إلى تصحيح المعلومات المشوهة العالقة بالإسلام هناك، وتقديم الإسلام بصورته الصحيحة النقية، خاصة أنه قرر البقاء في مصر ثلاث سنوات حتى يدرس الإسلام واللغة العربية بصورة جيدة متقنة.

     وبعد .. فإنها صورة كريمة مشرقة، لحالة من حالات الهداية الربانية، أضاءت وجدان أسرة أمريكية ضالة فأسلمت، وإننا إذ نفرح بمثل هذه الهداية، نستشعر واجبنا كمسلمين في حمل الإسلام ونشره، فما مِنْ ريب في أننا إزاء واجبنا هذا مقصرون.
*****

المهتدي الهندي بيجي رودريك

المهتدي الهندي بيجي رودريك

     لا يخطئ الإنسان المتمعن وهو يدرس سِيَرَ أولئك الذين اهتدوا للإسلام بعد دراسات ومقارنات، وتأمل وتدبر، وبحث مخلص جاد، أن يجد لدى بعضهم إنْ لم يجد عند أكثرهم ملاحظاتٍ ذكيةً نافذة ربما غابت عن المسلم العادي، ولا يعني ذلك بالضرورة أن يكون المهتدي الجديد على حظ واسع من المعرفة بشكل دائم يجعله باحثاً متفوقاً، خاصة في الفترة الأولى من إسلامه قبل أن ترسخ قدمه في هذا الدين، ويتعمق فهمه ويشتدّ إيمانه، لكنَّ هذا لا يمنع أن نفوز من كثيرين من المهتدين الجدد بملاحظات ذكية قد لا يفطن لها أكثر المسلمين، خاصة حين يتجه المهتدون الجدد إلى نقد البيئة الأولى التي كانوا عليها قبل إسلامهم، وعاداتها ومُثُلِها ودينها وتراثها، فهم بذلك أعرف نظراً لأنها المناخ الأول لهم، فيه نشؤوا ولبنه رضعوا وثقافته استوعبوا.

     ولعل هذا الأمر يبدو بشكل أوضح حين ننتقل إلى المثال العملي الذي يكشف عن صدق هذه الظاهرة وجدّيتها كما في النموذج التالي. لقد شاع بين الناس كثيراً أنّ المسيحية دين الرحمة والتسامح، ولقد أخذ دعاة المسيحية وكُتّابها يكتبون عن هذه الفكرة ويؤكدونها، ويُبْدِئون فيها ويعيدون، حتى باتت عند كثير من الناس وكأنها الحق الذي لا مراء فيه، والحقيقة التي لا تقبل جدلاً قط. وعلى عكس ذلك شاع في الغرب أنّ الإسلام دين السيف والقسوة والدماء، وأنه كان يفرض على الناس اعتناقه بالقوة وإلّا قُتِلوا.

     وقد كتب الجهلة والحاقدون والمرتزقة من قساوسة الاستعمار وأذناب المبشِّرين الكلامَ الكثير في هذا المجال، مما حجب الحقيقة عن كثير من الناس، وجعلهم يؤمنون بتلك الأباطيل التي افتراها أعداء الإسلام وألصقوها به، لكنّ الحقائق الصارخة والشواهد التاريخية الكثيرة تنطق برحمة الإسلام وسماحته وإنسانيته، وتَسِمُ مَنْ يدّعون أنهم المسيحيون الرحماء بِشَرِّ ما يوسم به متوحشٌ شَرِهٌ موغل في سفك الدماء.

     وقد استطاع الأستاذ بيجي رودريك، وهو مهتدٍ هندي ولِد في بيت إنكليزي وَرُبِّيَ فيه مسيحياً وتلقى تعليمه المبكر في إحدى مدارس التبشير، أن يصل ببحثه الشخصي إلى الإسلام فيؤمن به، ويكتشف سماحته ورحمته، ويكتشف أسطورة الرحمة الموهومة عند الآخرين.

     يقول الرجل: إنّ السيد المسيح كما جاء في الأناجيل المختلفة لم يعلّم أتباعه الطريقة الصحيحة لاستخدام السيف، فكانت النتيجة أنّ السيف كان دائماً في يد أتباعه، وقد استخدمه الصليبيون كثيراً في ذبح السكان الأبرياء في الأقطار غير المسيحية، بل لقد استُخدِمَ السيف في بعض الأحيان من قِبل طوائف مسيحية ضد طوائف مسيحية أخرى.

     ولقد استُخدِمَ السيف في يد الدول الاستعمارية بتأييد من الكنيسة ومباركتها في سبيل قهر شعوب آسيا وأفريقيا واستغلالهما، ومحو سكان نيوزيلاندا الأصليين تماماً كما جرى في أستراليا وأمريكا الشمالية.

     ثم جاءت نقطة التحول في حياتي عندما أسقط الأمريكيون القنابل الذرية على اليابان في ناغازاكي وهيروشيما سنة 1945م، وامتلأت نفسي بالرعب والفزع عندما قرأتُ عن الوفاة الفظيعة لملايين البشر من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء، وعندما علمتُ بالآلام الفظيعة التي لا يمكن تصورها، يقاسيها عدد لا حصر له من الناس الذين نجوا من الموت الفوري، وقضيتُ عدة ليالٍ لا أذوق طعماً للنوم بعد أن قرأتُ عن هذه الأحداث، فقد كنتُ أشعر بالأسى وأنا أقرأ عن جرائم احتلال اليابان، وكنتُ أستنكر الغزو الذي قام به جيش من المبشرين النصارى ضد الجزر اليابانية تحت سمع وبصر الجنرال ماك آرثر، لاستعباد الروح اليابانية، وإنشاء طبقة من الخونة المتنصِّرين ليساندوا سادتهم ضد أبناء بلدهم.

     وبعد أن أشبع بيجي رودريك، المهتدي الهندي، هذه الناحية وبيّنها خير بيان، انتقل إلى الصفحة المضادة، الصفحة الإسلامية المشرّفة ليتحدث عن الحرب في الإسلام وقوانينها وأخلاقها، فقال: إنّ الكمال لله وحده، وكل الناس خطّاؤون لذلك لا بد من فرص للدفاع المسلّح، إلا أنّ قوانين الحرب في الإسلام تُعَدُّ أكثر القوانين إنسانيةً فهي تتضمن السلامة الكاملة للنساء والولدان وجميع غير المحاربين، وليس هناك أعظم من جريمة قصف المدارس والمشافي وأماكن العبادة ومساكن المدنيين، فالإسلام يأذن بالحرب لرفع الاضطهاد، كما يأذن بها لإزالة العراقيل التي تقف في طريق الدعوة والدفاع عن النفس، ولكنه لا يُكرِه أحداً على الدخول في هذا الدين، كما لا يُقِرُّ إبادة العُزْل على يد المستعمرين والمتعصّبين.

     ونفاسةُ هذا الكلام الذي يقوله المهتدي الهندي، كما يقول الدكتور محمد رجب البيومي: ترجع إلى نفاذ قائله وعمق بحثه وتعبيره عن الحقائق من أقرب طريق متمشياً مع قواعد الاجتماع والسياسة الأممية المرتبطة بأصول من الأخلاق المعترف بها لدى الجميع.

     وقوله في مطلع حديثه: إنّ المسيح عليه السلام لم يعلِّم أتباعه الطريقة الصحيحة لاستعمال السيف، فكانت النتيجة أَنْ كان السيف دائماً في يد أتباعه، هذا القول يدل على النظرة الواقعية للإسلام باعتباره ديناً واقعياً جاء ليبيّن الطريقة الصحيحة لوقاية الناس على أرض الناس، كما يدل على قصور المسيحية حين خاصمت السيف لفظاً ليكون وسيلتَها الدائمة فعلاً في الحياة، بينما هو في الإسلام حاجة ضرورية يُلجأ إليها إذ لا مناص، وهذا ما أكّده الأخ بيجي رودريك حين قال:

     إنّ تعاليم الإسلام الخُلقية تحقق امتزاجاً تاماً بين المثالية والواقعية، فبفضلها يستطيع الإنسان أن يعرف الله ويصبح ربّانياً وهو يقوم بنشاطات الحياة اليومية، وليس في الإسلام أي فصل بين الدين والسياسة، فعلى الحكومة الإسلامية أن تراعي نفس المبادئ الخلقية التي يراعيها الأفراد عند التعامل فيما بينهم، وذلك في معاملتها للناس والدول الأخرى. فليس في الإسلام أي مجال للظلم والاستغلال مهما كان نوعه، كما أنه لا سبيل في هذا الدين إلى وجود الاستعمار والتفريق العنصري، والصراع الطبقي، والحروب الجائرة المعتدية.
*****

مختار وزينب .. الفرنسيان

مختار وزينب .. الفرنسيان

     منذ عدة سنوات، أسلم مهندس فرنسي يعمل في مصانع الطائرات، وحمل اسم :مختار". والذي يستوقف الإنسان في سيرة "مختار" أنه بعد إسلامه حرص على دراسة كتاب الله عز وجل، وتعلم اللغة العربية، وعلى الرغم من أنه يسكن على بعد 50 كم من باريس، فإنه يأتي إليها يومياً بعد الفراغ من عمله، لمقابلة الدكتور الداعية محمد حميد الله، وذلك من أجل دراسة كتاب الله تعالى على يديه.

     من الواضح في سيرة مختار هذا، حرصه الشديد على تعلم الإسلام، دينه الجديد الذي اهتدى إليه، وتعلم اللغة العربية التي نزل بها كتاب هذا الدين. ويبدو ذلك واضحاً جلياً حين يقطع في كل يوم مسافة 100 كم ذهاباً وإياباً من منطقة سكناه إلى باريس ليتلقى درسه اليومي في حرص ومتابعة واستمرار.

     ولا ريب أنه لو لم يكن دافعه الذاتي المؤمن، قوياً إلى درجة بالغة، تجعله يسعى هذا السعي الحثيث الدؤوب، لَما كان بوسعه أن يقوم بهذا الجهد اليومي المتكرر البالغ مدىً لا يستهان به.

     وإنّ المرء حين يتوقف عند حالة هذا الإنسان، البعيد عن مهد الإسلام ودياره، يلحظ مدى الحماسة الإيمانية البالغة التي تملأ شغاف قلبه، وهي حماسة يبدو أنها تلازم ذلك النفر الكريم ممن يسلمون عن قناعة تامة، وبعد بحث طويل، وبعد حُرقة في البحث عن الحقيقة، وبعد فترة من الحيرة والقلق والضياع، والخبط في دروب التيه، لذلك ما يكاد الواحد منهم يصل إلى شاطئ النجاة، وتستقر قدماه على جادة الهدى حتى يحرص على هداه حرصاً شديداً ويتشبث به إلى حد بعيد.

     نلمح هذا الحرص الحميد في قصة هذا المهندس الفرنسي المهتدي، ونلمحه في قصة فرنسية أسلمت واختارت اسم "زكية"، ذلك أنّ زكية هذه لم تكتف بإسلامها، بل أخذت تدعو إليه حتى بلغ عدد من أسلموا على يديها وبدعوتها عشرة أشخاص.

     ويؤكد الأستاذ الداعية محمد حميد الله أنّ الفرنسيين الذين يدخلون الإسلام في فرنسا لديهم حماسة لهذا الدين وتمسك به؛ أكثر من أولئك الذين ورثوا الإسلام عن آبائهم، ويضرب على ذلك مثالاً فيقول: لم أرَ بين المسلمات الفرنسيات واحدة لباسها غير لائق، ولقد شهدتهنَّ يحضون صلاة التراويح بحرص ملحوظ، والأمر في ذلك عند المسلمات بالوراثة مختلف كثيراً.

     ومنذ أعوامٍ خلت حضرت أستاذ جامعية في باريس إلى منزل الأستاذ حميد الله، وأسلمت على يديه، وكان معها رجل مسلم زوَّجَها الأستاذ حميد الله منه بناءً على طلبها.

     وقبل أن تمضي في الإعجاب كثيراً بهذه الحوادث، إليك هذه الواقعة ذات الدلالة الأعظم: إنّ شاباً من أحد البلدان الشيوعية في أوربا الشرقية جاء إلى باريس وقد أسلم، وأسلم معه خمسة شبان آخرين من بلده، وقَدِمَ إلى باريس سراً يريد شراء كتب عن الإسلام باللغة الفرنسية، ليتدارسها مع صحبه ويترجمها إلى لغة بلده، ويدعو بها سراً إلى الإسلام فيه.

     وإنّ المرء لَيشعر بالاعتزاز الهائل بهذا الدين، وقدرته الذاتية على النمو والامتداد واكتساب أنصارٍ له، بجهود ضئيلة جداً يبذلها المسلمون أحياناً، وبدون جهود قط في أحيان أخرى، وما من ريب في أنّ هذه القدرة الذاتية على النماء والبقاء والاستمرار من أسباب عظمة هذا الدين وخلوده، وما مِن ريب كذلك في أنها دليل على صحته، إذ إنها تؤكد بلا جدال ربّانية هذا الدين الذي رحم الله تعالى به الناس.

     إنه لَمِنْ دواعي الاعتزاز الضخم بهذا الإسلام الخالد، أن تجد غربيين قد آمنوا به وهم من الطبقة المثقفة، أسلم بعضهم دون أن يدعوه أحد، بل بجهده الذاتي في البحث عن الحقيقة، وأسلم آخرون بجهد محدود من جهود التبشير بالإسلام، وهي مع الأسف جهود ضئيلة جداً حين تقاس بجهود التبشير المسيحي.

     وإنّ اعتزاز المرء بهذا الدين لَيزداد كلما توقف عند حالة من حالات الهداية، لكنّ هذا الاعتزاز يبلغ أمداءه الرحيبة الواسعة، حين يتوقف المرء عند هداية ذلك الشاب القادم من أوربا الشرقية والرازحِ بلدُه تحت الحكم الشيوعي.

     فذلك الشاب يعيش في بلد لا يعرف الحرية في شيء، لا الفكرية ولا غير الفكرية، ثم إنّ النظام السائد يحارب الأديان ويعمل على تصفيتها، لأن عداء الشيوعيين للأديان عامة وللإسلام خاصة؛ عداء جذري، عميق وعنيف، ومع ذلك تشاء العناية الربانية لهذا الشاب أن يهتدي إلى الإسلام بوسيلة من الوسائل، وما يعلم جنود ربك إلا هو، ولم يكتفِ الشاب بالهداية التي فاز بها لنفسه، بل طفق يسعى إلى نقلها إلى غيره، وإذا به وقد صار معه عدد من المهتدين، يشعر بضرورة دراسة الإسلام، دراسةً وافية، ونقل بعض الكتب عنه إلى لغته لتكون عوناً له في عملية التبشير والهداية.

     إنه الإسلام. دين الله الخالد المحفوظ، لا يزال قادراً على أن يمتد هنا وهناك حاملاً شعلة النور للعالمين.
*****

أنس الياباني وجدية الانتماء

أنس الياباني وجدية الانتماء

     في أحد أيام الآحاد من شهر ربيع الأول 1395هـ= آذار 1975م، قَدِمَ شاب ياباني يعمل سائقاً لسيارة شحن في محافظة أوساكا على بُعد 600 كم جنوب غرب طوكيو، وتبدو على يديه آثار العمل الشاق، إذ هما متقرّحتان. جاء هذا الرجل ليسأل عن الإسلام وكيفية أداء الصلاة.

     وقال في حديثه عن نفسه: إني أومن منذ صغري بإله عظيم قوي، ومرّت بي أحداث عمّقت هذا الإيمان. ولم أكن أعرف كيف أعبد هذا الإله. وقرأتُ كتب البوذيين فلم تهدني، وقرأتُ الأناجيل فلم تجِبْ على تساؤلي.

     وأخيراً قرأتُ ترجمة معاني القرآن الكريم للحاج "عمر ميتا"، فعرفتُ أنّ الإسلام هو الصراط المستقيم، وأنّ الله العليّ القدير، هو الإله الذي أنشُده، فبدأتُ أصلي على حسب ما وصف عمر ميتا في مقدمة ترجمته، وجئتُ الآن لأسلم وأصحح صلاتي. ثم سأل مَنْ وجدهم في مسجد طوكيو من المسلمين سؤالين: أحدهما قبل أن يسلم، والآخر بعد إسلامه.

     أما الأول فقد قال فيه: ما هو موقفي من والديّ؟ هل أتبرّأُ منهما كما تبرّأ نبي الله إبراهيم فأذهبُ إلى المحكمة وأسجّل براءتي فيها؟ وقرأ له المسلمون الذين كانوا معه في المسجد، وصية لقمان التي تأمر ببر الوالدين حتى لو كانا كافرين فارتاح لذلك، ووجد فيه حلاً يرضاه ويطمئن إليه.

     أما السؤال الثاني فقد قال فيه: لمن أعطي الزكاة؟ فقالوا له: اتصل بالأخ خالد كيبا، وهو على مقربة من بلدك، وهو مسلم قديم، وسيدلك عن الذي تعطيه الزكاة ويعلّمك الإسلام، ويشرحه لك بشكل موسّع. وخالد كيبا مسلمٌ قديم وحَسَنُ الاطلاع والثقافة.

     واختاروا له اسم "أنس" فسأل عن معنى هذا الاسم؟ فقالوا له: إنه اسم لواحد من كبار الصحابة رضي الله عنهم، ومعناه الإنسان الذي تأنس به وترتاح له حين تلقاه، ففرح كثيراً بذلك، وغادر مسجد طوكيو وإخوته في الإسلام الذين جاء يسألهم ويستوضح منهم على عجل، ليلحق بالقطار السريع الذي يوصله إلى بلده، لأنه مُطالب أن يصحو مبكراً لأداء عمله.

     قصة هذا الياباني المهتدي، الذي بات يحمل اسم أنس قصة زاخرة بالحيوية والعبرة والدلالة. إنّ الرجل يعمل سائق سيارة شحن، ومثل هذا العمل يتطلب جهداً كبيراً، ولا يكاد يترك لصاحبه وقتاً ينتفع منه في راحة أو دراسة، خاصة تلك الدراسات التي تحتاج أناةً وتفكيراً هادئاً ومتصلاً، وهي التي ترافق تحوّل الإنسان من دين إلى دين. وها نحن نرى الرجل يصل إلى مسجد طوكيو، وعلى يديه آثار قروح العمل الشاق، وبعد استفسارات كانت تشغله يمضي مسرعاً ليكون بوسعه استئناف عمل الغد.

     ومع هذا؛ فأنس تتحركُ فطرته تبحث عن الهداية، ويتحرك عقله ينشد الحق، هو يؤمن بإله قوي عظيم، ومرّت به أحداث رسّخت هذا الإيمان، لكنه لا يعرف كيف يقوم بحقوق هذا الإيمان!؟ ولا يعرف كيف يعبد الله القوي العظيم!؟ ومضى إلى كتب البوذيين فلم يجد ما يطلب، ومضى إلى الأناجيل فلم تُجِبْ هذه الأناجيل على تساؤله.

     وشاء الله تعالى أن يقرأ أنس ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة اليابانية، التي قام بها الحاج عمر ميتا، فإذا به ينشرح صدره، وتطمئن نفسه، ويوقن أنّ الإسلام هو الحق، ثم يأخذ في التطبيق حين يبدأ يصلي من خلال فهمه لما كتبه عمر ميتا عن الصلاة في مقدمة ترجمته.

     سبحان الله!.. أنس لم يَلْتَقِ بمسلم يحاوره ويحدّثه عن عظمة الإسلام وصحّته، ويدعوه إليه، وإنما تعرف على الإسلام من خلال كتاب، وحين أيقن أنه هو الحق شرع في التطبيق العملي، لكنه وجد نفسه في حاجة إلى مزيد من الإيضاح، ووجد بعض الأسئلة تدور في خلَده فسافر إلى طوكيو، واتجه إلى مسجدها ليلتقي بالمسلمين هناك ويتحدث معهم.

     ويمكن لك أن تلحظ الجدية التامة، والإحساس بضرورة التطبيق العملي والفوري لما يأمر به هذا الدين في جملة أمور، فهو يريد تصحيح صلاته لتكون على الشكل المطلوب، ثم هو يسأل عن موقفه من والديه؛ وهل يتبرّأُ منهما رسمياً وفي سجلات المحكمة!؟ ثم هو يسأل لمن يعطي الزكاة!؟ إنّ في ذلك دلالةً على جدية الانتماء إلى الإسلام، وجدية الشعور بضرورة تطبيقه التام، ما دام الرجل قد آمن به وألقى قياده إليه.

     في قصة أنس دليل على عظمة الإسلام، هذا الدين الرباني المحفوظ، الذي يتحرك بدون أن يحمله أحد في كثير من الأحيان، فهو الدين الحق، الذي يفرض نفسه بذاتيته المعجزة الربانية.

     وفي قصة أنس دليل على الفرص الكبيرة، المتاحة أمام انتشار الإسلام في اليابان، فالشعب الياباني يملك فطرة فيها الكثير من الخير، وهو تربة خصيبة تسهّل على أبنائها الاقتناع بالإسلام.

     وفي قصة أنس دليل كبير على تقصير المسلمين في حمل رسالة الإسلام وإبلاغها للناس. إنّ في اليابان اليوم فرصة كبرى لهداية هذا الشعب الذكي الطموح وانتشار الإسلام بين أبنائه، فعسى ألّا يضيّعها المسلمون.
*****

إسلام .. ميشال فلسان وروني قونون

إسلام .. ميشال فلسان وروني قونون

     كثيرة هي الشواهد والحقائق التي تتجدد وتتكرر بين الحين والآخر، لتثبت صحة هذا الدين وخلوده، وعظمته وتكامله، واستمراره في دوره الخالد في هداية الآخرين وإخراجهم من الظلمات إلى النور. وفي طليعة ذلك، قدرة الإسلام المستمرة على اجتذاب أناس يؤمنون به، ويمنحونه ولاءهم، من شتى البلدان والشعوب.

     وفي حياة الرجل الصالح مصطفى فلسان رحمه الله نموذج يؤكد هذا الذي نقول. ولِد الحاج مصطفى عبد العزيز الذي كان يحمل اسم "ميشال فلسان" قبل إسلامه، في مدينة بوخارست عام 1907م، وهو عالم جليل وموظف كبير في السلك الدبلوماسي لبلاده، وقد وصل به البحث عن الحقيقة إلى اشمئزازه من الحضارة المادية لذويه، واستنكاره ما عليه قومه وحضارته من انحرافات وأخطاء، وما زال يستمر في البحث عن النور، وتقترب خطاه من الحقيقة، وتشرق على عقله وقلبه أنوار الهداية، حتى اعتنق الدين الإسلامي، واستقر نهائياً في باريس حتى وافاه الأجل عام 1394هـ= 1974م.

     قضى المرحوم "مصطفى عبد العزيز فلسان" فترة من الزمن في تونس يدرس الإسلام واللغة العربية، وتأثر في تلك الفترة بباحث آخر عن الحقيقة هو الفرنسي المسلم "روني قونون"، إلى درجة أنه صار تلميذاً له ومُريداً، ومواصلاً لمنهجه من بعده.

     وكان يعيش حياة روحية غنية، ويؤثِر الوحدة والعزلة، لكنه كان يأتي بانتظام إلى مسجد باريس الكبير ليؤدي صلاة الجمعة، وصلاة التراويح في رمضان من كل عام.

     وكان يحب الشبان، لذلك كان يزورهم في منازلهم ليحدثهم عن أهمية الحياة الروحية محاولاً جهده أن يأخذ بأيديهم إلى الطريق المستقيم، طريق الإسلام الخالد العظيم، وكان رحمه الله يصدر جريدة فصلية تخرج كل ثلاثة أشهر، وكان لها تأثير محمود ملاحظ، فقد اجتذبت مقالاته عدداً كبيراً من غير المسلمين إلى الإسلام، فكوّن بهم جمعية مؤمنة متحابة، تذكُرُ الله تعالى وتمجّده، وتؤدي فرائض الشريعة الإسلامية كالصوم في رمضان، وأداء الصلوات الخمس يومياً، وأداء الحج على قدر الاستطاعة، وكانت للمرحوم فلسان لحية جميلة يطلقها بذوق وأناقة، وكان لعدد من أصحابه مثل ذلك.

     وتزوج المرحوم مصطفى عبد العزيز فلسان مرتين، وخلّف عائلة كبيرة، والشيء الذي يبعث على الإعجاب والتقدير أن نرى عائلة هذا الأوربي المهتدي، شديدة التمسك بتعاليم الإسلام، وأبناؤه الصغار الذين تتراوح أعمارهم بين ست وسبع سنوات يرتلون القرآن الكريم باللغة العربية، وفي كثير من الأحيان يفهمون معانيه. وقد زار الجزيرة العربية وعدداً كبيراً من البلدان الإسلامية، وقد فازت إسطنبول بإعجابه ومحبته.

     حقاً إنّ في سيرة هذا الأوروبي المسلم عبراً ودروساً تنتزع الإعجاب وتفرض نفسها على المرء فرضاً. لم يكن فلسان رجلاً جاهلاً أو نكرة بين الناس، بل كان رجلاً ذا أهمية بالغة ومنزلة محترمة، ذلك أنه كان عالماً كبيراً وموظفاً مهماً في السلك الدبلوماسي لبلاده، وكان ذا نزعة روحية قوية لبلاده، ونظر نافذ، وفِكْرٍ حيٍّ متوقّد، لذلك لم يكن غريباً أنْ شعر الرجل بإفلاس حضارة قومه المُغرِقة في المادية، وبحاجته إلى اكتشاف الحقيقة، وأتبَعَ شعوره هذا بالسعي الحثيث بحثاً عن الهداية والنور حتى أكرمه الله تعالى بالإسلام، فألقى إليه قياده سعيداً هانئاً مطمئناً، وعاش في رحابه الطاهرة حتى وافاه الأجل.

     ولقد أدرك فلسان رحمه الله أنّ الإسلام يوجِب على أبنائه أن ينشروا هذا الدين ويبذلوا جهودهم من أجل ذلك، وأنه ليس في الإسلام دعاة رسميون هم الذين يتحملون وحدهم مسؤولية تبليغ الدعوة، بل كلُّ مسلم مُطالبٌ بذلك وإن اختلفت مسؤولية المسلمين في ذلك بحسب منازلهم وإمكاناتهم. لذلك شهدناه رحمه الله، يسعى إلى الشبان في منازلهم ليحدّثهم عن هذا الدين ويأخذ بأيديهم إلى الطريق المستقيم، ولذلك شهدناه أيضاً ينشئ مجلة فصلية، كان لمقالاته فيها تأثير حميد إذ اهتدى بها عدد غير قليل إلى الإسلام، سارع فلسان ليشكل منهم جمعية مؤمنة تحاول تحقيق الحياة الإسلامية فيما بينها بقدر ما تستطيع، وتفكر في أمر الدعوة، وتتواصى بالحق، وتتواصى بالصبر.

     ومن أهمّ النقاط التي تفرض على الإنسان احترام هذا الأوربي المسلم، أنه خلّف عائلة كبيرة وعُنِيَ بها عناية فائقة وبذل لها الكثير من جهده ووقته، وماله وأعصابه، ليكون أفرادها نماذج مؤمنة صالحة، شديدة التمسك بتعاليم الإسلام، وثيقة الصلة بكتاب الله عز وجل وهذا الذين كان. رحم الله مصطفى عبد العزيز فلسان، وأنزله منازل الأطهار الأبرار.

     وانتقل إلى رحمة الله عز وجل ليلة الاثنين 9 ذي القعدة 1394هـ= 24 نوفمبر 1974م، ودُفِنَ في مقبرة المسلمين بإحدى ضواحي باريس بالقرب من مطار أورلي الدولي.

     رحم الله الفقيد رحمة واسعة وأجزل له المثوبة، ورزق أهله وذويه الصبر، وهيّأ لهم من يُعنى بهم بعد فقدان عائلهم، عناية مادية، وعناية إيمانية على السواء.
*****

مارك ماينكي إلى الإسلام (2)

مارك ماينكي إلى الإسلام
(2)

     إن الغربيين متعطشون إلى دين ينقذهم من المجاعة الروحية التي يعانونها. لقد أنهكتهم المادة وعبادتها من دون الله، وما اعتناقهم للبوذية والهيبية وغير ذلك إلا ردة فعل للقلق الذي يعيشونه.

     هذه العبارة قالها الأستاذ الأمريكي مارك ماينكي الذي أكرمه الله تعالى بالهداية، فأسلم واختار لنفسه اسم "مصعب عبد الله". وقد جاءت عبارته هذه ضمن حديث أجرته معه بعض المجلات الإسلامية، حيث قابلته، وكان ثمة حوار نافع مفيد، تحدث فيه الأخ المهتدي عن الدوافع والأمور التي قادته إلى الهداية.

     وعبارته هذه عبارة صادقة إلى أبعد حدود الصدق، فالغرب فعلاً يعيش في مجاعة روحية رهيبة تطحن الناس طحناً، والمادة أنهكت الناس وهم يَعْدُونَ وراءها ويعبدونها من دون الله عز وجل، والقلق استحوذ على البشر فدمّر أعصابهم، والحيرة أحكمت طوقها عليهم فعادوا يدورون في دوامة التيه والضياع، وطفقوا يبحثون عن أي أمل يلمع أمامهم فيُلقون قيادهم إليه، يتوهّمون أنه سبيلهم إلى النجاة، وهذا يفسّر ما نجدهم في عالم الحضارة الغربية من عجائب وغرائب حين نرى الناس مرة تتبع البوذية، وأخرى تؤمن بالوثنية الهندية لعبادة صنم اسمه "كريشنا" يزعمونه إلهاً، وما إلى ذلك من أضاليل وخرافات.

     يمكن لنا أن نؤكد أنّ الناس في أمريكا، وفي الغرب عامة؛ هم بدون دين، أو إن شئت الدقة فهم يعبدون المادة، وإنهم الآن أحوج ما يكونون إلى أن يتقدم إليهم الدعاة المسلمون لينقذوهم مما هم فيه، ويخرجوهم من الظلمات إلى النور.

     في حديثه عن إسلامه يقول الأخ مصعب عبد الله: كنتُ أطيلُ النظر في تركيب المجتمع الأوربي، فوجدتُ أنّ هذا المجتمع فاسد، دُمِّرت فيه الأخلاق، وأصاب جحيم هذا الدمار الأسرة فأجهز عليها وحطّم رباطها، فلا هي تلتقي يومياً، وإن اجتمع أعضاؤها فهم مادّيون، والمال الذي في جيب الأخ خيرٌ له من أخيه وأبيه، وكنتُ ألاحظُ تماسك الأسرة في البلاد الإسلامية وما بين أفرادها من محبة وتكافل وإيثار فيعجبني هذا النظام، وتتقزّزُ نفسي مما عليه الأوربيون، والأوربيون لا يعرفون الدين إلا يوم الأحد، وداخل الكنيسة، فإذا خرجوا من الكنيسة صاروا خلقاً آخر، فكان يزعجني هذا التناقض والازدواجية، فما الذي جعلك متديّناً داخل الكنيسة ومنحلّاً سفّاحاً خارجها!؟

     وشاء الله تعالى لي الخير عندما تعرّفتُ على شاب مسلم من لبنان يعتز بدينه، ويعمل في ديار الغرب، هو إبراهيم عبد الله العيتاني، وكان إبراهيم زميلي في الدراسة، وقد أعطاني من أجود الانطباعات عن الإسلام والمسلمين. وفي عام 1969م سافرتُ إلى لبنان وبقيتُ سنة عند أهل زميلي إبراهيم في بيروت، وعرفتُ عن كثب حياة المسلمين، وتماسك الأسرة المسلمة فتأثرتُ من حياتهم تأثراً بالغاً، وتأكدتُ أنّ الدين يعيش معهم دوماً وفي كل لحظة.

     وعدتُ عام 1970م لأمريكا، وتابعتُ دراستي حول الأديان، ومن خلال دراستي الجديدة والقديمة صار لي تصور جديد، وصرتُ أتضايق من المزاعم ضد الإسلام كتلك التي تقولك إن المسلمين يكرهون عيسى عليه السلام.

     إنّ هذه الادّعاءات لم تعد تجدي مع إنسان عاشر المسلمين عن كَثَب. وأصبحتُ أتساءل: إنّ النصارى يقولون: إنّ النصرانية مكمّلة لليهودية، فلماذا لا يكون الإسلام مكمّلاً لليهودية والنصرانية؟

     وفي عام 1971م عملتُ في القاهرة أدرّس اللغة الإنكليزية في الجامعة الأمريكية، ومكثتُ حتى عام 1973م، وكنتُ في الوقت نفسه طالباً في علوم اللغات، وكنتُ أعيش مع الطلاب والمدرسين المسلمين، ومرة قال لي صديق مسلم: كيف تؤمن بنبوة عيسى عليه السلام ولا تؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وظلّ هذا السؤال يتردد عليّ وأسألُ به نفسي حتى انجلت الغشاوة عن عيني، فأبصرتُ الحقيقة.

     وفي عام 1971م عدتُ لأمريكا في الصيف، وصرتُ لا أستريحُ إلى الكنيسة، وإلى ادّعاءات النصارى وافتراءاتهم على الإسلام ورسوله، وزاد تثاقلي ومللي بسبب تناقضات المجتمع الغربي وبُعدِه عن القيم.

     وفي خريف 1973م سافرتُ إلى الكويت لأعمل خبيراً في جامعتها، وما زلتُ أبحث إلى أن أعلنتُ إسلامي، وصار اسمي "مصعب عبد الله" بدلاً من "مارك ماينكي"، وصرتُ أحافظُ -والحمد لله- على الصلوات الخمس يومياً.

     وبعد أن أعلنتُ إسلامي، صرتُ أشعر براحة في ضميري، واطمئنان في قلبي، وزوال كل آثار القلق ومعالمه من نفسي. حقاً لا يشعر بهذا الشعور إلا من أكرمه الله بالإسلام. وأنا اليوم مصعب عبد الله، الذي يعتزُّ بالإسلام، وأعلام المسلمين من مثل مصعب وعبد الله وعمر وخالد.

     إنّ الغربيين متعطشون إلى دين ينقذهم من المجاعة الروحية التي يعانونها، فلقد أنهكتهم المادة وعبادتها من دون الله، والحمد لله الذي هداني للإسلام.

     وبعد .. فإنّا إذ نحيّي من الأعماق الأخ المهتدي مصعب عبد الله، نُهيب بالمسلمين جميعاً أن يمارسوا دورهم في حمل رسالة الإسلام، ونشر أنوارها، في هذا العالم الحائر الضائع، لإخراجه من الظلمات إلى النور، ففي ذلك إبراء للذمة، ونهوض بالمسؤولية، واستفادة من الظرف المواتي اليوم.
*****

المهتدي الأمريكي مارك ماينكي (1)

المهتدي الأمريكي مارك ماينكي
(1)

     ما زال الغربيون يدخلون في دين الله أفواجاً، وفي طليعة الذين يعلنون إسلامهم المثقّفون من العلماء وأساتذة الجامعات وأصحاب الاختصاصات العليا، والفضل في ذلك لله عز وجل الذي أتمّ هذا الدين وأكمله، وارتضاه للعالمين، وحفظه وصانه من التغيير والتبديل والتحريف، ومن الانتقاص منه أو الزيادة فيه، لذلك لا غرابة قط في أن تسمع بين الحين والآخر قصة هداية فرد أو طائفة من الناس، تارة بجهود بعض الدعاة والمبشّرين بالإسلام، وتارة بمجرد الاطلاع الشخصي دون مساعدة من أحد من المسلمين، فيُسلِم الواحد والاثنان، وتُسلِم الجماعة القليلة والجماعة الكبيرة، ويُسلِم رجال، وتُسلِم نساء، ينتزع إعجابهم هذا الدين السمح السهل العميق، بوسطيته بين الروح والجسد، وبتوازنه وشموله وكماله، فهو دين الفطرة الطيبة السوية لا الشذوذ والانحراف، وهو دين الاعتدال لا المبالغة والغلو، والتطرف في شيء على حساب شيء آخر، وهو دين يطلق مواهب البشر العقلية والاجتماعية والسلوكية فيما يعود عليهم بالنفع في دينهم ودنياهم، ويحملهم إلى آفاق الإبداع والاكتشاف والتفوق.

     ونلتقي مع مهتدٍ أمريكي هو الأستاذ مارك ماينكي من مدينة شيكاغو، وهو يحمل درجة البكالوريوس في تاريخ الشرق الأوسط، ودرجة الماجستير في الأديان، ودرجة ماجستير أخرى في علوم اللغات. وكان مسيحياً بروتستانتياً قبل أن يُسلِم. وهو من مواليد عام 1948م أي 1368هـ، فهو شاب في التاسعة والعشرين من عمره، ويعمل خبيراً مشرفاً على النظام الجديد في الكويت. وقد أسلم الرجل عن قناعة تامة، وسمّى نفسه بعد أن اهتدى مصعب عبد الله.

     يتحدث مصعب عن نفسه فيقول: أراد الله عز وجل أن أختص بدراسة التاريخ، ودراسة التاريخ يرافقها دوماً دراسة الأديان، ومنذ طفولتي كنتُ كنصراني أحبُّ دراسة تاريخ القدس منذ أيام المسيح عليه السلام، وهذه الدراسة انتهت بي إلى دراسة تاريخ الإسلام والعرب الذين حملوه، وقد أحببتُ هذه الدراسة، وصار عندي شغف بمتابعتها، ولستُ أدري السبب في ذلك. وقد يكون هذا الحب وُلِدَ عندي لشجاعة العرب الفاتحين، ونبلهم وسموّ أخلاقهم، وقد يكون لهذا الدين الذي اكتسح العالم خلال فترة من الزمن، وكيف آمن الناس به بيسر ودون تعقيد، وقد يكون لجميع هذه الأسباب.

     إنّ علينا أن نلاحظ فيما قاله مصعب قيمة المعرفة الحقّة ودورها في الهداية، ذلك أنه حين تُتاحُ لإنسان غير مسلم يتحلّى بشيء من الإنصاف، فرصةٌ لدراسة الإسلام وتاريخه، من مصادرَ وثيقة، سيجد نفسه أمام مبادئ نبيلة متفوقة، ودعوة سهلة سمحة ليس فيها تعقيد أو لَبس أو غموض، وسيجد نفسه أمام تطبيق عملي عملاق، لتلك المبادئ العملاقة الكريمة، وسيجد بطولات رائعة في الشجاعة والقضاء، والعدالة والمساواة وغير ذلك، وسيلمس النقلة الضخمة الرائعة التي أحدثها الإسلام في الناس، في كل ميدان من ميادين حياتهم، وعلى كل مستوى وصعيد، وهذا كله ومعه ما يشبهه، قادر على انتزاع الإعجاب من الدارس المنصف، وهو إعجاب ربما ينتهي بالهداية وإعلان الإسلام، وربما يتوقف دون ذلك عند حد الإنصاف، وفي كلٍّ من الأمرين خير.

     ولا بد أنّ لدراسة مصعب تاريخ الإسلام، والتوقف عند شجاعة العرب الفاتحين وانتصار الإسلام الكاسح، وإيمان الناس به بيسر وبساطة، أثراً في هدايته للإسلام، ولهذا علينا أن نترجم إلى اللغات الحية الأخرى كتباً إسلامية كثيرة، تعرض عظمة الإسلام وسماحته وخلوده بشكل علمي مشوّق، وطريقة محبّبة جذابة، وتناولٍ مختلفِ الأداء والأساليب، فإنّ لذلك دوراً كبيراً مأمولاً في هداية الناس إلى الإسلام بإذن الله.

     ولا يغيب عن الأخ المهتدي مصعب عبد الله أنّ المسيحية في الغرب وأمريكا تعاني كثيراً من المتاعب والصعاب، وأنها وقد حُرِّفت لم تعد تلبي حاجات الناس وأشواقهم، وأنّ الفرصة متاحة اليوم لهداية القوم هناك، حيث القوم متعطشون إلى دين ينقذهم، وأنّ على المسلمين أن يرسلوا مجموعة من الدعاة لنشر الإسلام، لذلك يقرر قائلاً: "الناس في أمريكا يتخلّون عن النصرانية أفواجاً، فتارة تجدهم بوذيين، وغير ذلك، وعلى الدعاة المسلمين أن يؤدّوا دورهم، وأن يرسلوا وفوداً إلى بلاد الغرب تبشّر بالإسلام".

     ويمضي الأخ مصعب عبد الله يقول: "أتساءل كيف يستغرب المسلمون من إسلام أمريكا وبريطانيا المشركتين، ولا يستغربون إسلام قريش المشركة!؟ وما هو الفرق بين قريش قبل الإسلام وبين أمريكا!؟ ليس إسلام الأمريكان أمراً نستغربه، بل الذي نستغربه ونستنكره أن لا يدخل الناس في دين الله أفواجاً.

     إنّ على المسلمين أن يستجيبوا لِما أمرهم الله تعالى به، وإذا اقتضت الظروف أن أكون ضمن مَنْ يبشّرون بالإسلام في أمريكا فسوف أستجيب لأوامر ديني، وأفعل ما يرضي ربّي، والحمد لله الذي هداني للإسلام".
*****

عبد الكريم جرمانوس يشخص أمراض الغرب (2)

عبد الكريم جرمانوس يشخص أمراض الغرب
(2)

     الدكتور عبد الكريم جرمانوس، شخصية إسلامية مشهورة، إنه أستاذ التاريخ الحديث في بودابست بالمجر، وقد اهتدى هذا الرجل إلى الإسلام وآمن به، ومنحه صادق ولائه، وهو مختص بالدراسات العربية والإسلامية، وله علم واسع، ومشاركات ثقافية ذات قيمة حقيقية.

     وتستوقف قصة إسلام الرجل، نظر الإنسان، فهي قصة حيّة، حافلة بعناصر الفاعلية والتشويق، وتدل على طهارة هذا الرجل وصدقه، وجدّه وإخلاصه في البحث عن الحقيقة وطلبها. وسنتوقف بعض الشيء مع الدكتور جرمانوس، لا مع قصة إسلامه، فلذلك موضع آخر، ولكن مع شهادة له، يُدين بها الحضارة الغربية، وتبدو قيمة هذه الشهادة، في أنّ صاحبها، رجل نزيه موضوعي، ذو عقل حي ناقد، وثقافة واطلاع واسعين، يضاف إلى ذلك أنّ الرجل عاش معظم عمره الذي يشارف الآن التسعين عاماً، في الغرب نفسه، أستاذاً في إحدى جامعاته، ومعنى هذا كله أنه بالغرب وحضارته خبير بصير.

     يقول الدكتور عبد الكريم جرمانوس: "الكثيرُ الاهتمامِ والانتباهِ، والمراقبُ للأحداث الجماعية التي تحدث في أيامنا هذه، قد يلاحظ أداة الإنذار بالخطر، خطر التفسخ والانحلال، الذي يجتاح أوربا وأمريكا، الكذب والبهتان والسرقة، والسطو على المنازل الآمنة ليلاً، والقتل العمد، والاستمتاع بلذة المواد المخدرة التي تجتمع وتتحد بالفساد، والفسوق الجنسي، وكلها أشياء قوّضت مجتمع الشعوب والأمم".

     إن الدكتور جرمانوس يبدأ حديثه بالإشارة إلى بعض الإفرازات الخطيرة الضالة في حضارة القوم هناك، وهي إفرازات متنوعة، تعبّر عن خطأ مسيرتهم الحضارية وضلالها، وهذه الإفرازات على خطورتها ليست هي علة تلك الحضارة، بل هي المظاهر الخارجية لتلك العلة. ومعنى ذلك أنّ إفرازات جديدة لا بد أن تظهر بين الحين والآخر، وهو واقع الأمر الآن، فما تكاد تمر فترة إلا ونسمع بألوان جديدة من الإفرازات الضالة لتلك الحضارة المنحرفة.

     وحين يعرض الدكتور جرمانوس للجريمة في العالم الغربي، وهي واحدة من أخطر وأشنع إفرازات تلك الحضارة، لا يغيب عنه أن يربط بين نموها وزيادتها، وبين الانحلال الخلقي وظهور النزعة المادية، وضعف الوازع الديني. إنه يقول:

     "إنّ الجريمة والإجرام في العالم الغربي قد فاقت كل حدٍّ ممكن للسلطة، وقد نتعرف على السبب بسهولة إذا ربطنا بين نسبة الجريمة والتفسخ والانحلال، وبين ظهور النزعة المادية اللادينية".

     إنّ المَجَري المسلم ها هنا يقرر دور الوازع الديني في الكفّ عن الجرائم، وهذا الوازع يحتل المرتبة الأولى في مقاومة الجريمة، وفي إنشاء مناعة ذاتية تجعل الناس يكفّون عنها تلقائياً، وهذه حقيقة تقوم عليها شواهد كثيرة جداً في دراسة الحياة الاجتماعية وما يتصل بالجريمة منها بشكل خاص.

     وثمة قضية أخرى ينبّه إليها عبد الكريم جرمانوس في شهادته هذه، وهي النتائج الخطيرة التي تترتّب على انفصال النشاط البشري عن الدين وضوابطه وتوجيهاته. فها هو ذا يقرر قائلاً:

     "إنه لمن دواعي الأسف أنّ النتائج المذهلة في العلم الخالص واستعمالاتها وتطبيقاتها في الحياة العملية قد جَرَّدَتْ بطريقة أو بأخرى الرجولةَ من الإدراك، وليس هذا فحسب، بل إنها عَرَّتها من الاعتراف والتسليم بالحقائق الدينية والروحية للكون والجنس البشري، ومن الجوهر الذي يهدي قوة الأخلاق، والأخلاق لا تستطيع بأية حال من الأحوال أن تنفصل عن الإيمان".

     وهذه القضية التي يشير إليها الدكتور جرمانوس بالغة الخطورة، وها نحن نشاهد كل يوم مصداقها، حين نرى كيف يُوَظَّفُ النشاطُ البشري للشر والتدمير والهلاك حين تنعزل مسيرته عن هدي الدين وتوجيهاته.

     ويدرك الدكتور عبد الكريم جرمانوس، قيمة الشهادة التي يدلي بها في نقد وتقويم الحضارة الغربية، لذلك لا نخطئ أن نلمس ذلك في جملة من الأمور من بينها شعوره بخبرته الواسعة عن الحياة الغربية خلال عمر طويل قارب التسعين عاماً، ومن بينها شعوره العميق بواجبه في نقل خبرته لإخوته المسلمين في العالم، ونصحه إياهم بالحفاظ على أخلاقهم، لأنّ بها قوام حياتهم.

     يقول الدكتور جرمانوس: "إنني أكتب هذه السطور من قلب المدنيّة الغربية محاطاً بآلاف الكتب والمجلدات الغربية والشرقية، ومُزَوَّداً بحياة طولها تسعة وثمانون عاماً بين الخبرة الغربية والشرقية، إنني أتشرّب المعلومات والمعرفة المفيدة، كما أتشرّب الأحداث المؤذية في الكيان الإنساني في كرتنا الأرضية. إنني بحكم كوني المسلم المجري الوحيد، أحث بشجاعة وجسارة كل إخواني للحفاظ على الأخلاق التي هي عقائدنا الروحية في ديننا الإسلامي".

     إنّ الدكتور عبد الكريم جرمانوس، المجري المسلم، قدّم لنا شهادة قيّمة تُدين حضارة الغرب، تنطوي على جملة من الملاحظات الذكيّة، في إدراك نقاط الضعف والقصور في هذه الحضارة التي نواجه مشكلاتها وأزماتها كل يوم.
*****

إسلام المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس (1)

 

إسلام المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس (1)

     "إن الشريعة الإسلامية ترتكز على الأخلاق، وهي تنظّم سلوك الفرد من أسمى وجهة نظر لصون المجتمع، وحمايته بسلامة العقل والطمأنينة والاستقرار، إنها تنشئ انسجاماً تاماً بين الحقوق والواجبات عند الفرد وعلاقته بحكامه".

     هذه عبارة قالها الدكتور عبد الكريم جرمانوس، المجَري الذي اهتدى إلى الإسلام يشيد فيها بالشريعة الإسلامية وعظمتها.

     وابتداءً لا بد لنا من أن نقول: نحن لا نعلّق ولاءنا للإسلام على شهادة بصلاحيته يقول بها أحد من البشر، لكنّ هذا لا يجعلنا نغلق على أنفسنا أبواب الانتفاع من تجارب وخبرات جعلت طوائف من الناس تؤمن بعظمة الإسلام وصحته وخلوده. وتعلن قناعتها هذه على رؤوس الأشهاد، دون تردد أو خوف أو مجاملة.

     إن بعض المفتونين بالغرب، الذين يشعرون إزاءه بالإعجاب والإكبار، ينظرون في ضيق إلى العقوبات الإسلامية، ويرون فيها شيئاً من القسوة. فلنسمع ما قاله أحد المثقفين الكبار في هذا:

     "إن شريعة الغرب الحديثة تميل إلى تخفيف آلام الآثام والجرائم إلى حد إلغاء العقاب. وبعض مشرّعي القانون ينكرون الإجراء الصارم لجريمة السرقة. إنني في خبرتي وتجوالي في أثناء حياتي المبكرة في عدد من الدول الإسلامية لم أقابل أحداً ممن قُطِعت أيديهم، كما أني لم أسمع عن حادثة سرقة ارتُكِبَتْ في المتاجر والأسواق الشرقية وأنا شاهد عيان في تركيا ومصر وسوريا والعراق والمغرب على أنّ أصحاب المتاجر والحوانيت، تركوا أكشاكهم مفتوحة في أثناء الصلاة، فقد كانوا يتركون لافتة تقول: إن صاحب المتجر غير موجود. إنّ العقاب العادل المنصف الذي كان يُعلن بواسطة القاضي كان كافياً ليحول دون مجرم جديد لجريمة جديدة".

     صاحب هذا النص الذي قدّمناه هو الدكتور عبد الكريم جرمانوس، وهو يكشف عن دور العقوبات الإسلامية في تحقيق العدل وإذاعة الأمن.

     ثمة سؤال صغير نوجهه للمفتونين بموقف الغرب إزاء العقوبات هو: إنّ الجرائم هناك تزداد عدداً وتنوّعاً وحدّة، والبيانات والإحصاءات والأرقام تدل على ذلك. أليس هذا معناه أن قانون العقوبات عند القوم فاشل؟ وإلا.. فكيف نفسّر الزيادة المطردة في حجم الجريمة بأنواعها المختلة؟

     إنّ قانون العقوبات يحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية زيادة الجريمة، ولكن تشترك معه فيها عوامل شتى، وأهمها تردّي الوازع الديني عند القوم باستمرار. وإذا وجدت في الغرب، بعض الحركات والنشاطات الدينية، فهي على الأكثر مجرد فَوْرات وقتية سرعان ما تخبو وتبيد.

     إنّ بوسع المرء الباحث عن حقيقة الإيمان في المجتمعات المعاصرة أنْ يقررَ بأنَّ العالم الغربي بشقّيه الرأسمالي والشيوعي لا يعرف الإيمان، العالَم الشيوعي ينكر وجود الله عز وجل ابتداءً ويؤمن بالمادة، والعالَم الرأسمالي لا ينكر وجود الله تعالى، لكنه من الناحية العملية الواقعية، يمارس شتى نشاطاته بمعزل عن هدي الدين وتوجيهاته.

     ولقد كان من نتائج ذلك أن أخفقت حضارة العصر إخفاقاً ذريعاً، وذلك لأنّ أياً من هذين العالَمين على الرغم من إنجازاته العلمية الهائلة لم يستطع أن يَهَبَ للبشرية ما تتطلع إليه من طمأنينة واستقرار، وعدالة وكرامة، بل إنه على العكس من ذلك يسلبها باستمرار طمأنينة نفسها، وسلام روحها، ويتركها نهباً للحيرة والقلق وشتى المخاوف.

     ولقد أثبت استقراء التاريخ أنّ العلم ليس إلا جزءاً يسيراً من حضارات الشعوب، وأنّ الحضارة الحق، هي محصّلة التفاعل التاريخي بين جوانب الحياة الروحية والمادية وما تحمل من خير وسعادة للإنسانية بأسرها، وأنّ العلم إذا لم يكن وسيلة لخير الناس وبناء المجتمع البشري وطريقاً لمرضاة الله عز وجل وإعلاء كلمته، سوف يصبح وسيلة دمار وخراب للبشرية كلها، فيجد الإنسانُ نفسَه صريعاً بسلاحه في آخر المطاف، وينقلب نشاطه عبئاً عليه، ويصبح ذكاؤه كارثة تدمّره.

     لقد سقط إنسان العصر الحديث تحت أقدام المادية العمياء مأخوذاً بوهج الإنجازات العلمية الرائعة، ولقد تمثل سقوط الإنسان في العالَمين الشيوعي والرأسمالي ببروز مشكلات سياسية ونفسية، واقتصادية وإنسانية، وأخلاقية واجتماعية، وتربوية وسلوكية، في غاية العنف والكثرة والتنوع، ونتيجةً لهذا سيطرت على البشر موجات من القلق والفوضى والعبث والضياع والفراغ والحيرة، والمسلم وحده هو الذي يمتلك طوق النجاة.

     إنّ عليه أنْ ينقذ الإنسان المعاصر من مآسيه ومتاعبه، ويقوده بالإسلام إلى طريق السعادتين، سعادة الدين وسعادة الدنيا على السواء:

إنَّ هذا العصــــرَ ليلٌ فــأنِرْ     أيها المسلمُ ليلَ الحـــــائرينْ
وسفينُ الحقِّ في لجِّ الهـوى     لا يرى غيرَكَ ربّانَ السفيـنْ

     إنّ المرء لَيَستشعر في بيتَيْ إقبال هذين، أنّ ثمة دوراً كبيراً ينتظر أمّة العرب والإسلام، وأنّ المسلمين والعرب اليوم قادرون أكثر من أي وقت مضى على مسيرة التعاون من أجل الخير لأنفسهم وللبشرية جمعاء.

     ها هي ذي الشيوعية تزعم الدفاع عن العدل، وها هي ذي الرأسمالية تدّعي الدفاع عن الحريّة، وعلى المسلمين كشفُ هذه المزاعم بكل طريق ممكن، وأهمُّ وأوّلُ هذه الطرق أن يقيموا مجتمعاً إسلامياً راشداً، يحقق العدل والمساواة والحرية، ويطلق طاقات البناء والتعمير في مسيرة إيجابية جادة لخدمة الفرد والجماعة والحضارة. إنّ مثل هذا المجتمع هو أعظم تعريف بالإسلام وردٌّ على أعدائه.
*****

الأكثر مشاهدة