أنس الياباني وجدية الانتماء
في أحد أيام الآحاد من شهر ربيع الأول 1395هـ= آذار 1975م، قَدِمَ شاب ياباني يعمل سائقاً لسيارة شحن في محافظة أوساكا على بُعد 600 كم جنوب غرب طوكيو، وتبدو على يديه آثار العمل الشاق، إذ هما متقرّحتان. جاء هذا الرجل ليسأل عن الإسلام وكيفية أداء الصلاة.
وقال في حديثه عن نفسه: إني أومن منذ صغري بإله عظيم قوي، ومرّت بي أحداث عمّقت هذا الإيمان. ولم أكن أعرف كيف أعبد هذا الإله. وقرأتُ كتب البوذيين فلم تهدني، وقرأتُ الأناجيل فلم تجِبْ على تساؤلي.
وأخيراً قرأتُ ترجمة معاني القرآن الكريم للحاج "عمر ميتا"، فعرفتُ أنّ الإسلام هو الصراط المستقيم، وأنّ الله العليّ القدير، هو الإله الذي أنشُده، فبدأتُ أصلي على حسب ما وصف عمر ميتا في مقدمة ترجمته، وجئتُ الآن لأسلم وأصحح صلاتي. ثم سأل مَنْ وجدهم في مسجد طوكيو من المسلمين سؤالين: أحدهما قبل أن يسلم، والآخر بعد إسلامه.
أما الأول فقد قال فيه: ما هو موقفي من والديّ؟ هل أتبرّأُ منهما كما تبرّأ نبي الله إبراهيم فأذهبُ إلى المحكمة وأسجّل براءتي فيها؟ وقرأ له المسلمون الذين كانوا معه في المسجد، وصية لقمان التي تأمر ببر الوالدين حتى لو كانا كافرين فارتاح لذلك، ووجد فيه حلاً يرضاه ويطمئن إليه.
أما السؤال الثاني فقد قال فيه: لمن أعطي الزكاة؟ فقالوا له: اتصل بالأخ خالد كيبا، وهو على مقربة من بلدك، وهو مسلم قديم، وسيدلك عن الذي تعطيه الزكاة ويعلّمك الإسلام، ويشرحه لك بشكل موسّع. وخالد كيبا مسلمٌ قديم وحَسَنُ الاطلاع والثقافة.
واختاروا له اسم "أنس" فسأل عن معنى هذا الاسم؟ فقالوا له: إنه اسم لواحد من كبار الصحابة رضي الله عنهم، ومعناه الإنسان الذي تأنس به وترتاح له حين تلقاه، ففرح كثيراً بذلك، وغادر مسجد طوكيو وإخوته في الإسلام الذين جاء يسألهم ويستوضح منهم على عجل، ليلحق بالقطار السريع الذي يوصله إلى بلده، لأنه مُطالب أن يصحو مبكراً لأداء عمله.
قصة هذا الياباني المهتدي، الذي بات يحمل اسم أنس قصة زاخرة بالحيوية والعبرة والدلالة. إنّ الرجل يعمل سائق سيارة شحن، ومثل هذا العمل يتطلب جهداً كبيراً، ولا يكاد يترك لصاحبه وقتاً ينتفع منه في راحة أو دراسة، خاصة تلك الدراسات التي تحتاج أناةً وتفكيراً هادئاً ومتصلاً، وهي التي ترافق تحوّل الإنسان من دين إلى دين. وها نحن نرى الرجل يصل إلى مسجد طوكيو، وعلى يديه آثار قروح العمل الشاق، وبعد استفسارات كانت تشغله يمضي مسرعاً ليكون بوسعه استئناف عمل الغد.
ومع هذا؛ فأنس تتحركُ فطرته تبحث عن الهداية، ويتحرك عقله ينشد الحق، هو يؤمن بإله قوي عظيم، ومرّت به أحداث رسّخت هذا الإيمان، لكنه لا يعرف كيف يقوم بحقوق هذا الإيمان!؟ ولا يعرف كيف يعبد الله القوي العظيم!؟ ومضى إلى كتب البوذيين فلم يجد ما يطلب، ومضى إلى الأناجيل فلم تُجِبْ هذه الأناجيل على تساؤله.
وشاء الله تعالى أن يقرأ أنس ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة اليابانية، التي قام بها الحاج عمر ميتا، فإذا به ينشرح صدره، وتطمئن نفسه، ويوقن أنّ الإسلام هو الحق، ثم يأخذ في التطبيق حين يبدأ يصلي من خلال فهمه لما كتبه عمر ميتا عن الصلاة في مقدمة ترجمته.
سبحان الله!.. أنس لم يَلْتَقِ بمسلم يحاوره ويحدّثه عن عظمة الإسلام وصحّته، ويدعوه إليه، وإنما تعرف على الإسلام من خلال كتاب، وحين أيقن أنه هو الحق شرع في التطبيق العملي، لكنه وجد نفسه في حاجة إلى مزيد من الإيضاح، ووجد بعض الأسئلة تدور في خلَده فسافر إلى طوكيو، واتجه إلى مسجدها ليلتقي بالمسلمين هناك ويتحدث معهم.
ويمكن لك أن تلحظ الجدية التامة، والإحساس بضرورة التطبيق العملي والفوري لما يأمر به هذا الدين في جملة أمور، فهو يريد تصحيح صلاته لتكون على الشكل المطلوب، ثم هو يسأل عن موقفه من والديه؛ وهل يتبرّأُ منهما رسمياً وفي سجلات المحكمة!؟ ثم هو يسأل لمن يعطي الزكاة!؟ إنّ في ذلك دلالةً على جدية الانتماء إلى الإسلام، وجدية الشعور بضرورة تطبيقه التام، ما دام الرجل قد آمن به وألقى قياده إليه.
في قصة أنس دليل على عظمة الإسلام، هذا الدين الرباني المحفوظ، الذي يتحرك بدون أن يحمله أحد في كثير من الأحيان، فهو الدين الحق، الذي يفرض نفسه بذاتيته المعجزة الربانية.
وفي قصة أنس دليل على الفرص الكبيرة، المتاحة أمام انتشار الإسلام في اليابان، فالشعب الياباني يملك فطرة فيها الكثير من الخير، وهو تربة خصيبة تسهّل على أبنائها الاقتناع بالإسلام.
وفي قصة أنس دليل كبير على تقصير المسلمين في حمل رسالة الإسلام وإبلاغها للناس. إنّ في اليابان اليوم فرصة كبرى لهداية هذا الشعب الذكي الطموح وانتشار الإسلام بين أبنائه، فعسى ألّا يضيّعها المسلمون.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق