المهتدي الهندي بيجي رودريك
لا يخطئ الإنسان المتمعن وهو يدرس سِيَرَ أولئك الذين اهتدوا للإسلام بعد دراسات ومقارنات، وتأمل وتدبر، وبحث مخلص جاد، أن يجد لدى بعضهم إنْ لم يجد عند أكثرهم ملاحظاتٍ ذكيةً نافذة ربما غابت عن المسلم العادي، ولا يعني ذلك بالضرورة أن يكون المهتدي الجديد على حظ واسع من المعرفة بشكل دائم يجعله باحثاً متفوقاً، خاصة في الفترة الأولى من إسلامه قبل أن ترسخ قدمه في هذا الدين، ويتعمق فهمه ويشتدّ إيمانه، لكنَّ هذا لا يمنع أن نفوز من كثيرين من المهتدين الجدد بملاحظات ذكية قد لا يفطن لها أكثر المسلمين، خاصة حين يتجه المهتدون الجدد إلى نقد البيئة الأولى التي كانوا عليها قبل إسلامهم، وعاداتها ومُثُلِها ودينها وتراثها، فهم بذلك أعرف نظراً لأنها المناخ الأول لهم، فيه نشؤوا ولبنه رضعوا وثقافته استوعبوا.
ولعل هذا الأمر يبدو بشكل أوضح حين ننتقل إلى المثال العملي الذي يكشف عن صدق هذه الظاهرة وجدّيتها كما في النموذج التالي. لقد شاع بين الناس كثيراً أنّ المسيحية دين الرحمة والتسامح، ولقد أخذ دعاة المسيحية وكُتّابها يكتبون عن هذه الفكرة ويؤكدونها، ويُبْدِئون فيها ويعيدون، حتى باتت عند كثير من الناس وكأنها الحق الذي لا مراء فيه، والحقيقة التي لا تقبل جدلاً قط. وعلى عكس ذلك شاع في الغرب أنّ الإسلام دين السيف والقسوة والدماء، وأنه كان يفرض على الناس اعتناقه بالقوة وإلّا قُتِلوا.
وقد كتب الجهلة والحاقدون والمرتزقة من قساوسة الاستعمار وأذناب المبشِّرين الكلامَ الكثير في هذا المجال، مما حجب الحقيقة عن كثير من الناس، وجعلهم يؤمنون بتلك الأباطيل التي افتراها أعداء الإسلام وألصقوها به، لكنّ الحقائق الصارخة والشواهد التاريخية الكثيرة تنطق برحمة الإسلام وسماحته وإنسانيته، وتَسِمُ مَنْ يدّعون أنهم المسيحيون الرحماء بِشَرِّ ما يوسم به متوحشٌ شَرِهٌ موغل في سفك الدماء.
وقد استطاع الأستاذ بيجي رودريك، وهو مهتدٍ هندي ولِد في بيت إنكليزي وَرُبِّيَ فيه مسيحياً وتلقى تعليمه المبكر في إحدى مدارس التبشير، أن يصل ببحثه الشخصي إلى الإسلام فيؤمن به، ويكتشف سماحته ورحمته، ويكتشف أسطورة الرحمة الموهومة عند الآخرين.
يقول الرجل: إنّ السيد المسيح كما جاء في الأناجيل المختلفة لم يعلّم أتباعه الطريقة الصحيحة لاستخدام السيف، فكانت النتيجة أنّ السيف كان دائماً في يد أتباعه، وقد استخدمه الصليبيون كثيراً في ذبح السكان الأبرياء في الأقطار غير المسيحية، بل لقد استُخدِمَ السيف في بعض الأحيان من قِبل طوائف مسيحية ضد طوائف مسيحية أخرى.
ولقد استُخدِمَ السيف في يد الدول الاستعمارية بتأييد من الكنيسة ومباركتها في سبيل قهر شعوب آسيا وأفريقيا واستغلالهما، ومحو سكان نيوزيلاندا الأصليين تماماً كما جرى في أستراليا وأمريكا الشمالية.
ثم جاءت نقطة التحول في حياتي عندما أسقط الأمريكيون القنابل الذرية على اليابان في ناغازاكي وهيروشيما سنة 1945م، وامتلأت نفسي بالرعب والفزع عندما قرأتُ عن الوفاة الفظيعة لملايين البشر من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء، وعندما علمتُ بالآلام الفظيعة التي لا يمكن تصورها، يقاسيها عدد لا حصر له من الناس الذين نجوا من الموت الفوري، وقضيتُ عدة ليالٍ لا أذوق طعماً للنوم بعد أن قرأتُ عن هذه الأحداث، فقد كنتُ أشعر بالأسى وأنا أقرأ عن جرائم احتلال اليابان، وكنتُ أستنكر الغزو الذي قام به جيش من المبشرين النصارى ضد الجزر اليابانية تحت سمع وبصر الجنرال ماك آرثر، لاستعباد الروح اليابانية، وإنشاء طبقة من الخونة المتنصِّرين ليساندوا سادتهم ضد أبناء بلدهم.
وبعد أن أشبع بيجي رودريك، المهتدي الهندي، هذه الناحية وبيّنها خير بيان، انتقل إلى الصفحة المضادة، الصفحة الإسلامية المشرّفة ليتحدث عن الحرب في الإسلام وقوانينها وأخلاقها، فقال: إنّ الكمال لله وحده، وكل الناس خطّاؤون لذلك لا بد من فرص للدفاع المسلّح، إلا أنّ قوانين الحرب في الإسلام تُعَدُّ أكثر القوانين إنسانيةً فهي تتضمن السلامة الكاملة للنساء والولدان وجميع غير المحاربين، وليس هناك أعظم من جريمة قصف المدارس والمشافي وأماكن العبادة ومساكن المدنيين، فالإسلام يأذن بالحرب لرفع الاضطهاد، كما يأذن بها لإزالة العراقيل التي تقف في طريق الدعوة والدفاع عن النفس، ولكنه لا يُكرِه أحداً على الدخول في هذا الدين، كما لا يُقِرُّ إبادة العُزْل على يد المستعمرين والمتعصّبين.
ونفاسةُ هذا الكلام الذي يقوله المهتدي الهندي، كما يقول الدكتور محمد رجب البيومي: ترجع إلى نفاذ قائله وعمق بحثه وتعبيره عن الحقائق من أقرب طريق متمشياً مع قواعد الاجتماع والسياسة الأممية المرتبطة بأصول من الأخلاق المعترف بها لدى الجميع.
وقوله في مطلع حديثه: إنّ المسيح عليه السلام لم يعلِّم أتباعه الطريقة الصحيحة لاستعمال السيف، فكانت النتيجة أَنْ كان السيف دائماً في يد أتباعه، هذا القول يدل على النظرة الواقعية للإسلام باعتباره ديناً واقعياً جاء ليبيّن الطريقة الصحيحة لوقاية الناس على أرض الناس، كما يدل على قصور المسيحية حين خاصمت السيف لفظاً ليكون وسيلتَها الدائمة فعلاً في الحياة، بينما هو في الإسلام حاجة ضرورية يُلجأ إليها إذ لا مناص، وهذا ما أكّده الأخ بيجي رودريك حين قال:
إنّ تعاليم الإسلام الخُلقية تحقق امتزاجاً تاماً بين المثالية والواقعية، فبفضلها يستطيع الإنسان أن يعرف الله ويصبح ربّانياً وهو يقوم بنشاطات الحياة اليومية، وليس في الإسلام أي فصل بين الدين والسياسة، فعلى الحكومة الإسلامية أن تراعي نفس المبادئ الخلقية التي يراعيها الأفراد عند التعامل فيما بينهم، وذلك في معاملتها للناس والدول الأخرى. فليس في الإسلام أي مجال للظلم والاستغلال مهما كان نوعه، كما أنه لا سبيل في هذا الدين إلى وجود الاستعمار والتفريق العنصري، والصراع الطبقي، والحروب الجائرة المعتدية.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق