الأحد، 7 أغسطس 2022

قصيدة محمد إقبال إلى الأمة العربية

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

قصيدة محمد إقبال إلى الأمة العربية

     خصص الدكتور محمد إقبال، المفكر الشاعر الفيلسوف؛ قصيدةً تُعَدُّ من درر شعره، ومن أبدع ما جادت به قريحته الوقادة للحديث مع أمة العرب، تسجيلاً لفضلها وسبقها، ودورها الكبير في نشر الرسالة الإسلامية، والأخذ بيد الإنسانية الضائعة، صَوْبَ الحق والنور والهداية، وبدئها تاريخَ عهدٍ حر جديد، وفجر مضيء سعيد، وإهابة بها أن تعيَ حقيقةَ مهمتها، وخطورةَ دورها، واستنهاضاً لعزيمتها، أن تقوى وتنطلق، وتمارس مستلزمات واجبها الذي عَظُمت به وشَرُفت، وكانت خيرَ أمةٍ أخرجت للناس.

     ينطلق نَفَسُ الشاعر على سجيته، ويتدفق شعره العظيم الخالد، فيتحدث عن شخصية هذه الأمة، تلك الشخصية الحبيبة الأثيرة، التي كانت على يدها نهضةُ الأمة المسلمة بادئ ذي بدء، وهي أشرفُ وأجمل نهضة في حضارة الإنسان حيث كان، ويدع لعاطفته الجياشة، وعقله المتوقِّد أن يصدر عنهما خطابٌ لأمة العرب يقول فيه:

     "أيتها الأمة العربية التي كتبَ اللهُ لباديتها وصحرائها الخلود، من الذي سمعَ العالم منه نداء: لا قيصرَ ولا كسرى لأول مرة في التاريخ!؟ ومن الذي أكرمه اللهُ بالسبقِ إلى قراءة القرآن!؟ من الذي منحه الله سِرَّ التوحيد فنادى بأعلى صوته "لا إله إلا الله"!؟ وما هي هذه الأرض التي اشتعل فيها هذا السراج الذي أضاء به العالم!؟ هل العلم والحكمة إلا فتاتُ مائدتكم!؟ وهل قوله تعالى: {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} إلا وصفٌ لحالكم!؟

     إن نَفَس ذلك الأمي عاد على هذه الصحراء بالخصب والنماء، فكانت الأزهار والرياحين. إن الحرية نشأت في أحضانه، وإن حاضر الشعوب ليس إلا وليدَ أمسه. إن الجسد البشري كان بلا روحٍ ولا قلب، فأعطاه الروح والقلب، إنه حطَّم كل صنم قديم، وأفاضَ الحياة على كل غصن ذابل من أغصان العلوم والمدنيّة، وأنجب أبطالاً وقادةً مؤمنين، أقاموا المعارك الفاصلة بين الحق والباطل، فتارةً يدوّي الأذان في ساحة الحرب، وتارةً تتحلّى الآذان بقراءةِ القرآن بين صليل السيوف وصهيل الخيول. إنَّ سيف البطلِ المغوار كصلاح الدين، ونظرةَ الزاهد الأوّاب كأبي يزيد مفتاحان لكنوز الدنيا والآخرة.

     ليس الحمراءُ في غرناطة، وتاج محل في أكره؛ إلا صدقةً من صدقاتِ بعثته، ومَظْهراً من مظاهر عبقرية أمته.

     إن ما في أمته من ذوقٍ رفيع، وفكرٍ سليم، وفنٍّ بديع بعضُ هبات رسالته الخالدة الكريمة.

     كان الإنسان حفنةً من تراب، وقبضةً من دماء وأشلاء وعظام، لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان، فعرّفه بالعلمِ والإيمان، وأذاقَه لذةَ العبادة والإحسان، فجزاه الله عن الإنسانية أفضل الجزاء، فقد قاد خطاها صَوْبَ الحق والهداية".

     إن إقبالاً يريد أن يُهيجَ في أمة العرب نخوتَها وحميتها، وحماستها لدينها، فيذكِّرها بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ورسالته المشرّفة الطاهرة، ويوضّح لها أثره البعيد في حياتها وحياة الناس جميعاً، وهو أثر لا يضاهيه أثرُ أحدٍ آخر لا قبله ولا بعده كائناً مَنْ كان.

     إنه يذكرها بعهدها القديم قبل البعثة المشرّفة حين كانت حياتها فوضى ضاربة، وجهالة مطبقة، الحياةُ فيها كحياة الأنعام، تقتتل على ما يَعْظُم وما يهون، وتغزو قبائلها بعضَها بعضاً، بل ربما غزت نفسَها إنْ لم تجد من تتجه إليه بالغزو، مصداقاً لقول الشاعر الجاهلي:

وأحياناً على بكرٍ أخينا     إذا ما لمْ نجـدْ إلا أخانا

     كان مَثَلُها قبل الإسلام كمثلِ الجواد الذي يبدو قوياً نشيطاً لكنه عاجزٌ كسول، كمثلِ السيف الذي يبدو صارماً قاطعاً لكنه مفلولٌ لا ينفع، كمثلِ الماء الذي يبدو نقياً صافياً لكنه ملحٌ أجاج، لذلك يقول الشاعر: "أيها العرب، قدْ مَنَّ اللهُ عليكم، إذ جعلكم مثلَ السيف البتار أو أحدَّ منه، وكنتم من قبلُ رعاةً للإبل، فسخّر الله لكم المقاديرَ حينَ هداكم فاهتديتم، وناداكم فاستجبتم، حتى لو أقسمتمْ عليه لأبرّكم، وهنالك دوَّت تكبيراتكم وصلواتكم، وزَمْزَمَت جَلَبَةُ حروبكم ومغازيكم بين الخافقَين، فارتجّ بها ما بين الشرق والغرب، فما أحسنَ تلك المغامرات!.. وما أجمل هاتيك الغزوات!.

     إن الشاعر الكبير يُخلص في النداء أيّما إخلاص؛ ذلك أنَّ أملَه في أمة العرب كبير كبير، فهي التي نهضت بتكاليف الرسالة من قبل، وانطلقت تنشرها في المعمورة حين كانت حاجةُ البشرية إليها -وقد ضلّت- أشدَّ من حاجة الظامئِ التائه في الصحراء إلى الماء، وحاجةُ عصرنا اليوم إلى الهداية -وقد ضلّ وحاد وفسد- لا تَقلُّ عن حاجة عصرِ البعثةِ المحمدية على صاحبها أفضلُ الصلاة والسلام، إلى الهداية والرشد، وما دامت أمة العرب قد أدَّت بالأمس مهمتَها الجليلة الكبيرةَ تلكم، فهي موئلٌ للرجاء والأمل أن تؤديَ المهمةَ ذاتها اليوم، فتنطلقَ مواكبُها إلى شرق الأرض وغربها تحملُ الرسالةَ الهادية للعالم الضال الحائر.

     ومن أجل ذلك يُهِيبُ الشاعرُ الكبير بأمة العرب أن تنهضَ من نومها وكسلها، وتمارسَ دورَها المطلوب منها بحكمِ إسلامِها، وهو إنقاذ البشرية من الجاهلية الهابطة بالإسلام السامي، ومن الأفكار المتناقضة بالقرآن الذي لا يخطئ ولا يتناقض، ومن قيادتِها الحالية التي تسوقُها نحو الدمار بالقيادة المسلمةِ التي تقودها نحوَ السعادة والرشد والهداية، في دينها وفي دنياها.

*****

محمد إقبال وفيض الذكريات في جامع قرطبة

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

محمد إقبال وفيض الذكريات في جامع قرطبة

     ما كان محمد إقبال وحيداً حين دخل إلى جامع قرطبة يزوره عام (1932م) إبان رحلته إلى إسبانيا، وما كان وحيداً حين طفق يتجول في أبهائه وفِنائه، وينظر إلى سقوفه وأعمدته، فالجامع الخالد درة معمارية، والسائحون يفِدون إليه بكثرة، لكن شاعرنا الكبير كان وحيداً في خطراته وسبحاتِه، وتأملاته وسوانحه، وذكرياته وأشواقه، وأحزانه وأفكاره، والعبرةِ التي كان يتلمَّسُها في العظةِ الأندلسية، والشعر الذي كان يختلج في فؤاده ليكونَ واحدةً من دررِ قصائده وهي "في جامع قرطبة".

     وصلى الشاعر في الجامع الذي لم يعرف الصلاة منذ دهور، وسجد على أرضه التي طالما سجد عليها المؤمنون الصادقون، وتلا شيئاً من القرآن الكريم في ذلك الجامع الذي طالما ارتجّت أبهاؤه بأصوات الناس يقرؤون في كتاب الله عز وجل، وتناقلت جنباته دويَّ الأذان يرفعه المؤذنون على منائره العالية.

     تذكر الشاعر ذلك الأذان الذي كان يدوي في الجو، ذلك الأذان الذي يلخص في كلماته القليلة حقائق الإسلام الكبرى، فالله عز وجل هو الواحد الذي ليس له شريك، وهو أكبر من كل ما سواه أيّاً كان، والرسول الكريم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم هو رسول الله جاء برسالة الإسلام التي بعثه الله تعالى بها، وهذه الرسالة هي رسالة الفوز والفلاح ودرب الهداية والسعادة.

     إن هذا الأذان هو إعلان يومي متكرر لأساسيات الإسلام العقيدية، انفردت به الأمة المسلمة دون الناس، إذ إنه ليس له نظير في الأصوات والهتافات، والإعلانات والرسالات، لا يشبهه ناقوسٌ يُقرَع، ولا بوقٌ يُنفَخ، ولا نارٌ تُوقَد، ولا أي وسيلة أخرى من وسائل الإعلان.

     تذكر الشاعر ذلك الأذان العظيم، الذي كان يخشع له الكون، ويضطرب له العالم، وتتزلزل به أوكار الفساد والطاغوت، ذلك الأذان الذي تنفّس له الفجر الصادق في العالم في القرن السادس الميلادي، وانطلقت به موجة من النور والهداية سعدت بها الدنيا، وعاشت على طريق الاستقامة والهدى، واليوم ليس بين العالم الضائع التائه، الغارق في ماديته، المنحرف عن سواء السبيل، وبين هذه الموجة من النور والهداية، إلّا أن يستجيب لدعوة هذا الأذان، وهي رسالة الإسلام الخالدة المحفوظة، التي يحملها هذا الأذان في الآفاق كل يوم خمس مرات، معلناً مبادئها العظيمة، مبلغاً معانيها السماوية، فإن استجاب نجا وفاز، وسعد في دينه ودنياه؛ وإلّا ظل في الضلال تائهاً يتخبط، ينتقل من تيهٍ إلى تيه، ويعالج مشكلة مستعصية بدواء يسبب له مشاكل مستعصية جديدة.

     امتلأ إقبال يقيناً بأن الأمة التي استجابت لداعي الأذان، ودانت بعقيدته، وعاشت لرسالته، هي أمة الخلود التي لا تموت ولا تفنى وإن مرّت بها الشدائد والصعاب، وتوالت عليها النكبات والخطوب، امتلأ يقيناً بهذا، وهو في الجامع التاريخي العظيم، جامع قرطبة، يفكر ويتأمل ويتدبر، وحرّك هذا المنظر الرائع، والأثر الباذخ، والمسجد المحزون الفريد، الذي لم يعرف منبره الخطبة، ولم تشهد أرضه الصفوف، ولم تعرف منائره الأذان منذ قرون، حرّك في الشاعر الكبير؛ الإيمانَ والحنان، والأسى والحزن، وجادت قريحته الوقادة بقصيدته الرائعة التي أسماها "في جامع قرطبة"، والتي كتبها في إسبانيا، وكتب أكثرها في قرطبة نفسها.

     ذكر إقبال في قصيدته أن هذا العالم خاضع للفناء، وأن الآثار التي تخلّفها الأجيال، وأن البدائع الفنية التي تنتجها العبقرية الإنسانية بين حين وآخر، كُتِب عليها الاندثار والاضمحلال، ولا يعيش من بينها إلا ذلك الأثر الذي أكمله عبدٌ مخلصٌ لله، وأضفى عليه حيويته وخلوده، لأن عمله يستمد الحياة والنور من عاطفته المؤمنة، ومن حبه القوي الخالص.

     والحب عند الشاعر الكبير عاطفة لا صلة لها بالجنس والغرام، تسمو على المادة والمعدة، وتجمع بين الإيمان والحنان. وهذا الحب وحده هو القوة الوحيدة التي تقف أمام دورة الدهر الذي لا يكف عن الجريان، ولا يثبت لها شيء لأنه قوة كبيرة أمام قوة مماثلة، وسيل دفاق أمام سيل دفاق آخر.

     وعاطفة هذا الحب الفريد المتميز، الذي لا يشاكل أي لون آخر، عاطفة جياشة نبيلة، حافلة بأسمى المشاعر، وأكرم الأحاسيس، وهي عاطفة فياضة طهور، عميقة صدوق، لأنها قبس من أقباس الإيمان، وشعاع من شعلته، وبها كانت مواقف وحالات، فطالما حملت القائدَ على الشجاعةِ فانتصر في المعركة، والمصلي على الخشوع فبكى في المحراب، والعالِمَ على الحق فقال كلمته غير هيّاب سعيداً بتقديم رأسه في سبيل الله جل جلاله.

      وما من شك في أنها واحد من الدوافع الكبيرة التي حملت المسلمين على الخروج والمغامرة حتى وصلت بعض كتائبهم إلى الأندلس، فأقامت فيها دولة للإسلام شامخة عالية، كان من بعض معالمها في عاصمتها قرطبة، ذلك الأثر الخالد، جامع قرطبة المشهور.

      لقد طُويت الصفحة الإسلامية في الأندلس، عقيدةً وشريعة، ونظام حكم يسود الناس، ويحقق لهم السعادة والهداية، ويقودهم في درب الفلاح، الفلاح في الدنيا، والفلاح في الآخرة؛ طُويت هذه الصفحة من سِفْر الأندلس يوم مصرع غرناطة عام (1492م)، حين سلّم أبو عبد الله الصغير آخر حكام غرناطة مفاتيح بلده للملِكَيْن الكاثوليكيين فرديناند وإيزابيلّا.

     وبعد أن طُويت هذه الصفحة؛ جَرَتْ حملة شديدة، عنيفة دامية، لملاحقة كل آثار الحياة الإسلامية وبقاياها حتى باد معظمها، وصار أثراً بعد عين، لكنَّ زائر الأندلس يكاد يشعر بالروح العربية المسلمة حيث يذهب، وكأن القرون الطويلة الدامية لم تستطع القضاء إلّا على المظهر المادي الخارجي لتراث العروبة والإسلام.

      إنك إن زرت مسجد قرطبة ستخامرك مشاعر كتلك التي خامرت محمد إقبال يوم زاره، لكنك في غير قرطبة ومسجدها، وغرناطة وحمرائها، تكاد تشعر أيضاً بعبق خفي نبيل من العروبة والإسلام يلقي عليك السلام حيثما ذهبت في الأندلس التي اهتدت بنور الإسلام ثمانية قرون.

      لا غرابة أن يشعر الإنسان بأواصر القربى والنسب والمعتقد حين يكون في الأندلس، أندلس العطر والجمال، خاصة إذا كان شاعراً رهيف الحس قوي الشعور.

     ومرةً كان شاعر عربي يجوب حمراء غرناطة متذكراً متعجباً، مفتخراً محزوناً، لكنه كان صامتاً على كل حال، ولكنْ حين قالت له الدليلة الإسبانية مشيرةً إلى عظمة الحمراء: إنها من صنع أجدادها، شعر كأن طعنة أصابته، وتمنّى لو أن هذه الدليلة علمت أن سادة الحمراء وصانعيها ومبدعيها هم أجداده العرب المسلمون وليسوا أجدادها، وهم أسلافه العظام الفاتحون، وليسوا أسلافها.

الزخرفــاتُ أكـــادُ أسمعُ نبضَــها     والزركشاتُ على السقوفِ تنادي
قالتْ: هنا الحـمراءُ زَهْـوُ جدودنا     فـاقــرأْ على جــدرانِها أمجـــادي
أمجادها؟! ومسحتُ جرحـاً نازفاً     ومســـحتُ جرحــاً غائراً بفؤادي
يا ليتَ وارثتي الجميــــلةَ أدركتْ     أنَّ الــذين عَنَـــتْهُمُ أجـــــــــدادي

     وما يدري الشاعر الجريح؛ فلعلها قصدت أجدادها الذين هم أجداده!؟

*****

الأربعاء، 3 أغسطس 2022

محمد إقبال يرسم للمسلم طريقه

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

محمد إقبال يرسم للمسلم طريقه

     إن الشاعر الكبير محمد إقبال واحد من الرواد الأفذاذ الذين يظهرون بين الحين والآخر، ليكونوا أدلاءَ صادقين، وحُداةً مؤمنين، يهيبون بالأمة المسلمة أن تستعلي على الضعف، وتعلو على الخور، وترتفع إلى الآفاق اللائقة بها.. تمسكاً بالإسلام، واستعلاءً بالإيمان، وهدايةً للحيارى، وابتكاراً وتتفوقاً وأصالة.

     انظر إليه كيف يخاطب المسلم في هذا العصر مهيباً به أن يمارس دوره في هداية الضائعين والحائرين وإسعاد الناس بالإسلام:

إنَّ هذا العصـــــرَ ليلٌ فأَنِــرْ     أيها المســــلمُ ليلَ الحائرينْ
وسفيـنُ الحقِّ في لُجِّ الهـوى     لا يرى غيرَكَ ربّانَ السفينْ

     وانظر إليه كيف يحذر الأمة من التقليد، ويهيب بها أن تنجو من آثاره السيئة الكئيبة:

كـــلُّ مَنْ أنــــــــكـرَ ذاتِيَّـــــتَهُ     فَهْوَ أولى الناس طُرَّاً بالفنــــاءْ
لن يرى في الأرضِ شخصيتَهُ     كلُّ مَنْ قـــلَّـدَ عيشَ الغربــــاءْ

     وانظر إليه كيف يخاطب الأمة العربية، يذكرها بأمجادها وبطولاتها المؤمنة، وأنها أعظم مَنْ حرر الإنسان، وردَّ إليه كرامته، وهتف بحقيقة التوحيد:

أمةَ الصحراء يا شعبَ الخـلودْ     مَنْ سواكمْ حَلَّ أغلالَ الــورى
أيُّ داعٍ قبلَكُمْ في ذا الوجــــودْ     صاحَ لا كسرى هنا لا قيصرا
مَنْ سواكمْ في حديثٍ أو قديــمْ     أَطْـــلَعَ القرآنَ صُبْحاً للرشــادْ
هـاتفاً في مسمعِ الكونِ العظيمْ     ليسَ غيرُ اللهِ ربــــاً للعبــــــادْ

*****

ورود من بستان محمد إقبال

ورود من بستان محمد إقبال

     كان آخر ما أنشده الشاعر العظيم محمد إقبال في ختام ملحمة حياته الحافلة بالجهاد الحق والكلمة الشجاعة، والحكمة البناءة هو قوله "النغم العذب الذي ولى قد يعود وقد لا يعود، النسيم الذي يهب من الحجاز قد يهب أو لا يهب. إن أيام هذا الفقير –يعني نفسه– قد انتهت. سأقول لكم عن سمة المؤمن: هو من يستقبل الموت وعلى شفته ابتسامة التوحيد".

     ثم نطق بالشهادة وصعدت روحه إلى الرفيق الأعلى في (21 أبريل 1938م) قبل أن يرى ثمرة كفاحه، دولة باكستان، التي كان يؤمل منها أن تقوم لتكون نموذجاً للمجتمع المسلم، ولتؤدي دوراً لم تؤده مع الأسف بعد أن قامت.

     وفي بستان هذا الشاعر العبقري الذي يستحق أكثر بكثير مما أعطاه عصره حتى الآن، نتوقف لنقتطف من وروده هذه الريحانة العبقة التي نرى فيها كيف يربط نفسه بالخلود، وذلك في قوله: "كم من شاعر وُلِدَ بعد موته لأنه أغمض عينيه بعد أن فتح أعيننا، ثم رحل إلينا مرة أخرى وازدهر... مثل الورد ينبت من تراب قبره".

     وهذه وردة أخرى من بستان الشاعر العبقري: "إن بحر أصحابي ساكنٌ مثل الندى، لكن نداي يحمل طوفان البحر. انظر يا شباب إلى الموج يجري بسرعة إلى الشاطئ. اسمع حديث الموج للشاطئ. أخي يا أيها الشاطئ ألا ترى معي وجودي، إن وجودي دائماً في السعي، ودائماً أسعى، وإن لم أَسْعَ فلا وجود لي ولا أمواج. يا شباب: لا تجلس على الشاطئ في انتظار النعم. غُصْ في البحر، جاهد الأمواج، إن خلود الحياة في الجهاد".

     "يا إلهي حرر الفكر من العبودية، واجعل الشباب معلمين للشيوخ. امنحهم قوة تنبض بها حياتهم. امنح الشباب قلب عليٍّ، امنح الشباب حُبَّ الصدِّيق. أعط الشباب آلام قلبي وحبي وبصري".

     تلكم كانت زهرة ناضرة من بستان الشاعر العبقري، الذي كان مَعْلَماً من معالم الأصالة الإيمانية، ونموذجاً مشرفاً للبحث عن الذات المسلمة، والتعبير عنها تعبيراً حياً وقاداً، يجمع بين عمق الفكرة وصحتها، وحرارة العاطفة وجيشانها، وروعة الأداء وجماله.

*****

مهمة المسلم في الحياة في نظر إقبال

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

مهمة المسلم في الحياة في نظر إقبال

     تلقى إقبال، الشاعر العظيم الفيلسوف دراسته في مدارس الهند، وهي يومئذٍ ينوء كاهلها تحت الاحتلال الإنكليزي الذي استشرى داؤه في كل مظاهر الحياة الهندية، ذلك أنه عمل على بسط نفوذه الثقافي على شتى مناحي الحياة الفكرية في الهند، وبخاصة على التعليم النظامي.

     ثم أكمل إقبال دراسته العليا في إنكلترا، ولكن اتصاله هذا، الوثيق جداً، بالثقافة الغربية في الهند أولاً، وفي إنكلترا ثانياً؛ لم يؤثر أقل تأثير في قوة إيمانه بالإسلام، وثقته الهائلة بصحته وخلوده، بل ربما كان ذلك من الأسباب التي شحذت هذا الإيمان وزادته تمكيناً ورسوخاً وقوة، خاصة حين اكتشف زيف الحضارة الغربية وضلالها وانحرافها.

     قال ذات مرة: "يا ساكناً ديار الغرب، ليس أرض الله حانوتاً، إن الذي توهمتموه ذهباً خالصاً سترونه زائفاً، وإن حضارتكم ستنحر نفسها بخنجرها". وحين قال ذلك كان لا يزال يعيش بين ظهراني أهل هذه الحضارة، غير غافل عن نقاط ضعفها وسلبياتها الكبيرة.

     وقد ظل الرجل على قناعته هذه إزاء الحضارة الغربية، وظل يكررها في شعره ناعياً عليها إهدارها للروح والفضائل، وتعويلها على العقل بشكل مبالغ فيه. يقول عن الرجل الغربي: "إنه عاجز عن إخضاع عقله للحدس، ذلك الذي يكشف عن مجرى الأفلاك، لم يستطع أن ينفذ إلى العالم الداخلي، عالم أفكاره، ضلَّ في متاهات عقله فلم يستطع أن يفصل في أمر الخير والشر.

     وقد أتاحت له الفترة التي قضاها في أوربا، وكان دارساً جاداً جداً، وقارئاً شغوفاً، أن يكتشف زيف الحضارة الغربية، وكان يكثر من الحديث عن تلك الفترة، وكيف استطاع أن يخرج منها وهو أكثر إيماناً وأشدّ صلابة. يقول في ذلك: مكثت في أتون التعليم الغربي، وخرجت منه كما خرج إبراهيم من نار النمرود.

     لقد خرج من أتون الحضارة الغربية قوي الإيمان بالإسلام، عظيم الولاء له، يحبه حباً جماً، ولا يمل أبداً الحديث عن عظمته والتغني بأمجاده ورجاله.

     وخرج من هذا الأتون وهو راسخ الاعتقاد بأن "حكمة الغرب" هي التي جرَّت الشرور والويلات على الشعوب الإسلامية عامة والعربية خاصة. يقول مناجياً رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم: "إن حكمة الغرب قد أسرت الأمم، وتركتها سليبة حزينة لا تملك شيئاً، إنها مزقت وحدة العرب، واقتسمت تراثهم".

     ويخاطب الشاعر العبقري الكبير محمد إقبال، كل فرد في الأمة المسلمة فيقول له: إنك مسلم، فاجعل قلبك معموراً بالأماني والآمال. اذكر دائماً وعد الذي قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (آل عمران:9)؛ عشية الألم والضجر تسفر عن صبح العيد. ها هو ذا فجر الأمل قد تبلج من بين دياجير الظلام. هلم ننشر الزهور والرياحين على قبر الشهيد الذي فعل دمه المسفوح بأمتنا ما يفعل الغيث بالشجرة الثابتة... وفرعها في السماء.

     وإذا كانت ثقة إقبال بدور المسلم تبلغ هذا الحد العظيم، انطلاقاً من شعوره بأهمية الرسالة الملقاة على عاتقه، وخطورة المهمة التي انتُدِب إليها، فما من ريب أن هذه الثقة التي جعلته يهتف بهذا الحداء الحار، والنشيد الحي الدافق، تعود من بين ما تعود إليه، إلى يقينه الضخم بصحة الإسلام وخلوده واستمراره، وقدرته على حل كل مشكلات العصر، هذا من جهة، ومن جهة ثانية تعود تلكم الثقة إلى إحساسه بخطر الحضارة الغربية، وإدراكه نقاط الضعف فيها.

     يقول محمد إقبال بعد أن توغل في دراسة ثقافة الغرب وحضارته دراسة عميقة مستقصية: تعجبكم هذه الحضارة الحديثة، ويبهر عيونكم جمالها. ما هي سوى فصوص موَّهتها يد الصانع فخطف الأبصار بريقها الكاذب. إن الحكمة التي يتفاخر بها حكماء الغرب قد تحوَّلت في أيديهم سيوفاً تقطر دماً. لعمر الحق إن كل حضارة تقام على التنافس في الأموال والتكالب على الشهوات لا بد أن تنهار، وقد بدأت.

     ثم اتجه إلى جنيف حيث مقر عصبة الأمم التي كانت تمثل الهيئة الدولية يومذاك، والتي كان يسيطر عليها، ويحرك خيوطها، ويرسم سياستها؛ دهاة السياسة الغربية، فقال: لقد عمَّت في هذا العصر مجالس الأمم، لكن وحدة الإنسانية بقيت مختفية عن الأنظار. الهدف الذي ترمي إليه حكمة الإفرنج هو تمزيق الأمم، وغاية الإسلام إنما هي الوحدة الإنسانية، فقد بعثت مكة إلى جنيف بهذه الرسالة: ماذا تريدين؟ عصبة أمم أم عصبية بني آدم!؟

*****

محمد إقبال وجامع قرطبة

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

محمد إقبال وجامع قرطبة

     وقف الشاعر العظيم محمد إقبال رحمه الله تعالى عام (۱۹۳۲م) إبان زيارته لإسبانيا ومروره بجامع قرطبة العظيم أمام العاطفة القوية، والحب الطاهر، والوفاء الكريم، الذي حمل مسلمي الأندلس على بناء هذا الجامع العظيم، على أساس من التقوى والإيمان.

     وقف وقفة خاشع أمام الطموح الضخم الذي أوصل العرب من شبه جزيرتهم العربية إلى شبه جزيرة الأندلس؛ يحدوهم نداء الإيمان، وتعلوهم: الله أكبر!.. وقف قفة خاشعٍ أمام الجرأة وآثارها الكبيرة، خاشعٍ أمام العبقرية المعمارية التي أنتجت هذا الأثر الخالد، خاشعٍ أمام الفن العربي الإسلامي الذي ظهر في تصميمه الحكيم، وبساطته الرائعة، وجماله الفريد، وأثار ذلك كله أشواقه ولواعجه وإيمانه وشاعريته.

     ورأى إقبال أن هذا المسجد الفريد صورة للمسلم في تلك الأرض الحنون، تجلت فيه أخلاق المسلم وصفاته وخصائصه المستقلة المتميزة: علو في الهمة، واتساع في القلب، وبساطة في المظهر، وبراءة في النية، وثبات على الحق، وإعلان للعقيدة والمبدأ، واستعلاء وإباء، واعتزاز وشموخ، وطموح ضخم كبير، وعزيمة راسية راسخة، وثقة هائلة عميقة، وجَمْع بين الجلال والجمال، والأنفة والتواضع، والبطولة وحسن الخلق.

     وتذكر بهذا المسجد الحزين، أهله الذين رفعوه وشادوه، وتذکر بهم العقيدة التي كانوا يعيشون لها، ووهبوا أنفسهم لها، فعادت علیهم هذه الهبة بأكرم الثمار، عادت عليهم برضوان الله عز وجل، والأمل بثوابه وجنته في الآخرة، كما عادت عليهم بالفوز في هذه الدنيا، والمجد والظهور، فما أحسن هذا البيع!.. وما أكرم عقباه ومآله!..

     لقد بُني هذا الجامع العظيم في مدى طويل امتد مئتين وعشرين عاماً، وكان أول من شاده عبد الرحمن الداخل، وظل يزاد فيه ويوسع، وكانت التوسعة الأخيرة على يد الحاجب المنصور بن أبي عامر، فاكتمل بناؤه، وطفق يؤدي دوره في الهداية والعلوم، واحة للإيمان، وجامعة للمعارف، فكان من أشهر مساجد الدنيا جميعاً، ومن أعظم جامعاتها، وظل يقوم بدوره الرائد في الحضارة حتى دار الزمان، وقصّر المسلمون، وأدركتهم سنن الله تعالى التي لا تتخلف ولا تحابي أحداً قط، فسقطت قرطبة في يد الإسبان، وتوقف المسجد عن أداء دوره، وبقيت مبانيه حتى اليوم عبرة في ضمير الزمان، بالغة ناطقة، تهيب بالمسلمين في كل مكان ألا ينسوا دروسها التي كان ثمنها فادحاً جداً جداً: سقوطَ دولة، ومصرعَ أمة، وزوالَ دين.

     لعل فلسفة القوة بمعناها الإسلامي الواسع هي ملخص نظرية الشاعر الكبير محمد إقبال واتجاهه الفكري الذي ظل طيلة حياته يدعو إليه. وإنَّ هذا الذي فعله إقبال لأمرٌ بالغ الجلال والخطورة. ذلك أن التاريخ أثبت المرة بعد المرة، والكرة بعد الكرة؛ أن الشعوب التي تُعنى بالفنون عناية بالغة، وتنصرف إلى حياة الكسل بدل الجد والصبر والعناء، ويكثر فيها الجدل البيزنطي العقيم، وتضعف فيها الإرادة، وتفشو فيها وسائل الترف والملذات، وتخبو فيها نار الغيرة والحمية، وتتضاءل فيها نوازع العزة والنخوة. وتنتشر فيها فوضى الأفكار وبلبلة الآراء، ويغلب عليها الشك بدل اليقين، والاستخفاف بدل الجد.. أثبت التاريخ أن هذه الشعوب لا تثبت أمام عدو زاحف، أو خصم مقاتل. والشواهد على ذلك كثيرة: قصة اليونان، وقصة الرومان، وسقوط الأندلس، واستسلام فرنسا لألمانيا الهتلرية في الحرب العالمية الثانية، وغير ذلك كثير.

     إذن؛ فتحرير الأمة المسلمة من دواعي الوهن والعجز، وغرس معاني القوة والبطولة فيها أمر خطير.. جد خطير. وهو ما حاول إقبال أن يضعه، وهو ما نجح فيه إلى حد بعيد.

     وحين نظر إقبال إلى الأثر الفاتك المدمر لفلسفة الحضارة الغربية واتجاهها الأخلاقي في نفوس المسلمين، شن حرباً لا هوادة فيها ضد الغرب الحضاري ومدنیته المادية الآثمة الباغية. وعلى الرغم من أن آخرين سوى شاعرنا الكبير كانوا يؤدون الدور نفسه؛ إلا أنه لم يكتب لهم ما كتب له من الأثر والنتيجة. فهم لم يملكوا موهبته الشعرية العظيمة من ناحية، ولم تتح لهم فرصة الاطلاع العميق على حضارة الغرب وثقافته من ناحية أخرى.

     أما هو فقد كان الرجل الوحيد في عصره الذي ما كان يداينه أحد في تعمقه فلسفة الغرب وثقافته، وإحاطته بحضارته وحياته، وبصره العميق الدقيق بجوانب ضعفه وقوته، لذلك حين نهض يفند فلسفته وأفكاره كان يستمد من معين ثر غني دفّاق. فكان أن أذاب سحر الحضارة الغربية الذي كان يبهر القلوب، ویستولي على النفوس، ويستأثر بالاهتمام، والحقيقة أن لإقبال أثراً بليغاً في قمع ذلك الرعب الفكري والهزيمة النفسية من قلوب المسلمين إزاء هذه الحضارة المهاجمة.

     ومما لا ريب فيه أن الشاعر الكبير لم يألُ جهداً في إنقاذ المسلمين من عبوديتهم الجسدية، وتلقينهم درس الحرية، لكنه ركز جل تفكيره على إنقاذهم من العبودية الفكرية. ولعل هذا أوفى تلخيص للموقف الكبير الذي اتخذه الشاعر الكبير. 

*****

من أدب محمد إقبال

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

من أدب محمد إقبال

كـــلُّ مَنْ أنــــــكـرَ ذاتِيَّـــــتَــهُ     فَهْوَ أولى النــــاس طُرَّاً بالفناءْ
لن يرى في الأرضِ شخصيتَهُ     كلُّ مَنْ قـــلَّدَ عيشَ الغربـــــاءْ

     هذان البيتان اللذان قالهما الشاعر الكبير المؤمن الدكتور محمد إقبال، لهما معنى عميق بليغ يجدر بالأمم أن تستفيد منه، وهما يعبِّران عن جملة من الحقائق النفسية والاجتماعية في مسيرة الشعوب في تاريخها صعوداً أو هبوطاً.

     إن للمرء أن يؤكد بأنه ما من أمة في التاريخ فقدت قدرتها على الاحتفاظ بشخصيَّتها، والاستقلال بمنابع فكرها المتميز؛ إلا تبددت وانهارت وأسلمت طائعةً أو كارهة لغيرها القياد.

     وما من أمة في التاريخ خسرت إيمانها بقضيتها الأساسية التي كان عليها أن تضع في سبيل حمايتها وصيانتها كل الذي تملك؛ إلا فقدت سيادتها وقدرتها على الكفاح.

     وإن بين الحفاظ على الشخصية والاستقلال بمنابع الفكر من ناحية، وبين الاندفاع في سبيل القضية الأساسية من ناحية ثانية، علاقةً وثيقةً جداً، فبقدر ما يكون الاحتفاظ والاستقلال قويين بارزين مستحوذين على الاهتمام والجد والفاعلية، يكون العمل الجاد الدؤوب من أجل القضية الأساسية قوياً بارزاً مستأثراً بطاقة الأمة ونشاطها، والعكس بالعكس.

     ولقد كان العرب قبل الإسلام جماعةً من البشر لا قضية لها تحقق وحدتها، وتعيِّن هدفاً مشتركاً عاماً لها، وتعبِّئ طاقاتها الكفاحية في مسيرة إيجابية صادقة صوب هذا الهدف المشترك؛ لذلك كانت جهودهم تضيع هدراً في جملة من التناقضات التافهة، والأحقاد الصغيرة، على فخار يتطاول زوراً وبهتاناً، أو مجد ضائع فيما لا طائل وراءه، أو حرب تقوم بسبب سباق بين فرسين، أو بسبب ناقة اعتدي عليها وما إلى ذلك، فكان أن تفرَّقت بهم السبل فإذا هم ضائعون مشرَّدون، بأسهم بينهم شديد، وليس لهم فكر مستقل محدد الملامح، ولا شخصية خاصة واضحة السمات، ولا قضية كبرى يتمسَّكون بها وعنها يدافعون.

     هذه الأمة نفسها بُعِثَ فيها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فإذا بالأمر يختلف تمام الاختلاف، بعد أن ألقت إليه الأمة قيادها. لقد نشأت لها شخصية مستقلة وفكر خاص، وتحدد لها لون شديد الوضوح، يختلف عن كل لون آخر، ومعالم واضحة، وسمات بيّنة، وملامح في غاية الجلاء. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نشأت لها قضية لا كالقضايا، قضية كبيرة جداً، هي حمل رسالة الإسلام للناس حيث كانوا، والقيام على حرية اعتناقها، وحراسة مواكبها من الحاقدين والظالمين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متمُّ نوره ولو كره الكافرون. ومن الجلي أن الناحية الأولى مقدمة للثانية تمهِّد لها وتفضي إليها.

     وسجل التاريخ أن أمة العرب يومذاك تحول حالها، وتغيرت تغيراً جذرياً، فإذا بها تجعل هدفها في الحياة هو إعلان كلمة الله تعالى وإعلاؤها، واستحالت نخوتها وبطولتها وطاقاتها الكثيرة المبعثرة؛ إلى مادة للقوة والاندفاع تحقق النصر لدين الله، وتُعْلي رايته، فكان أن تطامنت رؤوس الكافرين، وانهارت قواعد الظلم، وتساقط أعداء الله تحت مطرقة الزحف المسلم الشجاع، وتراجعت حدود دول كثيرة وباد بعضها نهائياً، واستمر نجم الأمة المؤمنة في تصاعد وظهور. فلما فقدت الأمة روح المبادرة، وأضاعت ينابيع فكرها المستقل، وفقدت خصائصها الشخصية النادرة، تبدل به الحال شر تبدل، فإذا بها تُؤثِر العافية ،وترضى الدنيَّة في أمرها، وتتطامن بعد شمم وإباء، وتلتمس السلامة في الانطواء على نفسها، وتدفع ثمن ذلك غالياً؛ وهو التخلّي عن دورها قيِّمةً على الناس، وصيَّةً على البشرية قائدةً هاديةْ. لكنها بالرغم من فداحة ما دفعته من تنازلات لم تستطع الحصول على العافية الكسول، أو السلامة المرذولة. وما شأن الأمة في عصرها الأخير ببعيد عنا، فالجراحات ما زالت فاشية فيها، والكلوم كثيرة هنا وهناك.

     ويمكن للمرء أن يخلص مما تقدم إلى معادلة هامة تصاغ هكذا: حيث يتم الاحتفاظ بشخصيتنا، والاستقلال بمنابع فكرنا وتراثنا، فإن انصرافنا إلى قضايانا الكبرى الأساسية يغدو أكبر جداً وفاعلية ونشاطاً، وتكون ثمار ذلك أحسن ما تكون. والعكس بالعكس، فإذا لم يتم ذلك الحفاظ والاستقلال كانت العاقبة الوخيمة، وكان الأذى والدمار والهزيمة.

     وما مِن ريب في أن أمتنا لم تضع هذه المعادلة في إطارها الصحيح، ولم تستفد منها، وهذا هو سبب ما تلقاه من نكبات. على أن الإنصاف يجعلنا نقرر أن هذه الأمة لا تزال تملك من النخوة والأصالة والتفرد، ما تستطيع به وضع المعادلة في مكانها الصحيح، وعندها سيختلف الحال تماماً، وتنقلب الأمور لمصلحتها بشكل حاد عنيف. وهي تحتاج -حتى يتم ذلك- إلى أن ينهض عدد من أبنائها من ذوي الجرأة الفكرية، والتمسك بالحق ولو كان مُرّاً، ليقولوا للأمة ها هنا هو الطريق، وتلكم ملامحه ومعالمه.

     فإذا كان ذلك، بدأ عهد التحول الحق والنهضة الصادقة، وعهد الانخلاع من الثقافة الانهزامية والفكر الضال، وعهد التحرر من الشعور بالنقص والإحساس بالصَّغار. وهو شعور قاتل سيطر على عدد من حملة الأقلام، لذلك لم يظلمهم مستشرق يهودي فرنسي لقيهم في بيروت عقب نكبة (1967م) وقال لهم: ما حيلتي -أيها السادة- إذا كنتم تعوَّدتم أن تستوردوا أفكاركم من الخارج!؟

     نقطة البداية إذاً أن نكف عن استيراد الحلول لمشكلاتنا من الخارج، ونُعْنى بالحفاظ على شخصيتنا وفكرنا المستقلين، ليتسنى لنا الانصراف إلى قضايانا الكبرى، والخروج منها غالبين ظافرين.

*****

الثلاثاء، 2 أغسطس 2022

ماذا تجاهل الكتاب والمفكرون من فكر إقبال ورسالته؟

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

ماذا تجاهل الكتاب والمفكرون من فكر إقبال ورسالته؟

     لقد تحدث الدكتور جاويد إقبال -وهو ابن الشاعر الفيلسوف العظيم محمد إقبال رحمه الله- في إحدى الاحتفالات التي أقيمت عام (1397هـ/ 1977م) بمناسبة الذكرى المئوية لولادة أبيه في دلهي الجديدة، فقال: إن الدكتور محمد إقبال لم يكن كما يحسبه الناس من أكبر شعراء الفارسية والأوردية فحسب، وإنما كانت ميزته أنه كان إنساناً عملياً، وقد ترك للأجيال من بعده رسالة معينة واضحة، تحث العالمَين الآسيوي والأفريقي على تطوير مصادرهما لتحقيق الحرية الاقتصادية لبقائهما، بدلاً من التطلع إلى الغرب لنجدتهما، وقد تجاهل الكتاب والمفكرون هذه الناحية المميزة لفكر إقبال ورسالته.

     وأكَّد الدكتور جاويد إقبال على هذه الناحية التي ظلَّت خافية على أذهان محبّي إقبال أنفسهم، فأضاف قائلاً: لقد ألَّف الدكتور محمد إقبال قصيدة طويلة بالفارسية في آخر أيام حياته خاطب فيها الأمم الشرقية، وذكر فيها حل مشكلاتها، وعلاج أسقامها، وتدور هذه القصيدة حول أهمية الفرد والمجتمع وشرفهما واعتمادهما على النفس عن طريق تطوير التعليم والاقتصاد للاحتفاظ بالوجود الآسيوي والأفريقي في خريطة العالم، وقد نالت أفكار إقبال العملية ومعالجته لمسائل آسيا وأفريقيا اهتمام المسلمين المثقفين حديثاً في كثير من البلدان النامية.

     وأضاف الدكتور جاويد إقبال يقول: إن والده الدكتور محمد إقبال كان يقدم نظرية "إنسان أعلى"؛ وهو الإنسان الذي يتبع دينه ومعتقداته بإخلاص، ويتمسك بها تمسكاً متيناً في حياته، ثم يعيش في هذا العالم كإنسانٍ واعٍ متحضِّر. وكان يتطلع إلى إنسان الغد، الإنسان المثالي، وكان يرفض في نظريته الاقتصادية الرأسماليةَ والشيوعيةَ معاً، وكان يؤمن بنظام يقوم على أساس التوازن بين رأس المال والعمل.

     وكان الدكتور جاويد إقبال قد افتتح قبل ذلك المتحف الأثري لوالده، الذي يضم من بين ما يضمُّه بعض قصائد الشاعر العظيم، وهي في مرحلة التنقيح.

*****

مواقف إقبال الفكرية .. كشفت عن شجاعته وذكائه وأصالته

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

مواقف إقبال الفكرية .. كشفت عن شجاعته وذكائه وأصالته

     من الإنصافِ لأمتنا، ومن الإنصاف لرجالها الكرام، ذوي المواقف الفكرية، أن نقررَ أن الموقفَ الفكري الشجاع الذي وقفه الدكتور محمد إقبال؛ يكشف عن أمرين بالغين: أمرٍ عامٍّ، وآخَرَ خاصٍّ.

     أما الأمر العام فهو قدرة الأمة الإسلامية على إنجاب القادة العظام في أوقات شدتها ومحنتها، وأما الأمر الخاص فهو أن موقفَ إقبال، يمتاز بالشجاعة والجرأة من ناحية، والذكاءِ والعمق من ناحية ثانية، والأصالة والتميز من ناحية ثالثة. وإنَّ نظرةً متأنية في تراث الرجل تكشف عن هذا بوضوح وجلاء.

     ومما لاحظه إقبال أن بعض المسلمين المبهورين بالثقافة الغربية المفتونين بتقليدها، يفرِّقون بين الدين والدولة تقليداً لفكرة الفصل بين الدين والسياسة التي نشرت أوروبا بين تلاميذها عَدْواها البشِعةَ الآثمة، فصاروا بذلك يزعمون أنه لا علاقة بين الدين والسياسة، وأنهما لا يلتقيان على فكرة جامعة. فالدين -كما يزعمون- يعني أموراً تشريعية تعبدية لها رجالها المتخصصون. والسياسة معناها الخوض في أمور دنيوية وحكومية ومعاشية، ولها رجالها كذلك.

     ولقد انبرى الشاعر الكبير محمد إقبال يحارب هذه الفكرة الزائفة الكاذبة ويُبَيِّنُ خَطَلَها في شعرهِ العذب الجميل الذي شاء الله تعالى له أن ينتشر بين الناس، وأن يُكتَبَ له القبول والذيوع.

     ومن أروع أقواله في ذلك: "إذا انفصلت الدولة عن الدين فلن تبقى سوى الهمجية الجنكيزية". ولا شك أنه قدَّم بهذه المقولةِ الوجيزة المركزة، ملخصاً دقيقاً رائعاً وجامعاً للبحوث الكثيرة، والمؤلفات الكبيرة التي أُلِّفَت أو تؤلَّف حول هذا الموضوع الخطير، فما أغدر السياسة إذا انفصلت عن هَدْي الدين، وما أفتكَ الدولة إذا تنكَّبت نوره وطريقه.

     إن أمر الدولة والسياسة لا يستقيم قط ما لم يصحبه الدين مرشداً ودليلاً، وإنه سيقع في كل المهالك، ويتخذ جميع الوسائل الكاذبة حين يجافيه. وإنه سوف يقود السفينة نحو النجاة، ويصطنع الوسائل الصادقة النافعة الكريمة حين يهتدي بهديه، ويستضيء بنوره.

أكَّد الشاعر العظيم ذلك للمسلمين، كما أكَّد لهم أنهم أمةٌ ذات عقيدة واحدة، وحضارة واحدة، وأن حضارتهم تختلف عن حضارة الآخرين الذين يفترقون عنهم في العقيدة والإيمان، لأنها ربّانيةُ المصدر، إنسانيةُ النفع. بينما الحضارات الأخرى ماديةُ المصدر، قومية النفع. وبذلك أوقدَ في قلوب المسلمين الشعورَ بالوحدة، وأعلن لهم أن الأمة الإسلامية في العالم كلِّه وحدةٌ متماسكةٌ وجسدٌ حيٌّ متكاملُ البنيان.

وإذا كان المسلمون في العالم عامةً، وفي القارة الهندية خاصة، يُلِحُّون على إبقاءِ كيانهم الحضاري، وتراثهم المتميز، وشخصيتهم الأصلية، وذاتيتهم المستقلة؛ فإن ذلك يعود –وبدرجة كبرى– إلى تلك الروح الحية الجياشة التي أوقدها الشاعر محمد إقبال في أفئدةِ المسلمين؛ من أجل هذا يمكن لنا أن نقررَ مِن دون مبالغة أو تعسف أن إقبالاً واحدٌ من عظامِ الرجال في الأمة الإسلامية، النجيبة الولود، الذكية المعطاء، الذين يظهرون بين الحين والآخر، فيبذلون جهودَهم لتحرير الناس من الأوهام والأساطير والضلالات والجهالات والخرافات الجديدة التي تظهر في أشكال عنصرية براقة، وتحاول أن تلبسَ مسوح العلم والحضارة لتكون أقدرَ على خداع الساذجين والبسطاء.

لقد فعل ذلك إقبال مازجاً بين عمق فكرته، وحماسةِ عاطفته، وبيانِه المشرق الرائع. فعل ذلك يحدوه حرصه العظيم على أمته المسلمة، أداءً لواجب الإبلاغ، واستشرافاً لبناءٍ أكمل وغدٍ أفضل، ومستقبلٍ أنصعَ وأطهر.

لقد أرادَ إقبال لأمته المسلمة أن تمتلك أسباب القوة المطلوبة منها بحكم إسلامها، فهي بهذا الإسلام الراشدةُ الوصيةُ، ولا بد للراشد الوصي مِن أن يمتلك درجةً من القوة تهيئ له القدرة على القيام بهذا الدور الكبير. أراد لها قوةً في العقيدة، وقوةً في الأخلاق، وقوةً في التنظيم، وقوةً في الإعداد. كما أراد لها أن تتجاوز مواقف السلبية والهوان، والضعف والكسل، والعجز والتواكل. وأن تصير أمةً شجاعةً لا جبانة، قائدةً لا مقودة، مبدعةً لا مقلدة، حرةً لا أسيرة، ذكيةً لا غبية، متماسكةً لا متفرقة، قويةً لا مهترئة. أراد لها أن تكون عزيزةً كريمةً منيعة. أراد لها أن تكون جديرة بالإسلام الذي تنتسب إليه.

لقد كان إقبال -وهو الشاعر والمفكرُ النافذُ البصيرة- حريصاً أشدَّ الحرص على أن يتخلص المسلمون من كل السلبيات، ويرتفعوا إلى آفاق البطولة والسيادة والطموح، ويستشرفوا شوامخ القيادةِ والريادة، وحب العبادة، والحنين إلى الشهادة.

كان حرصه حاراً ملحاحاً أن يتقدم المسلم لإنقاذ البشرية كلها من قياداتها الخاطئة؛ لذلك اتجه إليه بمثل هذه القول:

إنَّ هذا العصرَ لـيــلٌ فـــأَنِرْ     أيها المســــلمُ ليلَ الحائرينْ
وسَفيـنُ الحقِّ في لُجِّ الهوى     لا يرى غَيْرَكَ ربّان السفينْ

*****

محمد إقبال .. رائد الفكر الذي لم يكذب أهله


الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

محمد إقبال .. رائد الفكر الذي لم يكذب أهله

     من رحمة الله تعالى بالأمة المسلمة أن يظهرَ من أبنائها رجالٌ شجعانٌ روّاد يكونون حُداةً لها، هُداةً لمسيرتها، أدلّاء أوفياء يحمونها من عثارِ الطريق، وصحراء التيه، وبيداء الضلالات، ومهالكِ السفاهةِ والطيش والرعونة.

     وهؤلاء الرجال تتنوع مواقفهم بتنوعِ استعداداتهم وقابلياتهم، وتتباينُ باختلافِ طبيعة المرحلة التي تجتازها أمتُهم؛ إذ تكون حاجتها لنوعٍ من المواقف أعظمَ من حاجتها لنوعٍ آخر. وإنه لَمِن النقص في الفهم، والقصور في التصور أن يتوقف بنا الحديث عند أبطال المعارك، ومواقف الجود والحلم والإباء، وننسى مواقفَ أخرى هي أعظمُ خطراً، وأكبر أثراً حين تأتي في زمنها المناسب ألَا وهي المواقفُ الفكرية.

     فكما أن الأمة بحاجة إلى رجال ذوي شجاعة جسدية يحمون ذمارها، هي بحاجة كذلك إلى رجالٍ ذوي شجاعة فكرية عالية يستطيع أصحابُها بما يتخذونه من مواقفَ أصيلةٍ شجاعة أن يقودوا قافلة أمتهم صَوْبَ الحق، ويستشرفوا بها آفاق الصدق والفضيلة، ويُبيِّنوا لها خطورة الفكر الضال، ووخامة المبدأ العقيم، وهشاشة الآراء الفاسدة المنحرفة.

     وقد يحسبُ المرء أن الشجاعةَ الفكرية أمرٌ هيِّن بالقياس إلى الشجاعة الجسدية، لكن هذا خطأٌ بالغ. فالشجاعةُ الفكرية تحتاج ثقةً أكبر، وصموداً أعظم، وبُعداً في النظر وثباتاً في المُعتقد، وقدرةً على تجاوز الآخرين من مضلِّلين ومضلَّلين، ثم هي بحاجةٍ كذلك إلى مواجهةِ الكثرة بخطأ ما هي عليه، والإصرار على ذلك، والصبرِ على ما يُوَجَّهُ إلى أصحابها من تُهَمٍ وأكاذيبَ وإشاعات، وحربٍ نفسيةٍ وفكريةٍ وجسدية.

     من رحمة الله عز وجل بالأمة المسلمة أن يظهرَ فيها رجالٌ ذوو مواقفَ فكريةٍ شجاعةٍ صادقةٍ معاً، كلَّما اشتدت الخطوب، وعظمت المصائب، وازدادت الفتن، واحلولكت الليالي، وفشا الفساد، وذاع اليأس والعجز، وتلفَّت الناس حيارى محزونين يبحثون عن يدٍ أمينة تقود سفينتَهم في بحرهم الهائج المضطرب لترسو بها في شاطئ الأمان، ومَأْرِزٍ يلجؤون إليه عند الشدائد.

     ومن غير ريبٍ كان الدكتور محمد إقبال، الفيلسوف الشاعر المؤمن واحداً من هذه القلة النادرة الممتازة التي تظهر بينَ الحين والحين، ليكونَ الواحدُ منها حادياً صادقاً، ودليلاً أميناً، ورائداً لا يَكْذِبُ أهلَه.

     لقد أوقدَ قلبُه الشجاع المؤمن، وعقلُه الذكيُّ الحصيف في نفوس المسلمين شعوراً قوياً بخلودِ رسالة الإسلام، وأصالة الشخصية المسلمة، وتميزِها واستقلالها وإبداعها، كما ركَّز في أذهان المسلمين بشعره المؤمن العميق، ونثره الأصيل الدقيق أن الإسلام دينٌ خالد يقوم على مبادئَ ثابتةٍ خالدة، وأنَّه من المستحيل أن يطرأَ عليه القِدَمُ والبِلى في أي حين، وأن أنظمتَه تصلحُ لكل زمانٍ ومكان، وأنه المنهجُ الوحيد القادر على إنهاضِ المسلمين مما هم فيه، وأنه السبيلُ الوحيد لإنقاذِ المسلمين، ولإنقاذِ البشرية كلِّها مما هي فيه من مآسٍ وأحزانٍ، وإنقاذ الحضارةِ مما تتردَّى فيه من تخبطٍ وجهلٍ وضياع.

     ومن الإنصاف أن نقرر أن غَيْرَ إقبال كان يقوم بمثل هذا الدور، ويؤدي حقَّ الشهادة بكمالِ الإسلام، وخلودِ رسالته، واستمرارِها وصلاحها لكل زمانٍ ومكان. لكن إقبالاً حين وقف يشهد بصدق الدين الإسلامي وخلودِه، وعظمتِه وكماله، كان أعمقَ تأثيراً في قلوب الناس، بسبب ما عرفوه عنه من ثقافةٍ غربيةٍ واسعة، بالإضافة إلى ثقافته الإسلامية، مما يؤكدُ اطلاعَه على الثقافتين، واستيعابَه لهما على وجهٍ قلَّ أن يكونَ له نظير.

     وقد شهد لإقبال بهذا الدورِ الرائدِ الأستاذُ العلامةُ أبو الأعلى المودودي، فقرر -وهو خيرُ مّنْ يتحدث في هذا المضمار- أن الشاعرَ الفيلسوف المؤمن قد استطاع إنقاذَ الجيل المسلم الذي كانت تتلقفه فِتَنٌ جديدة، ونظرياتٌ مختلفة في ذلك العصر.

     استطاع إقبال -وهو الرجل الذي تربَّى في أحضان الغرب، وعاش في أجوائِه وبين فلسفته وحضارته، وتثقَّفَ بثقافته- ما لم يستطعْه الرجال الكبار والعلماء الأجلّاء. ولا شك أنه حين أدى شهادتَه تلك في ثقةٍ كبيرة، واعتزازٍ بالغ، ويقينٍ واستعلاء أيقظَ في الجيل المسلم الجديد شعوراً إسلامياً يمتاز بكثيرٍ من عناصرِ اليقظةِ والوعي والإحاطة.

     ومن جلائل الأعمال التي أدّاها إقبال هجومُه على توثينِ القوم والجنس والوطن والأرض، والعِرْق واللغةِ، واللونِ والسحنة، والجاهليات التي واكبتها على الرغم من كل ما أحاط بها من ضجيجٍ وبُهْرج، وزخرفة وبريق.

     ما أروع الدورَ الكبير الذي أداه الشاعر الكبير! إنه لَدَوْرٌ طليعيٌّ ريادي، استطاع به أن يتجه إلى المسلمين بنداءٍ حار ملتهب، عميقِ الغور، كَأَنْ يقول لهم محذِّراً من نتائج التقليد:

كـــلُّ مَنْ أنــــــــــكـرَ ذاتِيَّـــتَه     فَهْــوَ أولى الناس طُرَّاً بالفنــاءْ
لن يرى في الأرضِ شخصيتَه     كلُّ مَنْ قـــلَّدَ عيشَ الغربـــــاءْ

*****

الأكثر مشاهدة