الثلاثاء، 28 يونيو 2022

الخنساء بين فَقْدِ أخيها وأبنائها الأربعة

الخنساء بين فَقْدِ أخيها وأبنائها الأربعة

     كانت الخنساء رضي الله عنها أبرز شواعر العرب في الجاهلية، وكانت تحضر أسواق العرب الأدبية كسوق عكاظ، وتناطح الشعراء الفحول، وكانت ثقتها بنفسها كبيرة، واعتزازها بشعرها بالغاً، إلا أن وفاة أخيها صخر قتيلاً فجّرت فيها نهراً دفّاقاً من الأحزان جعلها تبكيه وترثيه دون أن تقدر على نسيانه، ومن رائع شعرها فيه قولها:

يذكّرني طلوعُ الشمسِ صخراً     وأذكـــرُه لكلِّ غروبِ شــمسِ
ولولا كثرةُ البـــــــاكينَ حولي     على إخوانهم لقتــــــلتُ نفسي
وما يبكين مثـــــل أخي، ولكنْ     أسلّي النفسَ عنــهُ بالتـــــأسّي

     وظلّت متشحةً بالسواد حتى بعد أن دخلت الإسلام، وظلّت مسحة الحزن العميق تلف حياتها، ولقيت الرسول الكريم ﷺ وأنشدته بعض شعرها فرَقَّ لها وقَدَّرَ عواطفها.

     وظلّت تتنقل بها السنون حتى ذهبت بشبابها، وجاءت معركة القادسية في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان بنوها الأربعة قد دخلوا الإسلام وخرجوا إلى تلك المعركة الضروس، فجمعتهم وقالت لهم:

     "يا بَنِيَّ إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خُنتُ أباكم ولا فضحتُ خالكم، ولا هجنتُ حسبكم، ولا غيّرتُ نسبكم، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب العظيم في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية. يقول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:200]، فإذا أصبحتم غداً فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائكم مستنصرين".

     ولما جاء الصباح دارت المعركة، واستشهد أبناؤها الأربعة دفعة واحدة، فما زادت على أن قالت: الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.

     موقف ضخم رائع يكشف عن حجم النُقْلة العملاقة التي أحدثها الإسلام في هذه المرأة، وعُمق التغيير الذي أعاد صياغة حياتها كلها من جديد، صياغة قوية شامخة.

*****

عبادة بن الصامت والمقوقس

عبادة بن الصامت والمقوقس

     لما جاء المسلمون لفتح مصر وتوغلوا فيها حتى وقفوا أمام حصن "باب ليون"؛ أي باب الأسد!.. الذي كان يومذاك مفتاح البلد، رغب المقوقس حاكم مصر القبطي عن الرومان أن يتفاوض مع المسلمين، فأرسل إليهم وفداً يعلمهم بذلك، ثم طلب منهم أن يرسلوا إليه وفداً، فأرسل إليه عمرو بن العاص، قائد الجيش المسلم عشرة رجال فيهم عبادة بن الصامت، وكان عبادة شديد السواد، طويل القامة جداً، وأمره عمرو بن العاص أن يكون هو الذي يتولى الكلام.

     فلما دخل الوفد على المقوقس، تقدمه عبادة بن الصامت فهابه المقوقس لسواده وضخامة جسمه، وقال:

     نحُّوا عني هذا الأسود وقدموا غيره ليكلمني!..

     فقال رجال الوفد جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره، وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله.

     فقال المقوقس: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغي أن يكون دونكم؟

     فقال رجال الوفد: إنه وإن كان أسود كما ترى، فإنه من أفضلنا موضعاً، وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأياً، وليس يُنكر السواد فينا.

     فقال المقوقس لعبادة وقد أدرك أنه في محل الصدارة من الوفد، وأن جماعته لا يعدلون به شيئاً: تقدم يا أسود وكلمني برفق، فإني أهاب سوادك، وإن اشتد كلامك علي، ازددت لك هيبة.

     فقال عبادة؛ وقد رأى فزع المقوقس من السواد: إن في جيشنا ألف أسود، هم أشد سواداً مني!..

     إن في هذه الحادثة التاريخية لأكثر من عبرة، وأكثر من عظة، وأكثر من دلالة، فيها بادئ ذي بدء، ارتفاع الإسلام إلى الآفاق الكريمة التي تكرم الإنسان، وتعلي قدره، من حيث هو إنسان، فيه نفخة من روح الله عز وجل، فهو يستحق التقدير بهذا الاعتبار، قبل أي اعتبار آخر.

     وفيها كذلك أن الحضارة الإسلامية أسقَطت بالفعل، لا بمجرد الأقوال والادعاءات فحسب، كل الحواجز الكاذبة التي يقيمها الفكر الجاهلي المنحرف بين البشر فيوزّعهم إلى فرق شتى بناء على معايير خاطئة، ومقاييس شاذة ضالة.

     وفيها كذلك تخلف الحضارة الأخرى التي كانت في مصر يومذاك، يظهر ذلك بوضوح بالغ في طلب المقوقس من الوفد المسلم، تنحية عُبادة وتقديم آخر يتكلم مكانه.

*****

عمر وفتح بيت المقدس

عمر وفتح بيت المقدس

     في شهر محرم عام 17هـ الموافق لشهر يناير (كانون الثاني) عام 637م؛ دخل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بيت المقدس، فانتهى بذلك عهد الرومان وما فيه من مظالم، ليبدأ عهد الإسلام العادل في مدينة الأنبياء، مدينة السلام.

     وكان عمر رضي الله عنه قد واعد قادة المسلمين بعد فتح بلاد الشام أن يلقاهم في الجابية، جنوب دمشق حيث استقبله من قادة الفتح أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد، كما استقبل وفد بطريرك بيت المقدس الذي جاء يطلب السلام ويدعوه لتسلّم المدينة.

     وكتب الخليفة عهد السلام وسلّمه لأهل المدينة، وفيه يعطي الأمان لأهل "إيلياء" أي بيت المقدس، الأمان لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، وفيه أيضاً ألّا يسكن بإيلياء مع النصارى أحد من اليهود، ومما يجدر التذكير به ها هنا أن هذا الشرط الأخير كان بطلب من النصارى أنفسهم.

     ودار الزمان وسقطت القدس في أيدي الصليبيين الذين حكموها قرابة قرن من الزمان، لكنَّ الأمة المسلمة ما لبثت أن تغلّبت على عوامل الضعف في بنائها، واستأنفت مسيرة الجهاد، فاستطاعت أن تستعيد القدس من جديد على يد البطل العبقري صلاح الدين الأيوبي عام 583هـ=1187م.

يا قدس، يا قدس الإسلام والمسلمين!..

     لقد جاءك عمر فأنقذكِ من جور الرومان وعسفهم، وأدخلكِ حظيرة الإيمان، فطاب لكِ المقام في ظلال القرآن، وترجيع الأذان.

     ثم جاءك صلاح الدين فأنقذكِ من جور الصليبيين وقسوتهم، وطهّركِ من النواقيس والصلبان، فعُدْتِ إلى عطر الإيمان، وجمال القرآن، وسحر الأذان.

     ثم ها أنتِ اليوم أسيرة بأيدي اليهود، قَتَلة الأنبياء، ومحترفي الربا، وتجار الحروب، ومروّجي المفاسد والدعارة، ومثيري الفتن والأكاذيب، أشدِّ الناس عداوة للذين آمنوا، وأعدى أعداء البشرية، وأكثر الناس إضراراً بالناس، ترى من الرجل الثالث يا قدس، من الرجل الثالث الذي ينقذكِ من رجس اليهود وخسّتهم ويعيدكِ إلى أهلكِ وذويك، إلى المؤمنين من أبناء الإسلام!؟
*****

حوار قادة المسلمين والفرس في القادسية

حوار قادة المسلمين والفرس في القادسية

     في الحوار الذي كان يجري بين عدد من قادة المسلمين، وبين عدد من قادة الفرس والروم قبيل المعارك المشهورة أيام الفتوح الإسلامية كالقادسية واليرموك، كان يظهر جلياً التحول الهائل الذي أصاب العرب بعد إذ أكرمهم الله تعالى بالرسالة، يظهر ذلك في الجانبين، المسلم وغير المسلم.

     وفي الروايات التاريخية الموثوقة عن أخبار الفتوح ما يؤكد سَعَةَ النُقْلة التي أحدثها الإيمان في عالم الواقع، وفي نفوس العرب، وفي نفوس من كانوا يحاربون العرب من فرس وروم.

     والشواهد على ذلك كثيرة جداً، وحسبك أن العرب الذين كانوا لا يجرؤون على التصدي لدورية ضئيلة من دوريات الفرس والروم، عمدوا إلى حرب هاتين الإمبراطوريتين في وقت واحد حرباً ضروساً جعلت هرقل يقول عنهم: إن هؤلاء لو استقبلوا الجبال لأزالوها، وما من ريب أن ذلك كله يعود إلى الإيمان الذي صاغ هؤلاء الرجال صياغة نادرة عجيبة.
***

     فقبيل أن تنشب معركة القادسية، كانت المفاوضات تجري بين المسلمين ورستم، وكان رستم يُطيل أمد المفاوضات، لأنه دخل الحرب كارهاً، فكان يأمل أن يصل مع المسلمين إلى اتفاق أو يحدث أمر من الأمور فتكون النتيجة أن تمتنع الحرب التي أكرهه يزدجرد على قيادة الفرس فيها، والتي كان منها على وجل عظيم. وخلال هذه المفاوضات كانت الوفود المسلمة تذهب إلى معسكر رستم تحدّثه حديثاً عجباً، لا عهد له به، ولا عهد للحروب والتواريخ به من قبل. وذات مرة كان رَبْعي بن عامر رضي الله عنه بطل واحدة من هذه المفاوضات المؤمنة حين انتُدِبَ لذلك.

     قال ربعي بن عامر لرستم حين سأله هذا عن سر خروجهم من بلادهم للحرب والجهاد: إن الله ابتعثنا لنخرج مَنْ شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

     إنها عبارة وجيزة جداً، هذه التي قالها ربعي، لكنها مع ذلك شديدة الغنى، شديدة التركيز، تدل على درجة من العمق والسهولة والسلامة بالغة جداً، تمكّن فيها الفهم السليم في ذلك الجيل الرباني القرآني الفريد وتأصّل، بحيث بات بوسعه أن يحدد غايته في الحياة، ووظيفة الإسلام كرسالة، ودور الفتوح كحركة تحرير كبرى، في كلمات قلائل تغني عن مجلدات كبار، حدد فيها ربعي مهمته ومهمة مَنْ معه، والغاية البعيدة العميقة الخطيرة من حركة الفتوح، والوظيفة الكبرى للإسلام في الحياة بثلاثة أهداف أساسية ضخام.

     الهدف الأول: إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وهو أمر، غاية في الخطورة والأهمية والجلال. وربما تساءل أحدهم: وهل كان الناس يعبدُ بعضهم بعضاً؟ والجواب في إيجاز بالغ: أن الناس في ذلك العصر، وفي عصرنا هذا، وفي كل عصر، يعبد بعضهم بعضاً حين لا يعبدون الله حقاً، فمن ارتضى أن يكون تابعاً لأحد من الناس كائناً من كان، يشرّع له وينظّم، ويصرفه عن منهج الله بمنهج من عنده، وعن هداية الله بطاغوت من لديه، يكون قد صار عبداً له ما دام قد رضي لنفسه هذا المآل المحزن الوخيم. ولن ينجو الإنسان بحق من عبوديته للعباد إلّا إذا أبى شرعهم ورفض مناهجهم، وانصاع لأمر الله عز وجل وحده، وشرعه ومنهجه، وهذا هو معنى الإسلام؛ أي التسليم التام المطلق لله جل جلاله.

     الهدف الثاني: هو إخراج الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها، والحقيقة أن الدنيا هي الدنيا من حيث إنها زمان معيشة الناس ومكانها، فبهذا المعنى لا تتسع ولا تضيق، وإنما هي تضيق وتتسع بحسب أهدافنا فيها، وآمالنا وتصوراتنا، وموازيننا وقيمنا، وأخلاقنا ومُثلنا. فإن كان هذا كله محصوراً في اللباس والطعام، والبيت والعمل، والنزهة واللذائذ، والمتاع والملهِيات، وما إلى ذلك من مطامح مادية خابية، فإن الدنيا ها هنا تكون ضيقة كثيراً، وسوف تثقل على الإنسان، ذلك أن للإنسان فطرة تتحرك، وأشواقاً ورغائب، وحنيناً ونوازع، تتخطى حدود المطالب المادية، وسجنها الضيّق الكئيب. فإذا ظل الناس ضمن هاتيك الحدود الضيقة والأسوار الخانقة؛ فإن الدنيا ضيّقة جداً، وتلك هي حالتهم حين ينصرفون عن منهج الله إلى مناهج البشر.

     أما إذا كان الناس ينظرون إلى هذه الدنيا على أنها رحلة وتمضي، أيام وتنقضي، وأنها يجب أن توظف لخدمة الآخرة من خلال الالتزام بشرع الله، وأن الآخرة أبقى وأطيب، وأحسن وأنظف، وأنه ينبغي أن تنصرف الهمة إليها، والعمل من أجل الفوز فيها، وأن هذا من لوازمه أن ينجو المرء من إسار المادة، ورقّ المطالب الدنيوية التافهة، وأن ينطلق في الحياة على هدى ونور، وصدق وإيمان، ومودة وحنان، ونبل وإيثار، واستقامة ومروءة وما إلى ذلك، فثمة الحياة التي تتسع وتطيب، ويحلو العيش فيها ويزكو، وتسمو الأهداف فيها وتعلو. ومثل هذه الحياة لا تكون إلّا في الإسلام الذي يحرص على أن يكون أتباعه أهلاً لمثل هذه التصورات الكبرى والمستوى الرائع تهذيباً وتربية، وسموّاً ورفعة، وامتلاكاً للأسباب التي تجعل الواحد منهم بحق خليفةً لله على الأرض.

     الهدف الثالث: هو إخراج الناس من جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام. لقد شهد التاريخ كثيراً من صور الجور والعدوان والاضطهاد باسم الدين قبل عصر ربعي وخلاله وبعده، تنصبُّ على رؤوس المخالفين.

     أما الإسلام فقد جاء يعلن أن الناس أحرار فيما يعتقدون: ﴿لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي﴾ [البقرة:256]، أعلن الإسلام ذلك، ثم انطلقت مواكبه إلى الدنيا لتحكمها بالإسلام، وتسقط الأنظمة الجاهلية الجائرة التي تحول بين الناس وبين اتّباع ما يعتقدون. وبعد ذلك، فَمَنْ دخل الإسلام، فما أعظم فرحة المسلمين به!.. وهو أخوهم العزيز، له ما لهم، وعليه ما عليهم.

     ومن اختار سوى ذلك؛ فله ما اختار، وهو آمنٌ على نفسه وأهله، وماله ومعتقده في ظل الدولة المسلمة التي تؤمن أنه كافر، وأنها وحدها على الحق. ومع ذلك تَبْسُطُ عليه حمايتها ورعايتها، وهي توقن أنه من حطب النار. وإذن فلم تكن هناك أي مبالغة في أن يهتف ربعي بن عامر بأن حركة الفتوح كانت تهدف من جملة ما تهدف إليه إلى إخراج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام.

     وبعد؛ فما أعظم ما قاله ربعي بن عامر!.. وما أغنى وأجمل الوقوف عنده!.. إن له كثيراً من الدلالات يقف في طليعتها عظمة المستوى الإيماني الذي كان عليه ذلك الجيل الرباني القرآني الفريد؛ فكرياً ونفسياً.

*****

أبو بصير.. مِسْعَر حرب!

أبو بصير.. مِسْعَر حرب!

     يحرص الإسلام على أن يكون أبناؤه ممن يحفظون العهود ويرعون المواثيق، ويجتنبون الغدر، ويحرصون على الوفاء حرصاً كبيراً. والمواقف التي تشهد بصحة ذلك كثيرة جداً.

     بعد أن عقد رسول الله ﷺ صلح الحديبية مع مشركي مكة المكرمة نشأ إشكال كبير يعترض طريق هذا الصلح، ذلك أنه كان من مواد الصلح: من جاء إلى المشركين من قِبَلِ المسلمين مرتداً عنهم يقبله المشركون، ومن جاء إلى المسلمين من قِبَلِ المشركين مؤمناً معتنقاً للإسلام يُرَد. وقد اعترض بعض المسلمين على هذا بشدة، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكن رسول الله ﷺ أصرَّ على إمضاء الصلح.

     ذات يوم وفَدَ أبو بصير عتبة بن أسيد من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة مسلماً، فبعثت قريش إثر ذلك كتاباً إلى الرسول الكريم ﷺ تطلب ردَّه، وحمل الكتاب رجلان أرسلَتْهُما قريش لإيصال الخطاب واستعادة أبي بصير.

     قال الرسول ﷺ لأبي بصير: "يا أبا بصير!.. إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصحُّ في ديننا الغدر، وإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلق إلى قومك". قال أبو بصير: "يا رسول الله أتردّني إلى المشركين يفتنوني في ديني؟"، فكرر عليه الرسول الكريم ﷺ قوله الأول.

     وانطلق أبو بصير مع الرجلين حتى إذا كان بذي الحُليفة سأل أحدهما أن يُريَهُ سيفه، وما أن استقر في يده حتى علا به الرجلَ فقتله، فعاد الثاني هارباً مسرعاً نحو المدينة حتى أتى النبي ﷺ فقال: "قتل صاحبي"، ثم طلع أبو بصير فقال: "يا رسول الله وَفَتْ ذمّتك وأدّى الله عنك. أسلمْتني للقوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث بي". ولم يُخْفِ الرسول الكريم ﷺ إعجابه به وتمنّيه لو يكون مثله معه، فقال: " وَيْلُ أمِّه، مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحد!.."، [رواه البخاري].

     وأدرك أبو بصير ألّا مُقام له في المدينة المنورة، ولا مأمنَ له في مكة فانطلق إلى ساحل البحر الأحمر، وأخذ يهاجم قوافل قريش التجارية. وسمع المسلمون المحبوسون بمكة المكرمة خبره وسمعوا قول الرسول الكريم ﷺ "ويلَ أمِّه مِسْعَرَ حرب لو كان معه أحد!.."، فهرعوا إليه وما زالوا يتكاثرون حتى صاروا سبعين رجلاً أعجزوا قريشاً ودوّخوها حتى بعثت إلى الرسول الكريم ﷺ تناشده وترجوه أن يقبل هؤلاء، وأسقطت شرطها الذي توهّمته نصراً لها بنفسها، ففعل.

*****

البراء بن مالك.. البطل الشهيد

البراء بن مالك.. البطل الشهيد

     هو الصحابي العظيم، المجاهد البطل الشهيد البراء بن مالك رضي الله عنه، وإنه ليشق عليك أن تحيط بحياته المضيئة في وقت محدد ما لم تستشرف الآفاق المتفوّقة المؤمنة التي كان يعيش فيها ذلك الجيل الرباني الفريد. فمنذ دخل الإيمان قلبه وهب حياته لهذا الدين العظيم، فكانت سِفراً من أسفار البطولة والتضحية والإيمان، ولا غرابة في ذلك فقد كان واحداً من التلاميذ النجباء الأوفياء لمدرسة محمد ﷺ.

     وإنه ليكفيك منه موقف فحسب!.. يجعل بمقدورك أن تتخيل الصورة كلها، وإنْ غابت عنك التفاصيل، هذا الموقف هو ما فعله البراء يوم اليمامة.

     لقد وقف البراء رضي الله عنه في مكانه من الجيش المسلم الذي كان يقوده الصحابي القائد العظيم خالد بن الوليد رضي الله عنه ليقتلعَ شرور الرِّدَّة التي كان يتزعمها مسيلمة الكذاب عليه لعنة الله. وقف البراء وعيناه الثاقبتان تجوبان أرض المعركة في سرعة ونفاذ، وقد بدا فيهما عزم عجيب، وإرادة هائلة، ونزوع عميق جياش إلى شهادة كريمة في ذلك اليوم المشهود.

     كانت عيناه تجوبان الميدان كله، كأنهما تبحثان عن أشدّ الأماكن خطورةَ وبأساً ليسارع إليه البطل، بحثاً عن ختام هانئ سعيد لحياة حافلة بالمكرمات، وأي ختام أهنأ وأسعد من الشهادة في سبيل الله!؟

     وإذ بدأ القتال انطلق البراء كالسهم صوب غايته، وقد أحسّ أن رائحة الجنة في أنفه، فاستثار ذلك فيه كل القوة والحركة، وكل السرعة والنشاط، وكل البطولة والحميّة، فإذا بقوته تتضاعف، وإذا بنشاطه يزداد، وإذا به كالسيل الأتيِّ الدفّاق، فكان أن مضى يفتك بعصبة السوء، ويبلي في جهاده أعظم البلاء.

     وحين اشتدت المعركة حدث خلل في صفوف المسلمين، وسرى فيهم شيء من الارتباك، وطفق قادة المسلمين وفرسانهم يجوبون الميدان يحثون على الصبر واحتمال العناء حتى النصر المأمول، وكان البراء رضي الله عنه ذا صوتٍ عالٍ جميل، فهتف به خالد بن الوليد: تكلَّمْ يا براء!.. وتكلمَ البراء، وتدفق صوته الجياش بكلمات قلائل، لكنها ذروة في الأداء والبيان، والبلاغة والإيجاز. لقد علا صوته يقول: "يا أهل المدينة!.. لا مدينة لكم اليوم، إنما هو الله والجنة".

     إنه يُهيب بأهل المدينة المنورة أن ينسوا مدينتهم، ففي مثل هذا المشهد الصعب ينبغي ألا يشغل المجاهدون أنفسهم بشيء سوى انتزاع النصر، عليهم أن ينسوا الديار التي خرجوا منها، والأهل الذين ودّعوهم. حتى المدينة المنورة، عاصمة الإسلام، ومأرز الإيمان، ومثوى رسول الله ﷺ عليهم أن ينسوها الآن.

     وسَرَتْ كلمات البراء كالتيار في أرواح المجاهدين، وعادت الصفوف المسلمة تتقدم من جديد، والمرتدون يتراجعون حتى دخلوا حديقة كبيرة، فلاذوا بها وأغلقوها عليهم.

     وهنا يعلو صوت البراء من جديد يهتف: يا معشر المسلمين، احملوني وألقوني عليهم في الحديقة!.. ولم ينتظر البطل، فالوقت ثمين، والمعركة في أخطر مراحلها، والنصر قاب قوسين، وإنما هو ينتظر بعض المبادرات الشجاعة ليكون بإذن الله إلى جانب المسلمين.

     واعتلى البراء الجدار، وألقى بنفسه داخل الحديقة، حيث جيش الردة، وفتح الباب، فدخل الجيش المسلم يستأصل عصبة الشر، وقُتِل مسيلمة، وهُزِمَ المرتدون.

     عمل رائع من البراء أدّى إلى أحسن النتائج، لكنّ شيئاً واحداً فات البراء، إنه لم يُرزق الشهادة على الرغم من هذه المغامرة الجريئة، واستبان الناس صدق كلمة الصدِّيق رضي الله عنه: "اُطْلُبِ الموتَ تُوهَبْ لكَ الحياة".

     لقد نال البراء في مغامرته تلك بضعاً وثمانين وساماً هي مجموع الكلوم والجراحات التي أصابته، أما الشهادة فقد ادخرت له ليفوز بها في يوم آخر، عظيم مشهود من أيام الإسلام الخالدة.

*****

الأحد، 26 يونيو 2022

مصعب بن عمير

مصعب بن عمير

     هو نموذج من نماذج التضحية بالراحة والثروة، والارتفاع فوق مغريات الحياة الرخيّة الناعمة، وإيثار الحرمان والمشقة والبلاء والأذى في سبيل الله عز وجل. إنه الصحابي الشهيد مصعب بن عمير رضي الله عنه.

     نشأ مصعب في الغنى، ورُبِّيَ في أحضان الرفاه والنعمة، بين أبوين يحبانه أعظم الحب، ويكسوانه أحسن اللباس، ويغذوانه أطيب الطعام، وينشران عليه أجنحة العطف والرعاية والحنان.

     لكنّ الفتى المؤمن هجر هذا كله إلى حياة الخشونة والشدة والغربة والهجرة والجوع والتعب، رضي بمفارقة الأهل والوطن، ورغب عن الجاه والثروة، وفرّ بدينه مهاجراً إلى الحبشة، ثم إلى المدينة المنورة حتى مات في دار الهجرة شهيداً في غزوة أحد، فما وجد المسلمون له ثوباً يكفيه كفناً، وكل الذي وجدوه ثوب قصير، إذا غُطِّي رأسه بدت رجلاه، وإذا غُطِّيَت رجلاه ظهر رأسه.

     روى ابن سعد عن أحد أقرباء مصعب قوله: كان مصعب فتى مكة شباباً وجمالاً ونسباً، وكان أبواه يحبّانه، وكانت أمه كثيرة المال، وكان أعطر أهل مكة، دخل على رسول الله ﷺ، دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة المكرمة فأسلم، فأخذه قومه فحبسوه، فلم يزل محبوساً حتى هاجر إلى الحبشة، ثم عاد مع المسلمين فإذا به قد تغيّرت حاله، وإذا به قد خشن وتبدّل.

     وفي يوم أحُد ثبت مصعب رضي الله عنه ثبات الأبطال، وكان يحمل الراية بيده، وظل يصول ويجول، وظلت سيوف المشركين ورماحهم تنوشه من هنا وهناك حتى قُطِعت يده اليمنى، فخشي على اللواء أن يسقط، فسارع يحمله بيده اليسرى، فلما قُطِعت اليسرى كذلك، حنا عليها وأمسكها بعضديه حتى استشهد، وحين أراد المسلمون دفنه لم يجدوا ثوباً يكفيه فجعلوه مما يلي رأسه، وجعلوا على رجليه من نبات الإذخر.

     ووقف رسول الله ﷺ على الفتى الشهيد فقال: «لقد رأيتك... بمكة وما بها أحدٌ أرَقّ حلة ولا أحسن لمَّة منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة».. وقرأ قول الله عز وجل: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾. [الأحزاب:23].

     رحم الله الشهيد العظيم، وأجزل له الثواب والعطاء، وجمعنا به في مستقر رحمته.

*****

حاجتي ليست كحاجتهم

حاجتي ليست كحاجتهم

     قدم وفد "تَجِيبُ" من اليمن إلى المدينة المنورة، فسُرَّ بهم رسول الله ﷺ وأكرم منزلتهم، وأمر بلالاً رضي الله عنه أن يحسن ضيافتهم، وجعلوا يسألون النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ويتعلمون منه، وحين جاؤوا إلى الرسول الكريم ﷺ يودعونه أجزل لهم في العطاء، ثم سألهم: هل بقي منكم أحد؟ قالوا: نعم غلام خلّفناه على رحلنا هو أحدثنا سناً، قال: أرسلوه إلينا. فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله ﷺ وطلب منه أن يقضي له حاجته، كما قضى حوائج إخوانه الآخرين في الوفد. فقال له رسول الله ﷺ: وما حاجتك؟ قال الغلام: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا قد قدموا راغبين في الإسلام، وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإني والله ما أقدمني من بلادي إلّا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي. فقال رسول الله ﷺ: اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه. ثم أمر له بمثل ما أمر به الرجل من أصحابه، فانطلق الوفد عائداً نحو اليمن.

     وفي السنة العاشرة من الهجرة وافى الوفد ثانيةً رسول الله ﷺ وهو في منى، فسألهم رسول الله ﷺ عن الغلام الذي تخلف عنهم هذه المرة فقال: ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟ قالوا: يا رسول الله، ما رأينا مثله قط، وما حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها، ولا التفت إليها.

     فقال الرسول الكريم ﷺ: الحمد لله، إني لأرجو أن يموت جميعاً. فقال رجل من الوفد: أوَ ليس يموت الرجل جميعاً يا رسول الله؟ فقال ﷺ مبيّناً أن مِن الناس مَن يموت مشتتاً موزعاً، تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا: فلعل أجله أنْ يدركه في بعض تلك الأودية فلا يبالي الله عز وجل في أيّها هلك. قالوا: فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال، وأزهده في الدنيا وأقنعه بما رزق الله.

     فلما توفي رسول الله ﷺ ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام في قومه فذكرهم الله والإسلام فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه يذكره ويسأل عنه حتى بلغه حاله، وما قام به فكتب يوصي به.

     هذه قصة نادرة لشاب كريم، عَمَر الإيمان قلبه، فلم يجعل همّه ما يشغل كثيراً من الناس، فيظلّون يعدون وراءه ويقطعون في ذلك زهرة أعمالهم، بل تعلقت همته بما عند الله عز وجل مما هو خير وأبقى، حين طلب حاجته من رسول الله ﷺ، كانت حاجته التي طلبها غير حوائج إخوانه الآخرين، بل غير حوائج أكثر الناس، كانت حاجة دينه قبل دنياه، وروحه قبل جسده، ونفسه قبل مادته، ومعناه قبل هيكله، وحقيقته قبل صورته، كانت حاجته أن يسأل رسولُ الله ﷺ له ربَّه عز وجل أن يغفر له ويرحمه، وأن يجعل غناه في قلبه.

     إنها حاجة كبيرة كريمة قرّت بها عينا رسول الله ﷺ، وأدرك عظمة هذا الغلام وسمو نفسه، وسارع يدعو له، وحين دارت الأيام وغاب الغلام، ولم يعد مرة ثانية مع الوفد لم ينسه رسول الله ﷺ بالرغم من نأي الدار وتطاول الزمن، لذلك سأل عنه سؤال الخبير العارف، فلما أجيب بما يُدخل السرور على القلب، قال عليه الصلاة والسلام: إني لأرجو أن يموت جميعاً.

     والناس يموتون على ما عاشوا عليه، فمن عاش جميعاً أي موحد العزيمة، مجتمع الغاية، ثابت الهدف، واضح الرؤية، غير مشتت ولا متوزع، مات كما عاش. ومن عاش مشتتاً موزعاً، متفرق الغاية، متعدد الهدف، كثير الهموم والأماني، مشتتاً إلى مزق كثيرة، وأوزاع متناثرة، وأجزاء شتى مات كما عاش. وشتان بين ميتة هذا وذاك، وشتان بين حياة هذا وذاك في الدنيا هذه قبل الموت.

     وما من ريب أنه نادر جداً بين الناس ذلك الذي يعيش لغاية واحدة كما عاش ذلك الغلام، ويجمع همومه في همٍّ واحد يحيا له، ويموت عليه، ويكدّ من أجله، وإنما يفعل ذلك المؤمن العميق الإيمان، النافذ البصيرة، الذي تطهّرت روحه وزَكَت وسمت، فجعل غايته رضوان الله عز وجل، حدد لنفسه هذا الهدف العظيم عن إدراك عميق لا عن نزوة عابرة، أو حالة عارضة، ثم طفق يتخذ وسائل تحقيق هذا الهدف، ويعمل على تطبيقها بقوة وعزم ومضاء، وقد هان عليه كل شيء في الحياة وهو يرنو إلى هدفه العظيم الجليل، ويقرأ قوله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لَا شَرِيكَ لَهُۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام:162-163]، وهذا هو الرجل الذي يعيش جميعاً ويموت جميعاً.

     هو الرجل الذي تعمقت فيه القناعة الإسلامية الراشدة، فحمته من الشره والطمع، واستروح نسمات الحياة الطيبة في الدنيا نفسها، وهي جزاء المؤمنين العاملين قبل أن ينتقلوا إلى الدار الآخرة. قال عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةًۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل:97]، وقد فسّر الإمام علي رضي الله عنه الحياة الطيبة بالقناعة، وما من ريب أن بين الحياة الطيبة وبين القناعة صلة وثقى، كل منهما تقود إلى الأخرى إن لم تكن هي هي بعينها بالتمام والكمال.

*****

اتساع الرحمة عند المؤمن

اتساع الرحمة عند المؤمن

     تعظُم الرحمة عند المؤمن وتتسع، وتكبر دائرتها وتمتد، حتى لتشمل في عطائها الخيّر المبارك، ونتاجها الثرّ الكريم الناس جميعاً، ثم تتعداهم فإذا بها قد وصلت إلى الحيوان، فهذا الحيوان الأعجم الذي ليس له حول ولا طول، يرحمه المؤمن، ويتقي الله تعالى فيه، ويعلم أنه مسؤول عنه بين يدي خالقه، وقد ذكر الرسول الكريم ﷺ لصحابته الكرام أن امرأة سيئة لقيت كلباً استبدَّ به العطش، فدلَّت خُفها في البئر وسقته حتى ارتوى فغفر الله لها. وفي مقابل ذلك ذكر لهم أيضاً أن امرأة أخرى حبست هرة حتى ماتت، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فاستحقت بذلك العذاب.

     وقد قال رجل للرسول الكريم ﷺ: إني لأرحم الشاة، فقال له: إنْ رحمتها رحمك الله. ورأى عمر رضي الله عنه رجلاً يسحب شاة برجلها ليذبحها فقال له: ويلك!.. قدها إلى الموت قوداً جميلاً.

     ويروي المؤرخون أن عمرو بن العاص رضي الله عنه في فتح مصر، نزلت حمامة بفسطاطه أي خيمته، فاتخذت من أعلاه عشّاً، وحين أراد الرحيل رآها، فلم يشأ أن يهيجها بتقويضه، فتركه، وتكاثر العمران من حوله فكانت مدينة الفسطاط تلك التي نشأت في مكانها إكراماً ورحمة لحمامة حلّت ضيفة في فسطاط رجل كريم من تلاميذ مدرسة النبوة المطهرة.

     ويروي ابن الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه نهى عن ركض الفرس إلّا لحاجة، وأنه كتب ينهى عن إلجام الدواب بلجام ثقيل، وينهى أن تنخس بمقرعة في أسفلها حديدة، وكتب إلى واليه بمصر: إنه بلغني أن بمصر إبلاً نقالات يحمل على البعير منها ألف رطل، فإذا أتاك كتابي هذا فلا أعرفن أنه يحمل على البعير أكثر من ستمئة رطل.

     إنها رحمة عظيمة دافقة، هي أثر من آثار الإيمان بالله عز وجل، والدار الآخرة، ذلك الإيمان الذي يهذب النفوس، ويرقق القلوب، ويلين الأفئدة القاسية الجافية، هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان في الجاهلية معروفاً بالقسوة والشدة، يفجّر الإسلام في فؤاده أعظم ينابيع الرحمة والخير، فيرى نفسه بعد أن صار أميراً للمؤمنين مسؤولاً أمام الله عز وجل عن بغلة تعثر بشط الفرات، لِمَاذا لَمْ يُسَوِّ لها الطريق؟

     ولقد كان من جملة الأوقاف الإسلامية؛ وقف خاص يُنفَق من ريعه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب، استنقاذاً لها من عذاب الجوع، حتى تستريح بالموت أو الاقتناء.

     وكان هناك وقف خاص لتطبيب الحيوانات المريضة، وآخر لرعي الحيوانات المسنة العاجزة، وكان في دمشق وقف للقطط تأكل فيه وتنام، فكان الناس يرون فيه مئات القطط السمينة التي يُقدم لها طعامها ولا تتحرك إلّا للرياضة والنزهة واللعب.

     وكان من وظيفة المحتسب -وهي من أكرم الوظائف وأعظمها وأكثرها إشراقاً في حضارة الإسلام- أن يمنع الناس من تحميل الدواب فوق ما تطيق، أو تعذيبها وضربها في أثناء السير، فمن رآه يفعل ذلك أدّبه وعاقبه. وكان ينهى الناس أن يسوقوا دوابهم سوقاً شديداً تحت الأحمال، وينهاهم أن يضربوها ضرباً شديداً، وأن يوقفوها في الساحات العامة وعلى ظهورها أحمالها، وكان يراقبهم في علف الدابة وعليقها، ويطلب أن يكون موفوراً يحصل به الشبع ولا يكون منجوساً ولا نزراً. إن هذا كله يدل على ما في الأمة المسلمة من خلق للرحمة عظيم، هو بعض من غراس الإيمان.

     ومن أطرف الأمثلة من ناحية، وأعمقها دلالة وإيحاء، ما نجده عند الصحابي العظيم أبي الدرداء إذ يقول لبعيره عند الموت: يا أيها البعير لا تخاصمني إلى ربك، فإني لم أكن أحملك فوق طاقتك، وما نجده عند صحابي آخر هو عدي بن حاتم الطائي الذي كان يفت الخبز للنمل، ويقول: إنهنّ جارات لنا ولهنّ علينا حق.

     ومرة كان الإمام أبو إسحاق الشيرازي يمشي في طريق ومعه بعض أصحابه فعرض له كلب فزجره صاحبه، فنهاه الشيخ وقال له: أمَا علمت أن الطريق مشترك بيننا وبينه؟

     إنها رحمة عظيمة تعلمتها الأمة المسلمة من رسولها الكريم ﷺ الذي كانت له مواقف في الرحمة عجيبة، منها أنه سمع مرة امرأة من الأنصار تلعن ناقة لها وهي تركبها فأنكر عليها ذلك وقال: خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة، وأُخِذ ما على الناقة، وتركت تمشي في الناس لا يعرض لها أحد.

     إنها رحمة الإسلام تبلغ مدى واسعاً جداً، ولا عجب!.. فمطلوب من الأمة المسلمة أن تتفوق في كل شيء وتسبق، لتكون جديرة بقيادة العالم كله، والبشرية جمعاء، إلى دروب السعادة والخير في دنياها وأخراها.

*****

أيهما أجود!؟

أيهما أجود!؟

     حين تحدثنا عن بعض المظاهر العملية للجود الإسلامي، والإنفاق في سبيل الله عز وجل، عرضنا في عجالة سريعة لأبي الدحداح وهو يجود ببستانه في سبيل الله عز وجل، ومثّلنا به للمستوى النفسي الرفيع، والتفوق الروحي الضخم الذي كان الجيل الإسلامي الأول عليه. على أن الإعجاب الحقيقي، والإكبار الضخم نلتقي بهما في موقف أم الدحداح كذلك، فإذا كان أبو الدحداح رجلاً كريماً جواداً فذلك كثير بين الرجال، ولكن أن يبلغ الجود بأم الدحداح أن تبارك عمل زوجها وتشجعه فهو ما لم نعتده بين النساء اللواتي يمتلكهن الخوف على مستقبلهن ومستقبل أولادهن، بسبب قلوبهن الرقيقة الضعيفة، الواجفة الوجلة المشفقة.

     إن أبا الدحداح جادَ ببستانيه اللذين لا يملك سواهما، لكن الرسول الكريم ﷺ طلب منه أن يحتفظ بواحد منهما، فاختار الأحسن وجاد به، واحتفظ بالأدنى لنفسه وعياله، وعاد مسرعاً إلى حيث أم الدحداح وصغارها فوجدهم في أحسن البستانَين، أي الذي تبرع به فأخذ يقول مخاطباً زوجته:

هداكِ ربي سبــــل الرشـــاد     إلى سبيل الخيـــر والســـداد
بِيـــني من الحــــائط بالوداد     فقد مضى قرضاً إلى التنــاد
أقرضته الله على اعتـــمادي     بالطوع لا منّ ولا ارتــــداد
إلا رجاء الضِّعف في المعاد     فـارتحـــلي بالنفس والأولاد
والبِرُّ لا شــــك فخيــــر زاد     قــــدمه المرء إلى المعـــــاد

     ترى أَبَكَتْ أم الدحداح إذ علمت أن زوجها جاد بواحد من بستانيه في سبيل الله؟ أتذمّرتْ لأنه جاد بالأحسن واحتفظ بالأدنى؟ أطَفِقَتْ تسأله عن الصغار ومستقبلهم وتخوّفه ما قد يلاقون من عنت ومشقة؟

     إن هذه المرأة المسلمة حقاً، لم تفعل شيئاً من ذلك قط، بل سارعت تقول لزوجها: ربح بيعك، بارك الله لك فيما اشتريت!.. وأنشأتْ تقول:

بشّــــرك الله بخيــــرٍ وفــــرَحْ     مثـــلك أدّى ما لديه ونصَـــحْ
قد متّــــع الله عيــــــالي ومنح     بالعجوة السوداء والزهو البلح
والعبـــد يسـعى وله ما قد كدح    طول الليالي وعليه ما اجترح


     ما أروع جوابكِ يا أم الدحداح!، وما أكرم ما قابلتِ به زوجك الجواد! ألا بارك الله في الذي فعلتِ وجزاكِ خير الجزاء.

     إن أم الدحداح لم تكتفِ بما فعلت، بل أقبلت على صبيانها تُخرِجُ ما في أفواههم من تمر وتنفض ما في أكمامهم، ذلك أنها شعرت أن البستان ما عاد لزوجها، فلا يحل لها أن تأكل منه، لا هي ولا أولادها، ثم مضت بهم نحو البستان الآخر.

     موقف الرجل عظيم، وموقف المرأة أعظم، وما أجمل الجزاء متمثلاً بقول الرسول الكريم ﷺ: «كم من عذق رداح، ودار فياح، لأبي الدحداح»! أي في الجنة. والحديث صحيح على شرط مسلم، أخرجه أحمد (3/146).

     إن صورة أم الدحداح هي صورة المرأة المسلمة حقاً، التي تغلغل فيها الإيمان حتى أعماقها، فعرفت معنى الحياة، وعرفت وظيفة المال، وأدركت أن الهدف الأكبر للمسلم هو رضوان الله عز وجل. وهي صورة مشرقة وضّاءة، منيرة لألاءة، كثيراً ما نلتقي بمثيلات لها كريمات، مثل تلك المرأة المسلمة التي قيل لها: إن زوجها الذي يعولها قد استشهد فهتفت بهذه القولة النادرة التي تنتظر بيان قلم مؤمن بارع ليبدع فيها ويجود، قالت: "لقد عرفتُه أكّالاً، ولم أعرفه رزّاقاً، ولئن ذهب الأكّال لقد بقي الرزاق"، أيّ كلمة هذه الكلمة؟ أيّ دلالات تحمل؟ بأيّ معان نبيلة، وأحاسيسه ضخمة، ومشاعر متفوقة تجيش وتمتلئ؟

     إنها حقاً لأكبر من التعليق، خاصة في مثل هذا المجال القصير، وإني لأقدمها هدية لأدباء العربية نموذجاً لما يمكن استلهامه من كنوز التراث، بدل أن يولّوا وجوههم قِبَلَ الشرق أو الغرب، مستلهمين أساطير اليونان القدماء، التي هي غريبة عن حسّنا من ناحية، والتي هي ضلالات وخرافات وأكاذيب من ناحية أخرى، كأسطورة بروميثيوس، أو سيزيف، أو أوديب، أو هرقل مثلاً. ولا تقلّ رموز أخرى كالصلب والفداء والخطيئة وما إلى ذلك غرابةً عن حسّنا من ناحية، وبُعداً عن الصواب والحق والصدق من ناحية أخرى، عن رموز اليونان القدماء، ومع ذلك لا تخطئ أن تجدها لدى هذا وذاك من المتأدبين والأدباء الذين يتوهمون أنهم بذلك يُضفون على أنفسهم طابع الجِدة والابتكار، ناسين أن كل أدب ليست فيه أصالة، وليست فيه اهتمامات كبيرة مصيره إلى الفناء العاجل وإن طُبِعَ على ورق أنيق، وحرف جميل، وغلاف جذاب فإن القانون الذي يحكمه يجعله يمضي بسرعة بالغة من المكتبة إلى التلف، ومن المطبعة إلى المقبرة.

*****

الأكثر مشاهدة