الأحد، 26 يونيو 2022

الدعوة إلى البذل في الإسلام

الدعوة إلى البذل في الإسلام

     ينادي الإسلام بالدعوة إلى الخير والجود، والصدقة والإنفاق، نداءً قوياً تنهزم معه في النفس الإنسانية بواعث الشح والبخل، والأثرة والحذر، ووسوسة الشيطان في التخويف من الفقر، فالصدقة كما جاء في الحديث الشريف لا تنقص مالاً قط، والإنفاق في سبيل الله تعالى له ثواب يتضاعف ويزداد، فإذا بالدرهم الواحد، وقد آتى أكله سبعمئة درهم أو أكثر حين ينفق في سبيل الله بصدق وإخلاص، يقول عز وجل: ﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:261].

     ويقول جل شأنه في الحث على الثقة بجود الله وكرمه، والحذر من الشيطان ووسوسته وتخويفه بالفقر: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًاۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:268]. ويعمّمُ الإسلام الدعوة إلى الخير، ويوسّع ميدانها فلا يقصرها على المال فحسب، بل يحث عليها كل مسلم فقيراً كان أم غنياً، أما الغني فيفعل الخير بماله وبمكانته، وأما الفقير فيفعل الخير بيده وقلبه، ولسانه وعمله، ولن تجد في الإسلام من لا يستطيع أن يجود في ميادين البر والخير أياً كانت مكانته ورزقه.

     إن الإسلام يحرر وجدان المسلم من خوف الفقر، ويعتق روحه من كثرة التفكير فيه، حين يطلب إليه أن يَكِلَ أموره إلى الله العلي القدير الذي لا حدَّ لغِناه العظيم، وجوده الواسع، وما من ريبٍ أن المرء الذي يظل يحيا في خوف من الفقر يظل فقيراً مهما امتلك، ولذلك فالغنى الحقيقي هو غنى النفس، وما أجمل قول الشاعر:

ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقرٍ فالذي فعل الفقرُ

     وترافق علمية التحرير الروحي من أشباح الفقر، وأوهام الفاقة، ووسوسة الشيطان، عملية شحنٍ لا حدَّ لها بالثقة واليقين، والأمل والرجاء، مما يبعث على الجود والتسابق في الخير.

     لمّا نزل قول الله تعالى: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةًۚ﴾ [البقرة:245]، قال صحابي هو أبو الدحداح: أوَ يستقرض الله من عبد يا رسول الله؟ فقال ﷺ: نعم. فقال أبو الدحداح: امدد يا رسول الله يدك، فأشهَده أنه تصدق ببستانه الذي لا يملك غيره، وكان فيه سبعمئة نخلة مثمرة، ثم عاد إلى زوجه، وكانت تقيم مع أولادها في هذا البستان فأخبرها بما صنع، فغادرت هي وأولادها البستان وهي تقول: ربح بيعك يا أبا الدحداح.

     ولقد كان مما شكاه الفقراء إلى النبي ﷺ أن الأغنياء يسبقونهم في فعل الخير إذ يتصدقون بأموالهم، ولا يجد هؤلاء الفقراء ما يتصدقون به، فبيّن لهم رسول الله ﷺ أن فعل الخير ليست وسيلته المال فحسب، بل كل نفع للناس فهو من عمل الخير فقال: «إن لكم بكل تسبيحةٍ صدقة، وأمرٍ بمعروفٍ صدقة، ونهيٍ عن المنكر صدقة، وفي إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وأن تصلح بين اثنين صدقة، وأن تُعين الرجل على دابته فتحمله عليها صدقة». (رواه البخاري ومسلم).

     وهكذا يفتح الإسلام أبواب الخير للناس جميعاً حتى لَيستطيع أن يفعله العامل والتاجر، والفلاح والجندي، والتلميذ والأستاذ، والرجل والمرأة، والشاب والعجوز، وجميع الناس، دون أن تحول ظروفهم الصحية أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، عن المساهمة في إشاعة البر، وبذل الخير، وصنع المعروف، ومساعدة الآخرين، وهكذا يسمو الإسلام بالناس سموّاً بالغاً ويرفعهم إلى آفاق كريمة من النزعة الإنسانية الكاملة، إذ يجعل البر لجميع الناس أياً كانوا وذلك كما يقول الرسول الكريم ﷺ: «الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله» (حديث ضعيف، رواه البيهقي)، وبذلك يُحدِث الإسلام لدى أتباعه نقلة واسعة ضخمة في البر ومفهومه وميادينه، تماماً كما أحدثها في شتى الميادين الأخرى وعلى جميع الأصعدة والمستويات.

     ولمّا كان الإنسان يحب نفسه قبل كل شيء بفطرته وطبيعته، خاطب الإسلام النفس الإنسانية بما يحبب إليها البر والخير عن طريق النفع الذاتي للنفس الخيّرة المعطية، إنه يخاطب كل إنسان بأن فعل الخير يعود نفعه على مَنْ يفعله قبل كل شيء، يقول الله عز وجل: ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْۚ﴾ [البقرة:272]، ويقول: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾ [فصلت:46]. ولا ريب أن لهذا الأسلوب أثره الملحوظ في النفس الإنسانية فيتحرر البخيل من شحِّه، ويزداد الكريم كرماً ويسخو الجواد، مما يعود بأحسن الثمار وأكرم النتائج.
****

منافق في حلقة سلمان وصهيب وبلال

منافق في حلقة سلمان وصهيب وبلال

     جاء أحد المنافقين إلى حلقة فيها سلمانُ الفارسي، وصهيبٌ الرومي، وبلالُ الحبشي، فقال: الأوسُ والخزرج قاموا بنصرة هذا الرجل يعني محمداً ﷺ، فما بال هؤلاء؟ يعني بلالاً وصهيباً وسلمان. فقام إليه الصحابي الأنصاري الكريم معاذُ بن جبل فأخذ بتلابيبه، ثم أتى النبيَّ ﷺ فأخبره بمقالته. فقام رسول الله ﷺ مُغْضَباً يجرُّ رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي أَنِ الصلاة جامعة، وهو تعبير يُقْصَدُ به الاجتماع العام، فخطب في الناس فقال: «يا أيها الناس إن الربَّ واحد، والأبَ واحد، وإنَّ الدينَ واحد، ليست العربية بأحدكم من أبٍ ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلّم بالعربية فهو عربي»[1].

     إن المرء ليكادُ يلمحُ في هذه الحادثة سِرّاً كريماً جعل ثلاثة من الصحابة في حلقة مجتمعين ليسوا من العرب، ليمرَّ بهم منافق، فيقولَ ما يقول، ويكونَ المآل أن يخطبَ رسول الله ﷺ، ليقررَ في خطابه ذاك، أصلاً كبيراً من أصول الإسلام، وقاعدةً راسخةً من قواعده الأصيلة.

     الصحابة الذين قال عنهم المنافق ما قال هُزْءاً بهم وسخرية، هم بلالٌ وصهيبٌ وسلمان، فهم جميعاً من غير العرب، وهم يظهرون في المجتمع الإسلامي الأول، كما لو كانوا ممثلين لأممهم الأصلية التي جاؤوا منها، فبلال يمثل الأمة الحبشية، وصهيب يمثل الرومان، وسلمان يمثل الفرس. وإنّ في هذا التمثيل إشارةً كبرى إلى عالمية الدعوة الإسلامية، وإنسانية مبادئها، وتخطّيها لحدود الأعراق والأصقاع، والأجناس والبلدان، واللغات والألوان. هذا معنى كريم، يمكن لنا أن نلمسَه في هذه الحادثة التاريخية التي سقناها في مطلع هذا الحديث.

     ويمكن لنا أن نلمس معنى كريماً آخر، وذلك في أن يتصدى للرد على المنافق والأخذ بتلابيبه أي القبضِ على ثيابه من جهةِ نَحْره، صحابيٌّ آخر من غير هؤلاء الثلاثة وهو معاذ بن جبل الذي قد يتراءى للإنسان أنَّ ما قاله المنافقُ لا يمسه شخصياً، فهو عربي أنصاري من أهل المدينة المنورة، لكن الأمر ليس كذلك، فالقضية ليست قضية اعتداء على شخص فحسب، بل هي أخطر من ذلك، إنها اعتداء على مبدأٍ آمن به معاذ، كما آمنَ به الصحابة الثلاثة، لذلك هو مسؤول عن الدفاع عن حَوْزته، بنفس الدرجة التي نرى الصحابة الثلاثة مسؤولين عنها، سواءً بسواء، فما تزيدُ مسؤوليةُ سلمانَ وصهيب وبلال، وإن كانت الإساءةُ الشخصية قد وُجِّهت إليهم في الأساس، عن مسؤولية معاذ وغير معاذ، فالجميع مسلمون، والجميع مسؤولون عن إسلامهم بدرجةٍ واحدة من المسؤولية، بقطع النظر عن أصلٍ أو بلد، كان إليه الانتماءُ الأول.

     ومن أجل ذلك تحرَّك معاذ ليرد على المنافق قولتَه السيئة، وسكت كلٌّ من سلمانَ وصهيبٍ وبلال. وإني لأرى التحرك على هذه الصورة أبلغَ مما لو كان العكس، فربما ظنَّ ظانٌّ لو تحرك أولئك الثلاثة أو واحد منهم وسكت الآخرون ممن لم يُوَجَّه إليهم الحديث أن الأمرَ حميّةٌ لكرامةٍ شخصية اعتدي عليها فحسب، لكنَّ تصرفَ معاذ أبطلَ أمثال هاتيك الظنون والتأويلات بحيث يمكن للمرء أن يجزمَ مع تصرفِه الكريم الراشد، أنَّ ما فعله، إنما كان دفاعاً عن العقيدةِ وحراسةً لها، وحمايةً لمعانيها الخالدة، أن يعكرَ صفوها خبيث ماكر، أو منافق لئيم.

     وما يغيبُ عن المرءِ صنيعُ رسول الله ﷺ، وما فيه من دلالاتٍ غنية جداً بالعبر والدروس، فهو قد دعا المسلمين إلى اجتماعٍ عام، ليعلنَ في هذا الاجتماع ما يُحْبِطُ مكيدةَ المنافقِ اللئيم من ناحية، وهذا هو الأمر القريب الذي يُطفئُ الشرَّ ساعةَ اتقاده، وليُرسِيَ كذلك أصلاً كريماً من أصول الإسلام من ناحية أخرى، وهو الأمر الهام البعيد الذي يتجاوزُ حدودَ المشكلة الوقتية التي أثارها المنافق اللئيم، بحيث يثبتُ ويتعمق، ويقوى ويترسّخ، مبدأً كريماً من مبادئ الإسلام، وقاعدةً راشدة من قواعده الكبرى، تبقى على توالي الأيام، وتعاقب السنين حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها، وهو ما قاله ﷺ: «يا أيها الناس إن الربَّ واحد، والأبَ واحد، وإنَّ الدينَ واحد، ليست العربية بأحدكم من أبٍ ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلّم بالعربية فهو عربي».

     هي كلمة وجيزة لكنها واحدة من جوامعِ كَلِمِهِ ﷺ، يعلنُ فيها توحيدَ الله عز وجل بادئَ ذي بدء، ويقررُ بالتالي وحدةَ الدين الواحد الذي أكرمنا به الربُّ الواحد، ووحدةَ الأصلِ الذي خَلَقَنا عليه من أبٍ واحد. ثم يعلنُ حقيقةَ اللغة العربية في الإسلام، فهي مفتاحُ الانتماءِ إلى العرب من كل مسلم ينطق بها، فيتمُّ الانتماء بقطع النظر عن الأب والأم، وهو مفتاحٌ راشدٌ كريم ميزتُه الكبرى أنه يمنحُ الفرصةَ للجميع، ويُلغي كلَّ احتكار خاص يحاول بعضُ المتعصّبين أن يجعلوا منه جداراً يسمح بدخول بعض الناس، ويمنع آخرين.

     ومن العبر التي ينبغي ألّا تغيب عنا في هذه الحادثة استشعارُ معاذ بن جبل لخطورة ما قال المنافق، وتصرفه السريع، ثم تصرفُ رسول الله ﷺ، الحاسمُ القاطع، فهو قد دعا إلى الاجتماع العام تنبيهاً لنا على خطورة القضية، وأنها لا تحتمل أيَّ تأجيل لأنها تتصل بأسس الإسلام، وأهدافه الكبرى في الحياة التي يمكنُ تلخيصُها بأنها إسعادُ الإنسان في دينه ودنياه بتحريرِه من كلِّ العبوديات التي تؤذيه، وذلك بأنْ يُخْلِصَ عبوديتَه لله عز وجل وحدَه، فينجو من كلِّ عبوديةٍ لسواه، فتتمُّ سعادتُه في دينه ودنياه على شتّى المستويات، ابتداءً من الفردِ، ومروراً بالأسرةِ والجماعة، وانتهاءً بالحضارة.

-------------
[1] حديث ضعيف جداً، الألباني، السلسلة الضعيفة، الرقم: 926.

خلفاء العدل والرشد

خلفاء العدل والرشد

     حين بويع أبو بكر الصديق رضي الله عنه خليفةً على المسلمين بعد وفاة رسول الله ﷺ بدأ عهدَه الراشد المبارك بقوله للناس: "لقد وُلِّيتُ عليكم، ولست بخيركم، إن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسولَه، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".

     وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال يعلِّمُ الناس حقوقهم تجاه حاكميهم: "يا أيها الناس إني والله ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشارَكم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فُعِلَ به شيءٌ من ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لأقصَّنَّه منه. فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين أرأيتَكَ إنْ كان رجلٌ من أمراء المسلمين على رعيته فأدَّبَ بعضَ رعيته، إنك لتقصُّ منه؟ قال عمر: إي والذي نفس عمر بيده إذاً لأقصَّنَّه منه، وكيف لا أقصُّ منه وقد رأيت رسول الله ﷺ يُقِصُّ من نفسه، ألا لا تضربوا الناس فتذلوهم، ولا تجمِّروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفّروهم".

     وكتب عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى جميع الأمصار: "إني آخذ عمّالي بموافاتي كل موسم، وقد سلَّطتُ الأمةَ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يُرْفَعُ عليَّ شيءٌ ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته. وقد رَفَعَ إليَّ أهلُ المدينة أن أقواماً يشتمون ويضربون، فمن ادّعى شيئاً من ذلك فليوافِ الموسم يأخذ حقه حيث كان؛ مني أو من عمالي".

     هذه شواهد ثلاثة من العصر الراشدي الزاهر، يمكن لك أن تتخذَ منها وثائقَ ناطقة على عظمة النظرة التي كان الإنسان يُعامَلُ على هديها، بحيث تُصانُ كرامته وتُحْفَظ، فلا يكون محلَّ أيِّ سوء أو احتقار، أو أذى أو مهانة.

     إن هذه الشواهد أشبهُ شيءٍ بالبيانات الوزارية التي تذيعها الحكومات عما تنوي أن تفعله وتقوم به، فالأمر هنا أمرُ اتجاه عملي، وصيغةٍ تطبيقية، وسلوكٍ تنفيذي، أما الأسس والمنطلقات فهي ما جاء في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله الكريم ﷺ مما مرَّ بنا الحديثُ عنها من قبل.

     ولقد شهدتْ حياةُ الناس، الواقعية اليومية تطبيقَ هذه المبادئ بشكل عملي ملموس في السلوك اليومي في المدينة المنورة، عاصمة الإسلام ومَأْرِزِه، وفي بقية الديار التي كان يحكمها المسلمون. وإن الأمثلة على صحة هذا التطبيق وصِدقه لكثيرةٌ حقاً، كلها تشهد بصدق هذا التطبيق وجديته.

     فقصة الغلام القبطي الذي يشكو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لطمة من ابن فاتح مصر وحاكمها عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ معروفة مشهورة متداولة.

     وقصةُ جَبَلَة بن الأيهم مع الرجل الفزاري معروفة هي الأخرى، وقل مثلَ ذلك عن مئات القصص الأخرى بل آلافِها. وحسبك أن الخليفةَ الراشد الرابع عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان يختصمُ إلى قاضيه مع رجل ذِمِّي حولَ درعٍ فقدها، فيجلس مع الذِّمّي عند القاضي الذي يحكمُ بالدرع للذِّمّي لأن الخليفة ليست لديه بيّنةٌ تثبت أن الدرع له.

     إننا لا نخطئ أن نلمس مدّاً تحررياً عميقاً أطلقه الإسلام في أرواح الناس وضمائرهم، فإذا بهم يستشعرون كرامتهم بإباء، وإنسانيتهم باعتزاز، وإذا بهم -حاكمين ومحكومين، مسلمين وغيرَ مسلمين- أقوى الأدلة على أصالة المنهج الإسلامي وجدّيته في التطبيق، بحيث جعل إحساس الجميع بكرامتهم الآدمية من أولى وأهم البديهيات في حياتهم.

     فلعل الفتى القبطي صاحبَ الشكوى المشهورة كان لا يزال يحمل على ظهره آثار سياطِ الرومان، لكنَّ موجةَ التحرر النفسي والروحي، التي أطلقها الإسلام أنستهُ هاتيك السياط، وأطلقتهُ إنساناً حراً كريماً، فإذا به يَفِدُ من مصر إلى المدينة المنورة للشكوى من لطمة فحسب؛ لدى الخليفة العظيم الذي عَلَّمَ شعبَ مصر الكرامة بعد أن فقدها تحت سياط الرومان، ولا عجب في ذلك فإن الإسلام قد غيّر حياة الناس ورفعها إلى الأعلى حتى مَنْ كان منهم غيرَ مسلم.

     صحيحٌ أن هذا المستوى الرفيع لم ترتفع إليه الإنسانية، ولكنْ صحيحٌ كذلك أن الخط الكبير الذي خطّهُ الإسلام في كرامة الإنسان وحريته وحقوقه قد استقر في الوجدان البشري، وترك فيه آثاراً عميقة لا تزال تمارس دورها حتى بعد توقف المد الإسلامي، فإذا به يعلن مثلاً في عصرنا الحاضر ما سُمِّيَ "حقوق الإنسان".

     صحيحٌ أن حقوق الإنسان في عالمنا اليوم تُنْتَهَكُ كثيراً على مستوى الأفراد والشعوب في شتى القارات، ولكن صحيحٌ كذلك أن الإحساس بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان قد تأصل في الوجدان البشري ورسخ، وأن هذا الإحساس عونٌ للإسلامِ كبير، يساعدُه على التقدم والزحف حين تنطلق أمواجُه في امتدادٍ جديد إن شاء الله، لينقذَ الإنسانيةَ الضائعة كما أنقذَها من قبل.

*****

الشهداء.. الأموات الأحياء

الشهداء.. الأموات الأحياء

     لمّا كان لموت الشهيد في سبيل الله عز وجل، دورٌ إيجابي بالغ يتجاوز حدودَ سعادته الشخصية، إذ يفوز بجنة الله تعالى ورضوانه العظيم، ليتصل بحياة المسلمين القائمة في هذه الدنيا، فيسهمَ في تصحيح وجهتها، وجلاء أهدافها، ودفع موكب الخير فيها إلى الأمام، جاء التوجيهُ القرآني الكريم يكشف لنا عن حقيقة كبيرة قد ننساها ونحن نقيس الأمور إلى ظواهرها المادية فحسب، هذه الحقيقة هي أن الشهيد حيٌّ، حيٌّ وإن بدا أنه مات، حيٌّ وإن خمدت منه الأنفاس، حيٌّ على صورة من الصور، اللهُ عز وجل أدرى بها وأعرف. يقول جل شأنه: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًاۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169-171]، إنه نهي كريم من ربٍّ كريم أن نَصِفَ مَن استشهد في سبيل الله بالموت، فهم أحياء بشهادة الله تعالى، وهو خالق الموت والحياة.

     هم قُتِلوا وماتوا، تلكم صورةُ الأمرِ الظاهريةُ فحسب، ولكنهم في حقيقة الأمر ما زالوا يخدمون الفكرة التي استشهدوا من أجلها، فهي ترتوي بدمائهم وتمتد، وتزحف وتتحرك، وهذا عمل من أعمال الحياة. إن فاعليتهم في نصرة الحق الذي قُتِلوا من أجله فاعلية مثمرة مؤثرة تتسع وتكبر، وهذه الفاعلية التي يمارسونها بعد موتهم عملٌ من أعمال الحياة لا ريب في ذلك.

     ثم إن الناس بعد استشهادهم يتأثرون بهؤلاء الشهداء، ويقتبسون من بطولتهم، وتأثُّرهم هذا يقوى ويمتد، واقتباسهم هذا يتعاظم ويستمر، فالشهداء إذَنْ عنصرٌ فعّال، دافعٌ مؤثر، يسهم في تكييفِ الحياة وصياغتها، وهذا عملٌ من أعمال الحياة لا يجادل في ذلك إلّا مكابر.

     الذين يموتون من غيرِ الشهداء يكونون في خمودٍ وتوقف وانقطاع وذلكم هو الموت، لكن الشهداء يكونون في فاعلية ونمو، وامتداد وتحرك، يظهرُ ذلك فيما تستفيده حركةُ الإيمان في الأرض من بعدهم بالذي قدّموه رخيصاً في سبيل الله عز وجل، وتلك هي الحياة.

     الشهداء أحياءٌ إذَنْ ولكنْ لا نشعر نحن بذلك، لأن سرَّ هذه الحياة فوق إدراكنا البشري المحدود القاصر، وما أروع ما قاله الشهيدُ العظيم سيد قطب رحمه الله عنهم: "أحياء، ومن ثَمَّ لا يُغَسَّلون كما يغسل الموتى، ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها، فالغسلُ تطهيرٌ للجسد الميت وهم أطهارٌ بما فيهم من حياة، وثيابُهم في الأرض ثيابُهم في القبر لأنهم بعدُ أحياء، أحياء فلا يَشُقُّ قتلُهم على الأهل والأحباء والأصدقاء، أحياء يشاركون في حياةِ الأهل والأحباء والأصدقاء، أحياء فلا يَصْعُبُ فراقهم على القلوب الباقية خلفَهم، ولا يتعاظَمُها الأمر، ولا يَهُولُها عِظَمُ الفداء، ثم هم بعد كونهم أحياء، مُكْرمون عند الله، مأجورون أكرمَ الأجر وأوفاه. ولكن مَنْ هم هؤلاء الشهداء الأحياء؟ إنهم أولئك الذين يُقْتَلون في سبيل الله، في سبيل الله وحده، دونَ شركةٍ في شارةٍ ولا هدفٍ ولا غايةٍ إلا الله، في سبيل هذا الحق الذي أنزله، في سبيل هذا المنهج الذي شرعه، في سبيل هذا الدين الذي اختاره، في هذا السبيل وحده لا في أي سبيلٍ آخر، ولا تحت أي شعار آخر، ولا شركةٍ مع هدفٍ أو شعار. وفي هذا شدّدَ القرآن، وشدّدَ الحديث، حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر غير الله، وهذا هو الجهاد، وفيه وحده تكون الشهادة، وتكون الحياة للشهداء".

     لقد كان استقرار هذه المعاني العظيمة في خَلَدِ المسلمين قوياً جداً، راسخاً أعظمَ ما يكون الرسوخ، فكان أعظمُ أملٍ شخصيٍّ للواحدِ منهم أن يقضيَ شهيداً في سبيل الله عز وجل. لمّا كان يومُ أحُد رفعَ رسولُ الله ﷺ النساءَ والصبيان والعجزة إلى آطامِ المدينة المنورة تحسّباً لما قد يحدث، وأخذاً بالحيطة والحذر. وفي واحد من هذه الآطام كان عجوزان مسلمان طاعنان في السن هما اليَمانُ بن جابر، وثابتُ بن وَقْش، كانا معذورين عن الخروج للجهاد، لكنَّ في كلٍّ منهما نفساً كريمة عيوفَاً، فإذا بهذه النفس تحمل صاحبَها على الخروج من الأطم، واللحاق بالمجاهدين عند أحُد، قال أحدهما لصاحبه: "لا أبا لك، ما ننتظر؟! فوالله ما بقي لواحد منا من عمرِه إلا ظِمْءُ حِمار، إنما نحن هامةٌ اليومَ أو غداً، ألا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله ﷺ؟".

     وانطلق العجوزان من الحصن، ودخلا حومة الوغى، جسماهما واهنان عاجزان، لكنَّ روحيهما فتيّتان ناضرتان، وما هي إلا جولةٌ وأخرى، حتى فاء الشيخان الكريمان إلى حيثُ المقيلُ الأخير هانئين سعيدين فقد فازا بالشهادة، وسارعا إلى الموت، ولم ينتظرا قدومَه المرتقب حيث لا مفر ولا مهرب.

     ذلكم مَثَلٌ كريم من حرص المسلمين على الشهادة في سبيل الله عز وجل، ذلك أنها سبب للفوز برضوان الله تعالى وجنته من ناحية، ثم هي دفعٌ لعجلة الحياة نحو الأمام حيثُ موكب الخير والهداية والإيمان من ناحية أخرى. لا، ليس القتلُ في سبيل الله عز وجل، وارتفاعُ المسلمِ على الدنيا وإيثارُه الآخرةَ، عملاً سلبياً، وهروباً من تكاليف الحياة وأعبائها لأنه ارتفاعٌ إلى أشرفِ الآفاق، واحتمالٌ لأكبر المسؤوليات، وقيامٌ بحق الأمانة، ثم هو بعد ذلك كلِّه حياة، حياةٌ بكل ما في كلمة الحياة من معانٍ ودلالات، حياةٌ يُكْرَمُ بها الشهيدُ بعد مغادرته الدنيا، وحياةٌ تستمدُّ منها قافلةُ الحياةِ المسلمة وقوداً جديداً، ونماءً وفاعلية، وقدرةً على استئنافِ الجهاد.

*****

حب الشهادة عند المسلمين

حب الشهادة عند المسلمين

     لقد كان حُب الموت في سبيل الله، وسلوكُ السبيلِ المؤدية إلى ذلك سبباً ضخماً من أسباب نصرِ الزحوف الإسلامية في مسيرتها الكبرى من حدود الصين إلى جبال الأندلس، وعاملاً نفسياً ذا أثرٍ مادي ملموس، بحيث تحتلُّ قيمتُه مكانةً كبيرة ليست لكثير من العوامل الظاهرة الأخرى من عددٍ وعُدَّة، وموقعٍ ورجال.

     إنها صنعةٌ برَّزَ فيها المسلمون وسبقوا، وتألّقوا وارتفعوا، فإذا بهم في السماء كرامٌ مقبولون، بررة أتقياء، وإذا هم في الأرض سادةٌ غالبون، ظاهرون حاكمون.

     ولا تخطئُ أن تجدَ في التاريخ الإسلامي صوراً في غاية العجبِ والدهشة، هي في حقيقتها مظاهرُ كريمةٌ لحبِّ الموت والتعلق به، وإتقانِ صناعته واكتسابِ مهارته. ولعله من أجل ذلك بوسعنا أن نلمسَ في التاريخ الإسلامي وحدَه هوايةً تتصلُ بهذا المضمار ليس لها مثيل، وحقاً إنها لَموضعُ غرابةٍ بالغة جداً، لولا أنها موصولةُ العرى، وثيقة الوشائج بالذي نتحدث عنه من حبِّ الموتِ وإتقانِ فنِّه.

     هذه الهواية، هي هوايةُ جمعِ غبارِ المعارك، وهي أن يعمدَ الرجلُ إلى نَفْضِ ثيابه بعدَ عودتهِ من المعركة وجَمْعِ ما يكون فيها من غبار، وحِفْظِه في مكانٍ أمين، حتى يضيف إليه ما يجمعُه من غبارِ معركةٍ أخرى وهكذا.

     نلتقي بهذه الهواية العجيبة عند سيف الدولة الحمداني الذي اجتمع من غبارِ معاركه ما يكفي لصناعة لَبِنَةٍ صغيرة أوصى أن توضعَ تحتَ رأسه في قبره لتكون شاهداً له عند ربّه عز وجل. ونلتقي بها عند البطل الأندلسي المشهور المنصور بن أبي عامر الذي خاض أكثر من خمسين معركة لم تنكسرْ له فيها رايةٌ قط.

     شوقٌ نفسي عجيب للموت، على أن يكونَ شهادةً في سبيل الله عز وجل كان يمتلك المسلمين الذين تعمّق الإيمانُ وجدانَهم، فترى الواحدَ منهم يحذرُ ميتةَ الفراش أشدَّ الحذر، ويشجعُ نفسَه على الموت ويصبِّرها عليه إذا لحقها الخوف، فهذا قَطَرِيُّ بن الفُجاءة يخاطب نفسه التي طارت شعاعاً، ويُهِيبُ بها أن تثبت:

أقـــولُ لها وقد طارتْ شعــــاعاً     من الأبطـــالِ ويحَكِ لنْ تُراعي
فإنــــكِ لو ســألتِ بقـــــــاءَ يومٍ     على الأجلِ الذي لكِ لنْ تُطاعي
فصبراً في مجـال الموت صبراً     فما نَيْـــــلُ الخلودِ بمســـــتطاعِ
سبيلُ الموتِ غــــــــايةُ كلِّ حيٍّ     فداعيــــــه لأهلِ الأرض داعي

     وهذا هو أبو دُجانةَ يحملُ سيفَ رسول الله ﷺ يوم أحُد ليقاتلَ به قتالاً يليق بما قطعه على نفسه من عهد حين سارع يأخذه بحقه، فلما سئل عن حقه قال: أضربُ به حتى ينحني، ومضى قد عصبَ رأسَه بعصابة حمراء، يقاتل قتالاً أشدَّ ما يكون القتال وأضرى، وهو القائل يوم أحُد، ولقد صدق فيما قال:

أنا الذي عاهَـــــــدني خليلي      ونحن بالسَّــفْحِ لـدى النخيلِ
ألّا أقــــوم الدهرَ في الكَيول     أضربْ بسيفِ اللهِ والرسولِ

     إن صناعة فنِّ الموت حظٌّ وافر، ونصيبٌ كبير، وهي سبيلُ الأمة إلى ما تؤمّل من نهوضٍ كريم، وغدٍ مشرقٍ لائق، وها هو ذا شوقي يقول:

بـــلادٌ ماتَ فتيتُـــــها لتحيــــــا     وزالوا دونَ قومِهــــــمُ ليَـــبْقوا
ومَنْ يْسقي ويشربُ بالمنـــــايا     إذا الأحرارُ لم يُسْقَوا ويَسقُوا؟!
ولا يَبْني الممالكَ كالضحـــــايا     ولا يُدْني الحقــــــوقَ ولا يُحِقُّ
ففي القتــــلى لأجيــــــالٍ حياةٌ     وفي الأســرى فدىً لهمُ وعِتْقُ
وللحريةِ الحــــمراءِ بــــــــابٌ     بــكلِّ يـــدٍ مضـــــرَّجةٍ يُــــدَقُّ

     إننا اليوم، أمة مبتلاة، تنوشها ذئاب الغدر والحقد من كل ناحية، وإذا كان هذا يلزمنا بأن نكون على أعلى حالات الوعي والحذر والترقب، ويهيب بنا أن نستخرج أقصى طاقاتنا لمواجهة الموقف الصعب والتغلب عليه، فإن في طليعة ذلك كله أن نعي ونلتزم بدقة القانون الرباني في الهزيمة والنصر الذي لا يحيد ولا يتخلف.

*****

الشهادة والشهداء

الشهادة والشهداء

     لا يخطئ المرء أن يلمح في ثنايا تراثنا الإسلامي، إنْ على مستوى النصوص والمبادئ النظرية، وإن على مستوى التطبيق العملي ما كان لإتقانِ صناعة الموتِ والبراعة فيها من حفزٍ إيجابي كريم للغلَبةِ والظهور، والمجدِ والسلطان في الدنيا، فضلاً عن أملِ الفوز بجنة الله عز وجل ونعيمها الخالد في الآخرة.

     فالجيل الرباني الفريد الذي ربّاه رسول الله ﷺ، والذي كان الترجمةَ العمليةَ لمبادئ الإسلام، قد حقق انتصاراتٍ مذهلة، وأمجاداً ضخمة، وصنع تاريخاً في غاية العظمة والتفوق، ما يزال يحارُ في تعليله كل مَنْ لا يرجع به إلى حقيقة الإيمان الكبيرة.

     إنَّ هذا الجيل كان عظيمَ التفوق في فنِّ الموت، بارعاً في هذه الصناعة الفريدة الغريبة، وإن هذا التفوقَ والبراعة كانا وراءَ حركتِه الضخمة الكبيرة في الأرض، دفعاً وحفزاً وقيادة. وإنك حين تمضي تتبعُ أخبارَه في هذا الصدد يُعجِزك جمعُها، فهي من الكثرة والانتشار والاتساع بحيث تؤودُ طاقةَ المرء على متابعتها، مما يدلُّ على أنَّ حوافزَها الكريمة التي كانت تقفُ وراءَها عظيمةُ الرسوخ، شديدةُ التمكن في ذلك الجيلِ الكريم.

     هذا هو عميرُ بن الحمام رضي الله عنه يقف في الصف المسلم يوم بدر يسمع تشجيع رسول الله ﷺ لكتيبةِ الإسلام الأولى، ويبشرها بالجنة جزاءَ كلِّ مخلصٍ يستشهدُ محتسباً صابراً، مقبلاً غير مدبر، فتظهرُ براعتُه في صناعة الموت، ويُلقي بتمراتٍ كان يأكلها وهو يقول: إنها لحياة طويلة أن أصبرَ حتى آكلَ هذه التمرات، أفَما بيني وبين الجنة إلّا أن يقتلَني هؤلاء؟! ويشيرُ إلى المشركين، ثم يشتدُّ نحو المعركة يصولُ فيها ويجول وهو ينشد:

ركضـــاً إلى الله بغيـــرِ زادِ
 إلّا التــقى وعملِ المعـــــادِ
والصبرِ في الله على الجهادِ
 وكلُّ زادٍ عُرْضَةُ النفــــــادِ
سوى التقى والبرِّ والرشــادِ

     ويظل في صِيالِه حتى يستشهد ويفوز.

     وهذا عمير بن أبي وقاص، أخو البطل المشهور سعد بن أبي وقاص، يحاول الاختفاء وراء أخيه قبيل معركة بدر حين أخذ الرسول ﷺ يستعرضُ جيشَه، خوفاً من أن يُرَدَّ ويُمْنَعَ من الخروج نظراً لصغرِ سنه، وبالفعل رآه الرسول الكريم ﷺ ومنعه فبكى. يا للروعة! بكى.. لا لأنه أُخْرِجَ قَسْراً إلى الجهاد، بل لأنه مُنِعَ من ذلك، ثم استحال بكاؤهُ إلى فرحٍ عميق حين جاءه السماحُ من الرسول ﷺ بالخروجِ مع الجيش، لقد خرجَ يستبقُ إلى الموت ويشتدُّ نحوَه، وكان من الصِغَرِ بحيث عَقَدَ له أخوه سعد حمائلَ سيفه، لكنه كان من عظيمِ إدراكه لحقيقة الموت، وتفوقه في فنّه بحيث اختاره الله عز وجل شهيدَ فداءٍ وتضحيةٍ وبطولة، يعطِّرها القرآن الكريم، ويطيِّبها الإسلامُ الخالد.

     وما نبأُ الغلامين الصغيرين، رافعٍ وسَمُرَة عنا ببعيد يوم أحُد، لقد أُعِيدا من مكانهما في الجيشِ لصغرِ سِنّهما، فأثبتَ أحدهما مقدرتَه على الرمي بالسهام فسُمِحَ له، وعندها سارع الثاني يعلن أنه قادرٌ على مصارعةِ صاحبه والتفوقِ عليه، وحين ثبت هذا بالدليل، كان السماحُ لهما معاً من الرسول الكريم ﷺ.

     أَلَا إنه الجيلُ الفذ الذي ما شهدت الشمسُ أشرفَ وأكرم منه، الذي تَعَلَّمَ أن الموتَ قدرٌ غالبٌ نافذ ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ [النساء:78]، وتعلَّم كذلك أن المِيتةَ في سبيل الله تختلفُ عن كلِّ ميتةٍ أخرى ﴿ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ* وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: 157-158]. إن الآية الكريمة ميَّزت بينَ النوعين من الموت، بحيث تظل آمال المسلم الحق مشدودةً أبداً إلى النوعِ الأعلى الأكرم، موتِ الشهادة في سبيل الله عز وجل.

     وإن الإعجاب لَيَشُدُّكَ شداً مُحكماً، ويستأثر بانتباهك كلِّه ويستفرغُه ويستبدُّ به، وأنت ترنو ببصرك إلى ما كان يفعلُه المسلمون في الواقع العملي بصددِ النظرة إلى الموت ومعايشتِه.

     هذا عَمْرُو بن الجموح يوم أحُد، وقد كان في ساقه عَرَجٌ شديد يحاولُ أبناؤه ثَنْيَهُ عن القتال فيأبى، ويذهب إلى رسول الله ﷺ قائلاً: يا رسول الله، إن بَنِيَّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك إلى الجهاد، ووالله إني لأرجو أن أَخْطِرَ بعرجتي هذه في الجنة! وحين يأذن له النبي الكريم ﷺ بالخروج تمتلكه فرحةٌ عميقة، ويدعو بصدق وحرارة: اللهم ارزقني الشهادة ولا تَرُدَّني إلى أهلي، ثم يفوز بما يؤمل.

     وهذا عبد الله بن جحش رضي الله عنه يخرج في يوم أحُد وليس في أمانيه سوى رجاءٍ كبير أن يرويَ بدمِه الطهور ثرى الجبلِ الكريم، ويثوي عند سفحه شهيدَ صدقٍ ومَضاءٍ وتضحية، وكان رجاؤه يتعاظم، فإذا به يؤملُ أن يُمَثَّلَ به بعدَ استشهاده؛ أن يُجْدَعَ أنفُه، وتُقْطَعَ أذنُه، وتَعْبَثَ بوجهه الكريم أيدي الحاقدين الكافرين، ليزداد أجره وثوابه، وتعلو درجتُه عند الله عز وجل.

     لقد دعا قبلَ المعركة فقال: اللهم ارزقْني غداً رجلاً شديداً بأسُه، فيقتلُني، ثم يأخذني فيجدعُ أنفي وأذني، فإذا لقيتكَ قلتَ: يا عبد الله فيمَ جُدِعَ أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت! وحين دارت المعركة تحقق أمله العظيم فاستشهد على يد أبي الحكم بن الأخنس، ومَثَّلَ به المشركون.

     إن هذا الجيلَ العظيم ما كان يفعل ذلك هرباً من الحياة، وفراراً منها، بل حملاً لأمانة الإسلام، ونهوضاً بمستلزمات الرسالة، وقياماً بواجبات المسؤولية، وتَوْقاً إلى جنة الله عز وجل وعظيم رضاه. ومن أجل ذلك كان يستبق إلى الموت ولا يخافه ولا يهابه، وكيف يخافه ويهابه وهو يؤملُ أنْ يكونَ سببَ الانتقال إلى دار السعادة الخالدة الأبدية؟!

     إن فهمَ الجيلِ الرباني للموت بشكلٍ صحيح من خلالِ التصور الإسلامي الكريم، كان سبباً في تقدمِ الحياة، واكتسابِ الخيرِ مواقعَه فيها، فكان كلُّ مَنْ يجودُ بدمِه إنما يصنعُ الحياةَ بما يفعل، فهو إذ يودعُها ويخرجُ منها بلا رجعة، يهيئُ السبيلَ لأمتِه أن تفوزَ في كلِّ الميادين الأخرى كما فازت في فنِّ الموت.

     واليوم ونحن نطالبُ أمتَنا بالتقدمِ في كل الميادين لا ننسى قط أن نطالبَها بالتقدم في فن الموت والسَّبْقِ فيه، لأن ذلك سياجُها الذي يحوطُ إنجازاتِها الأخرى في الحياة أن تضيعَ أو يسطوَ عليها الآخرون، ولأنه من قبل ذلك سبيلٌ لرضوان الله عز وجل حينَ يتمُّ وفقَ شروط الإيمان، ورضى الله تعالى أكبرُ غايةٍ للمسلم في الحياة.

*****

السيف الذي لم يغمد

السيف الذي لم يغمد

     يحاول الإسلام في توجيهاته الكريمة جميعاً أن يشدَّ بصرَ الإنسان صوبَ الآخرة لأنها الدار الخالدة الباقية، فالفوز فيها هو الفوز الحقيقي الذي ليس كمثله فوز قط، ومن أجل ذلك يهيب به أن ينفقَ أيامه في الدنيا في كلِّ سبيلٍ خيِّر يجعله من أهل الفوز في الآخرة، ومن أجل ذلك كان الموت في الوجدان المسلم مجردَ انتقالٍ من دار الاختبار والابتلاء والتجربة؛ إلى دار الحساب والجزاء. ولمّا كانت نشاطات المسلم جميعاً ينبغي أن تتحرك صوب رضوان الله عز وجل طلباً لجنته، كان من الضروري أن يجعل من الموتِ سبيلاً إلى ذلك وواسطة إليه.

     ها هو ذا القرآن الكريم يَعيبُ صنوفاً من الناس لأنهم يحبون الحياة حباً شديداً يجعلهم يتكالبون عليها أيّاً كانت: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة:96]. وها هو ذا يكشفُ خبيئةَ أقوامٍ آخرين كرهوا الموت في سبيل الله تعالى: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِۗ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَاۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران154].

     من أجل ذلك كان الموت قريباً في حسِّ المسلمين، وكان إلى جانب ذلك وسيلةً من الوسائل، ونشاطاً من النشاطات طلباً لرضوان الله عز وجل، فكان أعظمُ آمالهم أن يفوزَ الواحدُ منهم بالشهادة، ليكونَ موتُه عبادةً لله عز وجل، تماماً كما كانت صلاتُه وزكاته وبيعه وشراؤه، وجميع أنواع نشاطاته.

     ولم يكن ذلك ليغيبَ عن جيل المؤمنين الأوائل، ولم يكن ليغيبَ عنهم أن براعتَهم في صناعة الموت سببٌ من أسباب رقي الحياة واكتسابها، والتقدمِ فيها وصياغتها وفقَ ما يريد الإسلام، وربما كانت كلمةُ الصدّيق لخالد بن الوليد رضي الله عنهما تلخيصاً مُكثّفاً ممتازاً لهذا المعنى: "يا خالد! احرصْ على الموت توهب لك الحياة"، ولربما استحال الموتُ لدى بعضِهم غائباً حبيباً يُنْتَظَرُ ويُشْتاقُ إليه ويُؤْنَسُ بقدومِه، يتمثل ذلك في كلمة الخليفة الراشد عليٍّ بن ابي طالب رضي الله عنه عن نفسه: "واللهِ لَابْنُ أبي طالب آنسُ بالموتِ من الطفلِ بثديِ أمه".

     وهذا هو الذي يفسر لنا فِعْلَة ذلك الذي أصيب فأخذ يلطخ يدَه بدمه السائل ويمسحُ بها وجهَه، وهو أشدُّ ما يكون فرحاً واستبشاراً وسعادة، ويفسر لنا لماذا كان معاذُ بن جبل رضي الله عنه يقبِّلُ راحةَ يده لمّا أصيبت بالطاعون ويخاطبها قائلاً: "ما أحبُّ أنَّ لي بما فيكِ شيئاً من الدنيا"، ويفسر لنا لماذا كان بلال بن أبي رباح رضي الله عنه، يقول إذ حضره الموت: وا طرباه، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، وأمثال هذه الروايات التي تَكْثُرُ في التاريخ الإسلامي وتنتشر فيه.

     وما أحسب واحداً منا إلّا ويعرف حرصَ خالد بن الوليد رضي الله عنه على الشهادة في سبيل الله ورَمْيَه نفسَه في أشدِّ المخاطر طلباً لها، ذلك أن هذه الميتة هي أعظمُ آمالِه في الحياة على الإطلاق، ولعلنا جميعاً نحفظ جملته التي قالها قبلَ موته: "لقد شهدتُ كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضعٌ إلا وفيه ضربةُ سيف، أو طعنةُ رمح، أو رميةُ سهم، ثم ها أنذا أموت على فراشي حتفَ أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعينُ الجبناء". كلماتٌ مضيئة رائعة تكشف عظمةَ الآمال الكبار التي كانت تملأ خَلَدَ البطل المسلم، ذلك الذي دوَّخَ الدنيا، وانتصر في كل مكان، لكن شوقَه إلى الشهادة كان أعظمَ من ذلك جميعاً في وجدانه. لقد حوَّله الإسلامُ تحويلاً عجيباً، وصاغه صياغةً فريدة، فإذا هو في حياته جميعاً يطلبُ الموت، وإذا هو فيمن يقتلُ من الأعداء، وفيمن يُقْتَلُ من جماعتِه يصنعُ الحياة ويصوغها، ويشيِّدها وفقَ ما يريده الإسلام، كانت حركتُه حياةً تؤدّي إلى الموت، وموتاً يؤدّي إلى الحياة، ولذلك امتلكه حبُّ الجهاد، وسيلة ذلك وواسطتِه، امتلاكاً شديداً جداً حتى إنه ليقول: "ما ليلةٌ يُهْدى إليَّ فيها عروسٌ أو أُبَشَّرُ فيها بوليد، بأحبَّ إليَّ من ليلةٍ شديدةِ الجليد في سريةٍ من المهاجرين أُصَبِّحُ بهم المشركين".

     وشاء الله عز وجل لحكمةٍ هو أعلم بها أن لا يموت شهيداً، ويعجبني في تعليل هذا خاطرةٌ ذكية لعالمٍ هندي معاصر يذكر فيها أن خالداً ما كانَ له أن يموتَ شهيداً مهما حاول لأنه سيفُ الله، وسيفُ الله لا يُغْمَد! وأيّاً كان فإن العبرةَ في حياةِ خالد وموته، وآمالِه وأمانيه تَمْثُلُ أمامنا بوضوح بالغ، لتؤكد لنا فكرةَ الحياةِ التي تصنعُ الموت، والموتُ الذي يمنحُ الحياة.

     وإني لأرى لزاماً علينا اليوم، ونحن أمةٌ تحاولُ القيامَ والنهوض أن نرتب قائمة الفنون والصناعاتِ والمهارات التي علينا أن نحصلَ عليها، على أن يكونَ هذا الترتيبُ بحسبِ أهميتِها وأولويتها، وعلينا أن نضعَ في هذا الجدول المرتب فَنَّ الموتِ الشجاع الكريم، ونرسّخه، لأنه السبيلُ إلى الشهادة في سبيل الله عز وجل من ناحية، ولأنه من ناحية أخرى إسهامٌ في بناءِ الحياة وصياغتها، وإتقانها واكتسابها، والسبقِ فيها والظهور.

*****

الساحر والراهب والغلام

الساحر والراهب والغلام

     لعلنا جميعاً نعرف قصة الساحر والراهب والغلام تلك التي جاءت في الحديث النبوي الشريف عن رسول الله ﷺ، وهي قصة غنية بالعبر والدلالات، حافلة بالمواعظ والدروس، ولعل أهمَّ ما يعنينا الآن فيها هو أن الغلام ظل حتى بعد موته يمارس دوره في الدعوة إلى الله عز وجل والإيمان به.

     فهذا الغلام الذي تم اختياره ليتعلم السحر، شاء الله عز وجل له الهداية على يد راهبٍ صالح، وحين عرف بذلك الطاغية الذي أرسله حكمَ عليه بالموت، لكنه كان ينجو من الموت في كل مرة حتى حار الطاغية في الأمر، وهنا دلَّه الغلام على السبيل إلى قتله؛ وهو أن يجمع الناس كلَّهم في صعيد واحد، ثم يصلب الغلام على شجرة، ويأخذ سهماً من كنانته، ويقول "باسم الله رب الغلام"، ثم يطلقه، فحينذاك يصاب الغلام فيموت.

     وقع الطاغية الجائر في الفخ الذي نصبه له الفتى، وفعل ما أمره به، فإذا بالفتى يموت، وهنا هتف الناس جميعاً: آمنّا برب الغلام!.. وذلك بالضبط ما كان يهدفُ إليه الغلام حين دلّ الطاغية على طريقة قتله.

     فهؤلاء الناس الذين انتشر فيهم نبأُ الغلام وعَجْزِ الطاغية عن قتله إذ يُؤْخَذُ لتنفيذ حكم الموت به فيقول: اللهم اكفنيهم بما شئت، فيهلكُ مَنْ معه ويعودُ وحدَه ناجياً إلى الطاغية، علِموا أن في الأمر سراً، فلما شاهدوا الغلام يموت بالطريقة التي اختارها، سارعوا إلى الإيمان بالله عز وجل، وهتفوا: آمنا برب الغلام، لأنهم أيقنوا بأنه على الحق، وأن الطاغية الذي كان يزعمُ لهم أنه ربُّهم على الباطل.

     موضع العبرة في عملِ الغلام المؤمن واضحٌ بيّن، لقد اختار الميتة التي تثبت أنه على الحق وأن الطاغية على الباطل، وكان اختياره في غاية التوفيق والسداد حين طلب أن يكونَ الناس كلُّهم على صعيد واحد ينظرون ما الذي يجري له، لينهارَ زيفُ إيمانهم ويقينهم بالكافر الطاغية، ويحلَّ بدلاً منه الإيمان بالله عز وجل.

     إن بوسعنا أن نقول: إن هذا الغلام كان يمارس دوره في الدعوة إلى الله عز وجل وصُنْع الحياة وفقاً لتوجيهاته الربانية الكريمة حتى بعد أن مات. فالناس أعلنوا إيمانهم بعدَ موته، ثم ثبتوا على هذا الإيمان، حين خُدَّتْ لهم الأخاديد في الأرض أوقِدت فيها النيران، ثم جُعلوا بين أمرين: أن يعودوا عن إيمانهم أو أن يُلْقَوا في النار، فكان أن أقدموا على النار جميعاً فماتوا شهداء مبرورين. وبوسع المرء أن يحيط بالأمر في تفسير سورة البروج من الجزء الثلاثين من القرآن الكريم إذا أراد الزيادة[1].

     إننا نريد أن نستخلص من هذه الحادثة الفذة أن الشهيدَ يظلُّ يمارسُ دورَه في الدعوة إلى الله عز وجل بشكل أو بآخر، وإني لعلى يقين كبير أن الطاغية الذي فعل بالغلام ما فعل لو كان يعرف هذا المآل، لَما استمع إلى ما نصحَه به الغلام عن طريقة موته، تلك الطريقة التي أوقعه نجاحها في مأزق كبير، إذ إن الغلام قد مات، لكن الناس جميعاً سارعوا للإيمان، لقد رأى الطاغيةُ بعينِه شخصياً ما الذي استطاع الغلام أن يفعله بقتلِه.

     وكثيرون هم أولئك الذين كان مَثَلُهم في النفعِ بعد موتهم كمَثَلِ الغلام، ولا يخطئ المرء أن يلمح في التاريخ الإسلامي شهيداً أعزل يسوقه الطاغية إلى الموت لأنه داعية إلى الله تعالى، ويحسبُ أنه قد ارتاح منه، فإذا بالذي كتبه هذا الشهيد من معينِ الإيمان والقرآن، يدافع به عن دينِ الله، ويهاجمُ الأفكارَ الكافرة، يمتدُّ ويمتد، ويتعاظم وينتشر، ويشرّق ويغرّب، وإذا بالناس ينتفعون به، وإذا به يمارسُ دوره في الدعوة إلى الله عز وجل حتى بعد أنْ مات، فتهتدي بما كتبَ طائفةٌ من الناس، وتحاولُ أن تصوغ الحياة وفق أوامر الله عز وجل. ومَنْ يدري لعل الطاغية لو عرفَ هذه النهاية لَما ساق الشهيدَ نحو الموت، فقد رأى بعينه نفعَه بعدَ استشهاده تماماً كما رأى الطاغية صاحبُ الغلام.

     يا للعجب!.. إنه الموت الذي يصنع الحياة، إنه الموت الذي يظل أصحابه يمارسون دورهم في الدعوة إلى الله عز وجل، وهداية الناس، حتى بعد أن تخمدَ منهم الأنفاس.

     إن هذا الضربَ من ضروب الموت هو ما تحتاجُه حياتُنا اليوم لتصحَّ وتزكو، وتطيبَ وتطهر، وتتخلص من مواقع التخلف والهوان، وتستشرف مواقع السيادة والبطولة، والعظمة والطموح، والهداية والاستعلاء.

     ولقد كان إتقان الأمة المسلمة لهذا الضرب من ضروب الموت سبباً فعّالاً من أسباب سيادتها وتفوقها وانتصارها. والشواهد على صدق هذه الحقيقة كثيرة جداً في تاريخنا البطل، تلتقي بها في كل سطوره العطرة، ومنها قصة الشاعرة الخنساء التي كان حديثُها من أعجب العجب!..

     إن أبناءها الأربعة يُسْتَشْهَدون في القادسية فما تزيد على أن تقول: الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو أن يجمعني بهم في مستقر رحمته!.. وهم فلذات كبدِها، وكانت من قبل قد ملأت الدنيا صراخاً وبكاءً على أخٍ لها قد قُتِل في الجاهلية.

     إن الفرق بين موقف الخنساء من أولادها، وبين موقفها من أخيها صخر، هو الفرق بين ما تصنعه الجاهلية، وبين ما يصنعه الإسلام، وإني لأجدُ عبارتَها عن أولادها الشهداء لأكبرُ من التعليق، خاصة قولها: شرَّفني بقتلهم.

     وكالخنساء نجد تلك الصحابية الكريمة التي استشهد ثلاثةٌ من ذويها يوم أحد فما يَفْتِكُ بها الحزن، وإنما تسارعُ للسؤال عن رسول الله ﷺ، حتى إذا اطمأنت عليه قالت: كلُّ مصيبةٍ بعدَه جَلَل، أي هيّنة.

     لقد هان عليها استشهاد ذويها الثلاثة لنجاة الرسول الكريم ﷺ!.. موقفٌ كريم يليقُ بالمرأة المسلمة، ويليقُ قبلَها بالأمة المسلمة التي ترى أن الموتَ ربما يكون سبباً.. لا للفوزِ بالجنة فحسب، بل لدفعِ عجلة الحياة إلى الأمام، وصياغتها وفقَ ما يريدُه الإسلام.

----------------
[1] ورواه الإمام مسلم عن صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، برقم: 3005.

بلال على ظهر الكعبة

بلال على ظهر الكعبة

     لعلنا جميعاً نذكر أن رسول الله ﷺ اختار بلالاً الحبشي وأمره أن يصعد فوق الكعبة المشرفة ليؤذن ويعلي كلمة الحق. والكعبة هي الحرم المقدس عند العرب في الجاهلية، وهي القبلة المعظمة في الإسلام، ومع ذلك تم اختيار بلال ليكون أول من يرفع فوقها الأذان.

     ترى أيمكن أن يحدث مثل هذا أو قريب منه في الغرب مثلاً؟ لا ريب أن الجواب بالنفي، كيف لا، والغرب الغني المتمدن لا يزال يظلم مواطنيه الزنوج لا لذنب سوى أنهم سود!؟ ألا إنها مبادئ الوحل والتخلف في الغرب الذي جاب الفضاء ورَكَز أعلامه على القمر، لكنه لم يستطع إنقاذ نفسه من ربقة فكر جاهل متخلف يحمله على اضطهاد السود.

     أما حضارتنا، فإننا لا نخطئ أن نلمس فيها إذ يصعد بلال على ظهر الكعبة المشرفة قبل أربعة عشر قرناً، إعلاناً لكرامة الإنسان من حيث هو إنسان، له كرامته ومنزلته ومكانته وتقديره يستحق ذلك لعلمه وعقله، واختياره وإيمانه، لا لبشرته السوداء أو البيضاء، فما يقدم الإنسانَ في الإسلام بياضُه إذا قعد به عمله، ولا يؤخره سوادُه إذا قدّمه إخلاصُه وذكاؤه وجِدُّه واجتهاده. ولذلك لم يرضَ رسول الله ﷺ لأبي ذر -وهو من أكرم صحابته- أن يسب آخر فيقول له: يا ابن السوداء!.. لم يرضَ ذلك منه قط، بل قَرَّعه ولامَه وقال له: أعيّرته بسواد أمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية!.. وإنها لكلمة منه ﷺ، على إيجازها الشديد، غنية جداً، شديدة الخصوبة، حافلة بالدلالات واسعة الأمداء.

     "إنك امرؤ فيك جاهلية!.." لكأن هذه العبارة إعلان ضخم للفارق بين الحضارتين، الحضارة التي تكرم الإنسان فهي ذات نزعة إنسانية، والأخرى التي تهدر كرامته فهي ذات نزعة جاهلية.

     إن الحضارة التي لا يستعلي فيها عرق على عرق، ولا لون على لون هي الحضارة التي يصنعها الإنسان العاقل الكريم، وتسعد بها الإنسانية، وذلك ما فعلته حضارة الإسلام. أما الحضارة الأخرى التي يعلو فيها الأبيض ويُحتقر الأسود، ويَسعد بها البيض ويشقَى بها الملوّنون؛ فهي الحضارة الجاهلية الجائرة التي تنحدر وتتخلف، وذلك ما فعلته حضارات أخرى في القديم والحديث، وفي أيامنا المعاصرة حين نادت بالتمييز العنصري الذي هو جناية حمقاء حاربتها حضارتنا المشرقة في كل ميدان، في المسجد والمدرسة والشارع والمنصب والمحكمة والقيادة في السلم والحرب مع الأصدقاء ومع الأعداء.

*****

عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم

عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم

     كثيرون من الناس المشهورين الذين يحتلون في الدنيا مراتب كبيرة، ويبرزون فيها علماء وقادة، وساسة ومفكرين، لا يحتلّون في منازلهم نفس الدرجة من العظمة والإعجاب التي يحتلونها خارجها. والسبب أنهم يظهرون للآخرين بصورة لمّاعة جذابة تضفي عليهم هالاتٍ من الإكبار يصل إلى حد التقديس حيث يُحِلُّهم أتباعُهم منزلةً ساميةً عالية، يرفعونهم فيها إلى أعلى الذرى، ذلك أنهم لا يعلمون دخائلهم وحياتهم الخاصة، وما قد يكون فيها من بُعْد عمّا يقولون، وإنما يكتفون بما يعرفونه عنهم في حياتهم العامة، وتتكفل خيالاتهم، من خلال اتصال الأمل بالواقع، وتداخل الرغبة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، برسم صورهم في حياتهم الخاصة لا كما هي حقاً بل كما يطيب لهم أن يتصوّروها.

     لكنّ هذا لا يحدث لهؤلاء العظماء والمشهورين في داخل بيوتهم لسبب بسيط وهو أنّ ذويهم يعرفونهم عن قرب، ويشهدون نقاط ضعفهم، وزلاتهم، ومباذلهم، لذلك لا يمنحونهم من الإكبار والإعجاب ما يمنحهم إياهم الغرباء البعيدون، ولعل هذا هو المعنى الذي دفع الكاتب الفرنسي المشهور فولتير إلى أن يقول: إن الرجل لا يكون عظيماً في داخل بيته ولا بطلاً في أسرته.

     تُرى هل ينطبق هذا الأمر على الرسول الكريم ﷺ؟

     من خلال دراسة سيرته الشريفة بوسع الإنسان أن يقول: لا، فقد كان ﷺ يتمتع بمنزلة عالية جداً من الحب والإكبار، والإعجاب والتقدير، والثقة والتصديق، في خارج بيته وفي داخله على السواء.

     لقد كان المكان الذي احتلّه من قلوب صحابته الكرام مكاناً ضخماً جداً، وهو بالضبط ما احتلّه في قلوب ذويه الذين كانوا يعيشون معه، ذلك أنّ حياته الداخلية لم تكن تناقض حياته الخارجية قط، فقد كان فيهما على المستوى الرفيع الكريم هنا وهناك.

     ولقد كان ذوو الرسول الكريم ﷺ والمقيمون معه والقريبون منه من أشد الناس إعجاباً به، وإيماناً بدعوته، وتصديقاً لها، وحماسةً لنصرتها، ورغبةً في فدائه وفدائها بكل غالٍ ونفيس، وفي هذا دليل عظيم على صدقه ﷺ، وخاصة أن أول من أسلم هي السيدة الجليلة العاقلة الحصيفة خديجة رضي الله عنها وهي زوجته الكريمة، فقد رأت منه ما حملها على تصديقه. وحليلةُ المرء بشكل خاص أكثر الناس علماً بباطن الإنسان وعيوبه وهناته، وقد صرحت بذلك حين أخبرها بالوحي فجاء في رواية البخاري لخبر الوحي: (فَرَجَعَ بهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حتَّى دَخَلَ علَى خَدِيجَةَ، فَقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، فَقالَ: يا خَدِيجَةُ، ما لي؟ وأَخْبَرَهَا الخَبَرَ، وقالَ: قدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي، فَقالَتْ له: كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ...).

*****

الأكثر مشاهدة