الخميس، 7 سبتمبر 2023

ما يعانيه المسلم في قضية فلسطين

ما يعانيه المسلم في قضية فلسطين

     من أشد ما يعانيه المسلم وهو يعمل لقضية فلسطين كجزء من قضيته الإسلامية الكبرى؛ الافتقار إلى إدراك أبعادها التاريخية، والعيش بفهمه وضميره في واقعها الحالي متأثراً ومؤثراً.

     والأبعاد التاريخية للقضية مصدر من مصادر الإرادة الوجدانية العميقة لتغيير الواقع الراهن من الجذور، وإيجاد الواقع الإسلامي عنواناً ومحتوى. وهذه الكلمات موجهة في الدرجة الأولى إلى وجدان الأمة الإسلامية، فعلى عاتقها عبء حل القضية المصيرية إخلاصاً وعزماً وبذلاً، وإلى عقل عقلاها فعلى عاتقهم عبء خدمة القضية المصيرية تخطيطاً وعملاً وجهاداً.

     وهذا الحديث مناقشة موضوعية لحقائق تاريخية، يستبین منها حقنا التاريخي الثابت في فلسطين، وتتضح بها المعالم الحقيقية للواقع الحالي، والقوى المؤثرة فيه، والاحتمالات المترتبة عليه بالصورة الإسلامية الحية التي يجب أن تترسخ في أعماق الأمة بكاملها، وتهز وجدانها، وتؤثر في تفكيرها، وتفجر طاقاتها لتستطيع من بعدُ التأثير في مجرى الأحداث وصناعة التاريخ، وهي تمضي في طريق تجسيد الإسلام الحق في كل مجال من مجالات الحياة.

     يتحدث اليهود عن تاريخ فلسطين فلا يرون فيه إلا بضع مئات من الأعوام كان ليهود الأمس خلالها وجود جزئي في فلسطين لم يتخذ صبغة "دولة" إلا مدة لم تصل لأربعين عاماً، واندثر هذا الوجود دون أن يترك أثراً واحداً في فلسطين. ولكنهم يصورون كل ما قبله وما بعده من تاريخها، وكأنه مندثر لا قيمة له.

     ويتحدث أنصار اليهود من الصليبيين في أنحاء العالم عن تاريخ فلسطين بصورة مشابهة، وأسلوب مماثل لأسباب ومصالح عديدة. وقد يزيدون على ذلك ذكر الغزوة الصليبية القديمة والحديثة، وما للنصارى من وجود جزئي في فلسطين ماضيه وحاضره.

     ويتحدث أنصار اليهود من الشيوعيين المحليين والدوليين عن فلسطين –على اختلاف معهم في أهداف مرحلية– كمسرح من مسارح الصراع الطبقي المادي. فلا يتعرضون للقضية إلا من هذه الزاوية، ولا أهداف لهم فيها إلا في هذا الإطار.

     ويتحدث المتخاذلون في بلادنا أمام اليهود عن فلسطين وكأنما مسخ تاريخها الطويل في الثلاثين عاماً الأخيرة لا يتجاوزونها إلا نادراً، وإذا فعلوا فلا يصلون إلى أبعد من تاريخ تأسيس الحركة الصهيونية في نهاية القرن الميلادي الماضي كأنما انحصر تاريخ القضية في تاريخ الصهيونية العالمية... وإذا استشهدوا بتاريخ الإسلام في فلسطين كان استشهادهم مشوهاً مزيفاً يستهدف تبرير غایات ومصالح وخطوات بعيدة كل البعد عن أصل القضية، متنكرة كل التنكر لها..

     أما المسلمون أصحاب القضية فمقصرون في حقها، وهذا أدنى ما يجب الإقرار به أولاً لتجاوزه والتخلص منه في المستقبل بإذن الله. مئات بل ألوف الكتب تشرح وجهات نظر سائر الفئات المذكورة بمختلف اللغات والأساليب، ولا نجد الكتاب الإسلامي السليم عن القضية.

     وقد يتناول كاتب مخلص القضية من جانب عسكري، فإذا بها في كتابه مشكلة قوة، أو يتناولها آخر من جانب فكري فإذا بها مسألة فكر، أو يتناولها ثالث من جانب علمي تقني فإذا بها قضية جهل أو تأخر، أو يتناولها رابع من جانب خلقي فإذا بها مشكلة أخلاق، أو يتناولها خامس من جانب عقیدي فإذا بها أزمة عقيدة... وهكذا.

     والقضية تجمع هذا كله، ومزيداً عليه أنها قضية وجود ومصير، قضية واقع فاسد من الجذور لا تجد حلها إلا بحل هذا الواقع، وإقامة الواقع الإسلامي الرباني السليم على كل صعيد عقیدي وفكري وعلمي وعسكري، وعلى كل صعيد سياسي واقتصادي واجتماعي وتربوي، وعلى کل صعيد آخر.
*****

فلسطين جزء من القضية الإسلامية الكبرى

فلسطين جزء من القضية الإسلامية الكبرى

     لا ينبغي لكاتب إسلامي أن يتناول قضية فلسطين منفصلة عن القضية الإسلامية الكبری أو أن يعالج جزئية من جزئياتها بسبب ظروفه الخاصة، أو ظروف الواقع من حوله، وهو يصور تلك الجزئية وكأنها كامل القضية، ويصور موقفه منها وكأنه الموقف الإسلامي الأصيل من مجموع الواقع.

     بل لا بد من الكاتب الإسلامي الذي يتعرض للقضية واضعاً في اعتباره أنها جزء من مجموع القضية الإسلامية الأصلية في هذا العصر. إذا تحدث عن بعض جوانبها فلا يغفل عن الجوانب الأخرى. وإذا كتب نبعت كلماته عن أعماق وجدانه لتؤثر في وجدان قارئه، والتزمت الموضوعية لترسم معالم سليمة في اتجاه التطور السليم للعمل من أجل القضية.

     ولا يمكن أن يتضمن الكتاب الإسلامي عن القضية وتاريخها أكثر من بعض الحقائق التاريخية الأساسية، والمعالم الواقعية الرئيسية واللمسات الوجدانية العميقة..، ويبقى بعد ذلك واجب إسلامي على كل فرد من الأمة الإسلامية، أن يبذل جهداً فردیاً، يبدأ فيه بالتعرف بنفسه على تاریخ قضيته وواقعها، وهو يضع نصب عينيه الاستعداد التام للشهادة على طريق الجهاد من أجلها. ونقص الكتاب الإسلامي يبرز الحاجة الماسة إلى من يخصص جهداً أکبر، جهداً مبدعاً لتعويض المكتبة الإسلامية عما ينقصها في هذا المجال.

     ولا بد من الإقرار المؤلم بأن مكتبة فلسطين المليئة بأنواع المؤلفات والكتب تكاد تخلو من الكتاب الإسلامي رغم الأصالة الإسلامية لتاريخ فلسطين..، وإذا توفر كتاب ذو عنوان إسلامي غلبت عليه نزعة الابتعاد عن الموضوعية في بعض الأحيان، أو غلبت عليه نزعة مناصرة فئة من الفئات، أو اتجاه من الاتجاهات.

     والقضية في حاجة إلى غير هذا وذاك، في حاجة إلى العرض التاريخي الموضوعي الأمين، وإلى القلم المتأثر بالأحداث المفجعة المعاصرة، يكتب وصاحبه يدرك كل الإدراك أبعادها وما وراءها، والاحتمالات المترتبة عليها في المستقبل، ويضع في حسابه ما قد تؤدي إليه كلمة الحق الصائبة المخلصة النابعة من أعماق الضمير.. من عواقب، أو تقتضيه من تضحية مقابل ما تتركه من تأثير في حياة الجيل.

     وقد يسأل سائل: كيف نصل إلى القلم المخلص المبدع؟ وکیف نوجد الكاتب الإسلامي الواعي؟

     فليذكر السائل أن صلاح الدين الأيوبي ما وجد نفسه على بداية الطريق إلى المسجد الأقصى في القدس... إلا عندما أصبحت قضية الاستعمار الصليبي للقدس شغله الشاغل ليلاً ونهاراً، وهمّه الدائم في يقظته ومضجعه..؛ كذلك فمن يخدم القضية اليوم لن يستطيع تقديم ثمرة لخدماته ما لم تصبح القضية شغله الشاغل ليلاً ونهاراً، وهمّه الدائم في يقظته ومضجعه.

     ولا شك أن أحداث القضية المفجعة من الأهمية والقدرة على التأثير بما يكفي، إنما نحتاج إلى من أصبح الإسلام متجسداً فيه بالمستوی الذي يجعله يتأثر بتلك الأحداث تأثراً وجدانياً عميقاً محركاً، فإن توفرت له المعطيات اللازمة أمكن أن يقدم للقضية خدمة جلى تحتاج إليها، ويحتاج إليها الإسلام والمسلمون في هذا العصر حاجة ماسة..، ومن ذلك الكتاب الإسلامي عن قضية فلسطين.
*****

يا معشر يهود!

يا معشر يهود!

     يا معشر یهود!.. يا قتلة الأنبياء!.. بأي حق تطالبون بأرض الأنبیاء!؟

     هذه کتب تاریخكم تعدد من قتلتم من الأنبياء فتذكر فيمن تذکر: "حزقيال" على يد أحد قضاتكم، و"أشعيا بن آموص" الذي أمر ملككم "منسى" بنشره على جذع شجرة سنة 700 ق.م، و"آرميا" الذي رجمتموه بالحجارة سنة (650) ق.م، و"زکریا" و"یحیی بن زکریا" – عليهما السلام – اللذين تقولون أنكم قتلتموهما حوالي سنة (30) بعد الميلاد..، تطالبون بالأرض التي استقبلت "إبراهيم" عليه السلام قادماً من أرض بابل، وأنتم الذين تتهمون إبراهيم عليه السلام بالتنجيم!؟

     تطالبون بأرض یعقوب عليه السلام الذي لم تحفظوا له وصية أو عهداً.. تطالبون بأرض داود وسلیمان وأنتم أنفسكم الذين تتهمون نبي الله داوود –عليه السلام– بسفك الدماء، وأحد أبنائه بأنه زنی بزوجات أبيه داود على قارعة الطريق، وتصورون نبي الله هارباً لاجئاً إلى الجبل المطل على القدس، يقذفه السفهاء بالأقذار والحجارة، عاجزاً عن بناء الهيكل بسبب جرائمه.

     والله تعالى يقول في القرآن الكريم الذي لم ولن يُحَرَّف: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}.

     يا معشر يهود!.. تطالبون بأرض داود وسليمان، بإعادة بناء هيكل سليمان وأنتم أنفسكم تتهمون سليمان عليه السلام بالفساد والزنا والشرك، فتقولون في توراتكم الحالية فيما تقولون: "فالتصق سلیمان بهؤلاء بالمحبة، وكان له سبعمئة من النساء السيدات، وثلاثمئة من السراري... وكان في زمان شیخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى... فذهب سليمان وراء عشتروت آلهة الصيدونيين، وملكولم رجس العمونيين".

     والله تعالى يقول: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102].

     كفر الشياطين واتبعوهم فكفروا هم كما يقولون عن أنفسهم في سفر القضاة من توراتهم الحالية: "وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب، فعبدوا البعل وعشتروت وتركوا الرب إله آبائهم ...".

     أهذه هي الدعوى الدينية التي تطالبون بها بفلسطين الإسلام والمسلمين، تطالبون بالأرض التي أرسلكم موسى إليها وأنتم الذين تقرون في سفر الخروج من توراتكم الحالية أنكم عبدتم العجل في غيابه، وكفرتم به وبربه، وما حفظتم له وصية ولا عهداً حتى إذا أمرکم بالقتال رفضتم وعاندتم: {قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَاۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِيۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 24-26].

     تطالبون بالأرض التي ولد المسيح عليه السلام فيها، وأنتم الذين كفرتم بالمسيح، واتهمتم أمه الصديقة العذراء بالزنا. وتقولون: إنكم تآمرتم عليه لصلبه، ويصِمُكم الإنجيل بالكفر والعصيان، ويسمّيكم المسيح عليه السلام بالخراف الضائعة، وقتلة الأنبياء، وأولاد الأفاعي، وأولاد الشيطان كما هو وارد في الأناجيل الحالية... والله تعالى يقول: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78].
*****

واجب المسلمين نحو فلسطين

واجب المسلمين نحو فلسطين

     لئن كانت واجبات المسلم اليوم كثيرة كبيرة في إطار قضيته الشاملة، فلا ينبغي أن يقتصر ما يؤديه فيما يتصل بفلسطين بالذات على الانفعال بأحداثها مرة بعد أخرى.. أو أن تقتصر به الحماسة على المطالبة بأقصى المطالب بأعلى صوت، وأن تتحقق بأسرع وقت دون أن يكون هو بالذات جزءاً من التخطيط الشامل السليم ومنبعاً من منابع الجهد الدائب المستمر.

     وفي تاريخ فلسطين وقضية فلسطين الكثير مما يحتاج إلى الإيضاح وإلى التثبيت في الأذهان والضمائر؛ بالكلمة، والمحاضرة، والندوة، والكتاب، والقصة، والقصيدة. وبوسع المرء تناول قضية فلسطين في هذا كله من وجوه عديدة ينجلي بها الحق الأصيل ويستبين.

     وإن الشواهد الكثيرة، والحقائق المختلفة لتشهد أن حق الأمة المسلمة في فلسطين حق عميق أصيل ذو جوانب كثيرة:
  • حقنا في فلسطين حق ديني تاریخي.
  • حقنا في فلسطين حق تاریخي بشري.
  • حقنا في فلسطين حق تاريخي حضاري.
  • حقنا في فلسطين حق قانوني دولي.
  • حقنا في فلسطين حق ثابت.
     مهما بدا واقع المسلمين في ظاهره مدعاة يأس، أو بدا واقع يهود الأرض اليوم مبرراً لدى البعض على طريق الاستسلام والخضوع.

     وميزان التاريخ يؤكد أن مصير مساعي يهود اليوم إلى الفشل دون ريب. ويؤكد أن مصير مساعي التسليم لهم بالباطل إلى الفشل دون ريب.

     ويؤكد أن الموقف الإسلامي الأصيل في القضية أثقل في تأثيره ونتائجه مما يحسبه الواهمون. وعرض تاريخ القضية واجب إسلامي على الأمة الإسلامية لا غنى عن القيام به بعد أن غابت هذه الوجوه أو غاب معظمها عن الأذهان حتى في وعي المسلم أحياناً بفعل ما بذله أعداء الإسلام، وبفعل تقصير المسلمين عن الجهاد بالكلمة والعمل على السواء.

     قال الله تعالى: {فَلَا تُطِعِ ٱلْكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدْهُم بِهِۦ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52]، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۚ} [الحج: 87]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، وقال تعالى: {وَمَن جَٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَٰهِدُ لِنَفْسِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ} [العنكبوت: 6].
*****

فلسطين حقنا الديني

فلسطين حقنا الديني

     نحن -المسلمين- نطالب بفلسطين من قبل ومن بعد؛ باعتبارها من حقنا الديني التاريخي الذي لا يقبل أية صورة من صور المساومة أو التهاون أو أنصاف الحلول على الإطلاق. ويطالب يهود اليوم بفلسطين بدعوى أنها البلد الذي ظهر فيه "أنبیاؤهم"، ووعدتهم به "توراتهم"، وقام فيه "هيكلهم" المندثر.

     وهذه دعوی باطلة زائفة بمقياس الدین القويم، والتاريخ الأمين، والبحث العلمي المجرد. یریدون أرض الأنبیاء الذين عصوهم وكذبوهم، وقتلوا من استطاعوا منهم، ونسجوا الاتهامات الباطلة ضدهم، فخرجوا بذلك على دينهم، دين التوحيد الخالص، دين الإسلام: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]، وقال تعالى: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]، وقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112]، {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 91].

     هذا كلام الله في القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكن اليهود اليوم یكفرون بكلام الله، ويستندون في دعواهم بفلسطين إلى توراتهم المحرفة، فماذا يقولون عن أنفسهم فيها؟ إنهم يتحدثون عن الأنبياء بصورة لا تقف فيها جريمة التحريف عند حد من الخجل أو الحياء، ويتحدثون عن مواقفهم من الأنبياء بصورة لا تبدو دعواهم تلك في إطارها إلا كحلقة جديدة من حلقات الكفر والعصيان والعدوان والتحريف. يطالبون بأرض الأنبياء والتوراة تصفهم – والإنجيل – في مواضع عديدة بأنهم "قتلة الأنبياء"، و"أولاد الأفاعي"، وأنهم "زناة"، و"رقابهم صلبة"، و"ملعونون بكفرهم"...

     تقول التوراة الحالية: "وقال الرب لموسى: رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقاب"، وتقول: "إن الله قال: اذهب وقل لهذا الشعب: اسمعوا سمعاً ولا تفقهوا، وأبصروا إبصاراً ولا تعرفوا، غلِّظ قلب هذا الشعب، وثقِّل أذنيه، واطمس عينيه لئلا يبصر بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويفهم بقلبه".

     وتقول "وصار مرشِدو هذا الشعب مضلين ومرشَدوه مبتلَعين، لأجل ذلك لا يفرح الرب بفتيانه، ولا يرحم يتاماه وأرامله لأن كل واحد منهم منافق وفاعل شر".

     وتقول: "قال الرب إله إسرائيل: هأنذا جالب شراً على أورشلیم ويهوذا، وأدفعهم إلى أيدي أعدائهم فيكونون غنيمة ونهباً لجميع أعدائهم لأنهم عملوا الشر في عيني".

     وتقول: "هأنذا جالب الشر على هذا الموضع وسكانه، من أجل أنهم تركوني وأوقدوا لآلهة أخرى لكي يغيظوني بكل عمل أيديهم، فيشتعل غضبي على هذا الموضع ولا ينطفئ".

     وتقول: "وجعلت يهوذا وسكان أورشلیم يزنون کزنا بیت آخاب، هو ذا يضرب الرب شعبك بیتك ونساءك وكل مالك ضربة عظيمة".

     أبهذه الدعوى "الدينية" تطالبون يا بني إسرائيل بأرض فلسطين الطاهرة!؟
*****

فلسطين جزء من دار الإسلام

فلسطين جزء من دار الإسلام

     قضية فلسطين لدى الأمة الإسلامية قضية جزء من دار الإسلام اغتصبه أعداء الإسلام، ولا يجوز أن يكون هدف السلم فيها أدنى من تحرير فلسطين كاملة واستعادتها لحظيرة الإسلام.

     والداعية المسلم اليوم في معركة مصيرية، يجد نفسه في إطار هذه القضية منها وحده إلى جانب الحق ضد أعدائه سواءً الذين اغتصبوا الأرض واستعمروها بغير الحق ويهوّدونها يوماً بعد يوم، أو مَن يدعمونهم دعماً مباشراً من مختلف الجهات الصليبية والشيوعية واليهودية العالمية، كما يجد نفسه في مواجهة أولئك الذين يهبطون بالقضية من مستواها الحقيقي كقضية صراع بين الحق والباطل، بين الإسلام وأعداء الإسلام، وقضية تحرير كامل من النهر إلى البحر بالإسلام ومن أجل الإسلام، إلى مستوى آخر، قد تختلف فيه الشعارات والأهداف المعلنة والوسائل المتبعة أحياناً، ولكن لا تختلف فيه النتائج إطلاقاً.

     فهذا يسميها مشكلة "الشرق الأوسط"، وذاك مشكلة النزاع العربي الإسرائيلي، وثالث مشكلة دولية. هذا يحولها إلى مشكلة لاجئين يبحثون عن موطن، وذاك إلى مشكلة حدود ومستعمرات، وثالث الى مشكلة أمن.

     وقد تصل الشعارات المعلنة فوق هذه المسميات وسواها الى أقصى مدى لها فتطالب بالتحرير الكامل، ولكن من أجل أن تسود في فلسطين سیادة غريبة جديدة، تأباها فلسطين، ويأباها إسلامها وتاريخها. وتلعب الشيوعية الدولية والمحلية خاصة بهذه الشعارات دوراً متفاوتاً تفاوت المواقف السياسية الآنية، وتفاوت ما يبتكر للشيوعية من نعوت وأسماء، يتوارى البعض وراءها عن مكر مقصود، وينخدع البعض الآخر بها عن جهل أو وهم، والشيوعية العالمية والمحلية وراء إسرائيل، كانت وراء إيجادها وما تزال وراء إبقائها.

     قضية فلسطين لدى الأمة الاسلامية جزء من قضية الإسلام والمسلمین الكبری في هذا العصر، لا يجوز فصله عنها بحال من الأحوال. ومن هنا فهي ترفض من يقول بالعمل تحت راية هذه الفئة أو تلك، تحت راية هذا الاتجاه أو ذاك في خدمة هذا النظام الخادم للرأسمالية أو ذاك الخادم للشيوعية. ترفض من يقول بذلك بدعوى التقاء "ظاهري" في أهداف مرحلية معلنة. كما ترفض كل الرفض المواقف الهزيلة وإن كانت بشعار يتعذر بالإمكانات؛ فالإمكانات أعظم مما يتصورون، أو يتحجج بالواقع؛ فالواقع مرفوض أصلاً وغير شرعي قطعاً.

     لا بد أن تكون قضية فلسطين في وعي الأمة الإسلامية ووجدانها، في قلب كل فرد وفكره في وجود الأمة بأسرها قضية إسلامية خالصة، وهدفها فيها التحرير الكامل واستعادة الأرض السليبة؛ بالإسلام بمنهجه ووسائله، ومن أجل الإسلام، من أجل أن يسود فلسطين وسواها من أراضي المسلمين في كل مكان دیناً شاملاً لسائر جوانب الحياة الدنيا والآخرة، ورسالة إلهية خالدة للناس كافة.
*****

بطلان حق اليهود في أرض النبوات

بطلان حق اليهود في أرض النبوات

     أية دعوى أشد بطلاناً في منطق الدين والحق والتاريخ من دعوى اليهود بأرض أنبیاء، وقد أقروا بأنهم عصوهم وقتّلوهم واتّهموهم ونسجوا الأساطير عنهم؟ أية دعوی أشد بطلاناً من ذلك إلا دعوى المجرم يقتل صاحب البيت، ويسلب ماله، ويشهر بسمعته، ويعترف بجريمته، ثم ينادي: إن البيت أصبح من حقه!؟ أم أن يهود اليوم يدّعون الإيمان وبنو إسرائيل الأولون هم الكافرون؟ بل إن يهود اليوم أشد كفراً وفسوقاً من يهود الأمس، إلا أنهم لا يجدون من يقتلون من الأنبياء، فيقتلون الأطفال والشيوخ والنساء في "دير ياسين" و"الكرامة" وحول المسجد الأقصى..

     تلك هي التعاليم التي وضعوها، واتبعوها في طريق الكفر والفساد والإفساد.. مثال واحد يصور القليل من الكثير، مثال من كتاب "صلاة اليهودي" الذي يعلمهم في يوم "کیبور" يوم عيد الغفران كما يسمونه، أن اليهودي مغفورة سائر خطاياه بلا قید ولا شرط.. "مغفور له الافتراء والعنف والاغتصاب واضطهاد الجار وخیانته"!.. مغفور له الجحود والكذب وشهادة الزور والمشاكسة والوقاحة!.. مغفور له التكبر والغطرسة والأيمان الكاذبة!.. مغفور له الاختلاس والسرقة والابتزاز والربا!.. مغفور له الزنا الجماعي وسفاح القربی"!.. والله تعالى يقول: { وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْإِثْمِ وَٱلْعُدْوَٰنِ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَۚ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [المائدة: 52]، ويقول الله تعالى: { كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79].

     دعواهم باطلة، وبطلانها مسجل بمداد من دماء الأنبياء الذين قتلوهم على تراب فلسطين الذي دنّسوه ويلعنهم، باطلة لا يُقِرُّ بها إلا فاقد للوجدان، کافر بالدين، وحقنا الديني مسطور في تاريخ الأنبياء بحروف من نور الإيمان بهم جميعاً لا يعمى عنه إلا فاقد البصر والبصيرة.

     إنه الحق الديني المتصل الحلقات من مولد إبراهيم عليه السلام إلى يوم الإسراء والمعراج. {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَاۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].

     الحق المتصل الحلقات من يوم بعث موسی فبشَّر بعيسى، فبعث عیسی فبشر بمحمد عليهم صلوات الله وسلامه، إلى يوم بعث محمد ﷺ فبشر بفتح فلسطين أرض الأنبياء، وما زال يذكر بیت المقدس فيها حتى فكر الصحابة الكرام بدفنه فيه بعد وفاته، متصل الحلقات من يوم فتح طالوت وداود بیت المقدس مع عصبة مؤمنة تقول: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250].
*****

الصهاينة في فلسطين

الصهاينة في فلسطين

     من المعروف أن الصهاينة في فلسطين المحتلة يسعون فيما يسعون له إلى أمرين يكمل أحدهما الآخر فيما يهدفون إليه:

     الأول: أنهم يحاولون القضاء على الآثار والمقدسات الإسلامية شيئاً فشيئاً، ليستأصلوا بذلك الوجود التاریخي للإسلام والمسلمين. ويظهر هذا جلياً في مدينة القدس بشكل خاص، فهم يزيلون بعض المقابر فيها، وهم يهدمون بعض الأحياء ذات الشكل الإسلامي، ويهدمون بعض المساجد بحجة التوسعة، وما إلى ذلك.

     والثاني: أنهم يحاولون دائماً اختلاق حقوق تاريخية لهم في فلسطين، ودائمو الحديث عن آثار لهم فيها، ودائبو العمل على تضخيم هذه الآثار أمام الرأي العام اليهودي والأجنبي على السواء.

     هذان الأمران اللذان يقوم بهما الصهاينة في فلسطين، إنما يهدفون منهما في آخر الأمر إلى بتر صلة فلسطين بتراثها وتاريخها الاسلامي، وربطها بتاريخ مزعوم للتراث اليهودي.

     إن الصهيونية دائبة على تغيير الأماكن الأثرية المسلمة في فلسطين للقضاء عليها، وهي دائبة على تغيير کتب التاريخ المدرسية المقررة على الطلبة العرب الفلسطينيين بما يؤكد مزاعمها، ومن المعروف أنها تسعى منذ أسر القدس في عام الهزيمة والعار إلى البحث عما تسميه هيكل سليمان عليه الصلاة والسلام، وقد اختارت أن تبحث عند أسوار المسجد الأقصى، لتسهم هذه الحفريات في زعزعة بنائه تمهيداً لهدمه أو إحراقه، ونحن نعرف أنها حاولت إحراقه عام 1389هـ/1969م.

     هذه المحاولات الصهيونية الدؤوبة التي تشمل فيما تشمل إحراق المسجد الأقصى أو هدمه، وإقامة هيكل ينسبونه لسليمان عليه السلام، وكثير أمثالها، تدل على أن الصهيونية ذات وعي دقيق بأهمية التاريخ في حياة الأمم، لذلك هي تحاول استئصال التاريخ الإسلامي في فلسطين، في الوقت الذي تنشئ لنفسها تاريخاً فيها، من الزيف والكذب، ومن أطلال قديمة، ومن فترة تاريخية قصيرة لا تعد شيئاً في عمر الزمان، كان لليهود فيها شيء في فلسطين، ثم تفرقوا أيدي سبأ في مختلف مناطق العالم.

     إن الصهيونية بما تفعله من ذلك، تحاول صبغ فلسطين بالصبغة اليهودية وإظهارها أمام الأجيال اليهودية الناشئة، وأمام العالم بتلك الصورة، على أمل إقناع الجميع بأن فلسطین یهودية تماماً، يدل على ذلك تاريخٌ قديمٌ وآثار، وصبغةٌ يهوديةٌ حالية.

     إنه درس تاریخي سیاسي في غاية الأهمية، ترى هل نحسن الانتفاع منه!؟
*****

اليهود وفلسطين

اليهود وفلسطين

     لا يخطئ المرء أن يلحظ عناية اليهود في فلسطين بدينهم ولغتهم وتاريخهم عناية بالغة، والشواهد التي تؤکد عنايتهم هذه كثيرة جداً. وفي إطار عنايتهم هذه قاموا بنشاطات كثيرة، بعضها له أصل وجذور، وكثير منها تزييف محض خالص، واختراع واختلاق.

     والحق أن اليهود قاموا من أجل هذا التزييف بجهود كبيرة، وهم يسعون من أجل ذلك، منذ دهر بعید بدأب وإصرار. فلقد سموا كيانهم المسخ باسم "إسرائيل" على اسم نبي الله يعقوب عليه السلام الذي يزعمون أنهم إليه ينتسبون، وهم ابتدعوا حكاية جدار المبكى وهو أحد جدران المسجد الأقصى، وأخذوا يتوافدون للبكاء على مجدهم المزعوم منذ القرن الماضي حتى جعلوا ذلك تقليداً دينياً لهم يبدو كأنه موغل في القدم. وهو في الحقيقية يرجع إلى أيام ولاية محمد علي باشا حاكم مصر على الشام حين ضمها إلى حكمه.

     وللجيش عند اليهود حاخامات دینیون كبار يملؤونه بالأباطيل اليهودية، ويشرفون على ذبح الأنعام له وفق عقيدتهم، وقائد أحد قواتهم عام (1967م) ينفخ في البوق متأسیاً بفعل أحد أنبيائهم كما جاء في التوراة، وقد نشرت صور لجنودهم في العام نفسه، يظهر فيها بعضهم في باحة المسجد الأقصى المبارك، وهم يحملون السلاح بيد، والتوراة باليد الأخرى، كما يظهر بعضهم الآخر وهم يرتلون شيئاً من التوراة في صحراء سيناء وقد ظهر عليهم الخشوع.

     وأضف إلى ذلك عناية اليهود الفائقة باللغة العبرية، فقد أحيوها من بين الأنقاض، ونهضوا بها بعد أن خرجت من دنيا الاستعمال، ونسيها اليهود أنفسهم، وظلت بين أحبارهم وقادتهم الدينيين فحسب. لقد عادوا بها إلى الحياة، واستعملوها في الجيش والتعليم والإذاعة والصحافة والبحث العلمي، وفي كل مكان، وهم يشترطون اليوم على كل من يهاجر إلى فلسطين من يهود العالم أن يختار لنفسه اسماً عبریاً.

     إذا كان علينا أن نتعلم من تاريخنا فقد عرفنا أن النصر كان حليفاً لنا دائماً حين نتمسك بإسلامنا، وإذا كان علينا أن نتعلم من تاريخ العدو ومما يفعله الآن، فلنعلم مما يقوم به اليوم من حرص واسع على التراث، أهميةَ التراث في حياة الأمم، فلنعد إلى تراثنا الذي شكله وصاغه الإسلام، لنتشبث به، ونحرص عليه، ونصوغ حياتنا على هديه ونوره، وننتزع الفوز بإذن الله بانطلاقنا من عطائه الخيّر المبارك.
*****

نكبة القدس

نكبة القدس

     ظل بسبب نكبة القدس مهموماً محزوناً غارقاً في حوار داخلي مع نفسه، وظل في أشجانه التي لا تفارقه ليل نهار، يبحث عن مخرج ومنقذ. ظل كذلك حتى كان ذات يوم أمام صورة للمسجد الحزين الأسير، فأحس كأنها تنادي وتقول: "إليَّ إليَّ أيها المجاهدون!.. بالجهاد کنت لكم من قدیم، وبالجهاد لكم سأكون".

     عندها أحس الرجل أنه قد عثر على مفتاح الأقفال والأغلاق، إنه الجهاد.. وارتحل من بلاده صوب الأرض التي سرقتها یهود في غفلة من الشرفاء والمجاهدين، قاطعاً طريقه الطويل، وفي خاطره مثل هذا الحديث:

     يا قدس لا تحزني طويلاً، فلا بد أن يذهب الليل ليأتي النهار، ويرحل الظلم لیظهر العدل، ويهزم اليهود ليحكم المسلمون. ليست هذه هي المرة الأولى التي وقعت فيها أسيرة بيد الأعداء، فلا بد أن تذکري هجمات الصليبيين الذين حكموك قرابة قرن من الزمان، ومنعوا في سمائك الأذان. ولكن العاقبة كانت للحق، لقد أشرقت الشمس، وهربت الجرذان، وتوارت الفئران، واختفى البوم، وولت الغربان، ذلك أن فجراً للإسلام قد بدأ، وعاد الغزاة إلى ديارهم مخذولین مقهورين، وعدتِ مرة ثانية لأبنائك المسلمين يفدونكِ بالمهج والأرواح، عاد إلى مسجدك المصلون، وعلت تكبيرات العباد وارتفع عالياً صوت الأذان.

     إننا حين نبكيك اليوم، لا نبكي بدمع اليائس الحزين الذي سقطت همته، وخذلته عزيمته، وخارت قواه، فاستراح إلى دموعه. ذلك أن الإسلام العظيم قد علمنا أن اليأس حرام، فرحمة الله واسعة، ونصره من المؤمنین قريب. لكننا نبكيك بالدمع الشجاع الأبي، المتألم المؤمّل، الواثق الصبور.

     بقلوب هدّها تلاحق الآلام؛ لكنها لم تمت، بنفوس أذهلها طغيان اللئام؛ لكنها ما استكانت، بأفئدة أحزنها نسيان الصديق ومكر العدو؛ لكنها ما هانت.

     الأمة المسلمة التي طلعت على الدنيا بهدى الله فحملته إلى أصقاع الأرض، ووعت أمانة المسؤولية، وقوامة الشهادة، والوصاية على الناس، فأدت ذلك أحسن ما يكون الأداء، وأبلغته أكرم ما يكون الإبلاغ.

     الأمة التي استقامت على أمر الله فنصرها الله، والتزمت دينه وشريعته، فرزقها القيادة والسيادة ومكّن لها في الأرض.

     هذه الأمة القوية الإيمان، الباذخة البنيان، المهتدية بالقرآن، التي امتدت إلى كل مكان، وشرفت في كل زمان.

     هذه الأمة العريقة الشمّاء، الكريمة المعطاء، ستثأر للأقصى الجريح، تطهره من رجس یهود وبغیها وطغيانها، وتقيم في أرض الإسلام حكم الإسلام، منارة للحق والعدل، والهداية والإيمان.. سوف تجتاح باطل یهود، بعد أن تجتاح في نفسها عوامل الهزيمة والمبادئ الضالة التي سببتها، وتنطلق بالإسلام على هدى الله وبرکته ليكون لها النصر العزيز فتكمل هي شروطه، وصدق الله العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
*****

الأكثر مشاهدة