الخميس، 7 سبتمبر 2023

يا قدس! (10)

يا قدس! (10)

     إني قادم إليكِ يا قدس إن شاء الله، قادم إليك فاتحاً غازياً منصوراً لأكون جندياً جديراً بالانتساب إلى الأمة الإسلامية، وأهلاً للجهاد تحت الراية القرآنية. إني قادم إليك يا قدس لأقوم بأداء المهمة الثقيلة التي ألقاها على كاهلي انتمائي إلى خير أمة أخرجت للناس.

     وإني أقسم لكِ يا قدس، أقسم بالله العلي العظيم أن في فؤادي حنيناً جياشاً إلى أرضك الطهور، حنيني إليك حنين الروض لماء القطر، حنين المسجد للأذان، حنين المؤمن لترتيل القرآن، حنين المغترب طال اغترابه ونأت أسفاره إلى داره وأهله وصحبه وذويه.

     أنتِ في قلوب المسلمين رجاء، وفي أفئدتهم دعاء، وفي عيونهم دمعة، وفي أخلادهم أمل، وفي ضمائرهم لوعة، وفي سرائرهم أمنية جياشة حارة..، ومنزلتك هذه الطاهرة العاطرة الأبية الكريمة ستدفعنا يا قدس بإذن الله لنكون رجالاً أوفياء شرفاء، يصوغون مواقف وفية شريفة، وهم في الطريق إليكِ سائرون، حتى يكتب لنا النصر المبين، یكتبه الله عز وجل بقدرته العظيمة الطليقة، ويصوغه قَدَرُه الغالب الذي لا يُرَد بسواعدنا المؤمنة المتوضئة.

     أتذكرين أيام الصحبة العفيفة، والرفقة الطاهرة!؟ أم أن السنوات العجاف تحت راية یهود قد فعلت بذاكرتك الأفاعيل!؟ أما أنا فأقسم أنكِ ما غبتِ عن حسي، ولا نأيتِ عن وجداني، وأنّی لي ذلك وقد شرفتُ بالانتساب إلى الإسلام الذي يعلمني أن الوفاء من شوامخ الأخلاق ونبيل السجايا!؟ وهل لي بعد ذلك إلا أن أكون وفياً لكِ والأقصى الحبيب أولى القبلتين وثالث الحرمين!؟

     يا قدس!.. منذ وعيت حقيقة إسلامي ومسؤولية إيماني؛ عرفت أن لكِ حقاً في عنقي أي حق، فاطمئني فإني مدرك تمام الإدراك كل ما عليَّ أداؤه إزاء حقكِ الكبير. سأزحف إليكِ في فتية مؤمنين ما عرفَتْهُم الأرض إلا ساجدین مستغفرين، في فتية لهم من الأصالة والنبل والتضحية والمضاء ما يليق بهم ليكونوا أول مواكب الإنقاذ:

في فتيةٍ لا تنالُ الأرضُ أدمعَهمْ     ولا مفــــارقَهُمْ إلَّا مُصلِّينـــــــا
لو لم يسودوا بدينٍ فيهِ منــــبهةٌ     للحقِّ كانَتْ لهُمْ أخلاقُهمْ دِینــــا

     فاصبري يا قدس الإسلام والمسلمين!.. فلا بد أن يطلع الفجر الصادق ليقضي على طغيان یهود واستعلائها، ويُنهي مسلسل التنازلات التي يقدمها ليهود المتخاذلون والمفرّطون. إن موعد هؤلاء وأولئك قادم، قادمٌ لا ريب فيه.. إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب!؟
*****

يا قدس! (9)

يا قدس! (9)

     يوم أن تعودي يا قدس الإسلام والمسلمين إلى أهلكِ وذويك، سوف تسعدین وتهنَئِين يومها، سوف تستروحين بالمؤمنین أنسام الطهر والإيمان، وتسترجعين في خيالك الدامي الجريح تلك الصور الإيمانية العظيمة التي عرفت بها مواكب الإيمان. تماماً كما وقف الجنرال الإنكليزي اللنبي الذي دخل حِماك في مطلع هذا القرن وقال: "الآن انتهت الحروب الصليبية".

     وتماماً كما وقف قادة یهود في عام الأسر والهزيمة وهم يرددون "يا لثارات خیبر"، سيقف قادة الجيوش المؤمنة ليرفعوا راية التوحيد كما رفعها ابن الخطاب من قبل، ويهتفوا قائلين: أیتها القدس الغالية، ها قد عدنا اليوم منتصرين ظافرين.

     يا قدس!.. قد تحسبين أنها أحلام، وإنها الآن أحلامٌ حقاً، لكن حقائق اليوم كانت بالأمس أحلاماً، وأحلام اليوم الخيرة الكريمة هي حقائق الغد إن شاء الله.

     لعلك سمعت نبأ بعض اليهود الذين اقتحموا ساحك المصون وأحدهم يحمل التوراة بيد، والسلاح بالأخرى.. إن جند الله سیدخلون كما دخلوا.. كل منهم يحمل قرآنه بيد وسلاحه باليد الأخرى لتغيب التوراة المزيفة المزورة، وينقضي ليل السوء والدجل، لأن فجر القرآن الكريم سوف يسطع نوره إذ ذاك، وسوف تبدو شجاعة يهود الكاذبة المُدّعاة هزيلة كابية، مهترئة خابية إلى جوار شجاعة المجاهدين المؤمنين من أهل القرآن:

سأحمل روحي عـلى راحتي     وألقي بها في مهاوي الردی
فإما حيــــاة تســــر الصديق     وإما ممات يغيــــظ العـــدى

     كذلك سوف يردد الفاتحون المؤمنون وهم نحوكِ يتقدمون، فجباههم العزيزة الشماء لا تسجد لغير الله وهم بين اثنين: عیش عزیز کريم، أو ميتة أبية وشهادة عظيمة.

     لقد نذر جند الله تعالى أنفسهم في سبيله عز وجل، وسوف يوفون بالنذر. وإن هذا الوفاء أن يثأروا لجرحكِ الدامي، ومجدكِ الكسير، فافرحي يا قدس؛ فإن لهم من سمات الجلال ما هو خليق بأنبل الرجال، إنهم مرآة العظمة والصدق والعطاء، إنهم الورود في البساتين، إنهم الرياحين في الحدائق، إنهم شقائق النعمان في المروج، إنهم أغنية الأحلام في البيداء. وهم مع هذا.. أسود ونمور، وصقور وعقبان، عشاق موت وطلاب شهادة، فيهم عزيمة المجاهدين الصادقين، وتكبير الأتقياء المؤمنین، وشجاعة الأبطال الخالدين.

     وأنتِ أيتها الأمة المسلمة!.. أنتِ اليوم مدعوة لتثبتي شرف انتمائك للإسلام العظيم، وإنه لشرف كبير لا يصدقه إلا الدم الزاكي، فهيا إلى الدم والبذل والعطاء، وحذار حذار من كل حلول الاستسلام والتخاذل والتفريط:

أمة الصحراء يا شعـب الخلودْ     مَنْ سواكم حَلَّ أغــلال الوری
أيُّ داعٍ قبلكم في ذا الوجــــودْ     صاح لا كسرى هنا لا قيصرا
*****

مَنْ سواكم من حديثٍ أو قدیــمْ     أطلع القرآن صبحـــاً للرشــادْ
هاتفاً في مسمع الكون العظيـمْ     ليسَ غيرُ الله ربـــــاً للعبـــــادْ
*****

يا قدس! (8)

يا قدس! (8)

     يا قدس!.. أتذکرین الفاروق العملاق الشهيد حين قطع إليك المفاوز والقفار والفيافي والسباسب، وخاض نحوك الماء حافياً، والمولى راكب على الجمل، والخليفة الراشد العظيم يقود الجمل الذي يركبه المولى بالحبل، فاعترضه غدير ماء فخاضه، فخاف أحدهم أن يعيب أهلك عمله ذاك فكلمه فيه، فغضب عمر، وهتف بقولته الخالدة: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا طلبنا العزة بغيره أذلنا الله"!؟. أتذكرين ذلك؛ أم أنساك طول العهد وتقادم الزمن وكرّ الجديدين؟

     إن أبناء الإسلام اليوم يعملون ليستقيم الدرب، ويصحو الغافلون، ويهتدي الناس ليكون الموكب القادم موكباً نقي العقيدة، طاهر الفؤاد، فيدخل المسجد الأقصى لا باغياً ولا عادياً، ولكن مؤمناً متواضعاً، يعلي كلمة الله عز وجل، ويهتدي بقرآنه العظيم.

     سيأتيك موكب المؤمنين الصادقين، تضطرم قلوبهم بالحنين، يستعذبون الموت في سبيل الله، يستبِقون إلى جنة الخلد التي لا تبلى، يعيدون للدنيا مواقف البطولة النادرة، والإيثار العميق، بعد أن خلت الدنيا منها أو كادت، وحسبتها أحاديث يرويها السمار في المجالس، لا وقائع في الحياة اليومية.

     الوجوه الذابلة تعود مشرقة، والقلوب الخاوية تعود قوية، والغرباء الحائرون التائهون، سیرجعون أدلاء هادين مهديین ليكونوا بإذن الله سراً من أسرار النصر ضد بغي يهود.

     إن في المسلمين اليوم بشائرَ يقظةٍ عارمةٍ، ونهجٍ راشدٍ، وفجرٍ صادقٍ، فانظري إليهم وقد أخذوا يتعلمون صناعة القتال، وفن الموت، لن يعودوا بعد اليوم كما كانوا حين ضللهم الدجاجلة والأفاکون، سوائم ضائعة، وحمى مستباحاً، وقطيعاً يتبع كل ناعق وعابث وفاجر.

     لا.. لقد استعلوا على ذلك، وتجاوزوا الهزيمة الفكرية والنفسية، وتمكن فيهم الإيمان والإباء، والثقة والاستعلاء، والاعتزاز الباذخ الشامخ بصحة هذا الدين وخلوده، وبأن المستقبل له بإذن الله.

     يا قدس!.. حقاً هي سنوات شداد عجاف، مرت عليكِ وأنت في أسر اليهود، لكن هذه الفترة وإن بدت طويلة في عمر الأفراد فهي قصيرة في عمر الأمم والشعوب. ونحن أمة الإسلام أعرق الأمم، وأكثرها امتداداً في الزمان والمكان، لذلك ستبدو سنوات الأسر يا قدس قليلة جداً في يوم التحرير والإنقاذ، يوم يقتحم قرآنُ المسلمين زيفَ التوراة وضلال التلمود، وحقُّ الإسلام النقي الصريح باطلَ يهود، ويسترجع المسلمون ديارهم وفي مقدمتها القدس الغالية ليطهروها بالدين الحق، دين الإسلام العظيم، من كل باطل وفساد وجاهلية، ويقيموا فيها حكم الله عز وجل عزيزاً قوياً ينادي بلسان الحال والمقال: أَنْ ها هو فجر جديد أشرق على أمة الإسلام، فجر السعادة والقيادة والنصر العزيز المؤزر.

الوحي والتنزيــل والأحرفُ والآي والإنجيل والمصحـفُ
وســــورة الإسـراء ما رُتِّــلت إلا وأســماع الدنـــا ترهفُ
نبـــارك القدسَ، وما حولها وصخرة القدس بنــــا تهتـفُ:
في كل صـــدرٍ من دمي دفقــــةٌ وكل عينٍ دمعـــةٌ تذرفُ
إن ضمد الآسي جراح الورى فالجرح مني راعفٌ ينزفُ
يـــا دُرةً في جيـــدِ تاريخنا رُبـــــاكِ من كلِّ الربى ألطفُ
كم قد مشت أكبــادنا فوقَها من كل روضٍ زهرةً تقطـــفُ
وكم سقينـــا تربها أنفســـاً أصفى من الياقوتِ بل أشــرفُ
يا قدس .. مهما باعدوا بيننــا ففي غدٍ جيش الهدى يزحفُ
كتـــائب الإيمان قــــد بايعتْ لا فـــاسقٌ فيها ولا متـــرفُ
*****

أيتها القدس! (7)

أيتها القدس! (7)

     أيتها القدس الأسيرة الحزينة!..

     لا ريب أن سقوطكِ بين براثن "يهود" نكبة عظمى من أكبر نكبات المسلمين في العصر الحاضر، ولكن من الممكن جداً أن يكون لهذا السقوط آثار إيجابية نافعة إذا أحسن المسلمون الانتفاع من دروس السقوط، وقرروا أن يتغلّبوا على الصعاب، ويجتازوا المحنة.

     في النار يخلص الذهب ويصفو، وفي المحنة تطهر الأمة وتستقيم إذ تعرف الخطأ من الصواب، والخبث من الطهر، والأصيل من الدخيل، والشجاع من الجبان. وتدل حوادث التاريخ أن الأمم تتجمع في النكبات والشدائد بأفضل مما تتجمع في الرخاء واللين.

     الليل يسبق النهار، والشتاء يسبق الربيع، والجفاف يسبق الخضرة، والمحنة والهزيمة تسبقان العزة والانتصار. فليمتلئ قلبكِ إذن بالسكينة والثقة والأمل.

     سيأتي يوم الخلاص يا قدس!.. وسيكون الخلاص على أيدي الطاهرين المتوضئين أنقياء القلوب والأرواح، صادقي الرأي والفكر، أما الدجاجلة والكذبة والفراعين فلن تكوني أهلاً لهم، ولن يكونوا بكِ جديرين، ذلك أنهم هم الذين ضيّعوكِ من قبل.

     لك أن تضيقي اليوم بظلمة "يهود"، ولكن حذار من اليأس، فصباح القرآن الكريم قادمٌ عما قريب، وإن للظلمة موعداً سيعرفون فيه بأس المؤمنين الصادقين. إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب!؟ إن بيننا موعداً لن ننساه، هو موعد النصر القادم دون ريب.

     نحن واثقون بهذا الموعد ثقتنا أن الشمس تطلع من الشرق وتغيب من الغرب، وأن البحر فيه ماء، وأن الجو فيه هواء. فقد أخبرنا رسول الله ﷺ بنصر للمسلمين ساحق ماحق حتى لو اختبأ يهودي وراء حجر أو شجر، أنطق الله عز وجل ذلك الحجر والشجر فهتف: يا مسلم يا عبد الله!.. هذا يهودي خلفي تعال فاقتله.

     وإن ثقتنا بحديث الرسول الأمين ﷺ لا حد لها، ومن نافلة القول أن نؤكد أن قوله الكريم مقدّم لدينا على أقوال الساسة الانهزاميين الذي يحاولون أن يمكّنوا لليهود في ديار المسلمين.

     وأنت أيها المجاهد المسلم المرتقب الذي سيكون الخلاص على يديك المتوضئتين بإذن الله!.. لا يهولنَّك ما جمعوا من عتاد كبير، فربما كان لك ذلك غنيمة باردة، ذلك أن الجبان يصبح سلاحه عبئاً عليه، وقد يأخذه خصمه منه ويقتله به. فأقدِمْ وخذْ سلاح "يهود"، واجعله مصوباً نحو معسكرها معسكر الشيطان.

     افضحْ بشجاعتك جُبْنَ اليهود، واكشِفْ بحقك باطلَهم، واهدِمْ بجهادك الذي تبنيه بالحق والإيمان بناءَهم الظالم المعتدي، الذي أقاموه بالسرقة والغش والخديعة والاحتيال، وحروب سريعة سرقوا النصر فيها في غيبة الشرفاء.
*****

أيتها القدس! (6)

أيتها القدس! (6)

     أيتها القدس الحزينة التي تعيش بين الألم والأمل!.. أتدرين متى يكون الخلاص الذي تؤمّلين!؟.. إنه سيكون يوم تعيش قلوبنا بفخر واعتزاز مع ذكريات بدر وخيبر ومؤتة، والقادسية ونهاوند واليرموك، والزلاقة وحطين وعين جالوت، والأملُ العارم يجتاحها، والعزمُ الوقّاد يتدفق فيها، والطموحُ الكبير يستولي عليها، بأنْ نصنعَ أمجاداً جديدة مثل هذه الأمجاد القديمة، ندخل بها التاريخَ كرّةً أخرى، ونثبت صدقَ إيماننا، وأصالةَ أمتنا، وقدرتنا على التحدي والكفاح، وشرفَ انتسابنا للإسلام العظيم، والقرآن الكريم، والرسول الخالد محمد بن عبد الله ﷺ.

يــا سورةَ الأنفالِ مَنْ لي بهـــا     قدسيّـــــةِ الآياتِ تسـتنفــــــــرُ
جنداً يذوقُ الموتَ عَذْبَ المنى     كالصبـــحِ عن إيمـــــانِهِ يسفرُ
ومَنْ يَبِــــعْ للهِ أزكـــــــــى دَمٍ     يَمُتْ شهيـــــدَ الحقِّ أو ينصـرُ
والبـــغيُ مهما طالَ عدوانُـــهُ     فــاللهُ من عدوانِـــهِ أكبـــــــــرُ

     هذه الأبيات ترسم لكِ يا قدس ملامحَ من صورة المجاهدين المؤمنين الذين سيكون على أيديهم الخلاص إن شاء الله. إنهم قوم عشقوا الجهاد في سبيل الله عز وجل، واستطابوا الموت طلباً لرضاه، وصارت الشهادةُ أغلى أمنياتهم وأثمنَ آمالهم، يتوجهون إلى الله العلي القدير أن يكرمهم بها في سجودهم وقيامهم، وليلهم ونهارهم، وهم فرادى وهم مجتمعون.

     ولطالما استوقفتهم آياتُ الجهاد في القرآن الكريم، في سورة الأنفال وغيرها، فَصَفَتْ سرائرهم، وطابت أوقاتهم، وملأهم الحنين إلى الجهاد، إلى الجهادِ المؤمنِ المستبسل الذي يمتلكُ الرجاءُ قَلْبَ كلِّ مبادرٍ إليه أن يُرْزَقَ إحدى الحسنيين، الشهادة أو النصر، وهؤلاء الرجال الكرام، والمجاهدون الأباة الذين يسفر إيمانهم الدفّاق الوهّاج كالصبحِ الطهور، والنورِ اللألاء، والفجرِ الصادق، والذين يستعذبون الموتَ في سبيل الله عز وجل ويحبونه ويستبقون إليه؛ هم مناطُ الأمل، ومعقدُ الرجاء، وبسمةُ البشرى، للإنقاذ المرتقب إن شاء الله.

     سيدخل هؤلاء أعزاءَ كراماً منصورين، أقوياء غالبين مظفرين، وسيدخلون كذلك شاكرين لله تعالى، منيبين إليه مخبتين، متواضعين لا يبغون علواً في الأرض ولا فساداً، لينتهي بدخولهم الكريم، وانتصارهم المؤزَّر، ليلُ الفساد والباطل، ودَنَسُ اليهود، وزيفُ التلمود، ويبدأ عهدٌ جديد، يعلو فيه الحق، ويسود فيه الإسلام، ويحكم فيه بالقرآن، وتخفق فيه رايةُ الإيمانِ عزيزةً ظافرة شمّاء، تُعْلِي في الخافقين هتافَ التوحيد الخالد: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
*****

يا قدس! (5)

يا قدس! (5)

     تحية لك يا قدس الإسلام والمسلمين يَوْمَ أَسَرَكِ العدو، ويَوْمَ أن حاولوا بيعَكِ للعدو!.. بكتكِ قلوب المسلمين التي أثقلتها الآلام، وأوجعتها الأسقام، واشتدت عليها المصيبة، مصيبةُ أَسْرِ اليهود إياكِ في يومٍ شاحبٍ حزين، وكان أشد ما أصاب أفئدة هؤلاء الغيورين، ما شهدته من ضياع الأمة المسلمة حين تردّت في متاهات وضلالات، وعَدَتْ وراءَ سرابٍ كذوب، وصدّقت الدجالين والكذابين، فغُلِبَتْ على أمرها، وخُدِعَتْ عن معركتها، وذُهِلت عن حقيقتها، وغفلت عن مستقبلها ومصيرها، بسببٍ من تصديقها لما قاله الكاذبون والمجرمون، وانخداعها بمذاهب الفساد والضلال، واتباعها مبادئَ الأعداء والمستعمرين.

     هذه الأمة العظيمة الخالدة، كيف آلت إلى هذا المصير!؟ وكيف هانت على نفسها وعلى الناس!؟ أحقاً أنها أمةُ الإسلام يا قدس!؟ أحقاً أن أبناءها هم أهل القرآن!؟ أصحيح أنهم أحفاد الصيد الفاتحين، والغزاة المجاهدين، والعابدين الصادقين!؟ ترى أصحيح ذلك أم أن الحقائق والظنون كلها تكذّبه وتردّه!؟

مَنْ هــؤلاء التــــــائهون     وهجُ الزوابــع والرجومْ
والليـــلُ ينفـضُ فوقَهُـــمْ     من حزنـــه قـلقَ النجومْ
مَن هـؤلاء التــــائهون؟     أفهـــــؤلاء المسلمونْ!؟
أبــــداً تكــــذّبني وتــــر     جمني الحقائقُ والظنونْ

     إن الأمر لعجبٌ حقاً يا قدس!؟؟ وإلا كيف غلبَ اليهودُ المسلمين في حزيران العار، بينما القرائن الظاهرة، تدل جميعاً على استحالة ذلك!؟ ترى أثمة شك في أن السبب هو أنهم لم يكونوا يومَها حقاً مسلمين!؟

     إي والله!.. ما كنا يومها حقاً مسلمين، فقد تبدّلت بنا الحال غير الحال، ساء وضعنا، انحرفت عن السير قافلتُنا، تاه الأدلّاء وحار الهداة فإذا بنا ضائعون، ضائعون بين فكرٍ مستورد، ورأيٍ ضال أهوج يعلو عجيجه، ومبادئَ حمقاء تُدَقُّ لها الطبول، وجاهليةٍ جديدة يُدْعى لها باستمرار وتُحاط بالبهرج والبريق.

     إن عددنا كبير، لكننا ضعفاء، ذلك أن الصادقين من أهل الإيمان باتوا غرباء، وأُلقِيَتْ قيادة الركب إلى دجاجلة وكذبة وفراعين، فكان العار، وكان الشنار، وكان الإسار!. ولن يكون لك يا قدس خلاص إلا إذا قاد الركبَ قوم يؤمنون بالله، ولا يخافون في الحق لومة لائم.
*****

أيتها القدس! (4)

أيتها القدس! (4)

     أيتها القدس الغالية الحزينة!.. أتريدين أن تعرفي سراً من أسرار الهزيمة؟ إن أهل الإيمان كانوا متهمين، والذين يستبقون للموت ويستعذبونه، وتضطرم قلوبهم بالحنين إلى الشهادة صاروا قلة نادرة، خلت منهم الأرض إلا قليلاً.

     انظري جيداً يا قدس!.. في وجوه الهزيمة، إنك سوف ترين وجوهاً وقلوباً خاوية، ونفوساً مهترئة، مسختها الشهوات، وضلّت بها الأهواء، وتفرقت بها السبل، فعادت غريبة حائرة، لا تدري ماذا تفعل، ولا أين تتجه، إنكِ إن نظرتِ إليهم جيداً عرفتِ سراً من أسرار الهزيمة في حزيران بل أكبرَ أسبابها.

     لا تعجبي يا قدس!.. أنْ لم نسقط صرعى قبلَ أن يأسركِ اليهود، وأنْ لمْ نقاتلْ بيتاً بيتاً، وأنْ لم تكن وجوهُنا وقاءً لكِ وفداء، ذلك أننا نسينا فنَّ الموت في سبيل الله، ولم نتعلمْ كيف نصنعُ البطولة، ولم ندرَّب على حب الشهادة.

     وأنّى لنا أن نحميَكِ ونذودَ عنكِ الدخلاء، وقد ضلّ بنا الطريق، وحادت بنا السبيل، وهانت علينا دعوة الحق والنور؟ ومن اعتاد الهوان سَهُلَ عليه كل شيء:

مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهوانُ عليهِ     ما لجــرحٍ بميّـــتٍ إيــــلامُ

     والذي يهون يا قدس!.. يؤول إلى شرّ مآل، ويصير إلى أبشع مصير، تيهٌ وضياع، وضلالٌ وحيرة، وحمى مستباحٌ عاجز، وتبعيةٌ لكل ناعق وعابث وفاجر، وحرصٌ على حياة، أياً كانت هذه الحياة.

     في يوم الأسر يا قدس!.. صدق علينا قول الشاعر إذ كنا موتى قبل الموت:

نحن موتى وشرُّ ما ابتدعَ الطغـ     ـيــانُ موتى عـلى الدروب تسيرُ
نحن موتى وإنْ ذهبنـــا وعدنــا     والبيـــوتُ المزوّقـــــات قبـــورُ
نحن موتى يُسِــــرُّ جارٌ لجـــارٍ     مستريبـاً متى يكون النشـــورُ!؟

     لقد أضعناكِ يوم أضعنا الدين، وخسرناكِ يوم خسرنا صدق الإيمان المتوهج المتحرك في أعماقنا، وفقدناكِ يوم عُطِّلت حدود الله تبارك وتعالى، ولكنْ لا تحسبينا يائسين، معاذَ الله أن نيأس، فأمتنا نجيبةٌ ولود، ولا بد أن تتجاوزَ كل النقائص والسلبيات بإذن الله، وها هي اليوم تصحو بعد نوم، وتنهض بعد غفلة، وتستقيم بعد اعوجاج، وتمتد بعد انحسار. ولا بد أن يطلع الفجر السعيد الذي يعيدُكِ إلى الإسلام والمسلمين، بالرغم من مؤامرات اليهود وتلاميذهم، واستسلام المتخاذلين الذين يحاولون أن يبيعوكِ للعدو، ويُضفون على احتلاله لك صفة قانونية شرعية.
*****

يا قدس! (3)

يا قدس! (3)

     من بعيد قلبي يرف إليك يا قدس ويهفو ويبكي، فأنتِ تسكنين في كل ذرة من ذرات الوجدان المسلم، كيف لا!؟.. وقد كنتِ يوماً قِبْلةً لأمتنا العظيمة، وفي ليلةٍ مباركة متوضئة كنتِ مسرى رسولنا الكريم ﷺ، وفي يوم الفتح المجيد كانت صخرتكِ مدَنَّسة، فطهّرها بردائه الفاروق العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم ذهب إليكِ ليتسلم مفاتيحكِ مظفراً منصوراً، وكانت العصبية الدينية المغلقة الضيقة تغلق أبوابكِ في وجوه المخالفين، فحرّركِ للجميع دين الإسلام بتسامحه ورحمته.

     أنت يا قدس!.. عندنا عظيمة غالية، لكنَّ أغلى منكِ وأعظم أطفالٌ ونسوةٌ وشيوخٌ من حفدة الفاتحين يدوسهم المعتدون، ويذيقونهم النكال ألواناً ونحن مغلوبون مستسلمون.

     كم سفك همجيو الأمس من الصليبيين، وهمجيو اليوم من اليهود حولكِ من دماء المسلمين ظلماً وعتوّاً!.. وكم اعتدوا على أعراض!.. وكم سطوا على مال وأرض ومتاع!.. ما من شجرة حولكِ إلا روتها بالدماء قسوة الظلمة والمغتصبين، وما من أرض إلا وتحتها قبور لأشلاء المنكوبين، وما من حمامة من حمائم السلام غرّدت في رباكِ في ظل راية القرآن إلا هاجرت حزينة مكلومة، ذلك أنها وقد ألفت السعادة في ظلال القرآن لا يمكن لها إلا أن تحزن حزناً عميقاً مدمراً في ظلال إنجيل محرّف، وتوراة مبدّلة.

     من حولكِ سارت بالنور مواكب الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، ومن فوقكِ هبطت ملائكة السماء، ومن أجلكِ سقطت رؤوس الشهداء وهي تهتف "الله أكبر"، مُؤْثِرَةً ما عند الله على كل ما في الدنيا. {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].

يا قدسُ يا أنشـــودةً في فمي     ويا منـــاراً في ذرى الأنْجـمِ
في كلِّ أفقٍ منـــك تسبـــيحةٌ     وكلِّ شبـــــرٍ دفقـــــةٌ من دمِ
وكلِّ روضٍ نفحةٌ من شــذى     وماؤكِ الرقـــراق من زمزمِ
وكلِّ صـــدرٍ زفـــرةٌ حَـــرَّةٌ     وكلِّ خِــــدْرٍ عَفَّـةُ المبســــمِ
تحنو بقـــــــلبٍ خافقٍ بالمُنى     على بريء رفّ كالبــــرعمِ
قد أغمضَ الأجفـانَ في هدأةٍ     وثغــره في الثـــدي لم يفطمِ
مَنْ مزّق الطفـــلَ بلا رحمةٍ     فمات بين الصدر والمعصـمِ
شظيــةٌ عميـــــاء من حـاقـدٍ     ورميةٌ من ســــــاعدٍ مجـرمِ
قد أطلقت هوجــاءَ في غفـلةٍ     وحلكة من ليــــــلنا المظـــلمِ
ما كان للهــامات أن تنحــني     لو كان فينـــا عزةُ المســــلمِ
*****

يا قدس! (2)

يا قدس! (2)

     يا قدس!.. رَمَتكِ أوروبا بفرسانها من حملة الصليب من شتّى البقاع، دنّسوا البر والبحر وأعلوا نيران الأحقاد المدمرة، وفتكوا بالناس فتكاً ذريعاً، ويوم أن اقتحموا أسوارك المنيعة أحدثوا بأهلك مذبحة هائلة جداً قتل فيها سبعون ألفاً من المسلمين، حتى إن خيول الغزاة الحاقدين خاضت حتى رُكَبِها في دماء المذبوحين، وذلك كما جاء في رسائل البشرى بالنصر التي بُعِثت إلى البابا في الفاتيكان..

     فعلوا ذلك يا قدس!.. وهم يتلون كتاباً يزعمون أن من آياته: "مَنْ ضربك على خدك الأيمن فأدِرْ له خدك الأيسر، ومَنْ بعثك ميلاً فاذهبْ معه ميلين، ومن أمسك بطرف عباءتك فدعها له وامضِ"!..

     لكن الأمة المسلمة المنجبة الولود ما لبثت أن قامت تدافع في سبيل الله عن الدين والكرامة والأرض والشرف، وظهر منها مجاهدون أشداء منهم الزنكيَّان العظيمان عماد الين ونور الدين، ومنهم القائد العملاق صلاح الدين الأيوبي الذي دخلك فاتحاً منصوراً بعد أن قصم ظهر الصليبيين في حطين، فكان قمة في التسامح والنبل لا تزال أوروبا حتى يومنا مبهورةً به، فأعادك إلى حوزة الإسلام، وأعلى فيك راية القرآن، وأعاد إلى رحابك الأمن والسلام.

     وكما هلك همجيو الأمس من الصليبيين سيهلك بإذن الله همجيو اليوم من اليهود، وكما ظهر بالأمس صلاح الدين سيظهر في الغد بإذن الله صلاح للدين آخر، وكما عادت القدس إلى الإسلام محرَّرةً من الصليبيين فستعود بإذن الله إلى الإسلام محرَّرةً من اليهود.

القـــدسُ في أفقِ العلى كوكبُ     تشـــعُّ بالنــور فلا تعجـبـــــوا
أيــــامها بالحـــقِّ.. وضّـــاءةٌ     كـــانت بأطرافِ القنا تكتـــبُ
إنْ أطرب القيثـــارُ أسمـاعَنــا     فاللحنُ في أفــقِ الهدى أعذبُ
أو حلّت الأمجاد سـاحَ العــلى     فالمسجـد الأقصى لها أرحـبُ
والمجـــد مذ أشرق في قدسنـا     ما بـــاله في قدسنـــا يغـرب؟
يــا روضــةً كانت لنـا مرتعـاً     وكوثـــراً من فيضـه نشـربُ
وجنـــةً فيــها ربيــــــعُ المنى     في ظلّها أكبــــــادنـا تـــلعـبُ
مذ حلّ في أفيـــــائها غاصبٌ     ما عــــاد فيها بلبــــل يطربُ
مَنْ لي بسيفٍ لا يهابُ الردى     في كف من يزهو به الموكبُ
أو رايةٍ في جحفـــلٍ ظـــــافرٍ     يقوده الفـــــاروق أو مصعبُ
*****

أيتها القدس! (1)

أيتها القدس! (1)

     أيتها القدس الغالية!..

     أود أن أهمس في أذنك ألا تيأسي، فاليأس في الإسلام حرام، ثم إني أود أن أبشركِ أن الأمة المسلمة اليوم على الرغم من كل عيوبها وعجزها وتقصيرها، لا يزال فيها خير كثير، وستكون بإذن الله خير خلف لخير سلف، وها هي اليوم تصحو بعد نوم، تنهض بعد غفلة، تستقيم بعد اعوجاج، تمتد بعد انحسار لتكون قدراً من قدر الله، يُعْلي في الأرض كلمة الإيمان.

     أبشري يا قدس، فلن نخشى اشتداد الظلام، ولن تزل بنا الأقدام إلى وهدة الانحدار وهاوية الضياع. لن يخيفنا اجتماع قوى الشر من هنا وهناك، فلقد عزمنا أن نكون صادقين، أن نضع أيدينا في يد خالقنا، أن نستمسك بحبله المتين، وإذا جاءنا من يخوفنا بجموع الأعداء قلنا له: حسبنا الله ونعم الوكيل.

     مواكب فتية مؤمنة، آمنت بربها فزادها هدى، ستنطلق بإذن الله ملء السهل والجبل، تقتحم الصعاب وتجتاح العقبات، مواكب فتية لن يجد اليأس منفذاً إلى عزائمهم. أخذوا بالحزم وتواصوا بالعزم، واستعانوا بالله، واستهانوا بالحياة. موصولٌ كلال ليلهم بكلال نهارهم، أنضاء عبادة وأطلاح سهر، فرسان في النهار، عبّاد في الليل:

الله يعـــــرفــهم عُبَّـــــــــاد مسجده     والحرب تعرفهم في الروع فرسانا

     تواصوا بالحق، وتعاهدوا على الموت، وأقسموا على الجهاد، وحنّوا إلى الجنة. هم بسمة الأمل، موئل الخير، ومضة الرجاء، بارقة النصر، بشرى الإنقاذ. على أيدي هؤلاء سيكون الخلاص يا قدس، إذ يمضي أحدهم وهو يردد قول خبيب بن عدي حين صلبه أعداء الله من مشركي مكة في التنعيم:

ولسـتُ أبــــالي حينَ أُقتَـــلُ مســلماً     على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
وذلك في ذاتِ الإلــــــه وإنْ يشـــــأْ     يباركْ على أوصـــــالِ شلوٍ مُمـزعِ

     لست أدري يا قدس!.. إنْ كان الواحد من جيلنا سيشهد فيك الصلاة والأقصى حر طليق، لكنني أدري أن النصر قادم وإن تأخر، قادم وإن غلت التضحيات، قادم وإن حاول بعض الانهزاميين الاستسلاميين بيعك للعدو، وصلُّوا في أقصاك وهم يعلمون أنه أسير، لكنهم يتوهمون أنهم أحرار، وغاب عنهم أنهم في ذل نفسي أشد من الأسر المادي، وهزيمة نفسية أشد من الهزيمة العسكرية.

     النصر قام بإذن الله يا قدس!.. بالرغم من كل الصعاب، وبالرغم من كل أشباه الرجال الذين تخلوا عنك للعدو. فذلك هو أمر الله، وأمر الله أصدق من كل الجبناء والمرجفين.. أصدق من اليهود، ومن تلامذة اليهود.
*****

الأكثر مشاهدة