الاثنين، 8 أغسطس 2022

مسرحية في نيويورك

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

مسرحية في نيويورك

     لأحد الكتاب الأمريكان هو (أونيل) مسرحية ذائعة هي (القرد الكثيف الشعر)، ينزل فيها بطلها إلى مدينة نيويورك، وإذا به يعاني من غربة وحشية قاتلة، فكل شيء من حوله مشغول عنه، ليس له وقت ليقول له فيه: مرحباً بك أيها الغريب! من أنت؟ وماذا تريد؟ كل شيء من حوله دوامة من حركة ونشاط وفاعلية لا تهدأ بحال، ولا تكف عن الدوران، وهي خلال ذلك كله تنظم وترتب، وتعد وتدبر، إنها منتجة مفيدة، لكنَّ شيئاً من عطائها الكثير، لا يبدو أنه يهتم بالإنسان، ويُعنى بهمومه، ويخفف من مشكلاته ومتاعبه، ويجعله يشعر أنه إنسان له قيمة وشأن وأهمية.

     هبط بطل المسرحية ميناء نيويورك فأحس أن كل شيء فيها لا يعبأ به، كل شيء لا يريده، كل شيء ليس في حاجة إليه، كل شيء يبصقه كأنه نواة، كأنه ذبابة، مع أنه شيء، مع أنه إنسان، هو الذي صنع نيويورك، فهو الذي يعمل في السفن، وهو الذي يضع الفحم في الفرن، والفرن يطلق البخار، والبخار يدفع السفن بكل ما حملت، وهو لزج كالزيت، وهو شحم كالآلات، وهو كذلك صانع هذه الآلات والتروس، ومع هذا كله يعيش منبوذاً، ويموت منبوذاً.

     كان البطل يدق الأرض بقدميه، يدق الجدران بيديه، يدقها بنظراته كذلك، يبحث عن نظرة مودة وحنان، يفتش عن بسمة ودٍّ صادقة، يأمل أن تمتد إليه يد مواسية حنون، تشجعه وتعطف عليه، وتعينه وتساعده، وتخفف شيئاً من همومه وأحزانه، وتأسو شيئاً من كلومه وجراحاته، لكنَّ رجاءه كله خاب، وأملَه كله صوَّح، وبقيت المدينة الضخمة العملاقة كما هي، لا تعرفه ولا تحبه، ولا تأبه بشأنه في قليل أو كثير، بقيت نوعاً من اللامبالاة الشاهقة، نوعاً من عدم اكتراث يناطح السحاب.

     وماذا عن الناس في المدينة الضخمة؟ أولئك الذين يركبون المترو السريع بضوضائه الشديدة، فينزلون في صمت، ويصعدون في صمت، وعلى وجوههم كآبة قاتمة. يقول عنهم أحد الكتاب الذين زاروا مدينتهم، هو (أنيس منصور): "إنهم لا يختلفون عن أهل أي بلد في الدنيا في ليلة رأس السنة، إلا أنهم يفتعلون الإنسانية، ويفتعلون الطفولة، في حين أنهم في أي بلد آخر، أناس عاديون بلا افتعال، وبلا محاولة كاذبة لأن يتذكروا أنهم كانوا بشراً في قرن من القرون.

     ونمضي مع الكاتب الناقد وهو يحدثنا عن حياة الناس هناك، عن نواديهم الليلية، وأوقات فراغهم وأمانيهم، عن تخمتهم المادية وخوائهم الروحي، عن يأسهم ومللهم، وبحثهم عن الجريمة والشذوذ، عن تسلط حفنة من المرابين اليهود على وجدانهم ونشاطهم وأزِمَّة أمورهم، عن الشبان البائسين الذين يهربون من مجتمعهم هروباً شعورياً أو لا شعورياً، عن أملهم في اكتشاف عالم جديد لا يدرون شيئاً عنه، ورغبتهم في صياغة غدٍ جديد دون أن يعرفوا شيئاً عن صياغته، وشروطها ولوازمها. هم يتوقون لصياغة دنيا جديدة بدلاً عن هذه التي سئموها وملوها ورفضوها، دون أن يفعلوا شيئاً من أجل إيجاد هذا البديل سوى الرفض السلبي العاجز، والأماني الفارغة، والأحلام الأفيونية، والأوهام والخيالات والسمادير.

     يقول الكاتب عن هؤلاء الشبان: "في النوادي يعيش طول الليل، الجيل الجديد، الذي يسمونه الجيل الصارخ أو الجيل الصاخب، بلا فلسفة ولا ثقافة ولا مشكلة ولا أزمة، فالجيل الجديد لا يقرأ، ومعظم هؤلاء الساخطين شبان دون العشرين، ويشربون الشاي أو السجاير ساعات متتالية، ويسمعون إلى موسيقى عاوية داوية، وبعد ذلك يخرجون".

     لم يقل لنا الكاتب الشاهد إلى أين يخرجون؟ لكن من الواضح أنهم يخرجون إلى مجتمعهم، دون أن يكون في أذهانهم أي حل يواجهون به مشكلاتهم إزاءه، كما أنهم يخرجون، وليس بينهم وبينه ولاء يشعرون معه بخيوط من المودة تشدهم إليه، وتجعلهم يتفاهمون معه.

     يخرج الواحد منهم ليكون مثله مثل بطل تلك المسرحية الأمريكية، عندما هبط ميناء نيويورك، فشعر بالغربة الطاحنة تسحقه وتهدد كيانه، وأحس أنه غريب منبوذ فطفق يدق الجدران بيديه، وبنظراته كذلك، دون أن يحظى بشيء يقدر فيه أنه إنسان، إنسان صنع هذه الأشياء الكثيرة المكدسة، والآلات الدائرة باستمرار، والجدران القوية الشامخة، والأبنية العالية التي تناطح السحاب، كل شيء من حوله إنما هو من صنعه المتقن المبدع، لكنه مع ذلك لا يتعرف عليه ولا يحبه، ولا يسنده ولا يعينه، ولا يأبه بشأنه، ويعامله بإهمال شديد، ونوع من اللامبالاة والتجاهل وعدم الاكتراث. مسكين إنسان هذه الحضارة!.. لقد غدا رقيقاً للآلة التي صنعها، وعبداً لمنجزات جهده وذكائه وعنائه.

*****

دولة المسلمين في الأندلس

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

دولة المسلمين في الأندلس

     قال المؤرخ الإنكليزي المشهور "فشر" يصف دولة المسلمين في الأندلس وحضارتهم فيها، وذلك في كتابه عن تاريخ أوروبا في العصور الوسطى:

     دولة قوية راضية، عليها أمراء وخلفاء أمويون يحكمونها حكماً مستنيراً من عاصمة لهم، هي قرطبة. وقد انعقدت مخايل التحضر والنعمة والاستقرار على رأس هذه الدولة، كما امتلأت عاصمتها بالسكان من جميع الأديان. والزائر القادم إلى قرطبة وضواحيها في القرن العاشر الميلادي لا يلبث أن يرى بلداً توافرت فيه دلائل الحكومة المستنيرة المعنيّة أكبر عناية بشؤون الزراعة والتجارة والصناعة، إذ يرى فيما يرى فلّاحين يزرعون الأرز وقصب السكر في أرض تسقيها ترع ونواظم مائية قام على تنسيقها مهندسون من العرب، كما يرى فيما يرى صُنّاعاً يصنعون الآنية من الزجاج والأدوات من العاج والجلد في دقة ورونق وجمال.

     والزائر لا يستطيع إلّا أن يرى كذلك فيما يرى الدواوين الحكومية، والصفوف من الموظّفين الكاتبين، الذين استبدلوا الورق بِرُقوق الغزلان للكتابة، حتى إذا دخل قرطبة نفسها لم يستطع إلّا أن يعجب من أهلها وغلوِّهم الشرقي الذي تطلّب تسع مئة حمّام لغسل أبدانهم، وأربع مئة مسجد لتهذيب أنفسهم، فضلاً عن طرق مرصوفة الحجارة، وساحات ظليلة واسعة ذات عمد، وعقود مسقوفة تتوسّطها نوافير مائية متألقة، وتزينها مئات المصابيح المصنوعة من الفضة، كما تزيّن المسجد القرطبي الكبير بأنوارها المنعكسة على عُمَدِه الرخامية.

     ولم تكن هذه المباهج الخلابة خاصة بالسادة العرب، بل نعمت بها رعية الخليفة الأموي من جاليات المسلمين الذين قدموا مع الفاتحين، وطوائف المسيحيين الذين رضوا بالفتح وبالعيش في ظلال الإسلام آمنين على أن يدفعوا للدولة جزيةً سنويةً معلومة، وأولئك هم المستعربون على قول المصطلح المعاصر، وهم جزء هام من المجتمع الإسباني، ويرجع إليهم الفضل في تسرّب الحضارة العربية، وما امتلأت به هذه الحضارة من علوم اليونانيين إلى أوروبا اللاتينية في العصور الوسطى.

     وقبل أن نحاول التوقف لدى شهادة "فشر" هذه دارسين محلّلين، يَحْسُنُ بنا أن نقدم ملاحظة مهمة، تتصل بشهادة "فشر" وغير "فشر" ممن هُدوا إلى شيء من الإنصاف خلال حديثهم عن الإسلام وأهله وحضارته. هذه الملاحظة هي أن هؤلاء الكُتّاب على الرغم من مواقفهم المشكورة التي نحمدها لهم، ونقر لهم فيها بالفضل والشجاعة معاً، لا يمكن لهم أن يتخلصوا من شوائب كثيرة عالقة في أعمق أعماقهم وأخلادهم، ولا يقدرون على النجاة منها لأنها صارت جزءاً من مكوّناتهم الثقافية ومكوّنات الحضارة الغربية التي ينتسبون إليها.

     وهم في ظلال هذه الشوائب يجانبهم الفهم السليم والتحليل الصادق، عن سوء نية حيناً، وعن حسن نية حيناً آخر، في كثير من الأمور التي تتصل بدراساتهم للإسلام والمسلمين، ولا غرابة أن ترى أحدهم يكون منصفاً، ويشهد شهادات طيّبة، لكنه مع ذلك في مواقف أخرى يهبط ويُسِف.

     لذلك فمن الضروري جداً أن نقرر أنّ نقلنا لشهادة أحدهم، واعترافنا له بالجميل، وشكرنا إياه على الإنصاف، وعلى الشجاعة الأدبية التي يمتلكها؛ لا يعني الموافقة على كل ما كتب، فنحن نتوقّف عند الذي نعتقد أنه وُفِّقَ إلى الحق فيه فحسب، ولا عجب في ذلك؛ فالحكمة ضالة المؤمن.

     وحين نعود إلى "فشر" وشهادته، يحقّ لنا أن نفخر بما فيها من ثناءٍ مُسْتَطاب على الدولة الإسلامية في الأندلس، تلك الدولة الراقية المتحضّرة التي تقوم عليها حكومات مستنيرة تُعْنى بشؤون الناس، وتسهر من أجل راحتهم، وتبذل جهدها من أجل أن تسودهم النعمة والأمن والراحة والاستقرار.

     أما العناية بالأبنية والمساجد والحمامات، والترع والنواظم المائية، ودواوين الحكومة، وما إلى ذلك فقد فصّل فيه "فشر" وأجاد، وهو أمر مشهور مقرر بالنسبة لحضارة الإسلام عموماً، وحضارة الأندلس منها خصوصاً، لكنَّ ثمة أمرين يحسن التوقف عندهما:

- الأول: ما قرره المؤرخ الإنكليزي من امتلاء قرطبة عاصمة الأندلس بالسكّان من جميع الأديان، مما يدل على طبيعة الحرية والعدالة العميقة في الحضارة الإسلامية، فهي لا تعرف الاضطهاد الديني، وإجبار الآخرين على اعتناق الإسلام، بل تضمن لهم أن يعيشوا تحت لوائها بأمن وسلام، وحفظ كامل لجميع حقوقهم، على الرغم من قناعتها وإعلانها أنهم كفّار وهالكون ومن أهل النار.

- الثاني: ما قرره "فشر" أيضاً من أن النعم التي كانت في الأندلس لم تكن حِكْراً لطائفة دون أخرى، بل شملت الأندلسيين جميعاً، الحاكم منهم والمحكوم، المسلم منهم وغير المسلم، مما جعل مجتمعاً عادلاً يقوم وينهض، ويمارس دوره في الحضارة الإنسانية، ويسهم بشكل خاص في نقل الحضارة والعلوم والمعارف إلى أوروبا اللاتينية، من خلال مساجد الأندلس ومعاهدها، التي كانت خلايا حيّة، تزخر بشتّى أنواع الثقافات والمعارف البشرية. إن للحضارة الأندلسية المسلمة، يداً كريمةً معطاء، على البشرية جميعها، وفي شتى الميادين: لقد كانت شعلة هداية تنقل كلمة الحق للحيارى، وتنير الدروب للضالين، وكانت منارةً من منارات الكرامة أرسَتْ للإنسان حقوقه وكرامته، وكانت خليةَ نحل، تعجّ بشتى ألوان النشاط البشري النافع البناء، وكانت مثابةً للحق والحرية والمساواة، وكانت موئلاً ومعملاً للرقي والتقدم والنهوض، وكل ما من شأنه إسعاد الإنسان.

*****

من علماء أوروبا الذين تعلموا في الأندلس

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

من علماء أوروبا الذين تعلموا في الأندلس

     يروي التاريخ أن ممن درس في قرطبة وتخرج على أيدي علمائها المسلمين "شانجة" ملك "ليون" و"أستوريا" في شمال إسبانيا.

     ومنهم "هرمان" الكسيح ابن أمير "والماسيا" الذي نقل مآثر الحضارة الإسلامية في ألمانيا ودول البلطيق عن الطلاب الأوروبيين العائدين من الأندلس، والذين كانوا يمرون بدير "ريخناو" الذي يمكث فيه "هرمان"، ويقضون فيه أياماً عديدة قبل تفرقهم إلى أهليهم. وعن هؤلاء نقل "هرمان" كل ما جلبوه من الآلات الفلكية العربية، وفي مقدمتها الإسطرلاب الذي صنع أول واحد منه في أوروبا على الأسس العربية.

     ومن المعاهد الطبية في مدن إشبيلية وغيرها من حواضر الأندلس تخرج ما لا يقل عن عشرين طبيباً أوروبياً كان من بينهم الراهب الإنكليزي "سبيرومان" الذي اتخذه البابا "يوس" الثالث طبيباً خاصاً له.

     ولقد ظلت الأندلس تؤدي دورها الفعال هذا في نقل الحضارة الإسلامية إلى أوروبا حتى بعد أن قُضِي على الحكم العربي فيها، وأُجهِز على المسلمين تقتيلاً وتجهيلاً وتنصيراً في عصر محاكم التفتيش الفظيعة.

     فلقد تفرق فطاحل العلماء من المسلمين الأندلسيين في مختلف الولايات الإسبانية، وفي فرنسا وإيطاليا وغيرها يحملون معهم علومهم وفنونهم التي لم يضنُّوا بها حتى على الكفار الذين أنزلوا بهم وبأهليهم سوء العذاب مما كان له أثره في ازدهار حركة البعث الأوروبي، ونشوء الحضارة الأوروبية الراهنة.

*****

طليطلة مشكاة الحضارة الإسلامية في الأندلس وأوروبا

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

طليطلة مشكاة الحضارة الإسلامية في الأندلس وأوروبا

     يمكن القول: إن "طليطلة" كانت أكبر مركز لترجمة الثقافة والعلوم والمعارف الإسلامية إلى لغات الثقافة الأوروبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، وخاصة في أواخر القرن الثالث عشر حين ولي العرش الإسباني "ألفونسو العاشر" الذي لُقب بالعالِم أو الحكيم (1284م)، وقد أراد هذا الملك المستنير للغة القشتالية أن تصبح لغة عالمية، فأحلها محل اللغة اللاتينية، ونظم أعمال الترجمة، وعني فيها بوضع المراجعين والمحققين على رأس كل جماعة تنهض بهذا العمل.

     بل إن الترجمة اجتذبت إليها بعض العلماء الأوروبيين الآخرين مثل جيرار الكريوني، وهو من إيطاليا، وقد قصد طليطلة وعُني خاصة بالمؤلفات العلمية فترجم في الطب والفلك والكيمياء والرياضيات، وكان إلى جانبه "جند سالينوس" الذي عُني بالناحية الفلسفية، وبتلخيص بعض الكتب العربية في هذا المجال.

     وينبغي ألا يغيب عن البال أن الترجمة التي تمّت في طليطلة في القرن الثاني عشر، كانت تتم على مقربة من ابن رشد، وفي الوقت الذي كان يضع فيه شروحه ومؤلفاته في إشبيلية وقرطبة. يضاف إلى ذلك أن المدرسة التي أسست في طليطلة لتعليم العربية والعبرية تخرج منها ريمون مارثان الدومنكاني (القرن الميلادي الثالث عشر) الذي كان على اتصال بتوماس الأكويني.

     ولا ريب أن بقاء طليطلة على هذا الوضع طيلة ثلاثة قرون، أي حتى سقوط غرناطة وخروج المسلمين منها -وهي آخر معاقلهم في إسبانيا- كان له الأثر الحاسم في نقل العلوم والمعارف الإسلامية إلى الإسبان أولاً، وإلى الأوروبيين من بعدهم ثانياً. ذلك أن الطلاب كانوا يفدون إلى طليطلة من سائر الأصقاع الأوروبية، وقد امتد هذا الأثر ووصل إلى أمريكا التي اكتشفها الإسبان عام (1492م).

     وينبغي على الدارس ألا ينسى ها هنا أن ثمة صلة وثيقة بين تلك الحركة الهائلة في الترجمة وبين المخططات الصليبية التي غيرت في طريقتها بعد فشل الحروب الصليبية في بلاد الشام، ومما يذكر في هذا المجال أن ريمون رول استطاع بعد تلك الحركة الهائلة في ترجمة المعارف الإسلامية إلى القشتالية واللاتينية بقليل عام (1316م) أن يقرر مبدأ تخصيص كرسيٍّ للغات الأجنبية في الجامعات الأوروبية، وقد كان هذا الرجل أول أوروبي نادى بعد فشل الحروب الصليبية بإرسال البعثات التبشيرية.

     لقد باتت قضيةً لا تحتاج إلى جدال أن تقرر أن الأندلس الإسلامية لعبت دوراً كبيراً في نقل المعارف والعلوم والفنون الإسلامية إلى أوروبا، مما كان له أثره البارز في نهضة أوروبا، وانتقالها إلى مطالع العصور الحديثة.

     لكن الأمر الذي قد يكون بحاجة إلى شيء من التوضيح هو أن التأثير الحضاري للأندلس الإسلامية لم ينتهِ بسقوط آخر المعاقل الإسلامية في شبه الجزيرة الإيبيرية، بل استمر بعد ذلك فترة ليست قصيرة لعلها تتجاوز القرن من الزمان. والسبب في ذلك يعود إلى الجماعات الكبيرة من المسلمين التي بقيت في البلاد تحت السلطة الإسبانية المسيحية، والتي مارست دوراً مبدعاً إيجابياً على الرغم من كل قوانين الاضطهاد، والملاحقة والبطش والتحريق التي اتخذتها الدولة كنيسةً وسلطة بحقهم.

     ويرى بعض الباحثين أن الشعب المسلم هو الذي كان يضطلع بالقسط الأكبر من النشاط الحيوي في إسبانيا من زراعة وصناعة وتجارة، مما دعا كثيراً من النبلاء والإقطاعيين النصارى إلى الاجتهاد في الحفاظ على مَنْ تحت أيديهم من المسلمين، وإلغاء القوانين المتوالية التي كانت تصدر لطردهم من إسبانيا أو تأجيلها على الأقل.

     ولقد كان هؤلاء المسلمون الذين عُرفوا بـ"الموريسكيين" أو المدجّنين، وهم الذين ظلوا في إسبانيا بعد سقوط الحكم الإسلامي فيها، وأجبروا على التنصّر، شعباً مبدعاً نشيطاً استطاع بالرغم من قسوة الظروف المحيطة به أن يتابع مسيرته الحضارية المعطاءة، ويوالي دوره الإيجابي البنّاء، ويكفي لمعرفة شراسة الظروف المحيطة به؛ أن تعلم أن بعضهم يرى أنه لا توجد أمة من أمم الأرض ولا شعب من شعوبها امتُحِنَ بمثل ما امتُحِنَ به أولئك البائسون.

*****

لغة "الألخماديو" الإسلامية في الأندلس

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

لغة "الألخماديو" الإسلامية في الأندلس

     وقد تمثل الموريسيكيون أو المسلمون المدجَّنون، وهم المسلمون الذين ظلوا في الأندلس بعد سقوط الحكم الإسلامي فيها، وأجبروا على التنصُّر؛ اللغة والثقافة الإسبانيتين اللتين فرضهما عليهم الحكم الإسباني المسيحي المتنصر. وقد كان هؤلاء إلى جانب تمثلهم الثقافي المشار إليه على ولاء عميق في سرائرهم لدينهم وتقاليدهم الإسلامية العريقة، وقد ساهموا في نقل كثير من ثمرات فكرهم وتراثهم إلى الفكر الإسباني أولاً، ثم إلى الفكر الأوربي ثانياً.

     وفي محاولة شاقة منهم تمليها عليهم ظروفهم الشاقة، لجؤوا إلى تكوين لغة سرية خاصة بهم هي لغة "الألخماديو"، وهي لغة كلماتها إسبانية وحروفها عربية مما جعلها فيما بعد تستحيل إلى لغز من الألغاز. وقد كان الكشف عن أدب هؤلاء الذي كُتِبَ بتلك اللغة من أهم أحداث الأدب الإسباني في القرن التاسع عشر.

     وقد وُجِدَتْ في هذا الأدب كما يقول بعض الباحثين: حلقة جديدة من حلقات الاتصال الوثيقة بين الفكر العربي من ناحية، والإسباني والأوربي من ناحية أخرى، ويزيد من أهمية هذا الأدب وخطورته أنه يمثل آخر حلقات هذا الاتصال في فترة بدأت الحضارة الأوربية فيها تأخذ سبيلها نحو الاكتمال والنضوج.

     ويفترض على ضوء بعض الملاحظات والاحتمالات والمحاكمات المنطقية أن التأثير الثقافي لهؤلاء الموريسيكيين في الثقافة الإسبانية كان بالغاً، ويبدو أن ولاءهم لدينهم وتراثهم وأصالتهم كان كبيراً جداً بالرغم من ضراوة الإسبان المنتصرين حكومةً وكنيسة، وقسوتهم الهائلة في معاملة أولئك المغلوبين. ولعل مما يدل على تأثير هؤلاء المغلوبين عسكرياً، الغالبين حضارياً وثقافياً، في الثقافة الإسبانية أن الكنيسة لم تصدقهم في تنصرهم الظاهر الذي فُرِضَ عليهم بالإكراه، واقتنعت في نهاية المطاف وبعد سلسلة من الإجراءات والقوانين أن هذا الشعب لا يُرجى أن يمنح النصرانية ولاءه بصدق، فسعَتْ حتى أصدرت الدولة قرارات طردهم النهائي في المدة (1605-1614م)، فخرجت منهم أعداد كبيرة إلى شمال أفريقيا، ووصلت مجموعات منهم إلى المشرق، فاستقرت في مصر والشام.

*****

معابر الحضارة الإسلامية إلى أوروبا

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

معابر الحضارة الإسلامية إلى أوروبا

     حين يتأمل الدارس في دور الأندلس كمعبر من معابر الحضارة الإسلامية إلى أوروبا؛ يمكن له أن يلاحظ أن تأثير هذا المعبر لم يكن خاضعاً باضطراد للموقف العسكري والسياسي الذي يكون عليه المسلمون، يقوى بقوته، ويضعف بضعفه. ولقد بات أمراً مفروغاً منه ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن الأندلس الإسلامية كان لها حتى في عصور ضعفها واضمحلالها نفوذ هائل على إسبانيا المسيحية، ولم يمنع تغير ميزان القوى لصالح الممالك النصرانية من استمرار هذه الممالك في إسبانيا والبرتغال في الاستفادة من ثقافة المسلمين الأندلسيين، والاضطلاع بِدَوْرِ حَمْلِ عناصرها، ونقلها إلى مختلف بلدان أوروبا.

     بل إن تغير ذلك الميزان لصالح القوى النصرانية؛ كان يتيح أحياناً الفرصة لتأثر أعظم وإفادة أكبر، ولهذا كانت مدينة طليطلة دون نزاع أكبر مركز انتقلت منه الثقافة الإسلامية و"العلم العربي" على حد تعبير العالم الإيطالي "ألدو ميلي" إلى الغرب، لأنها كانت أول مدينة أندلسية سقطت في أيدي "ألفونسو السادس" ملك قشتالة، عام 477هـ/ 1085م.

     ولم تفقد هذه المدينة صبغتها العربية الإسلامية في هذا السقوط مباشرة، بل تأخر ذلك فترة طويلة. وقد بدأت حركة الإحياء العلمية في بلاط "ألفونسو السادس" نفسه، واستمرت في عهد "ألفونسو السابع"، وكان بلاط هؤلاء الملوك مركزاً ثقافياً يجتمع في جنباته علماء المسلمين والمسيحيين واليهود. وكانت جهود هؤلاء العلماء منصبة على الترجمة من اللغة العربية.. لغة الثقافة والعلم والحضارة؛ إلى اللغة القشتالية أولاً، ثم إلى اللغة اللاتينية، قبل أن تصبح القشتالية لغة علمية تصلح لما تتسع له اللغة اللاتينية، التي لم تختفِ في طليطلة حتى قبل سقوطها في أيدي النصارى، وعلى الرغم من استعمال اللغة العربية "في الأعمال الرسمية أو على ألسنة العلماء" كما يقول "ألدو ميلي".

     يمكن للمرء أن يقرر بأن التأثير الحضاري للإسلام والمسلمين في البلاد الأوروبية قد استمر قرابة تسعة قرون، هي مدة الحكم الإسلامي للأندلس، مضافة إليه الفترة التي أعقبت سقوط هذا الحكم، والتي عاش فيها من بقي من المسلمين في الأندلس تحت الحكم الإسباني، وتحت وطأة العسف والتنصير الإجباري، والتي استمرت حتى أوائل القرن السابع عشر الميلادي حين صدرت أوامر نفيهم النهائية.

     وهذا التأثير -وإن خضع لقانون المد والجزر، واختلفت درجته تبعاً للظروف العسكرية والسياسية- ظل حياً طيلة تلك القرون، وبعضها -فحسب- كافٍ في إثبات ما ذهب إليه أو أجمع عليه الباحثون ومؤرخو الاجتماع المسلمون والغربيون على حد سواء؛ من أهمية ذلك التأثير وعمقه وقوته. وإذا كانت الأندلس أهم أقنية هذا التأثير ومعابره، فإن الذي يليها في الأهمية صقلية وبالرمو، وأخيراً يأتي دور الحروب الصليبية التي تشكل القناة الثالثة من أقنية التأثير من حيث أهميتها.

     وقد كتب العالم الإيطالي "ألدو ميلي" عن حركة النقل العلمي في شبه جزيرة الأندلس يقول: أما في شبه جزيرة الأندلس فقد كانت حركة نقل العلم العربي إلى العالم المسيحي أعمق تغلغلاً وأشد قوة، ودامت مدة أطول عهداً من كل مكان آخر، كما تحقق هناك التطور الذي كان لا بد أن يعتمد عليه تجديد العلم الأوروبي.

     ويقول عن دور صقلية: إذا كان سلطان المسلمين في صقلية قد اتسم بالتسامح إلى حد بعيد كما هي العادة، فإن سلطان الملوك النورمانديين -وهم الذين حكموا صقلية بعد خروجها من أيدي المسلمين- لم يكن أقل من ذلك على عكس ما جرت به عادة المسيحيين. ولقد كان هؤلاء الملوك، الذين احتفظ قسم كبير من الأهلين في ظلهم بعقيدة الإسلام، حُماةً عظاماً للعلوم؛ ولا سيما روجر الثاني. ثم يقول: وقد استمرت هذه الحالة المواتية إلى أقصى حد لنمو حضارة لامعة تحت حكم الملك العظيم والإمبراطور فردريك الثاني.

     ويوازن كثير من الباحثين بين أهمية تلك الأقنية الثلاثة: الأندلس، وصقلية وبالرمو، والحروب الصليبية، ولعل الصواب أن يقال: إن الحروب الصليبية كانت مجرد حافز ومنبِّه، أما الأثر الأقوى فكان للأندلس أولاً، ولصقلية وبالرمو ثانياً.

***

المسلم والمسجد الجامع في قرطبة

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

المسلم والمسجد الجامع في قرطبة

     إذا كان بين المسلم وبين المساجد العظيمة نسب في الإيمان والحنان، وألفة روحية تجمعهما إلى بعضهما فإن المسجد الجامع بقرطبة من أهم المساجد في العالم بعد الحرمين الشريفين والأقصى المبارك التي لها في القلب مكانة خاصة وحب عميق.

     إن المسجد الجامع في قرطبة من أكرم المساجد على قلب المسلم، وأقربها إلى وجدانه، وأحبها إليه، وبينهما تاريخ مشترك، ومودة قوية ضاربة في الأعماق، وصفات لا يخطئ المرء أن يراها عند كل منهما على السواء.

     أنت أيها المسجد الخالد مثال حي لفاعلية المسلم وحيويته وإيمانه ونشاطه وتفوقه وسبقه وجده ودأبه، فقد قطع إلى قرطبة المفاوز والجبال، والسهول والبحار؛ فاتحاً غالباً منصوراً حتى شارك هناك منارة للإيمان، ومثابة للنور والعرفان، وتحفة للفن والذوق الرفيع.

     إن هذا المسلم الذي رفع منك العماد، وبناك بالعز والغلبة والظهور خالد بخلود رسالة الإسلام المحفوظة، وأمته التي قامت على أمر الله تعالى هادية مهدية، داعية للخير، محذرة من الشر، أمة تستعصي بإذن ربها على الفناء، فهي حارسة لشعلة الإيمان، ساهرة على حماية مواكب الحق، مبلغة في أذانها العظيم تلك الحقائق والأسس الإيمانية الكبرى التي جاء بها النبيون الكرام، وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام.

     وقد قضى الله تعالى بخلودها وبقائها فأنى لها الزوال!؟ وكيف تنقرض هذه الأمة التي حملت هذه الأمانة وتكلفت بتبليغ هذه الرسالة!؟ نعم؛ إن هذه الأمة قد تخرج عن جادة الصواب، وقد تفشو فيها دعوات جاهلية تحاول أن تمسخ شخصيتها وهويتها، وقد تهزم مرة ومرات لكنها لا بد أن تعود في نهاية المطاف إلى رشدها، وتتمسك بإيمانها، فتعود إلى دورها الريادي لتحمل الأمانة من جديد، وتبلغ الرسالة مرة أخرى.

     أیها المسجد العظيم!.. إن المسلم الذي بناك في تلك البقعة النائية عن ديار الإسلام الأولى ومهده ومطلعه قد انتدب نفسه لحمل رسالة الحق، والعمل بدأب وإصرار لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن ليل الجاهلية إلى فجر الإسلام، وأنت إذ تقوم في قلب إسبانيا النائية عن جزيرة العرب إنما تمثل المسلم الذي لا تعرف أرضه الحدود، ولا يعترف بالفوارق الوطنية والحدود الجغرافية الضيقة، ولا يُقِر أفُقُه الواسع تقسيم الناس حسب الأصقاع والثغور واللغات والألوان.

     لقد وسعَتْ عاطفته المؤمنة، ورسالته المسلمة، ودولته الممتدة، وعزيمته الغالبة الشماء؛ الشرقَ والغرب، فليس الفرات ودجلة في الشام والعراق، والدانوب في أوروبا، والنيل في مصر، والتاج في طليطلة، والوادي الكبير في قرطبة؛ إلا موجة صغيرة في بحره الواسع ومحيطه الأعظم، وسعّتْ كذلك كل الأمم والأجناس والعادات والتقاليد والألوان واللغات والأزياء والموروثات الطيبة وصهرتها في بوتقة الإيمان العظيم، لتخرج من ذلك أنبل دولة شرفت بها الإنسانية وعظمت، وأكرم مجتمع عرفه تاريخ البشر، وأصدق حضارة طلعت عليها الشمس، وخير أمة أخرجت للناس.

     أیها المسجد العظيم!.. إن الغيب سر من أسرار الخالق جل شأنه، فلا يدري أحد متى تعود إلى أهلك وذويك!؟ لكننا الآن في عصر يقظة إسلامية هادية طيبة مباركة، وعسى أن يكون من بركات هذه اليقظة أن تعود مجدداً للإسلام، فيصدح فيك الأذان، ويرتل القرآن، وتقام الجُمع والجماعات الحسان.

*****

عبقرية البناء في مسجد قرطبة

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

عبقرية البناء في مسجد قرطبة

     ومسجد قرطبة هو المسجد الوحيد في أرض الإسلام الذي اعتمد على فكرة العقود المزدوجة، التي لا تجد واحداً من بينها يزيد قطره على خمسة وعشرين سنتيمتراً، وتنهي الأعمدة بعقود، وعلى رأس العمود قاعدة جديدة أقام عليها المعماري الفنان عموداً آخر، وتتشابك الأعمدة بعقود هي غاية في الدقة والرشاقة والذوق.

     فإذا نظر المرء إلى ذلك رأى نفسه في حديقة من حدائق الإيمان، كأن الأعمدة أشجار، والعقود فروع أثقلتها الثمار، أو كأنها نافورات تجمد ماؤها. وتمتد هذه الحديقة وتتسع، ويخيَّل إليك أنها تخطت البحار والجبال والصحارى حتى اتصلت بمساجد الشرق، في مصر والشام والجزيرة العربية.

     والمحراب آية رائعة من آيات الفن، وهو عبارة عن حجرة صغيرة، أو مسجد صغير سقفه من قطعة واحدة من الحجر على هيئة صدفة، وفوق بلاطة المحراب والبلاطتين المحيطتين بهما عن يمين وشمال ثلاث قباب صغيرة هي الذروة روعة وجمالاً ودقة فن.

     واستخدام الضوء كان بنسب تتوازن مع ما يدخل من الأبواب.. وهناك تحت القباب كانت قراءة القرآن، نور القلب تحت نور السماء، ونور السماء يتدفق على الأيدي المتوضئة.. نور القلوب ونور الشمس، نور البصيرة ونور البصائر.. نور الإيمان الرباني، ونور المؤمنين الربانيين، نور على نور.

     وفي الجزء الشمالي من المسجد صحن مكشوف تغطيه أشجار البرتقال، فإذا أسعدتك المنى فزرت المسجد، وكنتَ ناظراً إلى الخارج رأيت التداخل بين الأعمدة الرشيقة وبين أشجار الحديقة. وثمة اتجاه لدى بعض الإسبان -مسؤولين وغير مسؤولين- يرمي إلى نقل الكاتدرائية التي أقحمت على المسجد إقحاماً يؤذي العين، وينبو على الذوق، ويفسد سيمفونية الجمال المتكاملة في المعمار العام للمسجد، إلى مكان آخر مجاور، وإعادة المسجد إلى صورته التي كان عليها من قبل، وقد لقي هذا الاتجاه قبولاً طيباً، فالمسجد في كماله واكتماله عمل عبقري ندر أن يجود بمثله الزمان، حتى إنه بوسعك أن تقول: إن الذين يفدون إلى قرطبة إنما يفدون أساساً لزيارة المسجد، بل إن بوسعك أن تقول: إن قرطبة نفسها هي ضاحية للمسجد.

*****

مسجد قرطبة العظيم درة العمارة الإسلامية

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

مسجد قرطبة العظيم درة العمارة الإسلامية

     مسجد قرطبة العظيم، درة في جبين العمارة الإسلامية، وضع عبد الرحمن الداخل "صقر قريش" القائد العبقري، أول حجر فيه عام 780م، أما آخِر حجر وضع فيه فكان على رأس الألف الأولى الميلادية. قرنان وربع القرن من عمر الزمان، والعمل جارٍ في استكمال عمل فني ممتاز، تشعر حين تراه كأن المعماريين الذي أسهموا فيه عبر هذا الزمن الطويل، كانوا فريقاً واحداً يقوده عقل واحد.

     والراجح أن المسجد بُني على أرض عذراء، بدأ قسمه الأول في عهد عبد الرحمن الداخل، وجاءت توسعته الثانية في عهد عبد الرحمن الأوسط، أما الثالثة فقد جاءت في عهد عبد الرحمن الثالث وولده الحَكم الثاني، وهذه التوسعة الثالثة هي قمة عالية من قمم الفن الإسلامي وصل بها المحراب إلى ضفة الوادي الكبير وهو نهر قرطبة، وكأن مُلك بني أمية والمسجد كانا على موعد، فبعد هذه التوسعة بدأ الضعف في الدولة، وفي توسعة المسجد معاً.

     وجاءت التوسعة الأخيرة على يد الحاجب المنصور بن أبي عامر، ولم يكن أمامه إلا التوسع شرقاً على طول المسجد... الذي ظل عامراً بالصلاة والقضاء، وتدارس العلم والأدب، ومنارة للمعرفة والهداية، ومثابة للإيمان والتقوى، حتى اليوم الحزين، يوم سقوط قرطبة عام (1236م) حين خرج الإسلام والمسلمون من قرطبة، وتركوا المسجد يلقى صروف الزمان، وحيداً بلا حرسٍ ولا أعوان، صامتاً بلا قرآنٍ يُتلى، ولا أذانٍ يُرفع، سجيناً لا يُسمح له حتى بأن يُزار.

     وتطورت الأمور إلى الأسوأ، فحُوِّلَ جزء من المسجد تبلغ مساحته نحو 15% من مساحة المسجد الإجمالية إلى كاتدرائية، وحُوِّلَتْ مئذنة المسجد إلى برج للناقوس، ومن أجل إتمام ذلك أزيل ثمانون عموداً وقوساً وما فوقها من سقف، وأغلِقت أبواب كانت مفتوحة تدخل قدراً من الضوء أراده المهندس الفنان الذي صمم المسجد.

     ولم يكن التداخل المعماري محل رضا حتى الذين أمروا به، وجاء غير متناسب مع الوحدة الهندسية للبناء والحلول المعمارية التي ابتكرها العقل الذي ظل مسيطراً على البناء أكثر من قرنين حتى أتمه بهذه الصورة العبقرية التي لم تتكرر، لذلك لا غرابة أن تسمع أصواتاً من بعض الإسبان أنفسهم، تظهر بين الحين والآخر داعيةً إلى إزالة الكاتدرائية وإعادة المسجد إلى حالته الأولى.

     كانت لفتة مشكورة من المسؤولين في قرطبة أن جعلوا من برنامج المؤتمر الإسلامي المسيحي العالمي الأول (10–15 أيلول 1974م) أداء صلاة الجمعة في جامع قرطبة الكبير. ووقف المسؤولون الإسبان ظهر يوم الجمعة (26 شعبان 1394هـ/ 13 أيلول 1974م)، ليستقبلوا الوفود المسلمة؛ وهي تدخل إلى المسجد لتؤدي فيه صلاة الجمعة.

     في ضحى اليوم المذكور هبطت في مطار قرطبة طائرة قادمة من مدريد تحمل سفراء البلدان الإسلامية في إسبانيا، وهبطت طائرات قادمة من أقطار المغرب العربي تحمل صفوة من علماء تلك البلدان، والتقى الجميع في المسجد في المناسبة التاريخية تنتظمهم صفوف الصلاة، وينظر إليهم الناس في دهشة، فقد جاؤوا ليشهدوا هذا المشهد الغريب، وتوافدوا ليُشبعوا فضولهم حوله، ذلك أن أمر الصلاة كان قد ذاع.

     وتمر العين بصفوف المصلين الذين لم يشهد مثلهم المسجد الحزين الأسير منذ قرون طوال عباءات من المشرق، وبرانس من المغرب، رؤوس حاسرة، وعمائم ولحى بيضاء فيها جلال المشيب؛ كهول مكتحلون، وشباب في زهرة العمر، وكان صوت أحد القراء يرتفع بالقرآن الكريم، والساجدون الراكعون عن اليمين وعن الشمال.

     كنت ترى الدموع، وتسمع النشيج، تطلقه روعة الذكرى، وجلال الموقف، ومرارة الخسارة التي حلت بالمسلمين بخسارتهم للأندلس، وانطوى كل ضيف من المصلّين في ذلك اليوم المشهود على نفسه غارقاً في الذكرى الحزينة، والواقع الحاضر، والمستقبل المرجو؛ ترى أيعود المسجد لأهله وذويه ذات يوم!؟

     وتمتد الأعين الدامعة إلى الآيات الصامتة المنقوشة على جدران المسجد والمحراب والتي ظلت عصيّةً على البلى والفناء لتقرأ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43].

     لقد ظلَّت هذه الآيات صامتة على الجدران ثمانية قرون حتى صافحتها عيون المصلّين وأرواحهم في أول صلاة جمعة منذ أن خسر المسلمون المسجد وقرطبة والأندلس كلها. وارتفع صوت الأذان: "الله أكبر... الله أكبر"، وازداد معه الحزن والبكاء، وتذكر الحشد الأذان الأول، أذان بلال في المدينة المنورة، وكيف حملته القلوب والأيدي والألسنة المؤمنة عبر الصحاري والجبال والبحار، حتى شرَّقَ وغرَّب، ووصل من بين ما وصل إليه جامع قرطبة العظيم، وظل يتردد فيه قروناً حتى توقف يوم الأسر الحزين.

*****

مشاعر جامع قرطبة نحو المسلمين، وماذا قال إقبال؟

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

مشاعر جامع قرطبة نحو المسلمين

وماذا قال إقبال؟

     كانت لفتةً مشكورة أنْ سمح المسؤولون الإسبان في قرطبة لأعضاء الوفد الإسلامي لأحد المؤتمرات هناك بأداء صلاة الجمعة في مسجد قرطبة الجامع، ذي الشهرة الواسعة في الإيمان والعلوم، وفي البناء الرائع الشامخ، فقامت الجمعة في ذلك الجامع العظيم للمرة الأولى بعد انقطاع متصل استمر حوالي قرون ثمانية.

     وشهدت جدرانه ومنائره، وأرضه وجنباته، وأَفْنِيته وأبهاؤه، القرآن الكريم يُتلى، والأذان يعلو، والخطبة تجهر، والمصلون يركعون ويسجدون، وهو مشهدٌ لم يُعرف قط منذ أن سقطت قرطبة في يد الإسبان، وحُوِّلَ مسجدها الجامع إلى كاتدرائية.

     ترى كيف استقبلتَ ذلك كله أيها الجامع العظيم؟ لكأن جنباتك جميعاً في غاية الفرح والسرور، لكأن منائرك العالية الضاربة في الفضاء قد امتلكها فخارٌ جديد، واعتزازٌ باذخ، لكأن أرضك الحزينة التي طال عهدها بالساجدين الراكعين كادت تبكي من الفرحة التي ملكت عليها كل شيء، لكأن المنبر الحزين الأسير، فرح مستبشر بهذه المناسبة الفذة النادرة، يضوع عطراً وهناءً وسعادة، ويحنو على الخطيب، يُسِرُّ في أذنيه: أنْ مرحباً بك أيها الغالي الذي طال غيابه!.. وعسى ألا تكون خطبتك هذه آخر العهد، وعسى أن تسعى وإخوتُك المسلمون جميعاً لإنقاذي من الغربة الموحشة، وفكاكي من الأسر الذي طال، لأعود إليكم، وتعودوا إليَّ، فيتصل ما انقطع من حبال المودة، ويخضرّ ما صوّح من قديم الوصل، وتتوالى الجُمَعُ والجماعات الحسان، وتزدحم الصفوف المؤمنة، وتعلو الأصوات بالقرآن، ويرتفع عالياً مستمراً صوت بلال بالأذان.

     يا أندلس الإيمان والإسلام!.. يا أرض العطر والألق والجمال!.. يا موئل الأبطال الكرام والرجال الشجعان!.. أما اشتاقت أجواؤك إلى الأذان من جديد!؟ أما حننت إلى المسلمين النجب الذين عبروا إليك مضيق طارق، وجعلوا بلادك الخضراء الجميلة أرضاً للإسلام، تعلو فيها كلمته، وترفرف رايته!؟ وشادوا فيك حضارة زاهرة رائعة شهد بها كثير من المنصفين من غير المسلمين، شهدوا بعظمتها وأصالتها، وسموّها وإنسانيتها، والدور الخالد الذي أدّته في تاريخ البشرية حين أسهمتْ في نقل أوربا من أوحال الجهل والتخلّف والانحطاط إلى مطالع منظمة متعلمة متمدنة، إذا كان أبناؤها يفدون لتلقي العلوم والمعارف في المعاهد والجامعات الأندلسية المسلمة وفي طليعتها جامع قرطبة العظيم؟

     يا جامع قرطبة العظيم!.. إن يكنْ فيك شوق وقلق، وحرقة وأمل، ورغبة في غدٍ مشرق، فاعلمْ أن في الأمة المسلمة اليوم مثلَ الذي فيك. إن روح الأمة المسلمة مضطربة قلقة، جياشة موّارة، تطلب انتفاضة جديدة، يتخلص فيه المسلمون من سلبياتهم، ويعودوا حقاً إلى إسلامهم، ويكونوا القوة الجديدة التي تحمي الحضارة البشرية من الدمار، إذ يتولون قيادتها صَوْبَ كلِّ ما هو حقٌّ وصدقٌ وفضيلةٌ ونفع، ورشدٌ وهدى، بدلاً من قيادتها الحالية التي تسوقها نحو الشقاء، ولكنْ متى هذه الانتفاضة؟ إنها سر من أسرار الله تعالى لا ندري متى يكون، وإنْ كنا بحدوثها موقنين أشد اليقين، وها هي ذي بشائرها تطالعنا بين الحين والحين، والزمن دوّار، والعالم يتمخض بحوادث جسام:

والليالي من الزمانِ حُبالى     مثقـــلاتٌ يَلِدْنَ كلَّ عجيبِ

     وأنت يا شاطئ الوادي الكبير!.. يا نهر قرطبة الجميل!.. لعلك مشوق إلى من يتوضّأ من مائك ليصلي في الجامع الكبير، كما صلى أهالي قرطبة فيه حوالي خمسة قرون بعد أن عادوا من مياهك متوضئين.

     مَنْ يدري!؟ لعل أملك يتحقق من جديد، وإليك هذه البشرى التي يزفها إليك الشاعر العبقري محمد إقبال إذ يقول:

     "أيها النهر العزيز، إنَّ على شاطئك رجلاً يرى حلماً لذيذاً، يرى في مرآة المستقبل عصراً لا يزال في طيات الغيب، يرى عصراً قد بدت تباشيره، وظهرت طلائعه لعينه، ولكنها لا تزال محجوبة عن أعين الناس، ولو كشفتُ الغطاء عن وجه هذا العالم الجديد، وبحتُ بما في صدري من أفكار وأسرار لشقَّ ذلك على أوربا وفقدت رشدها وجنّ جنونها".

     أتدري ما الحلم الذي يتحدث عنه إقبال!؟ إنه الغد المأمول أن تنتزع فيه الأمة المسلمة قيادة الحضارة من أوروبا المفلسة الضالة.

     وبعد، فإن تكن الأندلس، وجامع قرطبة العظيم من أهم معالمها، قد أسدت إلى أوربا أيادي بيضاء في العلوم والمدنية كانت في أشد الحاجة إليها، فلعل في صلاة المسلمين اليوم في جامع قرطبة بشائر عصر جديد، يسدي فيه المسلمون إلى أوربا وإلى البشرية كلها أيادي بيضاء من جديد، هي في أشد الحاجة إليها، وذلك إذ يحملون لها الهداية والنور والحق، وكلمة الإيمان، ورسالة القرآن، وينقذونها بذلك مما تعاني من صنوف الشقاء والأحزان والفراغ والتفاهة، والتيه والضياع، والضلال والجهالات، والظمأ الروحي الفاتك.

     أيها المسجد العظيم!.. إن للمسلم الذي شادك واحة للإيمان، ومنارة للمعارف، ومثابة للعلوم، وجامعة كريمة تجمع خيري الدنيا والآخرة على السواء، عصوراً عظيمة في التاريخ لا ينقضي منها العجب، وحكاياتٍ في البطولة والشجاعة، ومواقفَ في النبل والإيثار والعطاء، لا تزال حتى الساعة، موضع الدهشة والاستغراب، فهو الذي قضى على العصر العتيق البالي، عصر الجاهلية، وأنهى ليله المتطاول، وهو الذي افتتح العصر الجديد.. عصر الإسلام الذي جاء لإسعاد الناس في دينهم ودنياهم، هذا المسلم إمامُ أهل الصدق والوفاء، والعاطفة الحية النبيلة، وهو فارس ميدان الإيمان والحنان، لسانه لبنٌ وعسل، وسيفه علقمٌ وحنظل، يعيش في ميدان الحرب، وتحت ظلال السيوف، متذرعاً بالتوحيد، فكلما اشتد عليه خطب، وكلما عضته حرب، وكلما حَزَبَه أمر التجأ إلى الله تعالى يعتصمُ به ويعتمدُ عليه.

     أيها المسجد العظيم!.. إنك حين مثلت المؤمن خير تمثيل، كشفت سره للناس، صورت تلك الحركة التي يقضي فيها نهاره، والرقة التي يُمضي فيها ليله، صورت للعالم مقامه الرفيع، وتفكيره السامي، ومسراته وأشواقه، وتواضعه وإباءه، وشدته.

*****

الأكثر مشاهدة