الاثنين، 8 أغسطس 2022

عبقرية البناء في مسجد قرطبة

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

عبقرية البناء في مسجد قرطبة

     ومسجد قرطبة هو المسجد الوحيد في أرض الإسلام الذي اعتمد على فكرة العقود المزدوجة، التي لا تجد واحداً من بينها يزيد قطره على خمسة وعشرين سنتيمتراً، وتنهي الأعمدة بعقود، وعلى رأس العمود قاعدة جديدة أقام عليها المعماري الفنان عموداً آخر، وتتشابك الأعمدة بعقود هي غاية في الدقة والرشاقة والذوق.

     فإذا نظر المرء إلى ذلك رأى نفسه في حديقة من حدائق الإيمان، كأن الأعمدة أشجار، والعقود فروع أثقلتها الثمار، أو كأنها نافورات تجمد ماؤها. وتمتد هذه الحديقة وتتسع، ويخيَّل إليك أنها تخطت البحار والجبال والصحارى حتى اتصلت بمساجد الشرق، في مصر والشام والجزيرة العربية.

     والمحراب آية رائعة من آيات الفن، وهو عبارة عن حجرة صغيرة، أو مسجد صغير سقفه من قطعة واحدة من الحجر على هيئة صدفة، وفوق بلاطة المحراب والبلاطتين المحيطتين بهما عن يمين وشمال ثلاث قباب صغيرة هي الذروة روعة وجمالاً ودقة فن.

     واستخدام الضوء كان بنسب تتوازن مع ما يدخل من الأبواب.. وهناك تحت القباب كانت قراءة القرآن، نور القلب تحت نور السماء، ونور السماء يتدفق على الأيدي المتوضئة.. نور القلوب ونور الشمس، نور البصيرة ونور البصائر.. نور الإيمان الرباني، ونور المؤمنين الربانيين، نور على نور.

     وفي الجزء الشمالي من المسجد صحن مكشوف تغطيه أشجار البرتقال، فإذا أسعدتك المنى فزرت المسجد، وكنتَ ناظراً إلى الخارج رأيت التداخل بين الأعمدة الرشيقة وبين أشجار الحديقة. وثمة اتجاه لدى بعض الإسبان -مسؤولين وغير مسؤولين- يرمي إلى نقل الكاتدرائية التي أقحمت على المسجد إقحاماً يؤذي العين، وينبو على الذوق، ويفسد سيمفونية الجمال المتكاملة في المعمار العام للمسجد، إلى مكان آخر مجاور، وإعادة المسجد إلى صورته التي كان عليها من قبل، وقد لقي هذا الاتجاه قبولاً طيباً، فالمسجد في كماله واكتماله عمل عبقري ندر أن يجود بمثله الزمان، حتى إنه بوسعك أن تقول: إن الذين يفدون إلى قرطبة إنما يفدون أساساً لزيارة المسجد، بل إن بوسعك أن تقول: إن قرطبة نفسها هي ضاحية للمسجد.

*****

مسجد قرطبة العظيم درة العمارة الإسلامية

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

مسجد قرطبة العظيم درة العمارة الإسلامية

     مسجد قرطبة العظيم، درة في جبين العمارة الإسلامية، وضع عبد الرحمن الداخل "صقر قريش" القائد العبقري، أول حجر فيه عام 780م، أما آخِر حجر وضع فيه فكان على رأس الألف الأولى الميلادية. قرنان وربع القرن من عمر الزمان، والعمل جارٍ في استكمال عمل فني ممتاز، تشعر حين تراه كأن المعماريين الذي أسهموا فيه عبر هذا الزمن الطويل، كانوا فريقاً واحداً يقوده عقل واحد.

     والراجح أن المسجد بُني على أرض عذراء، بدأ قسمه الأول في عهد عبد الرحمن الداخل، وجاءت توسعته الثانية في عهد عبد الرحمن الأوسط، أما الثالثة فقد جاءت في عهد عبد الرحمن الثالث وولده الحَكم الثاني، وهذه التوسعة الثالثة هي قمة عالية من قمم الفن الإسلامي وصل بها المحراب إلى ضفة الوادي الكبير وهو نهر قرطبة، وكأن مُلك بني أمية والمسجد كانا على موعد، فبعد هذه التوسعة بدأ الضعف في الدولة، وفي توسعة المسجد معاً.

     وجاءت التوسعة الأخيرة على يد الحاجب المنصور بن أبي عامر، ولم يكن أمامه إلا التوسع شرقاً على طول المسجد... الذي ظل عامراً بالصلاة والقضاء، وتدارس العلم والأدب، ومنارة للمعرفة والهداية، ومثابة للإيمان والتقوى، حتى اليوم الحزين، يوم سقوط قرطبة عام (1236م) حين خرج الإسلام والمسلمون من قرطبة، وتركوا المسجد يلقى صروف الزمان، وحيداً بلا حرسٍ ولا أعوان، صامتاً بلا قرآنٍ يُتلى، ولا أذانٍ يُرفع، سجيناً لا يُسمح له حتى بأن يُزار.

     وتطورت الأمور إلى الأسوأ، فحُوِّلَ جزء من المسجد تبلغ مساحته نحو 15% من مساحة المسجد الإجمالية إلى كاتدرائية، وحُوِّلَتْ مئذنة المسجد إلى برج للناقوس، ومن أجل إتمام ذلك أزيل ثمانون عموداً وقوساً وما فوقها من سقف، وأغلِقت أبواب كانت مفتوحة تدخل قدراً من الضوء أراده المهندس الفنان الذي صمم المسجد.

     ولم يكن التداخل المعماري محل رضا حتى الذين أمروا به، وجاء غير متناسب مع الوحدة الهندسية للبناء والحلول المعمارية التي ابتكرها العقل الذي ظل مسيطراً على البناء أكثر من قرنين حتى أتمه بهذه الصورة العبقرية التي لم تتكرر، لذلك لا غرابة أن تسمع أصواتاً من بعض الإسبان أنفسهم، تظهر بين الحين والآخر داعيةً إلى إزالة الكاتدرائية وإعادة المسجد إلى حالته الأولى.

     كانت لفتة مشكورة من المسؤولين في قرطبة أن جعلوا من برنامج المؤتمر الإسلامي المسيحي العالمي الأول (10–15 أيلول 1974م) أداء صلاة الجمعة في جامع قرطبة الكبير. ووقف المسؤولون الإسبان ظهر يوم الجمعة (26 شعبان 1394هـ/ 13 أيلول 1974م)، ليستقبلوا الوفود المسلمة؛ وهي تدخل إلى المسجد لتؤدي فيه صلاة الجمعة.

     في ضحى اليوم المذكور هبطت في مطار قرطبة طائرة قادمة من مدريد تحمل سفراء البلدان الإسلامية في إسبانيا، وهبطت طائرات قادمة من أقطار المغرب العربي تحمل صفوة من علماء تلك البلدان، والتقى الجميع في المسجد في المناسبة التاريخية تنتظمهم صفوف الصلاة، وينظر إليهم الناس في دهشة، فقد جاؤوا ليشهدوا هذا المشهد الغريب، وتوافدوا ليُشبعوا فضولهم حوله، ذلك أن أمر الصلاة كان قد ذاع.

     وتمر العين بصفوف المصلين الذين لم يشهد مثلهم المسجد الحزين الأسير منذ قرون طوال عباءات من المشرق، وبرانس من المغرب، رؤوس حاسرة، وعمائم ولحى بيضاء فيها جلال المشيب؛ كهول مكتحلون، وشباب في زهرة العمر، وكان صوت أحد القراء يرتفع بالقرآن الكريم، والساجدون الراكعون عن اليمين وعن الشمال.

     كنت ترى الدموع، وتسمع النشيج، تطلقه روعة الذكرى، وجلال الموقف، ومرارة الخسارة التي حلت بالمسلمين بخسارتهم للأندلس، وانطوى كل ضيف من المصلّين في ذلك اليوم المشهود على نفسه غارقاً في الذكرى الحزينة، والواقع الحاضر، والمستقبل المرجو؛ ترى أيعود المسجد لأهله وذويه ذات يوم!؟

     وتمتد الأعين الدامعة إلى الآيات الصامتة المنقوشة على جدران المسجد والمحراب والتي ظلت عصيّةً على البلى والفناء لتقرأ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43].

     لقد ظلَّت هذه الآيات صامتة على الجدران ثمانية قرون حتى صافحتها عيون المصلّين وأرواحهم في أول صلاة جمعة منذ أن خسر المسلمون المسجد وقرطبة والأندلس كلها. وارتفع صوت الأذان: "الله أكبر... الله أكبر"، وازداد معه الحزن والبكاء، وتذكر الحشد الأذان الأول، أذان بلال في المدينة المنورة، وكيف حملته القلوب والأيدي والألسنة المؤمنة عبر الصحاري والجبال والبحار، حتى شرَّقَ وغرَّب، ووصل من بين ما وصل إليه جامع قرطبة العظيم، وظل يتردد فيه قروناً حتى توقف يوم الأسر الحزين.

*****

مشاعر جامع قرطبة نحو المسلمين، وماذا قال إقبال؟

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

مشاعر جامع قرطبة نحو المسلمين

وماذا قال إقبال؟

     كانت لفتةً مشكورة أنْ سمح المسؤولون الإسبان في قرطبة لأعضاء الوفد الإسلامي لأحد المؤتمرات هناك بأداء صلاة الجمعة في مسجد قرطبة الجامع، ذي الشهرة الواسعة في الإيمان والعلوم، وفي البناء الرائع الشامخ، فقامت الجمعة في ذلك الجامع العظيم للمرة الأولى بعد انقطاع متصل استمر حوالي قرون ثمانية.

     وشهدت جدرانه ومنائره، وأرضه وجنباته، وأَفْنِيته وأبهاؤه، القرآن الكريم يُتلى، والأذان يعلو، والخطبة تجهر، والمصلون يركعون ويسجدون، وهو مشهدٌ لم يُعرف قط منذ أن سقطت قرطبة في يد الإسبان، وحُوِّلَ مسجدها الجامع إلى كاتدرائية.

     ترى كيف استقبلتَ ذلك كله أيها الجامع العظيم؟ لكأن جنباتك جميعاً في غاية الفرح والسرور، لكأن منائرك العالية الضاربة في الفضاء قد امتلكها فخارٌ جديد، واعتزازٌ باذخ، لكأن أرضك الحزينة التي طال عهدها بالساجدين الراكعين كادت تبكي من الفرحة التي ملكت عليها كل شيء، لكأن المنبر الحزين الأسير، فرح مستبشر بهذه المناسبة الفذة النادرة، يضوع عطراً وهناءً وسعادة، ويحنو على الخطيب، يُسِرُّ في أذنيه: أنْ مرحباً بك أيها الغالي الذي طال غيابه!.. وعسى ألا تكون خطبتك هذه آخر العهد، وعسى أن تسعى وإخوتُك المسلمون جميعاً لإنقاذي من الغربة الموحشة، وفكاكي من الأسر الذي طال، لأعود إليكم، وتعودوا إليَّ، فيتصل ما انقطع من حبال المودة، ويخضرّ ما صوّح من قديم الوصل، وتتوالى الجُمَعُ والجماعات الحسان، وتزدحم الصفوف المؤمنة، وتعلو الأصوات بالقرآن، ويرتفع عالياً مستمراً صوت بلال بالأذان.

     يا أندلس الإيمان والإسلام!.. يا أرض العطر والألق والجمال!.. يا موئل الأبطال الكرام والرجال الشجعان!.. أما اشتاقت أجواؤك إلى الأذان من جديد!؟ أما حننت إلى المسلمين النجب الذين عبروا إليك مضيق طارق، وجعلوا بلادك الخضراء الجميلة أرضاً للإسلام، تعلو فيها كلمته، وترفرف رايته!؟ وشادوا فيك حضارة زاهرة رائعة شهد بها كثير من المنصفين من غير المسلمين، شهدوا بعظمتها وأصالتها، وسموّها وإنسانيتها، والدور الخالد الذي أدّته في تاريخ البشرية حين أسهمتْ في نقل أوربا من أوحال الجهل والتخلّف والانحطاط إلى مطالع منظمة متعلمة متمدنة، إذا كان أبناؤها يفدون لتلقي العلوم والمعارف في المعاهد والجامعات الأندلسية المسلمة وفي طليعتها جامع قرطبة العظيم؟

     يا جامع قرطبة العظيم!.. إن يكنْ فيك شوق وقلق، وحرقة وأمل، ورغبة في غدٍ مشرق، فاعلمْ أن في الأمة المسلمة اليوم مثلَ الذي فيك. إن روح الأمة المسلمة مضطربة قلقة، جياشة موّارة، تطلب انتفاضة جديدة، يتخلص فيه المسلمون من سلبياتهم، ويعودوا حقاً إلى إسلامهم، ويكونوا القوة الجديدة التي تحمي الحضارة البشرية من الدمار، إذ يتولون قيادتها صَوْبَ كلِّ ما هو حقٌّ وصدقٌ وفضيلةٌ ونفع، ورشدٌ وهدى، بدلاً من قيادتها الحالية التي تسوقها نحو الشقاء، ولكنْ متى هذه الانتفاضة؟ إنها سر من أسرار الله تعالى لا ندري متى يكون، وإنْ كنا بحدوثها موقنين أشد اليقين، وها هي ذي بشائرها تطالعنا بين الحين والحين، والزمن دوّار، والعالم يتمخض بحوادث جسام:

والليالي من الزمانِ حُبالى     مثقـــلاتٌ يَلِدْنَ كلَّ عجيبِ

     وأنت يا شاطئ الوادي الكبير!.. يا نهر قرطبة الجميل!.. لعلك مشوق إلى من يتوضّأ من مائك ليصلي في الجامع الكبير، كما صلى أهالي قرطبة فيه حوالي خمسة قرون بعد أن عادوا من مياهك متوضئين.

     مَنْ يدري!؟ لعل أملك يتحقق من جديد، وإليك هذه البشرى التي يزفها إليك الشاعر العبقري محمد إقبال إذ يقول:

     "أيها النهر العزيز، إنَّ على شاطئك رجلاً يرى حلماً لذيذاً، يرى في مرآة المستقبل عصراً لا يزال في طيات الغيب، يرى عصراً قد بدت تباشيره، وظهرت طلائعه لعينه، ولكنها لا تزال محجوبة عن أعين الناس، ولو كشفتُ الغطاء عن وجه هذا العالم الجديد، وبحتُ بما في صدري من أفكار وأسرار لشقَّ ذلك على أوربا وفقدت رشدها وجنّ جنونها".

     أتدري ما الحلم الذي يتحدث عنه إقبال!؟ إنه الغد المأمول أن تنتزع فيه الأمة المسلمة قيادة الحضارة من أوروبا المفلسة الضالة.

     وبعد، فإن تكن الأندلس، وجامع قرطبة العظيم من أهم معالمها، قد أسدت إلى أوربا أيادي بيضاء في العلوم والمدنية كانت في أشد الحاجة إليها، فلعل في صلاة المسلمين اليوم في جامع قرطبة بشائر عصر جديد، يسدي فيه المسلمون إلى أوربا وإلى البشرية كلها أيادي بيضاء من جديد، هي في أشد الحاجة إليها، وذلك إذ يحملون لها الهداية والنور والحق، وكلمة الإيمان، ورسالة القرآن، وينقذونها بذلك مما تعاني من صنوف الشقاء والأحزان والفراغ والتفاهة، والتيه والضياع، والضلال والجهالات، والظمأ الروحي الفاتك.

     أيها المسجد العظيم!.. إن للمسلم الذي شادك واحة للإيمان، ومنارة للمعارف، ومثابة للعلوم، وجامعة كريمة تجمع خيري الدنيا والآخرة على السواء، عصوراً عظيمة في التاريخ لا ينقضي منها العجب، وحكاياتٍ في البطولة والشجاعة، ومواقفَ في النبل والإيثار والعطاء، لا تزال حتى الساعة، موضع الدهشة والاستغراب، فهو الذي قضى على العصر العتيق البالي، عصر الجاهلية، وأنهى ليله المتطاول، وهو الذي افتتح العصر الجديد.. عصر الإسلام الذي جاء لإسعاد الناس في دينهم ودنياهم، هذا المسلم إمامُ أهل الصدق والوفاء، والعاطفة الحية النبيلة، وهو فارس ميدان الإيمان والحنان، لسانه لبنٌ وعسل، وسيفه علقمٌ وحنظل، يعيش في ميدان الحرب، وتحت ظلال السيوف، متذرعاً بالتوحيد، فكلما اشتد عليه خطب، وكلما عضته حرب، وكلما حَزَبَه أمر التجأ إلى الله تعالى يعتصمُ به ويعتمدُ عليه.

     أيها المسجد العظيم!.. إنك حين مثلت المؤمن خير تمثيل، كشفت سره للناس، صورت تلك الحركة التي يقضي فيها نهاره، والرقة التي يُمضي فيها ليله، صورت للعالم مقامه الرفيع، وتفكيره السامي، ومسراته وأشواقه، وتواضعه وإباءه، وشدته.

*****

أول صلاة جمعة في جامع قرطبة بعد قرون، وماذا قال إقبال؟!

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

أول صلاة جمعة في جامع قرطبة بعد قرون

وماذا قال إقبال؟!

     قد يبدو أمراً عادياً جداً، لا يستحق كثيراً من التوقف والاهتمام؛ أن يقيم المسلمون صلاة الجمعة في مسجد أو جامع من جوامعهم، فما أكثر المساجد والجوامع في العالم الإسلامي!.. وفي غير العالم الإسلامي، وما أكثر الخطب التي تُلقى فيها يوم الجمعة!. لكنَّ الصلاة في جامع قرطبة شيء آخر، شيء له من الأهمية لا ينبغي أن تتوقف عنده القرائح والأقلام.

     فقصة جامع قرطبة قصة حزينة مأساوية، لا تزال جرحاً غائراً في وجدان كل مسلم، يسبب له الشجى والأحزان كلما تذكر الأندلس وسقوطها المحزن المأساوي.

     لقد ظل هذا الجامع العظيم مدة تقرب من خمسة قرون منارة هادية كريمة، منارة للإيمان والقرآن، ومنارة للعلوم والمعارف بجميع أصنافها، كان جامعاً وجامعة، كان مَعْبراً من معابر الحضارة الإسلامية إلى أوربا التي كانت غارقة في الجهل والتخلف والانحطاط.

     وظل هذا الجامع العظيم يؤدي دوره التاريخي الضخم، حتى دار الزمان، وقصّر المسلمون الأندلسيون في حق إسلامهم وحق أنفسهم، وبدأت موجتهم تنحسر، وموجة الإسبان تتقدم، فإذا بقرطبة تخرج من يد المسلمين، وتسقط في يد الإسبان، وإذا بجامع قرطبة العظيم يقع أسيراً في يد النصرانية التي حولته إلى كاتدرائية، ومنذ ذلك الحين، أقفر الجامع العظيم من الأذان والصلاة والجمعة، وظل على هذا الحال حتى يومنا الحاضر مدة تزيد على سبعة قرون من الزمان.

     إذن؛ هو أمرٌ هام، وغير عادي أن تسمح الحكومة الإسبانية منذ شهور قلائل للمسلمين أن يؤدوا واحدة من الجمع فيه. ومع تباشير الصباح البهيج الذي كانت فيه تلك الجمعة، هبَّ العديد من الذين جاؤوا من جهات مختلفة تخفق قلوبهم المؤمنة لهذا اللقاء الإسلامي الكبير، نحو جامع قرطبة العظيم، ليؤدوا صلاة الجمعة فيه، واصلين الحاضر بالماضي، معلنين استمرار الإسلام وامتداده، متجمعين في صحن المسجد يتعانقون ويتصافحون، والبِشْرُ على وجوههم المتوضئة المؤمنة، والفرحة تتغلغل في أعماقهم، وحركاتُهم تطفح بالسعادة والإيمان والبهجة. وسكان قرطبة الإسبان، واقفون مشدوهين متعجبين أمام هذا المشهد الذي لم يروه في حياتهم قبل اليوم.

     وحان وقت الصلاة، ورجَّعت جدران الجامع العظيم الأسير، صوت المقرئ يتلو آيات من كتاب الله عز وجل، لم يسمعها الجامع الحزين منذ قرون طويلة من الزمان حتى كاد ينساها، ولم تَعِ ذاكرته مثل هذا الموقف منذ يوم الأسر المرير، الانفعال بادٍ على الوجوه التي ظهر عليها التأثر. كل الوجوه تغيرت ملامحها، وبدا أن أصحابها يغالبون عواطف حارة غريبة في أعماقهم. وجوه المسلمين المصلين الذين كادوا يبكون، ووجوه النصارى الذين وقفوا في تأمل غريب ينظرون، والتكبير يرتفع هنا وهناك، والقرآن يُتلى، والأرض تعانق جباه الساجدين الذين غابوا عنها منذ دهر طويل، والعيون تذرف الدموع، والقلم يعجز عن وصف المشهد المؤثر.

     وينهض الخطيب فضيلة الدكتور الشيخ عبد العزيز الخياط، ويعلو الأذان، ويتردد التكبير ليخترق القلوب والجدران: الله أكبر، الله أكبر!.. ويقف الشيخ لإلقاء خطبة الجمعة.

     حمداً لك اللهم وشكراً، إننا نقف اليوم لنعبدك في هذا المكان العظيم بعد قرون ثمانية تقريباً، نقف في هذه الذكرى لنرجع بأرواحنا مئات السنين، إلى اليوم الذي كان الإيمان فيه يجلجل بصوته العالي، ويدوي بقوة وشموخ في قرطبة وفي الأندلس كلها لا يخشى سطوة باغٍ، ولا عدوان ظالم، ولا غرور طاغيةٍ غشوم، وتلقى الخطبة عن الحضارة الإسلامية، وتسامحها وإخائها، وتقام الصلاة، ويصطف المؤمنون في إنابة وخشوع، وتُصلى الجمعة بعد قرونٍ وقرون من تعطيلها في الجامع الحزين العظيم. ألا إنه يومٌ من أيام الله عز وجل!..

     وبعد؛ هنيئاً لك أيها الجامع العظيم!.. وعسى أن يكون صحيحاً ما يتردد من أن حكومة إسبانيا عازمة على ردّك للمسلمين، ومع هذه التهنئة إليك ما قاله فيك شاعر الإسلام الكبير محمد إقبال:

    "يا مثابة هواة الفن، يا مقصد رواد الجمال، يا مجد الدين الإسلامي، لقد سمت بك أرض الأندلس، وتقدست في أعين المسلمين.

     إنك فريد في الفن والجمال، ولا يوجد لك نظير تحت السماء إلا في قلب المؤمن.

     أين لنا أولئك الرجال!؟ هؤلاء الفرسان العرب، أصحاب الخلق العظيم، وأصحاب الصدق واليقين الذين برهنتْ حكومتهم أنها حكومة أهل القلوب خدمة وزهادة، وليس حكماً ولا تسلطاً.

     هؤلاء العرب المسلمون الذين كانوا مربّي الشرق والغرب، وكانوا أصحاب عقول حصيفة، وبصيرة نافذة، يوم كانت أوروبا تتسكع في الجهل المطبق، والظلام الحالك، والذين لا تزال في الشعب الإسباني، بفضل دمهم العربي، خفة روح، وحفاوة وبساطة، وجمال شرقي، فتكثر فيهم عيون المها، ولا تزال عيونهم ترشق بالنبال، ولا تزال الريح في الوادي تحمل نفحات اليمن ورنات الحجاز.

*****

زيارة إقبال إلى جامع قرطبة خلدت درة قصائده

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

زيارة إقبال إلى جامع قرطبة خـلّدت درّة قصائده

     كانت زيارة الشاعر الكبير الدكتور محمد إقبال لإسبانيا عام (۱۹۳۲م)، ووقوفه خلال تلك الزيارة في جامع قرطبة وقفة حب ووفاء وحنان وإيمان مناسبة حميدة ليكتب لنا الشاعر واحدة من درر قصائده، وهي "في جامع قرطبة"، ومن أجمل ما طفق الشاعر يقف عليه في قصيدته هو تلك الإشادة الحارة الجميلة بالصلة الروحية بين الجامع العظيم وبين المسلم الغيور الصادق في ولائه للإسلام، وذلك حين اتجه إليه بهذه النجوى المحببة الرائعة، حيث يقول في عقيدة مؤمن ودلال شاعر مُحِب:

     "إن بيني وبينك أيها المسجد العظيم نسباً في الإيمان والحنان، وتحريك العاطفة وإثارة الأحزان. إن الإنسان في تكوينه وخلقه قبضة من طين لا تخرج من هذا العالم، ولكن له صدراً لا يقل سمواً وكرامة عن أعظم الأشياء. فقد أشرق بنور ربه وحمل أمانة الله. إن الملائكة تمتاز بالسجود الدائم لكن في سجود الإنسان لوعة ولذة، ليس لهما نظير".

     ومن الطريف الجميل حقاً أن إقبالاً يتذكر جنسيته ووطنه، ويتذكر أنه هندي النجار، وأنه من إحدى بيوتات البراهمة، أسلم جده الأعلى قبل قرنين من الزمن. ويتذكر أنه أمام أثر إسلامي عربي قديم فيقول: "انظر أیها المسجد إلى هذا الهندي الذي نشأ بعيداً عن مركز الإسلام ومهد العروبة، نشأ بين الكفار وعُبّاد الأصنام؛ كيف غمر قلبه الحب والحنان!؟ وكيف فاض قلبه ولسانه بالصلاة على نبي الرحمة الذي يرجع إليه الفضل في وجودك!؟ وكيف ملكه الشوق!؟ وكيف سرى في جسمه ومشاعره التوحيد والإيمان!؟".

     ويذكره هذا المسجد العظيم بالمسلم العظيم الذي رفعه وشاده، وبالأمة المسلمة العظيمة التي تعبد الله تعالى في أمثال هذا البيت، فيرى أنه صورة صادقة للمسلم، فكلاهما يجمع بين الجلال والجمال، وكلاهما محكم البنيان، كثير الفروع والأغصان.

     ويلتفت إلى المسجد فيراه قائماً على أعمدة كثيرة تشبه في كثرتها وعلوها نخلاً في بادية العرب، ويرى شرفاته مشرقة بنور ربها ومنارته العالية الذاهبة في السماء منزلاً للملائكة، ومهبطاً للرحمة الإلهية.

     ذلك هو المسجد الطهور الذي أقفر من الصلاة والأذان والقرآن منذ قرون؛ منذ أن سقطت قرطبة بيد الإسبان حين عجز أهلها عن الوفاء بمستلزمات القوة والتفوق والبطولة التي يوجبها عليهم دينهم العظيم، وأخلدوا إلى الأرض فحلّ بهم الدمار.

*****

الأحد، 7 أغسطس 2022

إقبال والحب الذي يربطه بجامع قرطبة

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

إقبال والحب الذي يربطه بجامع قرطبة

     كثيرة هي الآثار التي تمر بها أو تمر بك من دون أن تترك فيك أثراً عميقاً أو شعوراً بالقرب منها؛ على الرغم من أن هذه الآثار ربما تكون ذات جمال فائق، وصنعة رائعة، وذوق وأناقة.

     لكن آثاراً أخرى تمر بها فلا تنساها، وتتوقف عندها فتظل وقفتك هذه محفورة في حسك وأعصابك ووجدانك على الرغم من تعاقب الليالي وكرِّ الجديدين، ويمكن رد السبب الى ألفة روحية تنشأ بينك وبينها، فتربط هذه الألفة بينكما برباط وثيق، وتسكن في أعماقك وتتأصل.

     ولا شك أن جامعاً ضخماً كجامع قرطبة لا يقف عنده المرء وينساه، بل إن وقفته تلك تضرب عميقاً في وجدانه، وتتغلغل في أعماقه، فهو جامع لا كالجوامع العادية لأنه أدى دوراً تاريخياً رائعاً، فقد كان واحة للإيمان تقوم فيه صفوف المسلمين تعبد الله تعالى واقفة ساجدة راكعة، ويدوي فيه الأذان، ويتلى فيه القرآن، وتؤدى فيه خطب الجمعة وما إلى ذلك.

     لكن هذا الجامع العظيم كان إلى جانب ذلك كله مثابة للعلوم والآداب، وكان خلية نحل يفد إليها الطلاب من كل جانب، وكان يستقبل العلماء من الشرق والغرب كما يستقبل الطلاب، لذلك أدى دوره مركزاً من مراكز الحضارة المنشئة المبدعة أحسن الأداء، وساهم في تحضير أوروبا وتمدينها حين كانت الأندلس من أهم معابر الحضارة الاسلامية إلى أوروبا.

     هذا كله إلى جانب فخامة البناء وسعته، وجماله وبساطته، وتفرده وقوته، جعلَ الجامعَ العظيم يحتل في قلوب المسلمين منزلة رائعة، وتقوم بينه وبين كل مسلم غيور ألفة روحية، وصداقة ومحبة، وتواصل قلبي عميق.

     وحين وقف الشاعر العظيم محمد إقبال في هذا الجامع الخالد طفق يقول له: "تدين أیها المسجد العظيم في وجودك لهذا الحب البريء، ولهذه العاطفة القوية التي كتب لها الخلود، فهي لا تعرف الزوال والانقراض".

     إن الشاعر يشير إلى العاطفة الدينية الكريمة التي حملت المسلمين على الفتوح حتى وصلوا الأندلس، فشادوا فيها وعمروا، وكان مما شادوا وعمروا هذا المسجد الكريم بصدق وإخلاص وحب ووفاء، فتميز بذلك على سواه من المباني التي هي حجارة فحسب، لَمْ تخالط بناتها لوعة، ولم تتدفق فيهم عاطفة من عواطف الحنان والإيمان، لذلك خاطب إقبال الجامع العظيم قائلاً له: "إن البدائع الفنية إذا لم ترافقها العاطفة، ولم يسقها دم القلب؛ أصبحت مصنوعات سطحية من لون أو قرميد أو حجر أو لفظة أو كتابة أو صوت لا حياة فيها ولا روح.

     إن الشوامخ الفنية لا تقوم إلا على العاطفة والإخلاص، والحب هو الذي يفرق بين قطعةٍ من الحجر وقلبٍ خفّاق حنون من البشر، فإذا فاضت منه قطرة على الحجارة الصماء خفقت وعاشت، وإذا تجردت منه القلوب الإنسانية جمدت وماتت".

*****

إقبال وذكرى أمجاد المسلمين في جامع قرطبة

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

إقبال وذكرى أمجاد المسلمين في جامع قرطبة

     وقف محمد إقبال رحمه الله عام (۱۹۳۲م) إبّان زيارته لإسبانيا، في جامع قرطبة العظيم وقفة مؤمن شاعر، يتذكر أمجاد المسلمين في الأندلس، وسيرتهم الشائقة المؤسية، وحكمهم الحافل بشتى جوانب الإبداع والتفوق في ميادين الحضارة، ودورهم التاريخي الرائد الذي يشهد به كثير من منصفي الغرب أنفسهم، في تحضير أوربا، ونقلها من حال الجهل والتخلف والانحطاط إلى صحوة ممتازة أسهمت أيما إسهام في بناء حضارتها فيما بعد.

     وتذكر بطولة طارق بن زياد ومن معه، ومغامرتهم الجريئة في اقتحام الأندلس، إذ ألقوا بأنفسهم فيها وهي نائية بعيدة عن مركز قوتهم وتجمعهم، والعدو في أرضه يعرفها جيداً، وعدده كبير، وزاده وفير، وسلاحه كثير، والنجدة قريبة إليه حين يطلبها، ولم يكن طارق يجهل موقفه هذا، لكنه لم يرهبه قط، بل استنجد بقوة الإيمان في أعماقه وأعماق جنوده، وألهب حماستهم، فكان له النصر المؤزر، والظفر العظيم، وكان قراره بالعبور والقتال مَوْلِدَ أمجادٍ كبيرة وامتدادٍ عظيم وانتشارٍ للإسلام رائعٍ معجب، وصفحة في تاريخ الحضارة الإنسانية عمرت ثمانية قرون .

     وشابت الأندلس الشوائب، وعصفت بها الفتن والمشكلات، فكانت بأمس الحاجة إلى عبقري آخر من طراز طارق، شجاع جسور، يقتحم الصعاب، ولا يرهب الشدائد، هو بالصقر أشبه منه بشيء آخر. وفعلاً ظهر هذا الرجل المأمول، وعبر إلى الأندلس كما عبر طارق وموسى من قبل، إنه صقر قريش عبد الرحمن الداخل الذي وصل هناك مع ثلة قليلة من الرجال الأشداء، والفتن كثيرة، والأهواء عارمة، والناس مزق شتى، وأقسام متناحرة، فصابر وثابر، وجد واجتهد، وقاتل وانتصر حتى دانت له الأندلس، وشاد في عاصمتها قرطبة الأثر الخالد الباقي إلى اليوم، جامع قرطبة.

      وقف محمد إقبال في جامع قرطبة، وقفة مؤمن خاشع، أمام الإيمان الذي حمل العرب على الخروج من جزيرتهم التي كانوا فيها ضائعين منسيين، لا يحفل بهم أحد، ولا يتوقف عندهم التاريخ، إلى الشرق والغرب، يحررون الناس من الفساد والضلال، ويرفعون كلمة الله تعالى عالية مدوية، ويزلزلون أركان الطواغيت والجبابرة، وما زال الإيمان يدفعهم حتى وصلوا الصين شرقاً، والأندلس غرباً.

     إنه الإيمان، والإيمان وحده، هو الذي أخضع الأندلس، المنيعة النائية الجميلة القوية. فانقادت لعزائم الفاتحين الذين صدقوا الله تعالى ما وعدوه، فمَنّ عليهم بالنصر والغلبة والظهور، حتى إذا خبت منهم العزائم، واستنامت فيهم البطولة، وضعف لديهم الإيمان هانوا على أنفسهم، وهانوا على أعدائهم، وبدأ في حياتهم دور الاضمحلال والأفول حتى لم يبق منهم أحد في الأندلس التي زال عنها الإسلام والمسلمون زوالاً نهائياً.

     رحم الله إقبالاً وجزاه عن شِعره الرائع خير الجزاء.. وأعادك أنت أیها المسجد الأسير إلى أحبابك وأهلك وذويك. 

*****

طريق خلاص العالم وسعادته في نظر إقبال

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

طريق خلاص العالم وسعادته في نظر إقبال

     لم يألُ محمد إقبال جهداً في بيان أن النظريات المعاصرة والفلسفات المادية الجديدة لا تشفي غلة الإنسان، ولا تروي ظمأه، ولا تقوى على انتشاله مما يعانيه من صعاب ومتاعب وتحديات لسبب بسيط وعميق، وربما اجتمعت البساطة والعمق معاً، وهو أنها هي المسؤولة عما آل إليه أمر الإنسان المعاصر من دمار، ذلك أن جميع العلل والأمراض والكوارث والنكبات والقلق والحيرة والتخبط والضياع؛ إنما هي وليدة هذه النظريات والفلسفات.

     لذلك يتناول إقبال الشيوعية والرأسمالية، وهما أشهر المبادئ المادية التي تتقاسم الإنسانية اليوم بالنقد الذكي الشجاع والتفنيد القوي الساخر. لقد قال في آخر حديث قدمه من الإذاعة قبل وفاته بشهور: "إن المصائب التي تكابدها الإنسانية والهاوية التي تتقدم نحوها كل ذلك من أجل النظريات الباطلة".

     ولقد أثبتت الأيام صدق نظره ونفاذ بصيرته؛ إذ ما كاد يمضي على كلامه هذا سنتان فقط حتى واجه العالم تلك الهاوية المدمرة المخيفة هاوية الحرب العالمية الثانية.

     ولقد أكد الشاعر الكبير أن مصدر شقاء الإنسان ليس إلا تلك الفلسفات التي وضعها الإنسان بنفسه، فهي التي أصابت العالم كله بالكوارث والويلات، ومهدت له الطريق نحو الهلاك، كما أنه تناول الشيوعية والرأسمالية والدكتاتورية والنازية وجميع المذاهب والدعوات الجاهلية بالذم والنقد الساخرين اللاذعين، وأثبت أنها سُمٌّ ناقع في جسد الإنسانية وعقلها وقلبها وسلوكها وأعصابها.

     لقد ثبَّت شاعرنا الكبير في المسلمين فكرة الحفاظ على الإسلام، وأن الغاية الأولى والكبرى لهم ينبغي أن تكون هي الثبات على عقيدته النقية العظيمة.

     أما الحرية السياسية، وأما الرفاهية الاقتصادية، وأما القوة العسكرية، وأما العدالة الاجتماعية، وأما التقدم العلمي والصناعي والثقافي والتكنولوجي، أما ذلك كله؛ فهو وإن كان مما يحرص الإسلام على تحقيقه لأبنائه، ويطالبهم أن يكونوا فيه مجلّين سابقين، فإنه في نهاية أمره ليس غايةً قط، إنما هو وسيلة المسلمين لأداء رسالتهم الإسلامية.

     ومن غير شك قط يستطيع الباحث أن يؤكد أن إقبالاً من عظام رجال الأمة الإسلامية في عصرها الأخير.

     لقد ارتفع صوته مدوياً بثقة قوية جداً، وجسارة لا حد، لها واستعلاء بعيد الأمداء بعظمة الإسلام وخلوده وصحته وقوامته على الناس في وقت كان فيه كثير من المسلمين مبهورين إزاء حضارة الغرب، مأخوذين بثقافته لا يملكون أن يتخذوا الموقف المتوازن السليم فكان له دور عملي شجاع أدى إلى نتائج إيجابية مباركة في واقع المسلمين، وخاصة في شبه القارة الهندية فأسهم فيه مع غيره من الأذكياء المخلصين في تحرير المسلمين من عقدة النقص والإحساس بالضعة والصغار إزاء الغرب الحضاري الذي كان في شرخ فتوته وشبابه.

*****

المسلم الحق في نظر إقبال

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

المسلم الحق في نظر إقبال

     لم يكن الشاعر العظيم محمد إقبال ينشر شعره، ويعلن آراءه وكلماته، حتى رأى فيه قادة الفكر، وذوو الرأي، وأصحاب التطلع إلى التأمل والتعمّق والإصلاح، عبقرية فذة، ونفساً وثّابة، وعقلاً راجحاً، يُرجى من ورائه الخير الكثير، والعطاء الرائع.

     وحين طفق يلقي محاضراته في إنكلترا بدأ الغربيون يهتمون بفكره وفلسفته، وخاصة حين كان يدرّس في جامعة لندن في أثناء غياب أستاذه "توماس آرنولد" عنها. ثم ازدادوا اهتماماً به حين نقل المستشرق الإنكليزي "نكلسون" منظومته "أسرار خودي" إلى اللغة الإنكليزية، وبدؤوا يعرضون لها بالنقد والتجريح آخذين على صاحبها أن فكره وفلسفته تخصّ المسلمين وحدهم.

     والإنسان الكامل عند إقبال هو المسلم، ولكنه ليس المسلم على إطلاقه، بل هو المسلم الحق الذي يتخلق بأخلاق الإسلام، ويسير على هداه. يقول إقبال في نجوى له لهذا الإنسان الكامل:

"اقرأ مرة أخرى في سيرتك الأولى درس الصدق والعدل والشجاعة لأنك أنت المنشود لتسود العالم مرة ثانية.
إن السجدة التي هي جديرة بالاهتمام هي السجدة التي تحرم عليك كل سجدة لغير الله.
المسلم الصادق في عزمه ينازع الأقمار تاج الفلك.
إنك أيها المسلم في العالم وحدك، وما عداك سرابٌ خادع ووهمٌ زائف.
إن إيمان المسلم هو نقطة دائرة الحق، وكل ما عداه في هذا العالم المادي وهمٌ وطلسمٌ ومجاز".

     وهو يدعو المسلم كثيراً إلى التمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، ويناشد المسلمين التعاون والتآزر، وأن يصبحوا كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، فلا تنال منهم الحوادث، ولا تعدوا عليهم العوادي.

     ولم يُغفل الشاعر العظيم سوء حالة المسلمين، فكان شديد الأسى لهم، عظيم الألم لما وقعوا فيه من فرقة وتشاحن وإخلاد إلى الأرض. يقول:

"لقد فقد المسلمون سَوْرَةَ الحب الصادق، ونزف منهم دم الحياة، فأصبحوا هيكلاً من عظام لا روح فيه ولا دم".

     أما المسلم الكامل الذي يعي معنى (لا إله إلا الله) ويحاول النهوض بمسؤولياتها فيقول عنه:

المسلم الصادق في عزمه     ينازع الأقمار تــاج الفلكْ

      وأما عن شمول رسالة المسلم، وترفعه على الحدود والقيود، وأن جنسيته عقيدته، فيقول: "إن الإسلام لا تعرف أرضه الحدود، ولا يعرف أفقه الثغور، ليس وطني دهلي، ولا أصفهان، ولا سمرقند، إنما وطني العالم كله".

*****

أثر والد إقبال في تربيته

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

أثر والد إقبال في تربيته

     تلقى إقبال عن أبيه الكثير من الدروس في الإيمان والأخلاق، وكان أبوه وراء شغفه الشديد بالقرآن الكريم.. كان يداوم على قراءته كثيراً، ويديم النظر في سحر بيانه وجلال قدره، ولا يكاد يكف عن الحديث عنه والإشادة به في شعره. يقول عن القرآن: "هو رأس مال أهل الحق، فيه ضمير الحياة، وفيه نهاية كل بداية، وبقوته كان عليٌّ فاتحَ خيبر".

     وكان إقبال قد كتب ذلك على نسخة من القرآن الكريم مُهدِياً إياها إلى ملك الأفغان "نادر خان" الذي لم يكد يقرؤها حتى بكى وقال: "لقد أتى على نادر خان زمان، وما له أنيس سوى القرآن وهو الذي فتحت قوته كل باب".

     وقد قصَّ إقبال في كتابه "رموز بيخودي" شيئاً من تأثير أبيه في نفسه، وشيئاً يكشف طبيعته هو ببساطتها وتواضعها وسماحتها حين روى القصة الآتية:

     سائل كالقضاء المبرم طرق بابنا طرقاً متوالياً فثُرْتُ غضباً وضربته بعصا على رأسه، فتبعثر ما جمعه بسؤاله، والعقل آنذاك لا يفرق بين ضلال وصواب، ورآني والدي فاغتم واربد وجهه، وتأوَّه وسال الدمع من عينيه، واضطربت روحي الغافلة وطار لبّي. قال أبي: "اذكر يا بني جلال المحشر، يوم تجتمع أمة خير البشر، وارجع البصرة كرة إلى لحيتي البيضاء ونحول جسمي المرتعش بين الخوف والرجاء. كن يا بني من البراعم في غصن محمد، وكن زهرة يحييها ربيع المصطفى".

     ولا مراء في أن ذكر إقبال لهذه الحادثة في شعره بعد ذلك يدل على مدى ما تركته في نفسه من أثر، ظهر بعد ذلك كثيراً في برّه بالفقراء وعطفه عليهم. يقول في بعض كتاباته: "ليس طريقي طريق المستكبرين بل طريق الفقراء"، وأنشد في شعره:

أرى الفقـــراءَ عبـــاداً تقــاةً     قيـــاماً في المساجدِ راكعيـنا
هم الأبرار في صـومٍ وفطرٍ     وبالأسحارِ همْ يســتغفرونــا
وليسَ لكم سوى الفقراءِ سِتْرٌ     يواري عن عيـوبكم العيونا
أضلَّتْ أغنيــــاءَكمُ الملاهي     فهم في ريبهم يتـــرددونــــا
وأهلُ الفقرِ ما زالوا كـنـوزاً     لـدينِ اللهِ ربِّ العــــالمينــــا

     ثم تجلّى عطف الشاعر العظيم على الفقراء في خطابه الذي أرسله إلى "محمد علي جناح" يشكو إليه فيه حال المسلمين في الهند، ويدعوه إلى العمل لإنقاذهم مما يعانون.

*****

الأكثر مشاهدة