الاثنين، 8 أغسطس 2022

طليطلة مشكاة الحضارة الإسلامية في الأندلس وأوروبا

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

طليطلة مشكاة الحضارة الإسلامية في الأندلس وأوروبا

     يمكن القول: إن "طليطلة" كانت أكبر مركز لترجمة الثقافة والعلوم والمعارف الإسلامية إلى لغات الثقافة الأوروبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، وخاصة في أواخر القرن الثالث عشر حين ولي العرش الإسباني "ألفونسو العاشر" الذي لُقب بالعالِم أو الحكيم (1284م)، وقد أراد هذا الملك المستنير للغة القشتالية أن تصبح لغة عالمية، فأحلها محل اللغة اللاتينية، ونظم أعمال الترجمة، وعني فيها بوضع المراجعين والمحققين على رأس كل جماعة تنهض بهذا العمل.

     بل إن الترجمة اجتذبت إليها بعض العلماء الأوروبيين الآخرين مثل جيرار الكريوني، وهو من إيطاليا، وقد قصد طليطلة وعُني خاصة بالمؤلفات العلمية فترجم في الطب والفلك والكيمياء والرياضيات، وكان إلى جانبه "جند سالينوس" الذي عُني بالناحية الفلسفية، وبتلخيص بعض الكتب العربية في هذا المجال.

     وينبغي ألا يغيب عن البال أن الترجمة التي تمّت في طليطلة في القرن الثاني عشر، كانت تتم على مقربة من ابن رشد، وفي الوقت الذي كان يضع فيه شروحه ومؤلفاته في إشبيلية وقرطبة. يضاف إلى ذلك أن المدرسة التي أسست في طليطلة لتعليم العربية والعبرية تخرج منها ريمون مارثان الدومنكاني (القرن الميلادي الثالث عشر) الذي كان على اتصال بتوماس الأكويني.

     ولا ريب أن بقاء طليطلة على هذا الوضع طيلة ثلاثة قرون، أي حتى سقوط غرناطة وخروج المسلمين منها -وهي آخر معاقلهم في إسبانيا- كان له الأثر الحاسم في نقل العلوم والمعارف الإسلامية إلى الإسبان أولاً، وإلى الأوروبيين من بعدهم ثانياً. ذلك أن الطلاب كانوا يفدون إلى طليطلة من سائر الأصقاع الأوروبية، وقد امتد هذا الأثر ووصل إلى أمريكا التي اكتشفها الإسبان عام (1492م).

     وينبغي على الدارس ألا ينسى ها هنا أن ثمة صلة وثيقة بين تلك الحركة الهائلة في الترجمة وبين المخططات الصليبية التي غيرت في طريقتها بعد فشل الحروب الصليبية في بلاد الشام، ومما يذكر في هذا المجال أن ريمون رول استطاع بعد تلك الحركة الهائلة في ترجمة المعارف الإسلامية إلى القشتالية واللاتينية بقليل عام (1316م) أن يقرر مبدأ تخصيص كرسيٍّ للغات الأجنبية في الجامعات الأوروبية، وقد كان هذا الرجل أول أوروبي نادى بعد فشل الحروب الصليبية بإرسال البعثات التبشيرية.

     لقد باتت قضيةً لا تحتاج إلى جدال أن تقرر أن الأندلس الإسلامية لعبت دوراً كبيراً في نقل المعارف والعلوم والفنون الإسلامية إلى أوروبا، مما كان له أثره البارز في نهضة أوروبا، وانتقالها إلى مطالع العصور الحديثة.

     لكن الأمر الذي قد يكون بحاجة إلى شيء من التوضيح هو أن التأثير الحضاري للأندلس الإسلامية لم ينتهِ بسقوط آخر المعاقل الإسلامية في شبه الجزيرة الإيبيرية، بل استمر بعد ذلك فترة ليست قصيرة لعلها تتجاوز القرن من الزمان. والسبب في ذلك يعود إلى الجماعات الكبيرة من المسلمين التي بقيت في البلاد تحت السلطة الإسبانية المسيحية، والتي مارست دوراً مبدعاً إيجابياً على الرغم من كل قوانين الاضطهاد، والملاحقة والبطش والتحريق التي اتخذتها الدولة كنيسةً وسلطة بحقهم.

     ويرى بعض الباحثين أن الشعب المسلم هو الذي كان يضطلع بالقسط الأكبر من النشاط الحيوي في إسبانيا من زراعة وصناعة وتجارة، مما دعا كثيراً من النبلاء والإقطاعيين النصارى إلى الاجتهاد في الحفاظ على مَنْ تحت أيديهم من المسلمين، وإلغاء القوانين المتوالية التي كانت تصدر لطردهم من إسبانيا أو تأجيلها على الأقل.

     ولقد كان هؤلاء المسلمون الذين عُرفوا بـ"الموريسكيين" أو المدجّنين، وهم الذين ظلوا في إسبانيا بعد سقوط الحكم الإسلامي فيها، وأجبروا على التنصّر، شعباً مبدعاً نشيطاً استطاع بالرغم من قسوة الظروف المحيطة به أن يتابع مسيرته الحضارية المعطاءة، ويوالي دوره الإيجابي البنّاء، ويكفي لمعرفة شراسة الظروف المحيطة به؛ أن تعلم أن بعضهم يرى أنه لا توجد أمة من أمم الأرض ولا شعب من شعوبها امتُحِنَ بمثل ما امتُحِنَ به أولئك البائسون.

*****

لغة "الألخماديو" الإسلامية في الأندلس

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

لغة "الألخماديو" الإسلامية في الأندلس

     وقد تمثل الموريسيكيون أو المسلمون المدجَّنون، وهم المسلمون الذين ظلوا في الأندلس بعد سقوط الحكم الإسلامي فيها، وأجبروا على التنصُّر؛ اللغة والثقافة الإسبانيتين اللتين فرضهما عليهم الحكم الإسباني المسيحي المتنصر. وقد كان هؤلاء إلى جانب تمثلهم الثقافي المشار إليه على ولاء عميق في سرائرهم لدينهم وتقاليدهم الإسلامية العريقة، وقد ساهموا في نقل كثير من ثمرات فكرهم وتراثهم إلى الفكر الإسباني أولاً، ثم إلى الفكر الأوربي ثانياً.

     وفي محاولة شاقة منهم تمليها عليهم ظروفهم الشاقة، لجؤوا إلى تكوين لغة سرية خاصة بهم هي لغة "الألخماديو"، وهي لغة كلماتها إسبانية وحروفها عربية مما جعلها فيما بعد تستحيل إلى لغز من الألغاز. وقد كان الكشف عن أدب هؤلاء الذي كُتِبَ بتلك اللغة من أهم أحداث الأدب الإسباني في القرن التاسع عشر.

     وقد وُجِدَتْ في هذا الأدب كما يقول بعض الباحثين: حلقة جديدة من حلقات الاتصال الوثيقة بين الفكر العربي من ناحية، والإسباني والأوربي من ناحية أخرى، ويزيد من أهمية هذا الأدب وخطورته أنه يمثل آخر حلقات هذا الاتصال في فترة بدأت الحضارة الأوربية فيها تأخذ سبيلها نحو الاكتمال والنضوج.

     ويفترض على ضوء بعض الملاحظات والاحتمالات والمحاكمات المنطقية أن التأثير الثقافي لهؤلاء الموريسيكيين في الثقافة الإسبانية كان بالغاً، ويبدو أن ولاءهم لدينهم وتراثهم وأصالتهم كان كبيراً جداً بالرغم من ضراوة الإسبان المنتصرين حكومةً وكنيسة، وقسوتهم الهائلة في معاملة أولئك المغلوبين. ولعل مما يدل على تأثير هؤلاء المغلوبين عسكرياً، الغالبين حضارياً وثقافياً، في الثقافة الإسبانية أن الكنيسة لم تصدقهم في تنصرهم الظاهر الذي فُرِضَ عليهم بالإكراه، واقتنعت في نهاية المطاف وبعد سلسلة من الإجراءات والقوانين أن هذا الشعب لا يُرجى أن يمنح النصرانية ولاءه بصدق، فسعَتْ حتى أصدرت الدولة قرارات طردهم النهائي في المدة (1605-1614م)، فخرجت منهم أعداد كبيرة إلى شمال أفريقيا، ووصلت مجموعات منهم إلى المشرق، فاستقرت في مصر والشام.

*****

معابر الحضارة الإسلامية إلى أوروبا

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

معابر الحضارة الإسلامية إلى أوروبا

     حين يتأمل الدارس في دور الأندلس كمعبر من معابر الحضارة الإسلامية إلى أوروبا؛ يمكن له أن يلاحظ أن تأثير هذا المعبر لم يكن خاضعاً باضطراد للموقف العسكري والسياسي الذي يكون عليه المسلمون، يقوى بقوته، ويضعف بضعفه. ولقد بات أمراً مفروغاً منه ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن الأندلس الإسلامية كان لها حتى في عصور ضعفها واضمحلالها نفوذ هائل على إسبانيا المسيحية، ولم يمنع تغير ميزان القوى لصالح الممالك النصرانية من استمرار هذه الممالك في إسبانيا والبرتغال في الاستفادة من ثقافة المسلمين الأندلسيين، والاضطلاع بِدَوْرِ حَمْلِ عناصرها، ونقلها إلى مختلف بلدان أوروبا.

     بل إن تغير ذلك الميزان لصالح القوى النصرانية؛ كان يتيح أحياناً الفرصة لتأثر أعظم وإفادة أكبر، ولهذا كانت مدينة طليطلة دون نزاع أكبر مركز انتقلت منه الثقافة الإسلامية و"العلم العربي" على حد تعبير العالم الإيطالي "ألدو ميلي" إلى الغرب، لأنها كانت أول مدينة أندلسية سقطت في أيدي "ألفونسو السادس" ملك قشتالة، عام 477هـ/ 1085م.

     ولم تفقد هذه المدينة صبغتها العربية الإسلامية في هذا السقوط مباشرة، بل تأخر ذلك فترة طويلة. وقد بدأت حركة الإحياء العلمية في بلاط "ألفونسو السادس" نفسه، واستمرت في عهد "ألفونسو السابع"، وكان بلاط هؤلاء الملوك مركزاً ثقافياً يجتمع في جنباته علماء المسلمين والمسيحيين واليهود. وكانت جهود هؤلاء العلماء منصبة على الترجمة من اللغة العربية.. لغة الثقافة والعلم والحضارة؛ إلى اللغة القشتالية أولاً، ثم إلى اللغة اللاتينية، قبل أن تصبح القشتالية لغة علمية تصلح لما تتسع له اللغة اللاتينية، التي لم تختفِ في طليطلة حتى قبل سقوطها في أيدي النصارى، وعلى الرغم من استعمال اللغة العربية "في الأعمال الرسمية أو على ألسنة العلماء" كما يقول "ألدو ميلي".

     يمكن للمرء أن يقرر بأن التأثير الحضاري للإسلام والمسلمين في البلاد الأوروبية قد استمر قرابة تسعة قرون، هي مدة الحكم الإسلامي للأندلس، مضافة إليه الفترة التي أعقبت سقوط هذا الحكم، والتي عاش فيها من بقي من المسلمين في الأندلس تحت الحكم الإسباني، وتحت وطأة العسف والتنصير الإجباري، والتي استمرت حتى أوائل القرن السابع عشر الميلادي حين صدرت أوامر نفيهم النهائية.

     وهذا التأثير -وإن خضع لقانون المد والجزر، واختلفت درجته تبعاً للظروف العسكرية والسياسية- ظل حياً طيلة تلك القرون، وبعضها -فحسب- كافٍ في إثبات ما ذهب إليه أو أجمع عليه الباحثون ومؤرخو الاجتماع المسلمون والغربيون على حد سواء؛ من أهمية ذلك التأثير وعمقه وقوته. وإذا كانت الأندلس أهم أقنية هذا التأثير ومعابره، فإن الذي يليها في الأهمية صقلية وبالرمو، وأخيراً يأتي دور الحروب الصليبية التي تشكل القناة الثالثة من أقنية التأثير من حيث أهميتها.

     وقد كتب العالم الإيطالي "ألدو ميلي" عن حركة النقل العلمي في شبه جزيرة الأندلس يقول: أما في شبه جزيرة الأندلس فقد كانت حركة نقل العلم العربي إلى العالم المسيحي أعمق تغلغلاً وأشد قوة، ودامت مدة أطول عهداً من كل مكان آخر، كما تحقق هناك التطور الذي كان لا بد أن يعتمد عليه تجديد العلم الأوروبي.

     ويقول عن دور صقلية: إذا كان سلطان المسلمين في صقلية قد اتسم بالتسامح إلى حد بعيد كما هي العادة، فإن سلطان الملوك النورمانديين -وهم الذين حكموا صقلية بعد خروجها من أيدي المسلمين- لم يكن أقل من ذلك على عكس ما جرت به عادة المسيحيين. ولقد كان هؤلاء الملوك، الذين احتفظ قسم كبير من الأهلين في ظلهم بعقيدة الإسلام، حُماةً عظاماً للعلوم؛ ولا سيما روجر الثاني. ثم يقول: وقد استمرت هذه الحالة المواتية إلى أقصى حد لنمو حضارة لامعة تحت حكم الملك العظيم والإمبراطور فردريك الثاني.

     ويوازن كثير من الباحثين بين أهمية تلك الأقنية الثلاثة: الأندلس، وصقلية وبالرمو، والحروب الصليبية، ولعل الصواب أن يقال: إن الحروب الصليبية كانت مجرد حافز ومنبِّه، أما الأثر الأقوى فكان للأندلس أولاً، ولصقلية وبالرمو ثانياً.

***

المسلم والمسجد الجامع في قرطبة

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

المسلم والمسجد الجامع في قرطبة

     إذا كان بين المسلم وبين المساجد العظيمة نسب في الإيمان والحنان، وألفة روحية تجمعهما إلى بعضهما فإن المسجد الجامع بقرطبة من أهم المساجد في العالم بعد الحرمين الشريفين والأقصى المبارك التي لها في القلب مكانة خاصة وحب عميق.

     إن المسجد الجامع في قرطبة من أكرم المساجد على قلب المسلم، وأقربها إلى وجدانه، وأحبها إليه، وبينهما تاريخ مشترك، ومودة قوية ضاربة في الأعماق، وصفات لا يخطئ المرء أن يراها عند كل منهما على السواء.

     أنت أيها المسجد الخالد مثال حي لفاعلية المسلم وحيويته وإيمانه ونشاطه وتفوقه وسبقه وجده ودأبه، فقد قطع إلى قرطبة المفاوز والجبال، والسهول والبحار؛ فاتحاً غالباً منصوراً حتى شارك هناك منارة للإيمان، ومثابة للنور والعرفان، وتحفة للفن والذوق الرفيع.

     إن هذا المسلم الذي رفع منك العماد، وبناك بالعز والغلبة والظهور خالد بخلود رسالة الإسلام المحفوظة، وأمته التي قامت على أمر الله تعالى هادية مهدية، داعية للخير، محذرة من الشر، أمة تستعصي بإذن ربها على الفناء، فهي حارسة لشعلة الإيمان، ساهرة على حماية مواكب الحق، مبلغة في أذانها العظيم تلك الحقائق والأسس الإيمانية الكبرى التي جاء بها النبيون الكرام، وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام.

     وقد قضى الله تعالى بخلودها وبقائها فأنى لها الزوال!؟ وكيف تنقرض هذه الأمة التي حملت هذه الأمانة وتكلفت بتبليغ هذه الرسالة!؟ نعم؛ إن هذه الأمة قد تخرج عن جادة الصواب، وقد تفشو فيها دعوات جاهلية تحاول أن تمسخ شخصيتها وهويتها، وقد تهزم مرة ومرات لكنها لا بد أن تعود في نهاية المطاف إلى رشدها، وتتمسك بإيمانها، فتعود إلى دورها الريادي لتحمل الأمانة من جديد، وتبلغ الرسالة مرة أخرى.

     أیها المسجد العظيم!.. إن المسلم الذي بناك في تلك البقعة النائية عن ديار الإسلام الأولى ومهده ومطلعه قد انتدب نفسه لحمل رسالة الحق، والعمل بدأب وإصرار لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن ليل الجاهلية إلى فجر الإسلام، وأنت إذ تقوم في قلب إسبانيا النائية عن جزيرة العرب إنما تمثل المسلم الذي لا تعرف أرضه الحدود، ولا يعترف بالفوارق الوطنية والحدود الجغرافية الضيقة، ولا يُقِر أفُقُه الواسع تقسيم الناس حسب الأصقاع والثغور واللغات والألوان.

     لقد وسعَتْ عاطفته المؤمنة، ورسالته المسلمة، ودولته الممتدة، وعزيمته الغالبة الشماء؛ الشرقَ والغرب، فليس الفرات ودجلة في الشام والعراق، والدانوب في أوروبا، والنيل في مصر، والتاج في طليطلة، والوادي الكبير في قرطبة؛ إلا موجة صغيرة في بحره الواسع ومحيطه الأعظم، وسعّتْ كذلك كل الأمم والأجناس والعادات والتقاليد والألوان واللغات والأزياء والموروثات الطيبة وصهرتها في بوتقة الإيمان العظيم، لتخرج من ذلك أنبل دولة شرفت بها الإنسانية وعظمت، وأكرم مجتمع عرفه تاريخ البشر، وأصدق حضارة طلعت عليها الشمس، وخير أمة أخرجت للناس.

     أیها المسجد العظيم!.. إن الغيب سر من أسرار الخالق جل شأنه، فلا يدري أحد متى تعود إلى أهلك وذويك!؟ لكننا الآن في عصر يقظة إسلامية هادية طيبة مباركة، وعسى أن يكون من بركات هذه اليقظة أن تعود مجدداً للإسلام، فيصدح فيك الأذان، ويرتل القرآن، وتقام الجُمع والجماعات الحسان.

*****

عبقرية البناء في مسجد قرطبة

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

عبقرية البناء في مسجد قرطبة

     ومسجد قرطبة هو المسجد الوحيد في أرض الإسلام الذي اعتمد على فكرة العقود المزدوجة، التي لا تجد واحداً من بينها يزيد قطره على خمسة وعشرين سنتيمتراً، وتنهي الأعمدة بعقود، وعلى رأس العمود قاعدة جديدة أقام عليها المعماري الفنان عموداً آخر، وتتشابك الأعمدة بعقود هي غاية في الدقة والرشاقة والذوق.

     فإذا نظر المرء إلى ذلك رأى نفسه في حديقة من حدائق الإيمان، كأن الأعمدة أشجار، والعقود فروع أثقلتها الثمار، أو كأنها نافورات تجمد ماؤها. وتمتد هذه الحديقة وتتسع، ويخيَّل إليك أنها تخطت البحار والجبال والصحارى حتى اتصلت بمساجد الشرق، في مصر والشام والجزيرة العربية.

     والمحراب آية رائعة من آيات الفن، وهو عبارة عن حجرة صغيرة، أو مسجد صغير سقفه من قطعة واحدة من الحجر على هيئة صدفة، وفوق بلاطة المحراب والبلاطتين المحيطتين بهما عن يمين وشمال ثلاث قباب صغيرة هي الذروة روعة وجمالاً ودقة فن.

     واستخدام الضوء كان بنسب تتوازن مع ما يدخل من الأبواب.. وهناك تحت القباب كانت قراءة القرآن، نور القلب تحت نور السماء، ونور السماء يتدفق على الأيدي المتوضئة.. نور القلوب ونور الشمس، نور البصيرة ونور البصائر.. نور الإيمان الرباني، ونور المؤمنين الربانيين، نور على نور.

     وفي الجزء الشمالي من المسجد صحن مكشوف تغطيه أشجار البرتقال، فإذا أسعدتك المنى فزرت المسجد، وكنتَ ناظراً إلى الخارج رأيت التداخل بين الأعمدة الرشيقة وبين أشجار الحديقة. وثمة اتجاه لدى بعض الإسبان -مسؤولين وغير مسؤولين- يرمي إلى نقل الكاتدرائية التي أقحمت على المسجد إقحاماً يؤذي العين، وينبو على الذوق، ويفسد سيمفونية الجمال المتكاملة في المعمار العام للمسجد، إلى مكان آخر مجاور، وإعادة المسجد إلى صورته التي كان عليها من قبل، وقد لقي هذا الاتجاه قبولاً طيباً، فالمسجد في كماله واكتماله عمل عبقري ندر أن يجود بمثله الزمان، حتى إنه بوسعك أن تقول: إن الذين يفدون إلى قرطبة إنما يفدون أساساً لزيارة المسجد، بل إن بوسعك أن تقول: إن قرطبة نفسها هي ضاحية للمسجد.

*****

مسجد قرطبة العظيم درة العمارة الإسلامية

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

مسجد قرطبة العظيم درة العمارة الإسلامية

     مسجد قرطبة العظيم، درة في جبين العمارة الإسلامية، وضع عبد الرحمن الداخل "صقر قريش" القائد العبقري، أول حجر فيه عام 780م، أما آخِر حجر وضع فيه فكان على رأس الألف الأولى الميلادية. قرنان وربع القرن من عمر الزمان، والعمل جارٍ في استكمال عمل فني ممتاز، تشعر حين تراه كأن المعماريين الذي أسهموا فيه عبر هذا الزمن الطويل، كانوا فريقاً واحداً يقوده عقل واحد.

     والراجح أن المسجد بُني على أرض عذراء، بدأ قسمه الأول في عهد عبد الرحمن الداخل، وجاءت توسعته الثانية في عهد عبد الرحمن الأوسط، أما الثالثة فقد جاءت في عهد عبد الرحمن الثالث وولده الحَكم الثاني، وهذه التوسعة الثالثة هي قمة عالية من قمم الفن الإسلامي وصل بها المحراب إلى ضفة الوادي الكبير وهو نهر قرطبة، وكأن مُلك بني أمية والمسجد كانا على موعد، فبعد هذه التوسعة بدأ الضعف في الدولة، وفي توسعة المسجد معاً.

     وجاءت التوسعة الأخيرة على يد الحاجب المنصور بن أبي عامر، ولم يكن أمامه إلا التوسع شرقاً على طول المسجد... الذي ظل عامراً بالصلاة والقضاء، وتدارس العلم والأدب، ومنارة للمعرفة والهداية، ومثابة للإيمان والتقوى، حتى اليوم الحزين، يوم سقوط قرطبة عام (1236م) حين خرج الإسلام والمسلمون من قرطبة، وتركوا المسجد يلقى صروف الزمان، وحيداً بلا حرسٍ ولا أعوان، صامتاً بلا قرآنٍ يُتلى، ولا أذانٍ يُرفع، سجيناً لا يُسمح له حتى بأن يُزار.

     وتطورت الأمور إلى الأسوأ، فحُوِّلَ جزء من المسجد تبلغ مساحته نحو 15% من مساحة المسجد الإجمالية إلى كاتدرائية، وحُوِّلَتْ مئذنة المسجد إلى برج للناقوس، ومن أجل إتمام ذلك أزيل ثمانون عموداً وقوساً وما فوقها من سقف، وأغلِقت أبواب كانت مفتوحة تدخل قدراً من الضوء أراده المهندس الفنان الذي صمم المسجد.

     ولم يكن التداخل المعماري محل رضا حتى الذين أمروا به، وجاء غير متناسب مع الوحدة الهندسية للبناء والحلول المعمارية التي ابتكرها العقل الذي ظل مسيطراً على البناء أكثر من قرنين حتى أتمه بهذه الصورة العبقرية التي لم تتكرر، لذلك لا غرابة أن تسمع أصواتاً من بعض الإسبان أنفسهم، تظهر بين الحين والآخر داعيةً إلى إزالة الكاتدرائية وإعادة المسجد إلى حالته الأولى.

     كانت لفتة مشكورة من المسؤولين في قرطبة أن جعلوا من برنامج المؤتمر الإسلامي المسيحي العالمي الأول (10–15 أيلول 1974م) أداء صلاة الجمعة في جامع قرطبة الكبير. ووقف المسؤولون الإسبان ظهر يوم الجمعة (26 شعبان 1394هـ/ 13 أيلول 1974م)، ليستقبلوا الوفود المسلمة؛ وهي تدخل إلى المسجد لتؤدي فيه صلاة الجمعة.

     في ضحى اليوم المذكور هبطت في مطار قرطبة طائرة قادمة من مدريد تحمل سفراء البلدان الإسلامية في إسبانيا، وهبطت طائرات قادمة من أقطار المغرب العربي تحمل صفوة من علماء تلك البلدان، والتقى الجميع في المسجد في المناسبة التاريخية تنتظمهم صفوف الصلاة، وينظر إليهم الناس في دهشة، فقد جاؤوا ليشهدوا هذا المشهد الغريب، وتوافدوا ليُشبعوا فضولهم حوله، ذلك أن أمر الصلاة كان قد ذاع.

     وتمر العين بصفوف المصلين الذين لم يشهد مثلهم المسجد الحزين الأسير منذ قرون طوال عباءات من المشرق، وبرانس من المغرب، رؤوس حاسرة، وعمائم ولحى بيضاء فيها جلال المشيب؛ كهول مكتحلون، وشباب في زهرة العمر، وكان صوت أحد القراء يرتفع بالقرآن الكريم، والساجدون الراكعون عن اليمين وعن الشمال.

     كنت ترى الدموع، وتسمع النشيج، تطلقه روعة الذكرى، وجلال الموقف، ومرارة الخسارة التي حلت بالمسلمين بخسارتهم للأندلس، وانطوى كل ضيف من المصلّين في ذلك اليوم المشهود على نفسه غارقاً في الذكرى الحزينة، والواقع الحاضر، والمستقبل المرجو؛ ترى أيعود المسجد لأهله وذويه ذات يوم!؟

     وتمتد الأعين الدامعة إلى الآيات الصامتة المنقوشة على جدران المسجد والمحراب والتي ظلت عصيّةً على البلى والفناء لتقرأ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43].

     لقد ظلَّت هذه الآيات صامتة على الجدران ثمانية قرون حتى صافحتها عيون المصلّين وأرواحهم في أول صلاة جمعة منذ أن خسر المسلمون المسجد وقرطبة والأندلس كلها. وارتفع صوت الأذان: "الله أكبر... الله أكبر"، وازداد معه الحزن والبكاء، وتذكر الحشد الأذان الأول، أذان بلال في المدينة المنورة، وكيف حملته القلوب والأيدي والألسنة المؤمنة عبر الصحاري والجبال والبحار، حتى شرَّقَ وغرَّب، ووصل من بين ما وصل إليه جامع قرطبة العظيم، وظل يتردد فيه قروناً حتى توقف يوم الأسر الحزين.

*****

مشاعر جامع قرطبة نحو المسلمين، وماذا قال إقبال؟

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

مشاعر جامع قرطبة نحو المسلمين

وماذا قال إقبال؟

     كانت لفتةً مشكورة أنْ سمح المسؤولون الإسبان في قرطبة لأعضاء الوفد الإسلامي لأحد المؤتمرات هناك بأداء صلاة الجمعة في مسجد قرطبة الجامع، ذي الشهرة الواسعة في الإيمان والعلوم، وفي البناء الرائع الشامخ، فقامت الجمعة في ذلك الجامع العظيم للمرة الأولى بعد انقطاع متصل استمر حوالي قرون ثمانية.

     وشهدت جدرانه ومنائره، وأرضه وجنباته، وأَفْنِيته وأبهاؤه، القرآن الكريم يُتلى، والأذان يعلو، والخطبة تجهر، والمصلون يركعون ويسجدون، وهو مشهدٌ لم يُعرف قط منذ أن سقطت قرطبة في يد الإسبان، وحُوِّلَ مسجدها الجامع إلى كاتدرائية.

     ترى كيف استقبلتَ ذلك كله أيها الجامع العظيم؟ لكأن جنباتك جميعاً في غاية الفرح والسرور، لكأن منائرك العالية الضاربة في الفضاء قد امتلكها فخارٌ جديد، واعتزازٌ باذخ، لكأن أرضك الحزينة التي طال عهدها بالساجدين الراكعين كادت تبكي من الفرحة التي ملكت عليها كل شيء، لكأن المنبر الحزين الأسير، فرح مستبشر بهذه المناسبة الفذة النادرة، يضوع عطراً وهناءً وسعادة، ويحنو على الخطيب، يُسِرُّ في أذنيه: أنْ مرحباً بك أيها الغالي الذي طال غيابه!.. وعسى ألا تكون خطبتك هذه آخر العهد، وعسى أن تسعى وإخوتُك المسلمون جميعاً لإنقاذي من الغربة الموحشة، وفكاكي من الأسر الذي طال، لأعود إليكم، وتعودوا إليَّ، فيتصل ما انقطع من حبال المودة، ويخضرّ ما صوّح من قديم الوصل، وتتوالى الجُمَعُ والجماعات الحسان، وتزدحم الصفوف المؤمنة، وتعلو الأصوات بالقرآن، ويرتفع عالياً مستمراً صوت بلال بالأذان.

     يا أندلس الإيمان والإسلام!.. يا أرض العطر والألق والجمال!.. يا موئل الأبطال الكرام والرجال الشجعان!.. أما اشتاقت أجواؤك إلى الأذان من جديد!؟ أما حننت إلى المسلمين النجب الذين عبروا إليك مضيق طارق، وجعلوا بلادك الخضراء الجميلة أرضاً للإسلام، تعلو فيها كلمته، وترفرف رايته!؟ وشادوا فيك حضارة زاهرة رائعة شهد بها كثير من المنصفين من غير المسلمين، شهدوا بعظمتها وأصالتها، وسموّها وإنسانيتها، والدور الخالد الذي أدّته في تاريخ البشرية حين أسهمتْ في نقل أوربا من أوحال الجهل والتخلّف والانحطاط إلى مطالع منظمة متعلمة متمدنة، إذا كان أبناؤها يفدون لتلقي العلوم والمعارف في المعاهد والجامعات الأندلسية المسلمة وفي طليعتها جامع قرطبة العظيم؟

     يا جامع قرطبة العظيم!.. إن يكنْ فيك شوق وقلق، وحرقة وأمل، ورغبة في غدٍ مشرق، فاعلمْ أن في الأمة المسلمة اليوم مثلَ الذي فيك. إن روح الأمة المسلمة مضطربة قلقة، جياشة موّارة، تطلب انتفاضة جديدة، يتخلص فيه المسلمون من سلبياتهم، ويعودوا حقاً إلى إسلامهم، ويكونوا القوة الجديدة التي تحمي الحضارة البشرية من الدمار، إذ يتولون قيادتها صَوْبَ كلِّ ما هو حقٌّ وصدقٌ وفضيلةٌ ونفع، ورشدٌ وهدى، بدلاً من قيادتها الحالية التي تسوقها نحو الشقاء، ولكنْ متى هذه الانتفاضة؟ إنها سر من أسرار الله تعالى لا ندري متى يكون، وإنْ كنا بحدوثها موقنين أشد اليقين، وها هي ذي بشائرها تطالعنا بين الحين والحين، والزمن دوّار، والعالم يتمخض بحوادث جسام:

والليالي من الزمانِ حُبالى     مثقـــلاتٌ يَلِدْنَ كلَّ عجيبِ

     وأنت يا شاطئ الوادي الكبير!.. يا نهر قرطبة الجميل!.. لعلك مشوق إلى من يتوضّأ من مائك ليصلي في الجامع الكبير، كما صلى أهالي قرطبة فيه حوالي خمسة قرون بعد أن عادوا من مياهك متوضئين.

     مَنْ يدري!؟ لعل أملك يتحقق من جديد، وإليك هذه البشرى التي يزفها إليك الشاعر العبقري محمد إقبال إذ يقول:

     "أيها النهر العزيز، إنَّ على شاطئك رجلاً يرى حلماً لذيذاً، يرى في مرآة المستقبل عصراً لا يزال في طيات الغيب، يرى عصراً قد بدت تباشيره، وظهرت طلائعه لعينه، ولكنها لا تزال محجوبة عن أعين الناس، ولو كشفتُ الغطاء عن وجه هذا العالم الجديد، وبحتُ بما في صدري من أفكار وأسرار لشقَّ ذلك على أوربا وفقدت رشدها وجنّ جنونها".

     أتدري ما الحلم الذي يتحدث عنه إقبال!؟ إنه الغد المأمول أن تنتزع فيه الأمة المسلمة قيادة الحضارة من أوروبا المفلسة الضالة.

     وبعد، فإن تكن الأندلس، وجامع قرطبة العظيم من أهم معالمها، قد أسدت إلى أوربا أيادي بيضاء في العلوم والمدنية كانت في أشد الحاجة إليها، فلعل في صلاة المسلمين اليوم في جامع قرطبة بشائر عصر جديد، يسدي فيه المسلمون إلى أوربا وإلى البشرية كلها أيادي بيضاء من جديد، هي في أشد الحاجة إليها، وذلك إذ يحملون لها الهداية والنور والحق، وكلمة الإيمان، ورسالة القرآن، وينقذونها بذلك مما تعاني من صنوف الشقاء والأحزان والفراغ والتفاهة، والتيه والضياع، والضلال والجهالات، والظمأ الروحي الفاتك.

     أيها المسجد العظيم!.. إن للمسلم الذي شادك واحة للإيمان، ومنارة للمعارف، ومثابة للعلوم، وجامعة كريمة تجمع خيري الدنيا والآخرة على السواء، عصوراً عظيمة في التاريخ لا ينقضي منها العجب، وحكاياتٍ في البطولة والشجاعة، ومواقفَ في النبل والإيثار والعطاء، لا تزال حتى الساعة، موضع الدهشة والاستغراب، فهو الذي قضى على العصر العتيق البالي، عصر الجاهلية، وأنهى ليله المتطاول، وهو الذي افتتح العصر الجديد.. عصر الإسلام الذي جاء لإسعاد الناس في دينهم ودنياهم، هذا المسلم إمامُ أهل الصدق والوفاء، والعاطفة الحية النبيلة، وهو فارس ميدان الإيمان والحنان، لسانه لبنٌ وعسل، وسيفه علقمٌ وحنظل، يعيش في ميدان الحرب، وتحت ظلال السيوف، متذرعاً بالتوحيد، فكلما اشتد عليه خطب، وكلما عضته حرب، وكلما حَزَبَه أمر التجأ إلى الله تعالى يعتصمُ به ويعتمدُ عليه.

     أيها المسجد العظيم!.. إنك حين مثلت المؤمن خير تمثيل، كشفت سره للناس، صورت تلك الحركة التي يقضي فيها نهاره، والرقة التي يُمضي فيها ليله، صورت للعالم مقامه الرفيع، وتفكيره السامي، ومسراته وأشواقه، وتواضعه وإباءه، وشدته.

*****

أول صلاة جمعة في جامع قرطبة بعد قرون، وماذا قال إقبال؟!

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

أول صلاة جمعة في جامع قرطبة بعد قرون

وماذا قال إقبال؟!

     قد يبدو أمراً عادياً جداً، لا يستحق كثيراً من التوقف والاهتمام؛ أن يقيم المسلمون صلاة الجمعة في مسجد أو جامع من جوامعهم، فما أكثر المساجد والجوامع في العالم الإسلامي!.. وفي غير العالم الإسلامي، وما أكثر الخطب التي تُلقى فيها يوم الجمعة!. لكنَّ الصلاة في جامع قرطبة شيء آخر، شيء له من الأهمية لا ينبغي أن تتوقف عنده القرائح والأقلام.

     فقصة جامع قرطبة قصة حزينة مأساوية، لا تزال جرحاً غائراً في وجدان كل مسلم، يسبب له الشجى والأحزان كلما تذكر الأندلس وسقوطها المحزن المأساوي.

     لقد ظل هذا الجامع العظيم مدة تقرب من خمسة قرون منارة هادية كريمة، منارة للإيمان والقرآن، ومنارة للعلوم والمعارف بجميع أصنافها، كان جامعاً وجامعة، كان مَعْبراً من معابر الحضارة الإسلامية إلى أوربا التي كانت غارقة في الجهل والتخلف والانحطاط.

     وظل هذا الجامع العظيم يؤدي دوره التاريخي الضخم، حتى دار الزمان، وقصّر المسلمون الأندلسيون في حق إسلامهم وحق أنفسهم، وبدأت موجتهم تنحسر، وموجة الإسبان تتقدم، فإذا بقرطبة تخرج من يد المسلمين، وتسقط في يد الإسبان، وإذا بجامع قرطبة العظيم يقع أسيراً في يد النصرانية التي حولته إلى كاتدرائية، ومنذ ذلك الحين، أقفر الجامع العظيم من الأذان والصلاة والجمعة، وظل على هذا الحال حتى يومنا الحاضر مدة تزيد على سبعة قرون من الزمان.

     إذن؛ هو أمرٌ هام، وغير عادي أن تسمح الحكومة الإسبانية منذ شهور قلائل للمسلمين أن يؤدوا واحدة من الجمع فيه. ومع تباشير الصباح البهيج الذي كانت فيه تلك الجمعة، هبَّ العديد من الذين جاؤوا من جهات مختلفة تخفق قلوبهم المؤمنة لهذا اللقاء الإسلامي الكبير، نحو جامع قرطبة العظيم، ليؤدوا صلاة الجمعة فيه، واصلين الحاضر بالماضي، معلنين استمرار الإسلام وامتداده، متجمعين في صحن المسجد يتعانقون ويتصافحون، والبِشْرُ على وجوههم المتوضئة المؤمنة، والفرحة تتغلغل في أعماقهم، وحركاتُهم تطفح بالسعادة والإيمان والبهجة. وسكان قرطبة الإسبان، واقفون مشدوهين متعجبين أمام هذا المشهد الذي لم يروه في حياتهم قبل اليوم.

     وحان وقت الصلاة، ورجَّعت جدران الجامع العظيم الأسير، صوت المقرئ يتلو آيات من كتاب الله عز وجل، لم يسمعها الجامع الحزين منذ قرون طويلة من الزمان حتى كاد ينساها، ولم تَعِ ذاكرته مثل هذا الموقف منذ يوم الأسر المرير، الانفعال بادٍ على الوجوه التي ظهر عليها التأثر. كل الوجوه تغيرت ملامحها، وبدا أن أصحابها يغالبون عواطف حارة غريبة في أعماقهم. وجوه المسلمين المصلين الذين كادوا يبكون، ووجوه النصارى الذين وقفوا في تأمل غريب ينظرون، والتكبير يرتفع هنا وهناك، والقرآن يُتلى، والأرض تعانق جباه الساجدين الذين غابوا عنها منذ دهر طويل، والعيون تذرف الدموع، والقلم يعجز عن وصف المشهد المؤثر.

     وينهض الخطيب فضيلة الدكتور الشيخ عبد العزيز الخياط، ويعلو الأذان، ويتردد التكبير ليخترق القلوب والجدران: الله أكبر، الله أكبر!.. ويقف الشيخ لإلقاء خطبة الجمعة.

     حمداً لك اللهم وشكراً، إننا نقف اليوم لنعبدك في هذا المكان العظيم بعد قرون ثمانية تقريباً، نقف في هذه الذكرى لنرجع بأرواحنا مئات السنين، إلى اليوم الذي كان الإيمان فيه يجلجل بصوته العالي، ويدوي بقوة وشموخ في قرطبة وفي الأندلس كلها لا يخشى سطوة باغٍ، ولا عدوان ظالم، ولا غرور طاغيةٍ غشوم، وتلقى الخطبة عن الحضارة الإسلامية، وتسامحها وإخائها، وتقام الصلاة، ويصطف المؤمنون في إنابة وخشوع، وتُصلى الجمعة بعد قرونٍ وقرون من تعطيلها في الجامع الحزين العظيم. ألا إنه يومٌ من أيام الله عز وجل!..

     وبعد؛ هنيئاً لك أيها الجامع العظيم!.. وعسى أن يكون صحيحاً ما يتردد من أن حكومة إسبانيا عازمة على ردّك للمسلمين، ومع هذه التهنئة إليك ما قاله فيك شاعر الإسلام الكبير محمد إقبال:

    "يا مثابة هواة الفن، يا مقصد رواد الجمال، يا مجد الدين الإسلامي، لقد سمت بك أرض الأندلس، وتقدست في أعين المسلمين.

     إنك فريد في الفن والجمال، ولا يوجد لك نظير تحت السماء إلا في قلب المؤمن.

     أين لنا أولئك الرجال!؟ هؤلاء الفرسان العرب، أصحاب الخلق العظيم، وأصحاب الصدق واليقين الذين برهنتْ حكومتهم أنها حكومة أهل القلوب خدمة وزهادة، وليس حكماً ولا تسلطاً.

     هؤلاء العرب المسلمون الذين كانوا مربّي الشرق والغرب، وكانوا أصحاب عقول حصيفة، وبصيرة نافذة، يوم كانت أوروبا تتسكع في الجهل المطبق، والظلام الحالك، والذين لا تزال في الشعب الإسباني، بفضل دمهم العربي، خفة روح، وحفاوة وبساطة، وجمال شرقي، فتكثر فيهم عيون المها، ولا تزال عيونهم ترشق بالنبال، ولا تزال الريح في الوادي تحمل نفحات اليمن ورنات الحجاز.

*****

زيارة إقبال إلى جامع قرطبة خلدت درة قصائده

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

زيارة إقبال إلى جامع قرطبة خـلّدت درّة قصائده

     كانت زيارة الشاعر الكبير الدكتور محمد إقبال لإسبانيا عام (۱۹۳۲م)، ووقوفه خلال تلك الزيارة في جامع قرطبة وقفة حب ووفاء وحنان وإيمان مناسبة حميدة ليكتب لنا الشاعر واحدة من درر قصائده، وهي "في جامع قرطبة"، ومن أجمل ما طفق الشاعر يقف عليه في قصيدته هو تلك الإشادة الحارة الجميلة بالصلة الروحية بين الجامع العظيم وبين المسلم الغيور الصادق في ولائه للإسلام، وذلك حين اتجه إليه بهذه النجوى المحببة الرائعة، حيث يقول في عقيدة مؤمن ودلال شاعر مُحِب:

     "إن بيني وبينك أيها المسجد العظيم نسباً في الإيمان والحنان، وتحريك العاطفة وإثارة الأحزان. إن الإنسان في تكوينه وخلقه قبضة من طين لا تخرج من هذا العالم، ولكن له صدراً لا يقل سمواً وكرامة عن أعظم الأشياء. فقد أشرق بنور ربه وحمل أمانة الله. إن الملائكة تمتاز بالسجود الدائم لكن في سجود الإنسان لوعة ولذة، ليس لهما نظير".

     ومن الطريف الجميل حقاً أن إقبالاً يتذكر جنسيته ووطنه، ويتذكر أنه هندي النجار، وأنه من إحدى بيوتات البراهمة، أسلم جده الأعلى قبل قرنين من الزمن. ويتذكر أنه أمام أثر إسلامي عربي قديم فيقول: "انظر أیها المسجد إلى هذا الهندي الذي نشأ بعيداً عن مركز الإسلام ومهد العروبة، نشأ بين الكفار وعُبّاد الأصنام؛ كيف غمر قلبه الحب والحنان!؟ وكيف فاض قلبه ولسانه بالصلاة على نبي الرحمة الذي يرجع إليه الفضل في وجودك!؟ وكيف ملكه الشوق!؟ وكيف سرى في جسمه ومشاعره التوحيد والإيمان!؟".

     ويذكره هذا المسجد العظيم بالمسلم العظيم الذي رفعه وشاده، وبالأمة المسلمة العظيمة التي تعبد الله تعالى في أمثال هذا البيت، فيرى أنه صورة صادقة للمسلم، فكلاهما يجمع بين الجلال والجمال، وكلاهما محكم البنيان، كثير الفروع والأغصان.

     ويلتفت إلى المسجد فيراه قائماً على أعمدة كثيرة تشبه في كثرتها وعلوها نخلاً في بادية العرب، ويرى شرفاته مشرقة بنور ربها ومنارته العالية الذاهبة في السماء منزلاً للملائكة، ومهبطاً للرحمة الإلهية.

     ذلك هو المسجد الطهور الذي أقفر من الصلاة والأذان والقرآن منذ قرون؛ منذ أن سقطت قرطبة بيد الإسبان حين عجز أهلها عن الوفاء بمستلزمات القوة والتفوق والبطولة التي يوجبها عليهم دينهم العظيم، وأخلدوا إلى الأرض فحلّ بهم الدمار.

*****

الأحد، 7 أغسطس 2022

إقبال والحب الذي يربطه بجامع قرطبة

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

إقبال والحب الذي يربطه بجامع قرطبة

     كثيرة هي الآثار التي تمر بها أو تمر بك من دون أن تترك فيك أثراً عميقاً أو شعوراً بالقرب منها؛ على الرغم من أن هذه الآثار ربما تكون ذات جمال فائق، وصنعة رائعة، وذوق وأناقة.

     لكن آثاراً أخرى تمر بها فلا تنساها، وتتوقف عندها فتظل وقفتك هذه محفورة في حسك وأعصابك ووجدانك على الرغم من تعاقب الليالي وكرِّ الجديدين، ويمكن رد السبب الى ألفة روحية تنشأ بينك وبينها، فتربط هذه الألفة بينكما برباط وثيق، وتسكن في أعماقك وتتأصل.

     ولا شك أن جامعاً ضخماً كجامع قرطبة لا يقف عنده المرء وينساه، بل إن وقفته تلك تضرب عميقاً في وجدانه، وتتغلغل في أعماقه، فهو جامع لا كالجوامع العادية لأنه أدى دوراً تاريخياً رائعاً، فقد كان واحة للإيمان تقوم فيه صفوف المسلمين تعبد الله تعالى واقفة ساجدة راكعة، ويدوي فيه الأذان، ويتلى فيه القرآن، وتؤدى فيه خطب الجمعة وما إلى ذلك.

     لكن هذا الجامع العظيم كان إلى جانب ذلك كله مثابة للعلوم والآداب، وكان خلية نحل يفد إليها الطلاب من كل جانب، وكان يستقبل العلماء من الشرق والغرب كما يستقبل الطلاب، لذلك أدى دوره مركزاً من مراكز الحضارة المنشئة المبدعة أحسن الأداء، وساهم في تحضير أوروبا وتمدينها حين كانت الأندلس من أهم معابر الحضارة الاسلامية إلى أوروبا.

     هذا كله إلى جانب فخامة البناء وسعته، وجماله وبساطته، وتفرده وقوته، جعلَ الجامعَ العظيم يحتل في قلوب المسلمين منزلة رائعة، وتقوم بينه وبين كل مسلم غيور ألفة روحية، وصداقة ومحبة، وتواصل قلبي عميق.

     وحين وقف الشاعر العظيم محمد إقبال في هذا الجامع الخالد طفق يقول له: "تدين أیها المسجد العظيم في وجودك لهذا الحب البريء، ولهذه العاطفة القوية التي كتب لها الخلود، فهي لا تعرف الزوال والانقراض".

     إن الشاعر يشير إلى العاطفة الدينية الكريمة التي حملت المسلمين على الفتوح حتى وصلوا الأندلس، فشادوا فيها وعمروا، وكان مما شادوا وعمروا هذا المسجد الكريم بصدق وإخلاص وحب ووفاء، فتميز بذلك على سواه من المباني التي هي حجارة فحسب، لَمْ تخالط بناتها لوعة، ولم تتدفق فيهم عاطفة من عواطف الحنان والإيمان، لذلك خاطب إقبال الجامع العظيم قائلاً له: "إن البدائع الفنية إذا لم ترافقها العاطفة، ولم يسقها دم القلب؛ أصبحت مصنوعات سطحية من لون أو قرميد أو حجر أو لفظة أو كتابة أو صوت لا حياة فيها ولا روح.

     إن الشوامخ الفنية لا تقوم إلا على العاطفة والإخلاص، والحب هو الذي يفرق بين قطعةٍ من الحجر وقلبٍ خفّاق حنون من البشر، فإذا فاضت منه قطرة على الحجارة الصماء خفقت وعاشت، وإذا تجردت منه القلوب الإنسانية جمدت وماتت".

*****

الأكثر مشاهدة