الخميس، 7 يوليو 2022

محمود شيت خطّاب.. ومسجد في كل كتيبة

محمود شيت خطّاب.. ومسجد في كل كتيبة

     للأستاذ الكريم، اللواء الركن، محمود شيت خطاب، جهود علمية مشكورة في التأليف الدقيق المتقن، فيما يتصل بالتاريخ العسكري للمسلمين، وله كتابات موسوعية في هذا الميدان، تدل على اطلاع واسع وعمل دؤوب، وله إلى جانب ذلك مشاركات إيجابية في جملة من النشاطات الإسلامية.

     وفي مؤتمر "رسالة المسجد" الذي شهدته مكة المكرمة في شهر رمضان كان للأستاذ اللواء محمود شيت خطاب إسهام جميل، تمثل في بحث علمي جاد قدمه للمؤتمر، بعنوان "الرسالة العسكرية للمسجد" وردَتْ فيه طائفة من الاقتراحات البنّاءة نجملها فيما يأتي:

1. يجب إقامة المساجد في كل وحدة عسكرية وكل معسكر، وفي كل مدرسة ومعهد وكلية، وحث التلاميذ على أداء الصلاة. لقد أقامَ الأجانب العسكريون، كنيسةً في كل بارجة ومدرعة، وفي كل وحدة وكتيبة، ومدرسة ومعهد ومعسكر، لإدراكهم أهمية الدين في نفوس العسكريين خاصة حين ينشب القتال، وتبرز أهمية القوة المعنوية عند المقاتلين.

2. يجب اختيار العلماء العاملين، ليؤدّوا واجب الإمامة في كل وحدة وكتيبة ومعهد، وكلية عسكرية وغير عسكرية، واختيار أمثال هؤلاء المخلصين ليكونوا أئمة في المساجد العامة.

3. إعادة النظر في تربية النشء المسلم، وصياغة مناهج تربيته على أسس مستمدة من تعاليم الدين الحنيف، ذلك أن مناهج التعليم الحالية في كثير من المدارس والمعاهد والجامعات تناقض الإسلام نصاً وروحاً.

4. على البلدان العربية والإسلامية، أن تختار العلماء العاملين المخلصين للنهوض بواجب التوعية الدينية في الإذاعة والصحافة وأجهزة الإعلام والمساجد والنوادي وقاعات المحاضرات.

5. إجراء مسابقات دينية بين العسكريين وغيرهم، مثل إتقان قراءة القرآن الكريم، وحفظه، وتفسيره، وما إلى ذلك.

     إن المسجد بالعالِم الديني الذي فيه لا بأحجاره، ونحن لسنا بحاجة إلى تخريج علماء موظفين، بل نحن بحاجة إلى تخريج علماء حقيقيين، ينهضون بأمانة الإبلاغ حق النهوض.

*****

دروس من الحاج أمين الحسيني

دروس من الحاج أمين الحسيني

     كان سماحة المرحوم المجاهد أمين الحسيني مجاهداً صادقاً ثابتاً من طراز نادر فذ، وقد جمع إلى إخلاصه الشديد لقضية فلسطين خاصة، وقضايا العالم الإسلامي عامة، معرفةً واسعة بالعدو الصهيوني الماكر، وخبرةً غنية جداً بطبيعته وخسّته، وكان حيث يتكلم يقدّم الأدلة القوية والحجج المقنعة على ما يقول. وأحسبُ أننا في ظرف حرجٍ دقيق يجعل من واجبنا أن نستقي الدروس من ذلك المجاهد الكبير.

     قال المجاهد المرحوم: ليست فلسطين كسائر البلاد الإسلامية التي ابتليت بالاستعمار، فهي فوق ابتلائها بالاستعمار ابتليت باليهود الذين جاؤوا للإقامة فيها بشكل دائم، وإبادة شعبها الأصلي، ولم يكن عدد اليهود حين احتلت بريطانيا فلسطين يتجاوز 4,5%؛ من عدد سكانها، لكنّ هذه الأقلية الضئيلة انقلبت إلى أكثرية بالهجرة اليهودية الدائمة التي دبّرتها بريطانيا مع اليهود مع الدول الاستعمارية الأخرى.

     إن شعب فلسطين جاهد بشرف وشجاعة وصلابة، لكنّ قوى الشر في العالم، شرقيةً وغربية تألّبت عليه وتآمرت ضده لا لشيء إلا لأن هذا الشعب مسلم بالدرجة الأولى. ولو لم يكن مسلماً لما اعتدى عليه أحد.

     ولعل أسطع برهان على جهاد شعب فلسطين وتمسكه بأرضه أن إسرائيل قامت على أرض مساحتها 7% من مساحة فلسطين كلها. وقد وردت هذه الحقيقة في تقرير بريطانيا إلى الأمم المتحدة عند رحيلها عام 1948م. وعندما اطلع الرئيس الراحل ديغول على هذه الحقيقة عام 1963م، قال مذهولاً: إنه أمر لا يكاد يُصدّق، وإنه لَعارٌ على المدنية الأوربية والأمريكية في القرن العشرين.

     إن اليهود شعب مختلف عن كل شعوب العالم بما أَخَذَ به نفسه من استعلاء وأنانية لأنه يعتقد أنه شعب الله المختار، وأنّ الدنيا ما خُلِقت إلا له، وأنّ جميع البشر هم بمثابة الحيوانات، وهم مُكلّفون بخدمة اليهود، لذلك جعلوا الوصايا العشر في تلمودهم خاصةً باليهود دون بقية الناس.

     لقد كُتِبَ علينا أن نخوض معركةً مع اليهود لا تنتهي إلا بهلاك أحد الفريقين، ومخطئ جاهل واهم مَنْ يظن أن صُلحاً يمكن أن ينهي هذه المعركة.

     أتُرانا نستفيد من هذه الحقيقة!؟ تُرى أنستفيد مما قاله المرحوم أمين الحسيني في ظروفنا الحالية التي تنوشُنا فيها ذئاب الغدر من كل جانب!؟

     فمن أهم ما ينبغي على الأمم الجادة أن تقوم به عنايتَها واهتمامَها بتجارب قادتها الأذكياء المخلصين خاصةً في القضايا المصيرية المهمة؛ لذلك لا غرابة إذا اقتنعنا، وإذا دعونا إلى قناعتنا هذه بأن علينا الاستفادة من تجارب المجاهد الكبير الحاج أمين الحسيني عليه رحمة الله، فهو من أكثر الزعماء المسلمين وعياً وإخلاصاً، خاصة في أهم قضايانا اليوم وهي قضية صراعنا مع العدو اليهودي. فكيف يصف الرجل المجرّب المحنك الخبير أخلاق اليهود؟ يقول الرجل في ذلك:

     وأمّا صفات اليهود فإني لا أجد أصدقَ ولا أدقَّ ولا أشملَ من الصفات التي وصفهم الله تعالى بها في كتابه العزيز وهي:

- شدة عداوتهم للمؤمنين: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [المائدة:82].

- قسوة قلوبهم: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة:74].

- طبيعتهم العدوانية: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة:78-79].

- حبهم للإفساد: ﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًاۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة:64].

- أنانيتهم وشحهم واستئثارهم: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ۖ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا* أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ [المائدة:52-53].

- استباحتهم لغيرهم من البشر: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران:75].

     ترى أثمّة شك في صحّة ما قاله المجاهد المرحوم الحاج امين الحسيني!؟

     الجواب: لا..؛ إنّ ما قاله صحيح تماماً، وتشهد بصحّته قضايا وبراهين وشواهد كثيرة جداً.

     وبادئ ذي بدء إنّ القرآن الكريم، كتاب الله الخالد، المحفوظ المصون، يشهد بذلك، فهذه الآيات التي قُدِّمت تعلن ذلك. إنها تصف اليهود بشدة عداوتهم للمسلمين، وتصفهم بقسوة القلب، وتصفهم بالعدوان، وتصفهم بأنهم مفسدون في الأرض، وتصفهم بالأثرة والشح وكراهية الخير للآخرين، وتصفهم بالكذب على الله، كما تصفهم بأنهم يستبيحون لأنفسهم غيرهم من الناس في أموالهم ودمائهم وأعراضهم وفي كل شيء.

     إنّ مِن أهم المهم أن يعي المسلمون ذلك، وأن تعيه الأجيال الجديدة منهم خاصة، فهناك مَنْ يحاول أن يمكّن لهم في بلادنا، ويتنازل لهم عمّا اغتصبوه من ديار المسلمين.

     وأيّاً كان فإن الصراع بيننا وبينهم لا ينتهي إلا بهلاك أحد الفريقين، ثم إن الصلح معهم لن يُنهي المشكلة قط، ذلك أنّ اليهود مشهورون بنقض العهود، وقد قال الله تعالى عنهم: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 100]، ثم إن تكاليف السلام معهم أخطر بكثير من تكاليف الحرب. وإذن فهو صراع لا سبيل لنا إلى الفكاك منه، فلْنكن فيه رجالاً مؤمنين، ولنتحمل أعباء الجهاد فيه، فذلك خير لنا وأكرم وأجدى في ديننا ودنيانا.

*****

جهاد الشيخ عز الدين القسام

جهاد الشيخ عز الدين القسام

     يُروى أن الشيخ المجاهد عز الدين القسام خجل من أن يعلّم الناس دروس الجهاد، ومتى يكون فرض عين على كل مسلم، وهو قاعد، والاستعمار جاثم على فلسطين يعمل على إعداد الأمور فيها لتكون دولة لليهود فيما بعد.

     خجل الشيخ المجاهد عليه رحمة الله من موقفه إذ هو قاعد، بينما وجب عليه النفير للجهاد في سبيل الله عز وجل، فخرج بنفسه يطبق ما يدعو إليه، وينفذ أمر دينه في وجوب المبادرة لجهاد الأعداء الذين احتلوا دار الإسلام في وطنه، ومضى في عصبة من المؤمنين المجاهدين، يقاتل العدو، فكان لتلاميذه أستاذاً في المسجد يعلمهم الحلال والحرام، وكان أستاذاً لهم في الميدان يعلمهم الجهاد في سبيل الله جل شأنه.

     وحين ضيّق عليه المستعمرون الحصار في أحد المواقع، لم يهِنْ ولمْ يلِنْ، بل صابَرَ وجاهد، وحثَّ من معه على الصبر والثبات فإما النصر وإما الشهادة، فاستُشْهِد القسام، واستُشْهِد من معه جميعاً، وأفضوا إلى ربهم شهداء كراماً، أحياءٌ عنده يُرزَقون.

     إنّ في الذي فعله الشيخ القسام رحمه الله تعالى وأجزل مثوبته؛ ما يكشف عن عظمة هذه العقيدة المكافحة التي تأبى على أبنائها القعود والركون والاستسلام، وتُهيب بهم أن يكونوا على مستوى جديتها وخطورتها، لذلك توجَّب عليهم أن يتحركوا للوفاء بمستلزماتها وإن كانت الظروف شاقة، والتحديات كبيرة، وجلّت المسؤولية وعَظُمَت، وقَلَّ الناصر والمعين.

     فالقسام ومن معه كانوا قلة في العَدد والعُدد، ولم يكونوا مُدَرّبين على فنون القتال والحرب، وكانوا يواجهون استعماراً في غاية القوة والدهاء هو الاستعمار الإنكليزي، يوم كانت إنكلترا دولة لا تغرب عنها الشمس، وكانوا يواجهون كذلك إخوان القردة والخنازير وتجار الحرب والمفاسد والآثام، كانوا يواجهون الصهيونية الباغية المجرمة. ومع ذلك كله لم يَرَ القسام ومن معه بُدّاً من الخروج، ورأوا في قعودهم ما يطعن في صدق إيمانهم فخرجوا بعددهم القليل، وسلاحهم الضئيل، وإيمانهم القوي الجسور، وظلوا يجاهدون حتى فازوا بشرف الشهادة ومثوبتها.

     إنها العقيدة الإسلامية المكافحة هي التي حركتهم، وهي التي منعتهم من القعود والركون، وأبَتْ عليهم ليّن المهاد، وطيّب الطعام، ولذيذ السبات، وما زالت بهم، تحثهم على أن يرتفعوا إلى المستوى الذي ينبغي أن يكونوا عليه، ويثبتوا صدق انتمائهم للإسلام، وبالفعل حاولوا ونجحوا في المحاولة إلى أقصى حدود النجاح، وقدّموا نموذجاً من نماذج حركة المسلم حين تستولي عليه عقيدته، نموذجاً أساسه العقيدة الصادقة، وبنيانه التضحية الغالية في وقت كانت تبدو فيه الظروف الخارجية غير مشجعة، مما يعطي الأمر دلالة أكبر، وهي أن لعقيدة الإسلام القدرة الدائمة على الكفاح والجلاد والصبر حتى في الظروف الشاقة، فضلاً عن الظروف العادية أو تلك التي تكثر فيها الأحوال المواتية المشجّعة.

     وفي الحرب الفلسطينية الأولى التي كانت فيها جيوش عربية نظامية، وكانت فيها قوات فدائية شعبية، تجاهد هي الأخرى، دون أن ترتبط بحركات الجيوش العربية وتوجيهاتها، كنت تجد في هذه القوات الفدائية المتطوعة، رجالاً حرّكتهم العقيدة المكافحة المجاهدة فتوافدوا صابرين محتسبين لا يعرفون لجهادهم معنى إلا أنه في سبيل الله جل شأنه، توافدوا من مصر والشام، والأردن والعراق..، وغير ذلك من ديار الإسلام، بجهودهم الذاتية ومواردهم المحدودة، يتغلبون على دواعي القعود في أنفسهم أولاً، ويتغلبون على العراقيل التي كانت توضع في طريقهم، وألوان المصادرة والتضييق والتنكيل ليواصلوا المسير في طريق الجهاد، طريق القسّام الذي كان استشهاده لا يزال قريب العهد، واستطاعوا أن يسطّروا في تاريخ الجهاد صفحات رائعة مشرقة، تذكرك بصفحات الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، بلغ من روعتها وصدقها وأصالتها أن شهد بها بعض قادة اليهود أنفسهم في هاتيك الأيام، وإن حاولوا أن يشوهوا دوافعها الربانية النبيلة، وهذا ينهض دليلاً صادقاً على أهمية هذه العقيدة الإسلامية ودورها المبارك في إيقاد دوافع الجهاد والكفاح لدى أبنائها.

     أن تمتلك العقيدة الإسلامية القدرة على التحرك في أوقات الرخاء والعافية والكثرة، والقوة المرهوبة الجانب، أمر حميد طيب، لكنه أمر لا تنفرد به دون العقائد الأخرى. أمّا أن تمتلك القدرة على التحرك في أوقات الشدة والمحنة والقلّة، وتكالب العدو وبغيه، فذلك هو الأمر الحميد الرائع الذي تنفرد به دون العقائد الأخرى جميعاً، وهذا يدل على مقدرتها الذاتية على التحرك، التي تتيح لها ذلك في كافة الظروف والأحوال.

     وهذه الخاصية ظلت طيلة أحقاب التاريخ الإسلامي سبباً من أسباب بقاء هذا الدين، وانتشاره من بعد التوقف، وامتداده من بعد الانحسار، وهي في جوهرها دليل كبير على أنَّ هذا الدين رباني المصدر، محفوظ بحفظ الله تعالى له.

     إنَّ وعْيَنا بهذه الحقيقة، حقيقة عقيدتنا المكافحة الصابرة، جزء من حسن فهمنا لديننا الذي ينبغي أن نتصف به، وهو بعد ذلك سبب من أسباب إدراكنا للنصر إن شاء الله في هذا الوقت الذي تنوشنا فيه التحديات من كل جانب.

*****

عبد الكريم الخطابي

عبد الكريم الخطابي

     يوم اجتاح العدوان أرض الجزائر الأبية، وقف مجاهدوها الأبطال يقودهم البطل المؤمن الفارس الشجاع، الأمير الشاعر، عبد القادر الجزائري يقاتل قتالاً ضارياً لا هوادة فيه، سيظل دائماً موضع الفخار والإعجاب، والتقدير والإكبار، ذلك أنه موقف عملاق ثبت فيه ضد قوى كبيرة، تفوقه في العدد والعدة، والتدريب والتنظيم.

     ويوم وقف عبد الكريم الخطابي بطل الجهاد الدائب الصبور في الريف المغربي المسلم، يقاتل الجيوش الباغية الضخمة، ويحقق انتصارات عجيبة مذهلة، بأسلحته المتخلفة البسيطة، وموارده المحدودة الضعيفة، وإمكاناته المادية الفقيرة، عجب الناس أشد العجب لما تستطيع هذه الأمة المسلمة أن تقوم به حتى في أيام ضعفها ومحنتها مما يدل على أصالة ذاتية متميزة وقدرة مكنونة جبارة، وقوى مذخورة بالغة الخطورة.

     وموقف الخطابي –مثله كمثل موقف الأمير عبد القادر– موقف عملاق ينبغي للوفاء بحقه أن يُدرس بأناة وإحاطة، فهو مع الأسف مجهول من أكثر الناس بالرغم من ضخامته وعظمته.

     وإن ما قيل عن الجزائري والخطابي، يقال عن جهاد المختار في ليبيا ضد الطليان، وجهاد عرابي في مصر ضد الإنكليز، والمهدي في السودان، وأحمد بن عرفان في الهند، ومحمد حتَّى وسوموتو في إندونيسيا والأفغان، والشام والعراق.

     لقد كان جهاداً كبيراً جداً نهض به رجال عظام أوفياء، كرام شرفاء، مواقفهم في الشجاعة والصدق والبلاء شامخة باذخة، خالدة رائعة. لقد عوضوا عن نقص الموارد بعظمة الإيمان، وعن قلة العدد بالإقدام الجسور، وعن ضعف الإمكانات بالإقدام والجرأة.

     وأمثال تلك المواقف الكبرى مواقف الشجاعة البدنية الخارقة، كانت تستمد من معين ثرٍّ دفاق، هو الموقف النفسي الذي كان يملكه أولئك الرجال المجاهدون، وهو موقف يمتاز بالثقة والاستعلاء، والأصالة والذاتية، والشموخ والترفع، والأنفة والإباء، واليقين الراسخ المكين، بأنهم وحدهم على الحق الذي لا شائبة فيه من باطل، مهما توالت عليهم الهزائم، وأن عدوهم على الباطل مهما استطاع أن يحقق من انتصارات.

     أن يكون للمرء مثل هذا الموقف النفسي الشجاع وهو في حالة النصر أمر منطقي، وبدهي ومتوقع، لأنه ينسجم مع طبائع الأمور، وحقائق الأشياء، ونواميس الحياة، والفطرة البشرية التي فطر الله الناس عليها. ولكن أن يكون للمرء مثل هذا الموقف، وهو مهزومٌ جسداً، مقهورٌ أرضاً، مغلوبٌ جيشاً، مغلولٌ سلاحاً، مقتَحَمٌ داراً وموطناً؛ فهو أمر يستدعي الإكبار والإعجاب، ويستثير الدهشة والتقدير ويستأثر بالألباب والأبصار، وإنه لبعض عطايا الإسلام ومنحه لأبنائه.

*****

مجاهدو التحرير

مجاهدو التحرير

     تعاني الأمة المسلمة اليوم من حروب كثيرة متنوعة، بعضها علني مكشوف.. وبعضها مستتر خفي. بعضها مباشر واضح، وبعضها مُلْتَوٍ ملفوف. قد تختلف ضراوة هذه الحرب، وقد تتباين صورها وأشكالها، وقد تتعدد دوافعها، لكن الدافع الأكبر لها، كراهية الأعداء لهذه الأمة، بسبب انتمائها إلى الإسلام، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [البروج:8]. هذه الحقيقة يجب أن نعيها بغاية الوضوح والجلاء، ونحن ندرس مواقع أقدامنا وصراعنا مع أعدائنا.

     ومن البشريات الخيّرة في حياة الأمة المسلمة اليوم، أنها على الرغم من كل الذي حلّ بها من كوارث لا تزال في جملتها صحيحة الولاء لإسلامها، ولا يزال دينها الخالد العظيم قادراً على تفجير طاقاتها حين تتوافر شروط ذلك.

     إن الإسلام هو عقيدة هذه الأمة، ومحاولات إبعادها عنه ليست دليلاً على أن الأمة عامة قد غيّرت قِبلتها، وإنما هي محاولات قام بها الأعداء ووكلاؤهم في المنطقة. وضراوة المحاولة المعادية لفصل الأمة عن إسلامها تؤكد الانتماء ولا تنفيه، لأنها ما كانت ضارية إلا بسبب ولاء الأمة الوثيق لإسلامها.

     إن الأمة قد استقر في أعماقها أن الإسلام ليس دينها الصحيح النقي فحسب، بل هو إلى جانب ذلك، يشكل لها العاصم والملجأ والملاذ في هذه الدنيا، حين تقسو عليها الظروف، وتكثر في مواجهتها التحديات.

     وحين يقول المرء: إن الإسلام حَمى وجود الأمة وكيانها، فإنه يقرر بذلك حقيقة ضخمة كبيرة باتت في غاية الجلاء، وكثرت عليها الشواهد.

     خذ ليبيا مثلاً.. إن ليبيا لا تاريخ لها إلا الإسلام، ويوم أن وجدت نفسها تحت وطأة المستعمرين، يذلّون كرامتها، ويضطهدون خصائصها، لم تجد سوى الإسلام تلوذ به ليحميها، ولقد حماها الإسلام حقاً وحفظ وجودها حين أشعل بعقيدته روح الجهاد في نفوس أبنائها.. فقاتلوا المستعمرين قتالاً موصول الأنفاس والدمار والشهداء.

     وليست ليبيا وحدها هي التي حماها الإسلام، ووصل من خلالها، جهاده القديم في حركة الفتوح، بجهاده الحديث في حركات الاستقلال في العالم الإسلامي التي نشبت ضد الغزاة الطامعين.

     إن حركات الاستقلال في العالم الإسلامي كله، فجّرها إسلاميون مجاهدون رأوا في الوجود الاستعماري ذلاً مفروضاً على الأمة، وأيقنوا بقوة أن السكوت على هذا الاستعمار والاحتلال طعن في إيمانهم، ونقص في دينهم، واتهام لشجاعتهم وكرامتهم.

     حركة استقلال إندونيسيا قامت على أكتاف رجال مؤمنين كانوا يخططون للمعارك في المساجد، ويقاتلون باسم الإسلام وتحت رايته.

     والحركة المهدية في السودان نسجها الإسلام، وجمع المجاهدين حولها، وهي حركة كانت لها أهداف واسعة، فلقد كانت تعتزم تحرير العالم الإسلامي كله من الاستعمار، ولم تجعل غايتها سودانية فحسب.

     وفي مصر كانت أفواج المقاومة الشعبية وقودها الدين، فأيامَ الحملة الفرنسية كان الأزهر خليّة الجهاد، وأيامَ الإنكليز كانت الأفواج الشعبية المؤمنة تخرج من الأزهر الشريف ومن جامعة القاهرة التي ظهرت فيها هي الأخرى طلائع مؤمنة في غاية الشجاعة والرجولة، وكانت هذه الأفواج تقوم بنفسها بالجهاد وتحرّض الجماهير عليه.

     وفي غينيا كان الشيخ توري ومَنْ سبقه من العلماء يَصِلون ليلهم بنهارهم ضد الاستعمار.

     وفي الجزائر بدأت حركة الجهاد من الكهوف التي عكف فيها العلماء على تحفيظ الأجيال الجزائرية، القرآن الكريم، من خلال جمعية العلماء التي أسسها عبد الحميد بن باديس، وخلفه محمد البشير الإبراهيمي رحمهما الله. ولقد ظلّت حركات الجهاد الجزائرية من عبد القادر الجزائري إلى آخرها التي انتهت بالاستقلال، وقودها ودافعها الإسلام، ومن الريف الجزائري المسلم تَشَكّل الجيش الذي قدّم مليوناً من الشهداء.

     في الريف المغربي كان الأمير عبد الكريم الخطّابي ورجاله الشجعان يخوضون حرباً دينية جهادية خاصة ضد الإسبان.

     وفي الأفغان كانت قبائل الباتان تقاتل بروح جهادية مؤمنة، وفي الهند كان أحمد عرفان الشهيد وأضرابه من المجاهدين يقومون بالذي يقومون به من قتال ضد الإنكليز، ودوافعهم في ذلك إيمانية جهادية خالصة تشهد بذلك أقوالهم ومواقفهم وسيرهم المدوّنة المعروفة.

     وفي فلسطين شعر الشيخ عز الدين القسام رحمه الله بالحياء لأنه يدرّس لطلابه في المسجد، الجهاد وأحكامه وآدابه، وهو عنه قاعد، فترك مداد العلماء وكتبهم، واختار دماء الشهداء وأسلحتهم، وقاتل بمن معه حتى استشهد رحمه الله.

     وبعد دخول الإنكليز إلى العراق، كان العراقيون يقاتلون المستعمرين بدوافع دينية، وكانت فتاوى العلماء ومواقفهم خير مفجّر لحركة الجهاد، وثورة عام 1920م؛ في العراق خير دليل على ذلك.

     وفي سوريا كان حسن الخرّاط وأمثاله، من عامة الناس يقاتلون بروح دينية جهادية، أما العلماء والمشايخ فإن أمرهم في ذلك أوضح وأبْيَن وأشهر.

     وحين اقتحم الغزاة من يونانيين وغيرهم تركيا بعد الحرب العالمية الأولى كان الشعب التركي، بجنده وعلمائه وعامته يخوض حرباً دينية جهادية في غاية الصراحة والوضوح، كانت الحرب عنده، حرباً بين الهلال والصليب، بين المسلمين والكفار. فالإسلام، هو دين هذه الأمة، وطريقها إلى الهداية والفلاح والفوز في الآخرة.

     وهو كذلك سبيل سعادتها الدنيوية، إنه حصنها وملاذها وملجؤها أيام الصعاب، ووقود الجهاد والتحرير فيها. وقوتها الدافعة الضخمة الجبارة إلى النجاة من الغزاة والمعتدين فحسب، وإلى اقتحام مواقع المجد والعزة، وتسنُّم ذرى الكرامة والغلبة.

*****

سليمان الحلبي طالب العلم المجاهد

سليمان الحلبي طالب العلم المجاهد

     لقد كان حرصُ المسلمين على دينهم، وتمسكهم به، ويقينهم الراسخ بصحة ما فيه، واستعلاؤهم على الآخرين بالحق الذي يملكون، وتحويلُهم الإيمانَ من قناعةٍ عقلية وجدانية إلى ممارسة عملية تطبيقية، السببَ الذي يقف وراء انتصاراتهم الكبرى أيامَ الامتداد والزحف والتقدم، وكان أيضاً السببَ الذي يقفُ وراءَ تماسكِ مجتمعهم أيامَ التوقف والانحسار، وكان كذلك عِلَّةَ جهادهم الضخم الواسع، ومقاومتهم الفذة الشجاعة، أيامَ أنْ اقتحم العدوُّ دارَهم، ووطئ بخيله ورَجِلِه بلادهم، وسلب خيراتها، واستباح حرماتها، وبغى فيها وظلم، وعدا واستأسد.

     تلك حقيقة تكاد تحتل مكانةَ البداهةِ لمن درسَ التاريخ الإسلامي ووعى عبره ودروسه، واستقرأ أخبارَ معاركه، ومتى كان النصرُ ومتى كانت الهزيمةْ، والظروفَ والملابساتِ التي أحاطت بذلك.

     وانظرْ إلى أي مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي يَأْتِكَ نبأُ هذه الحقيقةِ الكبيرة أوضحَ من الشمس وأبين. خُذْ مثالاً على ذلك ما جرى لدى هجوم نابليون بونابرت على مصر، أي في المرحلة التي اقتحم الأعداء فيها ديار الإسلام، وحكموا فيها معظم العالم الإسلامي الذي سقط في أسر الغزاة، ففي مصر كان الإسلامُ وقودَ الجهاد ضد بونابرت، فكان الهتاف العظيم: "وا إسلاماه!.." جذوةَ القتال، وكان الشعار الرباني الكريم: "الله أكبر!.." قبسَ الصراع في الليل المظلم، وشعلة الفداء والإيمان، وحافزَ الناس نحو الاستشهاد.

     بهذا كان المصريون يكافحون ويستبسلون، بالإسلام العظيم، عقيدة الحق والبطولة، والإباء والشموخ، والرفعة والبذل، لذلك لم يكن عجيباً أن ينجحَ المسلمون في قهر نابليون وهو القائد الذي أذلَّ معظم أوربا، نعم قهروه وأذلوه، حتى تظاهرَ المسكينُ بأنه مسلم، وأنه حامي حمى الإسلام، محاولاً بذلك خديعةَ الناس وغِشَّهم، ومضى في مزاعمه فقال: إنه سيعمل على إعادةِ حكم الإسلام، وإقامةِ نظامٍ على مبادئ القرآن، بل إن مينو القائدَ الثالث في الحملة الفرنسية على مصر أعلنَ إسلامه على رؤوس الأشهاد.

     أما القائد الثاني الذي جاء بعد نابليون وقبل مينو، وهو كليبر فقد قُتِل على يد شاب أزهري، جاء من حلب ليدرس الإسلام في الأزهر الشريف، وهو سليمان الحلبي الذي فاز بالشهادة بعد أن حكم عليه الفرنسيون بالإعدام لقتله كليبر.

     كان المصريون إذن يقاتلون نابليون ومَنْ بعده بالإسلام الذي يبثُّ فيهم البطولة والقوة، وكان الصراع واضحاً جلياً في نفوسهم، وهو أنه جهاد في سبيل الله جل جلاله، وبهذا الجهاد الصادق المشرِّف أخفقت الحملة الفرنسية مصر، وهي الحملة الصليبية الأولى في العصر الحديث التي اقتحمت ديار العالم الإسلامي. أخفقت هذه الحملة ببقيةٍ من روح "وا إسلاماه!.." التي كانت تتدفق في صدور أبناء مصر، وجاهدَ المماليكُ إلى جانبِ المصريين ضد أولئك الذين جاؤوا يستترون وراءَ شعاراتِ الحرية والإخاء والمساواة، كما استتروا قبل ذلك وبعده وراء شعارات مضلِّلة كثيرة.

     "وا إسلاماه!.." إذن هي الطريق، هي الطريق الوحيد لاستثارةِ مكنوناتِ الأمة المسلمة، واستجاشةِ قدراتها المبدعة الكبيرة في حركةٍ إيجابية بنّاءة، وهي الطريق لنغلب اليهود العادين الذين يجثمون في قلب ديار الإسلام، ويَأْسِرونَ المسجدَ الأقصى الطهور منذ سنوات شداد عجاف، هي الطريق لتدميرِ معنويات اليهود المتغطرسة، وتحويل الحرب معهم إلى حرب دينية مقدّسة شاملة، وهذا أشدُّ ما يخشاه اليهود.

     إنهم يخشون انتفاضةَ الأمةِ المسلمة ودويَّ "وا إسلاماه!.." في جنباتها لأنهم يعلمون أن ذلك هو نهايتُهم التي لا ريب فيها، لأن الأمة المسلمة بهذه الانتفاضة، وذلك الدوي ستتحرك فيها إيجابياتٌ لا عدَّ لها. سيقف فيها تراثُ حضارةٍ شريفة هي حضارة الإسلام خلالَ أربعةَ عشرَ قرناً، وأكثر من مليار مسلم هم الرصيد البشري لأمة الإسلام، ضد عشرين مليوناً من عبيد المال، وتجّار الأعراض، ومدمّري الحضارات، وصانعي الفتن والحروب والمفاسد، وناكثي العهود، وأعداء الفضائل والأخلاق.

     سيقف تراث الإسلام وحضارته البانية المباركة، ضدَّ تراثِ اليهود وحضارتهم الفاسدة المدمرة. وكما انتصرت حضارةُ الإسلام ضد التتار والصليبيين تحتَ راية "وا إسلاماه"، ستنتصرُ ضد اليهودِ تحت الرايةِ نفسها التي ما رفعتها الأمة المسلمة إلّا عادتْ عليها بأطيبِ الثمار.

*****

من ثمرات الأقلام

من ثمرات الأقلام

     كتب الدكتور عماد الدين خليل، الباحث الجاد المبدع يقول في خاطرة له تحت عنوان "أنت قدر الله":

     جئت اليوم يا أخي لأحدثك حديث الأعماق المؤمنة إلى الأعماق المؤمنة، فالذين تحرقهم نار العقيدة لا يستطيعون السكوت على ظلام الجاهلية وزيفها وخداعها، والذين تغلغلت في دمهم وأعصابهم فكرة الإسلام العظيم لا يستطيعون القعود والانتظار، وقوى الطاغوت تأخذ بزمام البشرية، وتسير بها في طرقات الشيطان فتعذبها وتسحقها وتشقيها.

     واليوم ترتفع صرخات كبار مفكري العالم تنذر بالويل من المصير الأسود الذي ستؤول إليه المسيرة المعاصرة وتطالب بالإنقاذ... إنقاذاً يتطلب من طلائع البشرية أن تسير على طريق جديد، متوحد مستقيم، تظلله القيم الروحية والأخلاقية، ويحكمه التوازن بين المادة والروح، ويوجهه الله الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى.

     لقد تكلم "برناردشو" و"اشبنجلر" و"توينبي" و"كولن ولسون" و"برغسون" و"ياسبرز" و"ماسنیون" و"ديورانت" وغيرهم كثيرون، كلهم أعلنوا عن مأساة الإنسان المعاصر، وعن اليوم الذي ستنهار فيه حضارة المادة التي لا توائم الإنسان ولكنهم كلهم لم يعرفوا الطريق.. لأن الطريق بأيدينا نحن المسلمين، فما دامت البشرية تشقى بنُظُمِها وتجاربها الوضعية، وما دامت شعوب الأرض في كل مكان تعيش أقسى تجربة عرفها التاريخ، فإن البديل لن يكون إلا المبدأ الذي رسمه الله طريقاً حقاً لمسيرة الإنسان نحو الغاية التي خُلِق من أجلها، لن يكون إلا الإسلام "ذلك الدين القيم".

     فهل عرفت ضخامة المسؤولية الملقاة على عاتقنا، أن نحمل عقيدتنا الإسلامية إلى شعوب الأرض، أن نقدم للنداءات الشقية المرتفعة من هنا وهناك، التجربة التي تحدد لهم معالم الطريق، وأن نتسلم زمام حضارة جديدة لا تهددها بالدمار قنابل واشنطن وموسكو، ولا تمزق أعصاب أبنائها مبادئ الوضعيين الذين اتخذوا من الشعوب والأمم حقولاً لتجاربهم.

     فويل للذين يقفون في وجه القوى الإسلامية المكافحة في كل مكان من العالم الإسلامي، إنهم إذ تأسرهم شهوة الحكم، أو تحركهم قوى الاستعمار، أو تدفعهم شهوة الطغيان لصب حقدهم الأسود على رؤوس المجاهدين، إنهم إذ يفعلون ذلك يعتقدون أنهم سيقفون إلى الأبد أمام سنة الله التي لن تجد أية قوة في الارض لها تبديلاً أو تحويلاً... السنة التي تقرر أن الأرض الله يورثها من يشاء من عباده الصالحين الذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً، وما مأساة الحضارة المعاصرة ونُظمها الوضعية سوى في تعالي الطاغوت وإفساده في الأرض في كل مساحات الحياة: عقيدة وتصوراً وسلوكاً.

*****

شكراً أيها القاضي!

شكراً أيها القاضي!..

     يُحكى أنه في عام 1934م قرأ عبد القيوم خان الأفغاني المسلم في كتاب هندوكي بذيء، مطاعن كاذبة توجه إلى صفوة الخلق محمد ﷺ، فامتلكه الغضب لكنه مضى في القراءة، فإذا بالكتاب يزدحم بأكاذيب وافتراءات مشينة كثيرة.

     وانعقدت محاكمة مَثُلَ أمامها الكاتب الهندوكي المفتري، فحرص عبد القيوم خان على أن يشهدها ليرى بنفسه أي حكم سيَصْدُر على المتهم الكذوب.

     وفي المحكمة استمع إلى المناقشة بين القاضي والمتهم، وكم كانت دهشته بالغة عندما علم أن الحكم يقضي بسجن المتهم أياماً أو شهوراً فقط، فغلى الدم في عروقه، وقرر أن يعاقبه بنفسه، وأن يكون هو القاضي الذي يُصدِر الحكم، والشرطي الذي ينفّذه، فما كان منه إلا أن استلَّ خنجره الرهيف، وصرخ صرخة مدوّية، وقفز إلى الجاني فقتله وسط الذهول الذي سيطر على القضاة والحضور وهو يهتف: خذها طعنة قاتلة جزاء افترائك على الرسول سيدي محمد ﷺ، لقد ثأرتُ لك، وما أعذب الموت في سبيلك!.

     وسيق الفدائي إلى السجن، وجرت محاكمته، ولم تكن ثمة حاجة إلى شهود وبيّنات فهو مُقِرٌّ بفعلته، بل مفتخر بها. وقال القاضي في نص الحكم: إن المتهم عبد القيوم خان لم يقتل المؤلف الهندوكي لعداوة سالفة أو إحنة سابقة، وإنما قتله دفاعاً عن رسوله، وانتصاراً لنبيّه، ولكن القانون لا يبيح هذا القتل المتعمّد المقصود، وعليه فقد تقرر إعدامه، وليرحمه الله.

     وهنا وقف عبد القيوم وقد ارتسم الفرح والبِشرُ على وجهه، وارتفعت هامته اعتزازاً، وهتف بصوت جهوري: "شكراً أيها القاضي! إن سيدنا محمداً ﷺ هو رسولنا وهادينا إلى الصراط المستقيم، ولو قُدِّرَ لي أن أحيا ألف مرة، وأن أموت ألف مرة في سبيله لَما وفّيتُه بعض حقه على الإنسانية، ولكنها ميتة واحدة مع الأسف، وإني لفخور بهذا الحُكم. شكراً أيها القاضي لأنك مهّدتَ لي طريق الاستشهاد من أجل محمد ﷺ. اللهم تقبّل شهادتي في سبيل شرف رسولك، وأَلْحِقني بأصحابه، الله أكبر".

*****

خطبة جمعة على ظهر سفينة

خطبة جمعة على ظهر سفينة

     أثر القرآن الكريم في النفوس حقيقة مقررة، وفِعله في القلوب غريب وعجيب، ولكن الأغرب والأعجب أن يثير القرآن الكريم مشاعر امرأة غير مسلمة، لا تعرف اللغة العربية من قريب أو بعيد، ويجعل عينيها تفيضان بالدمع.. ومع ذلك نحتاط فنقول: لا عجب ولا غرابة!.. فالقرآن كلام الله، وهو موجّه للناس جميعهم.

     يحكي الشهيد العالم الأديب سيد قطب رحمه الله، قصة جميلة في هذا المجال، عاشها على ظهر سفينة تتجه به إلى أمريكا يوم سافر إليها، وقد ذكرها في تفسيره في ظلال القرآن، وذلك في آخر تفسير قوله تعالى‏: ﴿أمْ يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ (يونس:38)، فيقول:

     "أذكر حادثاً وقع لي وكان عليه معي شهود ستة، وذلك منذ نحو خمسة عشر عاماً... كنّا ستة مسلمين على‏ ظهر سفينة مصرية تمخر عباب المحيط الأطلسي إلى‏ نيويورك، من بين (120) راكباً وراكبة أجانب، ليس فيهم مسلم.. وخطر لنا يوم الجمعة أن‏ نقيم صلاة الجماعة في المحيط على‏ ظهر السفينة! واللَّه يعلم -أنّه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة لذاتها أكثر ممّا كان بنا حماسة دينية إزاء مبشِّر كان يقوم بمزاولة عمله على‏ ظهر السفينة، وحاول أن يزاول تبشيره معنا!... وقد يسَّر لنا قائد السفينة -وكان إنجليزياً- أن نقيم صلاتنا، وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمتها -وكلهم نوبيون مسلمون- أن يصلي معنا من لا يكون في (الخدمة) وقت الصلاة!. وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً، إذ كانت المرة الأولى‏ التي تقام فيها صلاة الجماعة على‏ ظهر السفينة... وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة، والركاب الأجانب معظمهم متحلقون يرقبون صلاتنا، وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على‏ نجاح (القدّاس)! فقد كان هذا أقصى‏ ما يفهمونه من صلاتنا! ولكن سيدة من هذا الحشد -عرفنا فيما بعد أنّها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم تيتو وشيوعيته!- كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع، ولا تتمالك مشاعرها.. جاءت تشد على‏ أيدينا بحرارة، وتقول -في إنجليزية ضعيفة-: إنّها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح!.. وليس هذا موضع الشاهد في القصة... ولكن ذلك كان في قولها: أي لغة هذه التي يتحدث بها (قسيسكم)!؟ فالمسكينة لا تتصور أن يقيم (الصلاة) إلّا قسيس -أو رجل دين- كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة! وقد صححنا لها هذا الفهم! وأجبناها، فقالت: إنّ اللغة التي كان يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب!.. وإن كنت لم أفهم منها حرفاً... ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول: ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه.. إنّ الموضوع الذي لفت حسي، هو أن (الإمام) كانت ترد في أثناء كلامه -بهذه اللغة الموسيقية- فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعاً.. هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث فيَّ رعشة وقشعريرة! إنّها شيء آخر! كما لو كان الإمام مملوءاً من روح القدس! حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها!. وتفكرنا قليلًا، ثم أدركنا أنّها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة! وكانت -مع ذلك- مفاجأة لنا تدعو إلى‏ الدهشة، من سيدة لا تفهم مما نقول شيئاً!".

*****

أدب الانحلال.. أدب العبيد

أدب الانحلال.. أدب العبيد

     كتب سيد قطب يقول:

     أدب الانحلال هو في الغالب أدب العبيد، عبيد الطغيان أو عبيد الشهوات، وحين تُسْتَذَلُّ النفس البشرية لطاغية من طغاة الأرض أو لشهوة من شهوات الجسد فإنها تعجز عن التحليق في جو الحرية الطليق، وتلصق بتراب الأرض، وترتكس في وحل المستنقع، مستنقع الشهوة أو مستنقع العبودية سواء.

     فأدب الانحلال على هذا هو أدب العبودية، وهو لا يَرُوج إلا حين تفرغ الشعوب من الرغبة أو من القدرة على الكفاح في سبيل مثل أعلى، مثل أرفع من شهوة الجسد، وأعلى من تملق الطغيان لتحقيق مطمع صغير أو مطمع حقير، أي عندما تصبح الدنيا "سيجارة وكاس!.."، أو تصبح الحظوة عند الطغاة أمنية المتمنين في دنيا الناس.

     عندئذٍ يظهر في الأمة كُتّاب، ويظهر في الأمة شعراء، ويظهر في الأمة فنانون يلبّون هذا الفراغ من المثل العليا، ويمثلون هذا الارتكاس في حمأة الشهوة أو حمأة العبودية، وعندئذ يستمع الناس إلى هؤلاء الكُتّاب والشعراء والفنانين لأنهم يصوّرون مشاعرهم ويصوّرون أحلامهم، ويُزيّنون لهم الراحة من الكفاح والاطمئنان إلى الدَّعَة، والإخلاد إلى حياة الفراغ والترهل والانحلال.

     إن هؤلاء الكُتّاب والشعراء والفنانين يقومون حينئذٍ بمهمة تخدير الشعوب وتنويمها، سواءً سبّحوا بحمد الطغاة أو سبّحوا بحمد الشهوات، فأمّا حين يسبّحون بحمد الطغاة فهم يزيّفون الواقع على الشعوب، ويستنفدون طاقتها في الرجس والدنس، ويدغدغون غرائزها فتظل مشغولة بهذه الدغدغة، لا تفكر في شأن عام، ولا تحسّ بظلم واقع، ولا تنتفض في وجه طاغية لتناديه: "مكانك فنحن هنا!.."، فالشعب المستغرق في ذلك الخدر اللذيذ ليس هنا وليس كذلك هناك.

     والتاريخ يشهد أن الطغيان يملي دائماً لهذا الصنف من الكُتّاب والشعراء والفنانين، ويهيّئ لهم الوسائل، ويتيح لهم الجو الذي يسمح لهم بالعمل: جو الفراغ والترف والانحلال.

*****

الأكثر مشاهدة