الأحد، 2 يناير 2022

شباب متجدد

شباب متجدد

     حين كنت طالباً في الجامعة، كان الشباب يبدو لي جميلاً واعداً ممتداً من ناحية، وكان يبدو لي وكأنه ملك يدي من ناحية، ولذلك كنت أمارس نوعاً من التسويف الخاطئ يصرفني عن الجد اللازم الذي ينبغي لي أن أبذله في شؤون ديني ودنياي، وكنت أقول لنفسي: سيظل الشباب بين يدي حتى الأربعين.

     وحين اقتربت من الأربعين وجدت الشباب قد تفلّت مني، فقلت لنفسي: بل الشباب يمتد حتى الخمسين، فلما اقتربت من الخمسين رفعت سقف الشباب إلى الستين، فلما جاءت الستون رفعت سقف الشباب فجعلته مفتوحاً، وقلت لنفسي: الشباب هو شباب القلب، فالإنسان يبقى شاباً مهما امتد به العمر إذا كان قلبه عامراً بالأمل، وروحه ملأى بالعزيمة، وإرادته تحفل بالعطاء.

     أما التسويف الذي وقع مني ولا يزال يقع، فهو خطأ فادح، والتسويف من ألد أعداء الإنسان، حتى إن أحد المربين الصالحين من سلفنا الصالح وصفه بأنه من جند الشيطان.

     أما محاولتي تجديد الشباب، أو بالأحرى تجديد الإحساس به، فما هو بخطأ، لأنه لون من مخادعة النفس لتستمر في إحساسها بالحياة، وبإحساسها أنها لا تزال فاعلة نافعة.

     ولإحساس المرء إزاء نفسه، وإزاء الآخرين، وإزاء الحياة أثر مهم في شبابه وشيخوخته، ولرُبَّ شابٍّ في ميعة العمر يحمل نفسية شيخ واهن، ولرُبَّ شيخٍ واهن جاوز السبعين يحمل نفسية شاب متدفق.

     هذا الإحساس بالشباب المتجدد يحتاج إليه الناس جميعاً، وبخاصة من جاوز سن الستين، وتقاعد عن العمل إذا كان موظفاً، ذلك أنه يمنحه شعوراً بالحياة والأمل، ويمنحه عزيمة تنأى به عن العجز والخمول، ويمنحه رغبة في العطاء والنفع، إنه لأمر جميل جداً أن يشعر الإنسان إذا كبر أنه لا يزال نافعاً، وأن له رسالة في الحياة يؤديها، ويزداد هذا الأمر جمالاً حين يكون الإنسان مكفي المؤونة غير محتاج إلى السعي في طلب الرزق، ذلك أنه يشعر في هذه الحالة بنعمة اللَّه تعالى عليه، الذي جعل يده عليا، والذي مد له في عمره، ففرغه للصالحات الباقيات، من الصلوات، والتلاوات، ومجالسة الصالحين، وبذل المعروف، وقضاء الحوائج، وما إلى ذلك من أبواب الخير الكثيرة التي فتحها لنا ديننا العظيم.

رسالة ماجستير

رسالة ماجستير

     نوقشت ضحى يوم الخميس «14/ 7/ 1437هـ، 21/ 4/ 2016م»، رسالة الماجستير المقدمة من الطالب محمد الودعاني، في كلية اللغة العربية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، وكانت اللجنة المناقشة: الدكتور محمود عمار مشرفاً، والدكتور حسن النعمي، والدكتور عبد الكريم عبد الكريم، وحاز الطالب درجة الماجستير بتقدير امتياز، وكان موضوع الرسالة: شعر حيدر الغدير دراسة أسلوبية.

     وقد ترددت كثيراً في حضور المناقشة، ثم حضرت، ودخلت القاعة بهدوء شديد، وانتحيت جانباً كأني لا أريد أن يراني أحد، لكن الدكتور المشرف رآني فحياني وهو على منصة المناقشة، وأثنى علي ثناء يليق بذوقه وخلقه.

     انتهت المناقشة وكانت في غاية الدقة العلمية، والصراحة في الثناء وفي النقد عليّ وعلى الطالب، وكما أجادت اللجنة في مناقشة الطالب علمياً وذوقياً، أجاد الطالب كذلك في ردوده علمياً وذوقياً، وبذلك كانت المناقشة رفيعة المستوى بفضل اللَّه.

     ظللت في مكاني جالساً صامتاً، فلما انتهت المناقشة جاء إلي الدكاترة الثلاثة في ود صادق، وأدب رفيع، فتبادلنا التحيات والعناق، ثم أخذت لنا ومعنا الطالب الصور التذكارية.

     وجدت من واجبي أن أقابل هذا الأدب العالي بمثله، فقلت للدكاترة وللطالب الودعاني: أنا اليوم بينكم خاطب لا خطيب، جئت أخطب منكم الود والأخوة، وستكون استفادتي من الملاحظات العلمية على الرسالة أكثر من استفادة كاتبها الودعاني.

كدت أنهار

كدت أنهار

     نشأت بفضل اللَّه تعالى مسلماً عربياً، معتزاً بالإسلام، معجباً بالعروبة، كان ذلك بسبب بيئتي التي نشأت فيها، وهي بيئة مسلمة عربية، ثم بسبب أساتذتي الذين عمقوا فيَّ هذه الروح، وبسبب حبي القراءة حباً جماً منذ الصغر، وبذلك ازدادت معرفتي بفضائل الإسلام، وبفضائل العروبة، من مروءة وكرم، وحب للآخرين، وسعادة في خدمة الأخيار، وما إلى ذلك، وهو ما تشربتُه من القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة، وعظمة التاريخ الإسلامي وبطولاته، ونبل السجايا العربية ونقائها، ثم إني عكفت على عيون الشعر العربي الذي أُولِعت به من صغري، فوجدت فيها عرضاً بديعاً شائقاً لهذه السجايا يغري باتباعها، فازددت حباً لها، وإعجاباً بها.

     وقد سكنت هذه الفضائل أعماقي، وصارت بوصلة لي في حياتي، ويعلم اللَّه تعالى أني كنت أتمثل بها، وأحاول أن أكون على مقتضاها دوماً، ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

     ومن أفضال اللَّه عليَّ أنه كانت لي قدرة على خدمة الآخرين، خدمة تتفاوت قوة وضعفاً، من حال إلى حال، لكنني ظللت في كل الأحوال مولعاً بصناعة الخير مع الآخرين في فرحة واحتساب.

     ومع الزمن بدأت وقائع الحياة تدعوني إلى المراجعة بسبب ما لقيته من هذا وذاك، من قريب، أو زميل، أو إنسان له صفة دعوية، أو ضيف نرى له علينا حق الضيافة.

     وعلى المرء أن يعجل بالحسم مع هؤلاء وأمثالهم، فهم صنف رديء دنيء، والمضيُّ معهم أكثر مما ينبغي بالدعم والصبر، له مضار كثيرة، إذ يستسهلون النعمة التي تأتيهم من غيرهم دون أن يكدحوا في سبيلها، ويعتادون الكسل والاتكالية، وتعظم فيهم روح الدناءة والصغار، وتموت فيهم روح الجدية والكرامة، فيصبحون عبئاً حقيقياً على أنفسهم وذويهم، مثلهم مثل الحشائش الطفيلية الضارة التي تنبت في الحدائق والمزارع، يضاف إلى ذلك أنهم ينظرون إلى من يستمر في عونهم، على أنه إنسان طيب إلى درجة الغفلة والبلاهة التي تجعلهم قادرين على خديعته، إن المروءة مع أهل السوء خطأ، أما الاستمرار فيها معهم فهو خطأ مضاعف وحماقة غبية.

     رأيت العقوق، والكذب، والسرقة، ونكران الجميل، والشتائم الدنيئة الملأى بالحقد والحسد، ومعاذ اللَّه أن أعمم، فالتعميم خطأ كبير، لقد وجدت عدداً من الأوفياء الأخيار الذين يمثلون نماذج مشرفة للنبل والشرف، لكنهم قلة قليلة.

     هناك أقارب عجزة لا يحتملون عناء الصبر والكفاح والرضا بالقليل، ويريدون أن يعيشوا فوق قدرتهم، فإذا صنعت لهم خيراً، ودعوتهم إلى العيش في حدود قدرتهم غضبوا جداً، وإذا توقفت عن إعطائهم ما يريدون، وكما يريدون؛ سبوك سباً مقذعاً، ودعوا عليك، وفي هؤلاء وأمثالهم يصدق قول الشاعر:

إن ذا اللــؤمِ إذا أكرمتَــهُ     حسب الإكرام حقّاً لزمَكْ

     وقول الآخر:

كحمارِ الســـوءِ إِن أشبعتهُ     رفسَ الناسَ وإِن جاعَ نَهقْ

     وقول الآخر:

وظلم ذوي القربى أشدُّ مضــاضةً     على المرء من وقع الحسام المهنَّدِ

     وما قيل عن أقارب السوء وزملاء السوء هؤلاء؛ يقال عن آخرين لهم صفة دعوية لا يستحقونها في قليل أو كثير، هذا إمام في مسجد، وهذا خطيب يعظ الناس، وهذا ذو عمامة كبيرة ولحية طويلة، وهذا عضو بارز في مؤسسة دينية رسمية أو شعبية، وهذا إنسان تحول الدين عنده إلى حرفة يعيش منها، ماتت فيه روح الدعوة، وانطفأت فيه حرارة الرسالة، ودفء الأخوة، وصار يؤدي عمله بصفة ميكانيكية آلية لا حياة فيها ولا حمية، لأنها عنده مجرد وسيلة للكسب لا أكثر ولا أقل.

     وقد حزنت حزناً عميقاً لما رأيت وطال حزني، وبدأ ظني بالناس يسوء، وبدأت أميل إلى العزلة، حتى كدت أنهار؛ أنهار لا بمعنى التخلي عما أحببته من مكارم الأخلاق والسجايا، فذلك ما يحث عليه الدين الإسلامي، والفطرة السوية، بل هو ما تحبه المعادن الكريمة التي توجد في كرام الخلق من مسلمين وغير مسلمين، والمعادن الكريمة ليست حكراً على المسلمين، وقد تجد مسلماً معدنه دنيء، يجاوره غير مسلم معدنه نبيل، ولكن أنهار بمعنى أن أعيش إنساناً سلبياً، فضائله شخصية خالصة، لا يهتم بالآخرين، ولا يسعى في خدمتهم.

     لقد حزنت كثيراً لما رأيته من سوء الأقارب والزملاء، ولكن حزني لما رأيته من سوء الآخرين الذين لهم صفة دعوية كان أكبر بكثير، لأنهم بسوئهم يقدمون نماذج زائفة للعمل الدعوي تصد عن سبيل اللَّه، وتعطي أعداء الدين حجة لتشويه الدين، وتشويه صورة دعاته، حتى الأخيار منهم، وأنا أرى بإصرار أن يمنع هؤلاء من العمل الدعوي، على أن تهيأ لهم فرصة العيش الكريم من غير الدين، يُقْصى هذا عن الإمامة، وذاك عن الخطابة، وذاك عن التدريس، وتحلق لحية الرابع، وتنزع عمامة الخامس، وهكذا.

     إنَّ العمل الإسلامي ينبغي أن يقوم به الأخيار الأذكياء من أصحاب المعادن الكريمة والعقول الراجحة والنفوس الطيبة، لأنهم أجدر الناس بهذه المهمة الشريفة، ولا يعني هذا أنهم لا يخطئون، فالخطأ من طبيعة البشر، لكن لهم ميزة كبرى، فهم إن أصابوا فذلك خير، وهو المتوقع منهم، وإن أخطؤوا ردتهم مزاياهم إلى الصواب، وهو خير، وهو المتوقع منهم كذلك.

     أما الأذكياء الفاسدون، والأغبياء المخلصون، والمشوهون في عقولهم، أو في نفوسهم، فينبغي أن يُمْنعوا من العمل الدعوي بتاتاً، لقد كانوا وسيظلون أرزاء على البلاد والعباد، والدين والدنيا، والتاريخ الإسلامي ملآن بحكاياتهم وحماقاتهم، وعندي أن حماية العمل الدعوي من أذى هؤلاء ينبغي أن تسير جنباً إلى جنب مع اكتساب مواقع جديدة له، بل ربما ينبغي أن تتقدم عليه أخذاً بالقاعدة الأصولية التي تقرر أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ذلك أن دين اللَّه عز وجل، أعز وأعظم وأشرف من أن يقوم به ذكي طالح، أو غبي صالح.

وهؤلاء الذين ينبغي أن يُمْنعوا من العمل الدعوي، هم مسلمون، ولديهم حظوظ متفاوتة من الخير والشر، وينبغي للعمل الدعوي أن يبذل جهده في تربيتهم والارتقاء بهم، إن منعهم واجب علينا، ودعوتهم واجب علينا أيضاً، إنهم مسلمون كانوا ويظلون، لأن الإسلام يقرُّ بالضعف البشري، فيستوعب الذكي والغبي، والشجاع والجبان، والكريم والبخيل، ومَنْ يأخذ بالعزيمة ومَنْ يأخذ بالرخصة، وهكذا، والتفاوت بين الناس من سنن اللَّه تعالى في خلقه، وله حكمته البالغة.

     طال حزني لما رأيت، ولكن اللَّه تعالى مَنّ عليَّ بعدد من الخيار، كنت أشكو لهم ما بي، فيربطون على قلبي، وكأني المعنيّ بقول الشاعر:

ولا بدَّ من شكوى إلى ذي مروءةٍ     يواسيـــكَ أو يُسْليكَ أو يتوجَّـــــعُ

     ثم إني تذكرت مجموعة من القصص القديمة، نعرفها جميعاً منذ الطفولة، لكن تذكرها في الموقف الذي كنت فيه كان نافعاً جداً لي، مسح عني الحزن، وأعادني إلى الاعتدال والاستواء.

· منها قصةُ قابيل الذي قتل أخاه هابيل، الذي لم يؤذه قط.

· ومنها قصةُ سيدنا يوسف عليه السلام مع إخوته الذين همُّوا بقتله، فاكتفى أرشدهم بإلقائه في البئر.

· ومنها سيرةُ أعمام الرسول صلى الله عليه وسلم، منهم من دافع عنه بشجاعة حتى الموت، لكنه لم يسلم (أبو طالب)، ومنهم من أسلم وحسن إسلامه (العباس)، ومنهم من أسلم إسلام إيمان وشجاعة وحمية، وقاتل حتى استشهد، فكان سيد الشهداء (حمزة)، ومنهم من عاداه أشد العداوة حتى هلك، وأنزل اللَّه عز وجل فيه قرآناً يتلى إلى آخر الدهر (أبو لهب).

· ومنها حديث الإفك، حيث اتهمت فيه السيدة الطاهرة عائشة الصديقة بنت الصديق، بالفاحشة، وهي أطهر عرض، زوجها الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وأبوها الصديق رضي الله عنه، وكان ممن اتهمها أحد الصحابة الذين شاركوا في معركة بدر، ولهؤلاء منزلة عظمى، وكان فقيراً يقدم له الصديق ما يعينه على العيش الكريم، وقد غضب منه لافترائه على ابنته الطاهرة، وأقسم إنه لن يساعده بعد الإفك الذي شارك فيه، فنهاه اللَّه تعالى عن ذلك.

     إن اللَّه تعالى وضع أمامنا هذه القصص، وهناك كثير غيرها، لنتذكر أن الدنيا دار ابتلاء، وأن المجتمع المسلم مهما طهر وسما فليس مجتمع ملائكة، بل هو مجتمع بشر يصيبون ويخطئون، وأن الإساءة قد تأتي للإنسان حتى ممن أحسن إليهم من أقارب وأباعد، وهذا مما يهون عليه ما أصابه، وخصوصاً إذا تذكر أن من هم أحسن منه بكثير أوذوا أكثر منه بكثير، وإذا تذكر أن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، وأن الدار الآخرة هي دار القرار، الذي ينبغي للإنسان أن يعمل للفوز فيها.

     على أن هذا الموقف الإيجابي الحميد، الذي ينبغي للمسلم أن يقفه إزاء الأذى الذي يتعرض له، ينبغي أن يصاحبه موقف إيجابي حميد آخر، يكمل موقفه الأول ليكون ممن ينتفع بأخطائه، ويمنع تكرارها.

     وخلاصته أن يتسلح بالحذر في التعامل مع الآخرين، ويميز بين أنواعهم ومعادنهم وقدراتهم، وينزل كل واحد منهم المنزلة اللائقة به، وإذا توسم في واحد منهم خيراً فواجبه أن يمنحه الثقة بالتدريج، حتى تكون خسارته يسيرة إذا تبين له أنه ليس جديراً بالثقة.

     كما عليه أن يفكر في البدائل الجديدة التي ينبغي له أن يتخذها حتى لا يكون عاجزاً سلبياً.

     وأن ينظر إلى الخيرات الكبيرة المتنوعة التي يرفل فيها، من نعم سابغة، وإخوانٍ أخيار، والعاقل ليس له أن يأسى على ما أصابه من أذى، وينسى الخيرات التي تحيط به.

     وعليه أن يتذكر أيضاً أن المصيبة في الدنيا مهما عظمت أهون من المصيبة في الدين.

     وأن يتذكر كذلك أن له أجراً كبيراً عند اللَّه عز وجل على ما أصابه إن صبر واحتسب، وبذلك تذهب عنه العَبْرة، وتبقى لديه العِبْرة، وفي ذلك خير كبير.

     وينبغي للمسلم أن يستصحب قاعدة الاعتدال في علاقاته مع الآخرين، أياً كانوا، فالإسلام دين أخوّة، وجماعة، ومحبة، وتعاون، والمسلم إلف مألوف، لكن عليه أن يحذر من الطرفين المذمومين في هذه العلاقات: أولهما: التوسع الزائد فيها، لأن أغلب العلاقات التي من هذا النوع تنتهي إلى الفتور، وربما إلى العداوة، وثانيهما: الجفاء الذي يجعلها باردة، لا حياة فيها ولا روح، وكأنها عمل ميكانيكي رسمي، يؤديه الإنسان، لأنه مكلف به لا أكثر، ولا أقل.

     ومما يتصل بقاعدة الاعتدال هذه أن يميز الإنسان بين الناس من حيث فضائلهم، وقدراتهم، ومعادنهم، واهتماماتهم، ويعيد النظر في حكمه عليهم بين الحين والآخر على ضوء ما يرى منهم تقديماً، وتأخيراً، وحذفاً، وإضافة، وتعديلاً.

     ومما يتصل بهذه القاعدة أيضاً حسن التعامل المالي، الذي ينبغي أن يكون في غاية الدقة والوضوح والصراحة، وفي حدود الحاجة الكافية، وفي حدود القدرة الممكنة، فالهبة شيء، والهدية شيء، والقرض شيء، ولا ينبغي لشيء أن يأخذ مكان سواه.

     والقرض بالذات ينبغي أن يكون قائماً على الرضا، لا على الإلحاح والحياء، وأن يوثق بالكتابة، وأن يؤدى في وقته، والتعامل المالي بين الأصدقاء اختبار حقيقي لدقتهم، وأمانتهم، واحترامهم لأنفسهم، وهذا اختبار يخفق الكثيرون فيه، وينجح القليلون، وكما أن على المقترض أن يكون صادقاً في طلبه من حيث وجود الحاجة الداعية للاقتراض، ومن حيث العزيمة الجادة على الأداء، فإن على المقرض أن يتحلى بالشجاعة والصراحة في شروطه، وأن يعتذر إذا لم تكن له ملاءة مالية، أو لم تكن له ثقة بطالب القرض، وقد يقع الإنسان في الحرج في حالة رفضه للإقراض، لكن هذا الحرج سيوفر عليه ما يشعر به من الندم والضيق والمطالبة بالسداد، إن أقرض من لا يستحق، أو أقرض من لا يملك ملاءة مالية كافية، وما قيل عن القرض يقال عن أي تعامل مالي آخر، ويزداد التأكيد عليه كلما ازدادت أهمية هذا التعامل.

     وباجتماع هذين الموقفين المتكاملين، ينجو المسلم المصاب بالأذى من طول الحزن، ومن الاكتئاب، ومن العجز والسلبية، ومن إساءة الظن بالجميع، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن ذلك يجعله قادراً على التجدد، والابتكار، والأمل، وحسن الظن بالناس، وبذلك يعيش مسلماً إيجابياً سعيداً، ينفع الناس، وينفع نفسه، حتى يلقى اللَّه تعالى راضياً مرضياً.

مشروع دعوي نادر المثال

مشروع دعوي نادر المثال

     في ضحى يوم الإثنين «28/ 5/ 1429هـ، 2/ 6/ 2008م»، زرت برفقة الأخ الكريم الدكتور عبد الباسط بدر، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، في المدينة المنورة، على منوِّرها أفضل الصلاة والسلام.

     دخلنا المجمع على موعد مع أمينه العام الأستاذ الدكتور محمد العوفي، الذي كان في استقبالنا، وأخذنا في جولة طويلة في أنحاء المجمع، وأبهائه، وقاعاته، وآلاته، ومستودعاته...، وهو يشرح لنا ما نمر به.

     لم أكن أفهم كثيراً من هذه القضايا الفنية التي كان الأمين يشرحها لنا، لسببين، الأول: أني لا أعرف كثيراً من القضايا، ولا أحسن استيعابها، لأنها ليست من اهتمامي، الثاني: أن الفرح كان يملأ علي أقطار نفسي، كان الفرح في عقلي وروحي ونفسي يتحول إلى أكاليل من الثناء والدعاء تصعد إلى بارئ الأرض والسماء، وإلى بساتين من الشكران والرضوان تسجد للرحيم الرحمن.

     ذلك أني وجدت المال ينفق بذكاء وسخاء في أكرم الميادين وأجلها وهو خدمة كتاب اللَّه تعالى، دستور الأمة، وهاديها إلى الفلاح في الدنيا والآخرة.

     وأني وجدت النيات المؤمنة، والأيدي المتوضئة، والعزائم الجادة، والخبرة المتمكنة، تطوّع ابتكارات العلم الحديث، لخدمة كتاب اللَّه تعالى بحماسة وجدارة واقتدار، في هذا المجمع النادر المثال، وهو أمر يؤكد أنا نحن - المسلمين - قادرون على طيِّ الفجوة العلمية بيننا وبين من سبقونا، والإضافة إليها، والابتكار فيها، وذلك حين تتوافر لديهم النية الصادقة، والعزيمة الجادة، والأداة المسعفة، كما أنه أمر يدعو قادة المسلمين، وأمراءهم، وعلماءهم، وأغنياءهم، إلى أن ينفقوا أموالهم في مشروعات عظيمة النفع، ميمونة الاختيار، محكمة التخطيط، كهذا المشروع الجليل النبيل.

     ومما يجدر ذكره أن هذا المجمع يصدر ثمانية ملايين نسخة من المصحف الشريف في العام إذا كان العمل فيه وردية واحدة، فإذا كان العمل ورديتين يصدر ضعف ذلك.

     ومما يجدر ذكره أيضاً أن له عناية متميزة بترجمات معاني القرآن الكريم إلى لغات جديدة، ومراجعة الترجمات السابقة لمزيد من الإتقان.

     والشكر كل الشكر لكل من أسهم في هذا المشروع المبارك، منذ أن كان فكرة في الضمير إلى أن صار حقيقة بالغة الروعة، والشكر كل الشكر للعاملين فيه أجمعين، وعلى رأسهم سعادة الأستاذ الدكتور القدير الحازم الألمعي «محمد العوفي» حفظه اللَّه ورعاه.

رؤيا مباركة

رؤيا مباركة

     صليت الصبح في وقتها بفضل اللَّه تعالى، ثم اضطجعت على السرير أقرأ الورد اليومي فنمت، رأيت أني في حقل صغير أخضر، أسقي بالخرطوم - وأنا فرح مسرور - نخلة عجيبة، عظيمة القطر، جذورها ضاربة في الأرض، وفروعها باسقة في السماء، وتبدو أعظم وأجمل من النخل المعتاد، فأولت الرؤيا خيراً.

     أولتها أن ما انتهيت إليه من خلال قراءاتي ومتابعاتي الطويلة للعمل الدعوي، هو صحيح تماماً، فيه القوة والرسوخ والصواب، وإن خالف الكثيرين ممن حاورتهم فيه، وأن علي أن أصر عليه وأبشر به حيث استطعت.

     هذا من حيث العموم.

     أما من حيث الخصوص فقد وجدت في هذه الرؤيا بشارة مشجعة تخبرني أن مدرسة الحرمين في نيبال، التي شرفني اللَّه تعالى بخدمتها، ستكون بإذنه وعونه نموذجاً تطبيقياً لما أحلم به في تلك البلاد.

     لقد ربطت هذه الرؤيا على قلبي، وأشعرتني أني في الطريق الصحيح، والحمد للَّه تعالى على أفضاله التي لا تعد ولا تحصى.

عيوب وذنوب

عيوب وذنوب

     فطر اللَّه تعالى الإنسان مجبولاً على الخطأ والنقص والنسيان، لكنه برحمته الواسعة التي وسعت كل شيء أعطاه الفرصة ليتوب ويتجدد، ووعده بالقبول.

     ولي مثل خلق اللَّه أجمعين عيوب وذنوب، أقع فيها بين الحين والآخر، ونسأله تعالى أن يستر منا العيوب، ويغفر لنا الذنوب.

     ومن فضل اللَّه عليّ أن ولائي للإسلام، وحبّي له، واقتناعي بأنه سبيل سعادتي في الدنيا والآخرة، وضع أمامي البوصلة التي تحميني من الخطأ قبل أن أقع فيه، وتعينني على تجاوزه إذا وقعت فيه، والمسلم خطّاء، لكنه رجّاع إلى الحق.

     ومن فضله أيضاً عز وجل أنه عرَّفني بالفرق بين حقوقه وبين حقوق الناس، وحفظت الجملة المأثورة عند علمائنا وهي: «حقوق اللَّه مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحَّة»، وقد دعاني ذلك إلى أن أحرص حرصاً شديداً على النجاة من الإساءة لأحد من الناس، وإن أسأت سارعت إلى الاعتذار، وقلت لنفسي: إذا نجوت من حقوق العباد فأرجو أن تسعني رحمة اللَّه الواسعة إن فرَّطت في حقوقه.

     ومن فضله أيضاً، تقدست ذاته، وجلت صفاته وأسماؤه، أن أتاح لي أن أعرف الفرق بين معاصي القلوب ومعاصي الجوارح، وأن معاصي القلوب أخطر، وأن التخلص منها أعسر، فحرصت حرصاً شديداً على أن أنجو منها، وعساي نجحت.

     وقد عرفت مبكراً الفرق بين الكبائر والصغائر من الذنوب، فحرصت حرصاً شديداً على تحاشي الكبائر، ونجحت بفضل اللَّه تعالى وعونه في تحاشيها، لكنَّ كبيرة «الغيبة» لم أنجح في تحاشيها، وظللت بين الحين والآخر أقع فيها، ثم إني عزمت عزماً قوياً على التخلص منها، وجعلت ذلك نصب عيني، وجعلت أحاسب نفسي حساباً شديداً إذا وقعت فيها، وأرجو من اللَّه تعالى أن يعينني بالنية الصادقة والإرادة الحاسمة حتى أتخلص منها جملة وتفصيلاً.

     من عيوبي أنَّ فِيَّ طيبةً زائدة، وحياء مبالغاً فيه، وحسن ظن يصل إلى درجة الغفلة، ومثالية مع من يستحق ومن لا يستحق، وقد آذتني هذه العيوب كثيراً، وأطمعت فيّ اللؤماء والسفهاء، وأضاعت علي الكثير من الفرص، وخسّرتني الكثير من المال، وأصابتني بكثير من الحزن والإحباط، وجعلتني ألوم نفسي لوماً شديداً، حتى إني قلت في حق نفسي ساخراً منها: «لست بالخِبِّ، ولكن الخِبَّ يخدعني»، وحتى وجدتني أصل إلى نتيجة مريرة ولكنها صادقة جداً، وهي أن مثالية الإنسان وفضائله وحياءه تصبح أعباء عليه تؤذيه أشد الأذى حين يتعامل بها مع من لا يستحقها.

     ومن عيوبي أني عملت فيما لم أخلق له، وفيما لا أحسنه في قليل أو كثير، وحمّلت نفسي ما لا تطيقه، وما لا يأمرها به الدين ولا تطالبها به المروءة، ولو أني عرفت قدراتي بدقة، وحددت أهدافي بوضوح، وضبطت وسائلي بإتقان، لكان حظي من النجاح أكبر، وحظي من الإخفاق أقل.

     ومن عيوبي أني بطيء في اتخاذ القرار، وهذا من أسباب الإخفاق لا النجاح، ولو أني كنت أكثر يقظة وحزماً لتخلصت مبكراً من كثير مما آذاني في حياتي من صلات واهتمامات وخسائر، كلفتني الكثير من الوقت والجهد والمال والأعصاب.

     ومن عيوبي أن أحزاني على بعض ما أصابني من الأذى؛ تطول أكثر مما ينبغي، وهو ما يجعلني أحتاج إلى وقت أطول، ومكابدة أشد حتى أتخلص منها.

     على أن مما أعانني وعزاني في ذلك كله؛ أني أمتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ، وأشكر من يدلني عليه، وأرى فيه أمارة على صدق الأخوة، من أهل العقل والنبل، والوفاء والنقاء، والصدق والمصارحة، اتفقت وإياهم على تبادل النصح وإن قسا، وبذل المروءة حين تجب، فكانوا لي واحة من الدفء والود والكرم، جزاهم اللَّه خير الجزاء.

     ومما أعانني على تجاوز الأحزان، ومحاولة التخلص من الذنوب والعيوب، ومحاولة الظفر باستقامة أعلى ونية أصفى، أني الآن في خريف العمر، أنظر إلى الموت القادم أكثر مما أنظر إلى الحياة المدبرة، وأحرص على الظفر برضوان اللَّه تعالى حين ألقاه، ولي في ذلك أمل عريض ورجاء واسع.

     إن المستقبل الحقيقي للإنسان يبدأ بعد أن يموت، أما عمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا فهو أقل من ذرة في ملكوت اللَّه، وأضأل من ثانية في زمانه الممتد.

مع الشعر

مع الشعر

     تعلقت بالشعر منذ صباي الأول، لكن هذا التعلق كان في حدود أمثالي من الزملاء، ولكني مع الزمن وجدت هذا التعلق يزداد، حتى إذا جاءت المرحلة الثانوية وجدتني أحسم خياري في الدراسة الجامعية، فدرست الأدب العربي في جامعة القاهرة، واستأثر الشعر بمعظم اهتمامي في أثناء هذه الدراسة.

     وظللت أقرأ الشعر وأنظمه، ولكني لا أنشر منه شيئاً لعدم رضاي عن معظم ما أنظمه، ثم شغلتني عن الشعر صوارف كثيرة، من العمل، ومن القراءات الكثيرة المتنوعة، حتى إذا تجاوزت الخمسين وجدتني أعود للشعر بقوة، ووجدتني أبدأ بنشر ما أرضاه من القصائد، وقد أدى هذا التأخر إلى ضعف شهرتي شاعراً، وأدى إلى أني لم أندم على ما نشرت، لأني نجوت من تعجّل النشر الذي يعمد إليه بعض الشعراء ثم يندمون على ذلك، لأنهم بعد النضج لا يرضون عما تعجلوا نشره، وبعد الخمسين صار الشعر هاجسي الأكبر، وأحياناً الوحيد.

     ومن أفضال اللَّه تعالى عليَّ - وأفضاله لا تعد ولا تحصى - أني أستشير ثلة من كرام الإخوة فيما أودّ نشره، فأضعه بين أيديهم، وأنتظر آراءهم، وأعيد النظر فيه على ضوء هذه الآراء، وكانت الصراحة هي قانون التعامل، وكنت أفرح بنقدهم مهما كان، انتقاصاً أم ثناءً، وربما طويت القصيدة جملة وتفصيلاً إذا اقتنعت بما بيّنوا لي فيها من عيوب، لقد كانت لهؤلاء الإخوة أيادٍ بيضاءُ على شعري، وكان صدري يرحب بملاحظاتهم أجمل ترحيب، وكانوا يعرفون مني ذلك ويشكرونني عليه، وأبرز من كانوا يصوِّبون لي شعري ويقوِّمونه: الدكتور أحمد البراء الأميري، والأستاذ صدقي البيك، والأستاذ شمس الدين درمش، والأستاذ عبد الرزاق دياربكرلي؛ وكان أجرأَ الجميع عليَّ، وربما مزق القصيدة التي بين يديه لضعفها، فكنت أبتسم وأشكره، وربما استجبت لرأيه وألغيت القصيدة، جزاهم اللَّه عني خير الجزاء، فقد كانوا عوناً في ارتقاء شعري.

     شغفت في البداية بشعر شوقي، وأعجبت به ولا أزال معجباً، وقد أدمنت النظر فيه ولا أزال، وهو بحق شاعر عبقري وعملاق.

     ثم شغفت بالمتنبي ولا أزال، وهو جِنِّيُّ الشعر العربي وعبقريه، وهو ذو قدرة كبرى على الحشد والتركيز، فضلاً عن معرفة عميقة بأسرار النفس الإنسانية ونوازعها، وهذان الأمران أهم أسباب خلوده وتميزه، وعند بعض الناس أنه حكيم وفيلسوف لا شاعر، وعند بعضهم الآخر أنه حكيم وفيلسوف من ناحية، وشاعر من ناحية أخرى، وأنا من هؤلاء، لقد انفرد إلى حد كبير بالقدرة على الحشد والتركيز، والغوص في أعماق الإنسان وميوله، وكان له في ذلك تفوّق بارز، لكنه شارك الشعراء العظام الآخرين في أمجادهم الشعرية، وحين أقرأ روائع شعره أشعر أن دمي يتغير، وأن الكهرباء تسري في جسمي، وأتمثله قائماً أمامي، وينتابني إزاءه إعجاب شديد، وقد عكفت على ديوانه مرات لا أحصيها.

     وشغفت أيضاً بالشاعر الكبير بدوي الجبل، وقد قرأت ديوانه هو الآخر مرات كثيرة لا أحصيها.

     وليس لي أن أغفل عن الشاعر الكبير عمر أبو ريشة، لقد كنت معجباً به من قديم، وازداد إعجابي به لما صار موضوع رسالتي للدكتوراه، وهذا جعلني أقرؤه مستمتعاً من ناحية، ودارساً فاحصاً من ناحية أخرى عدة سنوات.

     إن هؤلاء الشعراء الأعلام أبرز أساتذتي في الشعر، كانوا ولا يزالون، وإن بصماتهم عليَّ واضحة جداً.

     وعكفت أيضاً على بعض كتب المختارات، لأن فوائدها كثيرة، فهي تجمّع ما تفرق هنا وهناك، ثم إنها في العادة تنتقي روائع الشعر، والتنوع الذي فيها يطرب من ناحية، ويغني من ناحية، ويبعد الملل من ناحية، وأذكر أني قرأت عدة مرات، وبغاية الدقة «المختار من الشعر الأندلسي» للدكتور محمد رضوان الداية، و«الزهرة» للأصبهاني، و«السحر والشعر» للسان الدين بن الخطيب، و«الشعر العربي روائعه ومدخل لقراءته» للدكتور الطاهر أحمد مكي.

     وحين يقع لي نص شعري يعجبني في جريدة أو كتاب أو مجلة، أصوّره، ثم أضعه مع أمثاله في ملف خاص، وأقرؤه مرة بعد مرة، ثم أتركه، ثم أعود إليه بعد زمن يطول أو يقصر، فأعكف عليه من جديد، وهكذا، حتى أشعر أني تشربته تماماً، وربما قرأت بعض هذه النصوص أكثر من عشرين مرة، وهو أمر فعلته مع «القوس العذراء» لشيخ العربية الكبير محمود محمد شاكر ؒ، أما قصيدة «أسعف فمي» للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، فقد أعجبت بها جداً، ولعلي قرأتها مئة مرة أو أكثر، ولا أزال مشوقاً إليها.

     ولقد كان لهذه الطريقة في اختيار النصوص الممتازة، وإدمان النظر فيها، وتشرّب معانيها وأساليبها وموسيقاها وصورها أثر كبير فِيّ.

     وأنا أحب النظم في الأحوال التي يفرغ فيها البال، ويعتدل المزاج، وتغيب الصوارف، وتطول الخلوة، وتجتمع الشوارد، وأغرق تماماً فيما أكتب، والقصيدة التي أضع لها اسمها في أعلاها وتاريخ نظمها ومكانه في أسفلها أكون قد رضيت عنها، وأجزتها، وإلا فإنها لا تزال تحت المراجعة لفترة تطول أو تقصر.

     وقد أكتب قصيدة ثم أنصرف عنها وقتاً يطول أو يقصر، فإذا عدت إليها ورضيت عنها، أو عدلتها تعديلات طفيفة، فإني أضع لها تاريخها القديم، أما إذا كثرت التعديلات فإني أضع لها تاريخها الجديد.

     وأنا اجتهدت في شعري بشكل عام طلباً للإتقان، لكنني في بعض الأحيان أفرغ منه سريعاً كأن القصيدة كانت مختزنة فيَّ بكاملها، وكأنها كانت تكتبني ولا أكتبها، وكأنها ماء في صنبور فتح فتدفق، وهذا ما حصل لي على سبيل المثال في قصيدتي «هوية»، وفي أحيان أخرى يطول بي الأمر فتأخذ القصيدة مني عدة شهور كما حصل لي على سبيل المثال في قصيدتي «صلاح الدين».

     وقد صدر الجزء الأول من شعري تحت عنوان «ديوان حيدر الغدير» عن مكتبة التوبة في الرياض «1436هـ/ 2015م» في 556 صفحة، من القطع العادي (24×17)، وفيه مقدمتان ضافيتان للأخوين الكريمين الأستاذ عبد الرزاق ديار بكرلي، والدكتور أحمد البراء الأميري، جزاهما اللَّه خير الجزاء، وهناك أجزاء تالية بإذن اللَّه.

عميدان وفيان

عميدان وفيان

     هما طالبان وصديقان وفيان من دير الزور، درستهما عام «1386هـ/ 1966م»، وكانا طالبين في المرحلة الثانوية، في ثانوية أُمَيَّة، الأول منهما هو زهير، والثاني هو عزام.

     ودار الزمان دورة طويلة جداً حتى لقيتهما بعد أكثر من أربعين عاماً، أما زهير التويجري فقد لقيته في الرياض في شهر ذي الحجة «1428هـ/ ديسمبر 2007م»، فقد جاء لزيارة ذويه فيها، ثم التوجه إلى الحج، كان قد دخل الجيش في سورية، وتقاعد عن رتبة عميد، وحين لقيته بعد هذا الزمن الطويل عرفته وعرفني، وقلت له مازحاً: لماذا شاب شعرك وأنت لم تغب عني سوى أربعين عاماً!؟ شكرت له وفاءه وكرم نفسه، والتقينا عدة مرات وتسامرنا، وتعاونّا على نبش الذكريات.

     أما عزام دلّو، فقد دخل الجيش في سورية مثله مثل زهير، لكنه بعد عدة سنوات ضاق بتسلط النصيريين على الجيش وغير الجيش في سورية وظلمهم الآخرين عامة، ولأهل السنة وهم الأكثرية خاصة، فهرب إلى العراق الذي أكرمه، وأدخله الجيش، ومنحه الجنسية العراقية، حتى تقاعد عن رتبة عميد.

     وأكرمه اللَّه تعالى بالحج عام 1428هـ، وحين وصل جدة طفق يتصل بي يريد رؤيتي، وكان مستعداً لزيارتي في الرياض لكن تأشيرته لا تسمح له بذلك، وحاولت أن أحج معه، وهو ما يتيح لي رؤيته فلم أحصل على التصريح المطلوب لأني تأخرت في طلبه.

     وضاق صدره كثيراً، وأكثر من مهاتفتي، فوعدته أن أزور المدينة في فترة الحج، فإذا فرغ من نسكه التقينا فيها، وقد يسّر اللَّه تعالى ذلك، فتم اللقاء في الحرم النبوي الشريف على منوِّره أفضل الصلاة والسلام.

     عرف كلٌّ منا الآخر؛ مع أن الزمن فعل بنا ما فعل، فقلت له كما قلت لزهير: لماذا شاب شعرك وأنا لم أغب عنك سوى أربعين عاماً؟ كان يضحك ويبكي من السرور، وقبَّل يدي وأنا كاره، وحين لمته قال لي: لقد كنت تعاملنا معاملة طيبة، شكرت له كرمه ووفاءه ونبله.

     قلت له: سبق أن أرسلت لي علبة من المنِّ، فقال: وهذه علبة أخرى منه هدية لك أيضاً، تمنيت أن يكون اللقاء أربعين دقيقة، أي بمعدل دقيقة واحدة عن كل سنة!! لكنَّ العميد الوفي استأذن بعد دقائق، فلما استغربت أخبرني أن القافلة تكاد تنطلق عائدة إلى العراق، وفيها زوجته، فودعته، وأنا أعجب من تصاريف القدر، وسرعة الزمان، وخلوت بنفسي متأملاً معتبراً، ورأيت فيما رأيت أن السنوات الأربعين إغماضة عين، أو إغفاءة مجهود.

هل رأيته فعلاً؟

هل رأيته فعلاً؟

     منذ صباي وأنا أحلم أن أرى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في المنام، خاصة بعد أن مر بي الحديث الشريف الذي يقول: (من رآني فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي) (رواه البخاري ومسلم).

     وكان - ولا يزال - يرافق هذه الأمنية شعور بأن هذه الرؤية المأمولة فيها بشارة بالخير في الدنيا، والفوز في الآخرة.

     وأحياناً كنت آوي إلى الفراش متوضئاً، وأدعو اللَّه تعالى أن يكرمني بهذه الرؤيا، وربما ظللت أكرر الصلاة على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، حتى يغلبني النوم رجاء الفوز بما أود.

     وفي الليلة الفائتة، رأيت في المنام ما أود أو قريباً مما أود، رأيتني أخرج من إحدى الدور مسرعاً، لألتحق بمجموعة من الناس سبقتني إلى التجمع، بهدف الجهاد في سبيل اللَّه تحت قيادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم شخصياً.

     لم أر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولكن كل شيء في المنام كان يؤكد أنه سيقود المجموعة المجاهدة شخصياً، وكانت المجموعة قد سبقتني إلى التجمع لكنني كنت مسرعاً للالتحاق بها بهمة ونشاط.

     وعلى كل حال وجدت المنام بشرى سارة، وأولتها أني مسبوق إلى الخير، وأن رحمة اللَّه عون لي على اللحاق، وأولتها أيضاً أني بحاجة إلى المزيد من تصفية نيتي، وشحذ عزيمتي، ومغالبة أهوائي وأخطائي، وعساي أكون أقرب إلى رضوان اللَّه تعالى.

     ولعلي في منام آخر أرى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم رؤيا تامة، وأقبل يده الطاهرة، وأطلب منه الدعاء، ومن فرحتي بهذا المنام، سارعت إلى تأريخه فوراً، خوفاً من النسيان، فكتبت: «جدة - الأحد 9/ 2/ 1415هـ، 17/7/1994م».

لقاء ودود بعد أربعة عقود

لقاء ودود بعد أربعة عقود

     كان لي مجموعة من الزملاء الهنود أيام المرحلة الجامعية، وكان أحدهم من كيرالا في جنوب الهند، واسمه سيد محمد علي شهاب، وكانت تلوح عليه أمارات النبل والجاه والثراء، كان نحيفاً هادئاً مؤدباً أنيقاً، وكانت صلتي به جيدة جداً، وكنت أساعده في بعض أمور الدراسة التي يحتاج إليها، وأذكر أنني أهديته كتاب العقاد «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» فسرّ به، ثم جاء عام «1383هـ/ 1963م»، حين تخرجنا وذهب كل منا في سبيله.

     ودار الزمن دورة قصيرة مداها خمس سنوات، فشاء اللّه تعالى أن ألقاه، كنت في المدينة المنورة، وكنت في حرمها الشريف، صليت مع الإمام، ثم خرجت أمشي وأستروح وأنتظر الصلاة التالية، فإذا بنا وجهاً لوجه، كان قادماً من الهند بقصد الحج وزيارة المدينة المنورة، وحرمها الطاهر، وساكنها الأعظم محمد e، وشاء اللَّه تعالى الذي لا حد لقدرته؛ أن نلتقي رغم شدة الزحام، وتدافع الناس، وكثرة الوجوه، فرحنا وتمشينا وتعشينا، واستعدنا الذكريات السابقة، وحمدنا اللَّه تعالى على نعمة الأخوة، وافترقنا.

     ودار الزمن دورة طويلة جداً، فإذا به يهاتفني ويخبرني أنه في الرياض، فقد علم أني فيها، واستطاع من خلال زميل هندي آخر اسمه شعيب النجرامي يعمل في الدمام أن يحصل على رقم هاتفي فبادرني بالاتصال.

     في ضحى يوم الجمعة «12/ 4/ 1429هـ، 18/ 4/ 2008م» ذهبت إلى فندق قصر الرياض الذي أخبرني أنه فيه، ومن الجناح الذي يقيم فيه، والحاشية التي تحف به علمت أنه غني كبير، تقابلنا بعد هذه السنوات الطويلة فعرف بعضنا بعضاً؛ مع أن الشيب غيّر فينا ما غيّر، وبادرني بالسؤال: وكيف دير الزور؟ فابتسمت وقلت: ألا تزال تذكر؟

     وجلسنا معاً ننبش الذكريات، ونتحدث عن الأساتذة والزملاء، ويلخص كل منا للآخر في وقت قصير أمور حياته التي طالت وامتدت، سألني عن أولادي فأجبته، وأخبرني أنه أب لولدين وثلاث بنات، وأنه أبو «منوّر»، فقلت له: وأنا «أبو معاذ».

     كان من العسير بسبب وقته الضيق، وبرنامجه المزدحم، أن أحظى به في لقاء خاص يطول ويمتد، لقد جاء إلى الرياض بالأمس قادماً من الحجاز حيث أدى العمرة، وهو مسافر في الغد إلى الكويت، فدبي، فالهند، لذلك ودعته وفي النفس أشياء وأشياء.

     كانت الزيارة ودية، عابقة بالوفاء، أهديته بعض كتبي، فشكرني ودعاني لزيارته في كالكوت، في كيرالا.

     وصفه لي الأخ شعيب وهو هندي، كان زميلي وزميله في الجامعة بأنه بليونير لا مليونير، وأنه رجل مهم في ولايته، وقال عنه: إنه فيها صانع الرؤساء والحكام، فرجوت من اللَّه عزو جل أن يهيئ لي فرصة لزيارته لعلي من خلاله أضع نفسي - في حدود ما أقدر عليه - في خدمة المسلمين في كالكوت.

     في هذا الأخ الكريم أمارات نبل حقيقي، وسجايا فضل وكرم، وسلوك يدل على شرف المحتد، وطبيعة المروءة، ونقاء الطباع، تشعر أن ما حباه اللَّه تعالى به، من جاه وثراء لم يبطره، ولم يدفعه إلى الغرور، بل هو يتصرف به ومنه تصرف الشريف الأصيل، والسري النبيل، بدون مشقة أو تكلف، وكأنه الوردة الشذية تهب بفطرتها رائحتها الجميلة للآخرين.

     أكبرت فيه أنه ذهب إلى «تريم» في حضرموت لزيارتها، وما ذلك إلا لأنها بلد أجداده الذين هاجروا منها إلى الهند قبل قرون، والوفاء سمة الكرام، ومثل هذه الزيارة وفاء خالص، إن هذا الزميل الكريم منسوب إلى الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، فهو بذلك شريف من حيث النسب، كما أنه بسلوكه شريف من حيث التعامل.

     شكرت للأخ الكريم وفاءه، وعجبت من سرعة الزمان، وبعد أن عدت إلى البيت لأكتب هذه السطور، وجدتني أردد قول المتنبي:

كثيـــرُ حياةِ المرءِ مثلُ قليـلِها     يزولُ وباقي عيشِه مثلُ ذاهبِ

الأكثر مشاهدة