الأحد، 2 يناير 2022

عيوب وذنوب

عيوب وذنوب

     فطر اللَّه تعالى الإنسان مجبولاً على الخطأ والنقص والنسيان، لكنه برحمته الواسعة التي وسعت كل شيء أعطاه الفرصة ليتوب ويتجدد، ووعده بالقبول.

     ولي مثل خلق اللَّه أجمعين عيوب وذنوب، أقع فيها بين الحين والآخر، ونسأله تعالى أن يستر منا العيوب، ويغفر لنا الذنوب.

     ومن فضل اللَّه عليّ أن ولائي للإسلام، وحبّي له، واقتناعي بأنه سبيل سعادتي في الدنيا والآخرة، وضع أمامي البوصلة التي تحميني من الخطأ قبل أن أقع فيه، وتعينني على تجاوزه إذا وقعت فيه، والمسلم خطّاء، لكنه رجّاع إلى الحق.

     ومن فضله أيضاً عز وجل أنه عرَّفني بالفرق بين حقوقه وبين حقوق الناس، وحفظت الجملة المأثورة عند علمائنا وهي: «حقوق اللَّه مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحَّة»، وقد دعاني ذلك إلى أن أحرص حرصاً شديداً على النجاة من الإساءة لأحد من الناس، وإن أسأت سارعت إلى الاعتذار، وقلت لنفسي: إذا نجوت من حقوق العباد فأرجو أن تسعني رحمة اللَّه الواسعة إن فرَّطت في حقوقه.

     ومن فضله أيضاً، تقدست ذاته، وجلت صفاته وأسماؤه، أن أتاح لي أن أعرف الفرق بين معاصي القلوب ومعاصي الجوارح، وأن معاصي القلوب أخطر، وأن التخلص منها أعسر، فحرصت حرصاً شديداً على أن أنجو منها، وعساي نجحت.

     وقد عرفت مبكراً الفرق بين الكبائر والصغائر من الذنوب، فحرصت حرصاً شديداً على تحاشي الكبائر، ونجحت بفضل اللَّه تعالى وعونه في تحاشيها، لكنَّ كبيرة «الغيبة» لم أنجح في تحاشيها، وظللت بين الحين والآخر أقع فيها، ثم إني عزمت عزماً قوياً على التخلص منها، وجعلت ذلك نصب عيني، وجعلت أحاسب نفسي حساباً شديداً إذا وقعت فيها، وأرجو من اللَّه تعالى أن يعينني بالنية الصادقة والإرادة الحاسمة حتى أتخلص منها جملة وتفصيلاً.

     من عيوبي أنَّ فِيَّ طيبةً زائدة، وحياء مبالغاً فيه، وحسن ظن يصل إلى درجة الغفلة، ومثالية مع من يستحق ومن لا يستحق، وقد آذتني هذه العيوب كثيراً، وأطمعت فيّ اللؤماء والسفهاء، وأضاعت علي الكثير من الفرص، وخسّرتني الكثير من المال، وأصابتني بكثير من الحزن والإحباط، وجعلتني ألوم نفسي لوماً شديداً، حتى إني قلت في حق نفسي ساخراً منها: «لست بالخِبِّ، ولكن الخِبَّ يخدعني»، وحتى وجدتني أصل إلى نتيجة مريرة ولكنها صادقة جداً، وهي أن مثالية الإنسان وفضائله وحياءه تصبح أعباء عليه تؤذيه أشد الأذى حين يتعامل بها مع من لا يستحقها.

     ومن عيوبي أني عملت فيما لم أخلق له، وفيما لا أحسنه في قليل أو كثير، وحمّلت نفسي ما لا تطيقه، وما لا يأمرها به الدين ولا تطالبها به المروءة، ولو أني عرفت قدراتي بدقة، وحددت أهدافي بوضوح، وضبطت وسائلي بإتقان، لكان حظي من النجاح أكبر، وحظي من الإخفاق أقل.

     ومن عيوبي أني بطيء في اتخاذ القرار، وهذا من أسباب الإخفاق لا النجاح، ولو أني كنت أكثر يقظة وحزماً لتخلصت مبكراً من كثير مما آذاني في حياتي من صلات واهتمامات وخسائر، كلفتني الكثير من الوقت والجهد والمال والأعصاب.

     ومن عيوبي أن أحزاني على بعض ما أصابني من الأذى؛ تطول أكثر مما ينبغي، وهو ما يجعلني أحتاج إلى وقت أطول، ومكابدة أشد حتى أتخلص منها.

     على أن مما أعانني وعزاني في ذلك كله؛ أني أمتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ، وأشكر من يدلني عليه، وأرى فيه أمارة على صدق الأخوة، من أهل العقل والنبل، والوفاء والنقاء، والصدق والمصارحة، اتفقت وإياهم على تبادل النصح وإن قسا، وبذل المروءة حين تجب، فكانوا لي واحة من الدفء والود والكرم، جزاهم اللَّه خير الجزاء.

     ومما أعانني على تجاوز الأحزان، ومحاولة التخلص من الذنوب والعيوب، ومحاولة الظفر باستقامة أعلى ونية أصفى، أني الآن في خريف العمر، أنظر إلى الموت القادم أكثر مما أنظر إلى الحياة المدبرة، وأحرص على الظفر برضوان اللَّه تعالى حين ألقاه، ولي في ذلك أمل عريض ورجاء واسع.

     إن المستقبل الحقيقي للإنسان يبدأ بعد أن يموت، أما عمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا فهو أقل من ذرة في ملكوت اللَّه، وأضأل من ثانية في زمانه الممتد.

مع الشعر

مع الشعر

     تعلقت بالشعر منذ صباي الأول، لكن هذا التعلق كان في حدود أمثالي من الزملاء، ولكني مع الزمن وجدت هذا التعلق يزداد، حتى إذا جاءت المرحلة الثانوية وجدتني أحسم خياري في الدراسة الجامعية، فدرست الأدب العربي في جامعة القاهرة، واستأثر الشعر بمعظم اهتمامي في أثناء هذه الدراسة.

     وظللت أقرأ الشعر وأنظمه، ولكني لا أنشر منه شيئاً لعدم رضاي عن معظم ما أنظمه، ثم شغلتني عن الشعر صوارف كثيرة، من العمل، ومن القراءات الكثيرة المتنوعة، حتى إذا تجاوزت الخمسين وجدتني أعود للشعر بقوة، ووجدتني أبدأ بنشر ما أرضاه من القصائد، وقد أدى هذا التأخر إلى ضعف شهرتي شاعراً، وأدى إلى أني لم أندم على ما نشرت، لأني نجوت من تعجّل النشر الذي يعمد إليه بعض الشعراء ثم يندمون على ذلك، لأنهم بعد النضج لا يرضون عما تعجلوا نشره، وبعد الخمسين صار الشعر هاجسي الأكبر، وأحياناً الوحيد.

     ومن أفضال اللَّه تعالى عليَّ - وأفضاله لا تعد ولا تحصى - أني أستشير ثلة من كرام الإخوة فيما أودّ نشره، فأضعه بين أيديهم، وأنتظر آراءهم، وأعيد النظر فيه على ضوء هذه الآراء، وكانت الصراحة هي قانون التعامل، وكنت أفرح بنقدهم مهما كان، انتقاصاً أم ثناءً، وربما طويت القصيدة جملة وتفصيلاً إذا اقتنعت بما بيّنوا لي فيها من عيوب، لقد كانت لهؤلاء الإخوة أيادٍ بيضاءُ على شعري، وكان صدري يرحب بملاحظاتهم أجمل ترحيب، وكانوا يعرفون مني ذلك ويشكرونني عليه، وأبرز من كانوا يصوِّبون لي شعري ويقوِّمونه: الدكتور أحمد البراء الأميري، والأستاذ صدقي البيك، والأستاذ شمس الدين درمش، والأستاذ عبد الرزاق دياربكرلي؛ وكان أجرأَ الجميع عليَّ، وربما مزق القصيدة التي بين يديه لضعفها، فكنت أبتسم وأشكره، وربما استجبت لرأيه وألغيت القصيدة، جزاهم اللَّه عني خير الجزاء، فقد كانوا عوناً في ارتقاء شعري.

     شغفت في البداية بشعر شوقي، وأعجبت به ولا أزال معجباً، وقد أدمنت النظر فيه ولا أزال، وهو بحق شاعر عبقري وعملاق.

     ثم شغفت بالمتنبي ولا أزال، وهو جِنِّيُّ الشعر العربي وعبقريه، وهو ذو قدرة كبرى على الحشد والتركيز، فضلاً عن معرفة عميقة بأسرار النفس الإنسانية ونوازعها، وهذان الأمران أهم أسباب خلوده وتميزه، وعند بعض الناس أنه حكيم وفيلسوف لا شاعر، وعند بعضهم الآخر أنه حكيم وفيلسوف من ناحية، وشاعر من ناحية أخرى، وأنا من هؤلاء، لقد انفرد إلى حد كبير بالقدرة على الحشد والتركيز، والغوص في أعماق الإنسان وميوله، وكان له في ذلك تفوّق بارز، لكنه شارك الشعراء العظام الآخرين في أمجادهم الشعرية، وحين أقرأ روائع شعره أشعر أن دمي يتغير، وأن الكهرباء تسري في جسمي، وأتمثله قائماً أمامي، وينتابني إزاءه إعجاب شديد، وقد عكفت على ديوانه مرات لا أحصيها.

     وشغفت أيضاً بالشاعر الكبير بدوي الجبل، وقد قرأت ديوانه هو الآخر مرات كثيرة لا أحصيها.

     وليس لي أن أغفل عن الشاعر الكبير عمر أبو ريشة، لقد كنت معجباً به من قديم، وازداد إعجابي به لما صار موضوع رسالتي للدكتوراه، وهذا جعلني أقرؤه مستمتعاً من ناحية، ودارساً فاحصاً من ناحية أخرى عدة سنوات.

     إن هؤلاء الشعراء الأعلام أبرز أساتذتي في الشعر، كانوا ولا يزالون، وإن بصماتهم عليَّ واضحة جداً.

     وعكفت أيضاً على بعض كتب المختارات، لأن فوائدها كثيرة، فهي تجمّع ما تفرق هنا وهناك، ثم إنها في العادة تنتقي روائع الشعر، والتنوع الذي فيها يطرب من ناحية، ويغني من ناحية، ويبعد الملل من ناحية، وأذكر أني قرأت عدة مرات، وبغاية الدقة «المختار من الشعر الأندلسي» للدكتور محمد رضوان الداية، و«الزهرة» للأصبهاني، و«السحر والشعر» للسان الدين بن الخطيب، و«الشعر العربي روائعه ومدخل لقراءته» للدكتور الطاهر أحمد مكي.

     وحين يقع لي نص شعري يعجبني في جريدة أو كتاب أو مجلة، أصوّره، ثم أضعه مع أمثاله في ملف خاص، وأقرؤه مرة بعد مرة، ثم أتركه، ثم أعود إليه بعد زمن يطول أو يقصر، فأعكف عليه من جديد، وهكذا، حتى أشعر أني تشربته تماماً، وربما قرأت بعض هذه النصوص أكثر من عشرين مرة، وهو أمر فعلته مع «القوس العذراء» لشيخ العربية الكبير محمود محمد شاكر ؒ، أما قصيدة «أسعف فمي» للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، فقد أعجبت بها جداً، ولعلي قرأتها مئة مرة أو أكثر، ولا أزال مشوقاً إليها.

     ولقد كان لهذه الطريقة في اختيار النصوص الممتازة، وإدمان النظر فيها، وتشرّب معانيها وأساليبها وموسيقاها وصورها أثر كبير فِيّ.

     وأنا أحب النظم في الأحوال التي يفرغ فيها البال، ويعتدل المزاج، وتغيب الصوارف، وتطول الخلوة، وتجتمع الشوارد، وأغرق تماماً فيما أكتب، والقصيدة التي أضع لها اسمها في أعلاها وتاريخ نظمها ومكانه في أسفلها أكون قد رضيت عنها، وأجزتها، وإلا فإنها لا تزال تحت المراجعة لفترة تطول أو تقصر.

     وقد أكتب قصيدة ثم أنصرف عنها وقتاً يطول أو يقصر، فإذا عدت إليها ورضيت عنها، أو عدلتها تعديلات طفيفة، فإني أضع لها تاريخها القديم، أما إذا كثرت التعديلات فإني أضع لها تاريخها الجديد.

     وأنا اجتهدت في شعري بشكل عام طلباً للإتقان، لكنني في بعض الأحيان أفرغ منه سريعاً كأن القصيدة كانت مختزنة فيَّ بكاملها، وكأنها كانت تكتبني ولا أكتبها، وكأنها ماء في صنبور فتح فتدفق، وهذا ما حصل لي على سبيل المثال في قصيدتي «هوية»، وفي أحيان أخرى يطول بي الأمر فتأخذ القصيدة مني عدة شهور كما حصل لي على سبيل المثال في قصيدتي «صلاح الدين».

     وقد صدر الجزء الأول من شعري تحت عنوان «ديوان حيدر الغدير» عن مكتبة التوبة في الرياض «1436هـ/ 2015م» في 556 صفحة، من القطع العادي (24×17)، وفيه مقدمتان ضافيتان للأخوين الكريمين الأستاذ عبد الرزاق ديار بكرلي، والدكتور أحمد البراء الأميري، جزاهما اللَّه خير الجزاء، وهناك أجزاء تالية بإذن اللَّه.

عميدان وفيان

عميدان وفيان

     هما طالبان وصديقان وفيان من دير الزور، درستهما عام «1386هـ/ 1966م»، وكانا طالبين في المرحلة الثانوية، في ثانوية أُمَيَّة، الأول منهما هو زهير، والثاني هو عزام.

     ودار الزمان دورة طويلة جداً حتى لقيتهما بعد أكثر من أربعين عاماً، أما زهير التويجري فقد لقيته في الرياض في شهر ذي الحجة «1428هـ/ ديسمبر 2007م»، فقد جاء لزيارة ذويه فيها، ثم التوجه إلى الحج، كان قد دخل الجيش في سورية، وتقاعد عن رتبة عميد، وحين لقيته بعد هذا الزمن الطويل عرفته وعرفني، وقلت له مازحاً: لماذا شاب شعرك وأنت لم تغب عني سوى أربعين عاماً!؟ شكرت له وفاءه وكرم نفسه، والتقينا عدة مرات وتسامرنا، وتعاونّا على نبش الذكريات.

     أما عزام دلّو، فقد دخل الجيش في سورية مثله مثل زهير، لكنه بعد عدة سنوات ضاق بتسلط النصيريين على الجيش وغير الجيش في سورية وظلمهم الآخرين عامة، ولأهل السنة وهم الأكثرية خاصة، فهرب إلى العراق الذي أكرمه، وأدخله الجيش، ومنحه الجنسية العراقية، حتى تقاعد عن رتبة عميد.

     وأكرمه اللَّه تعالى بالحج عام 1428هـ، وحين وصل جدة طفق يتصل بي يريد رؤيتي، وكان مستعداً لزيارتي في الرياض لكن تأشيرته لا تسمح له بذلك، وحاولت أن أحج معه، وهو ما يتيح لي رؤيته فلم أحصل على التصريح المطلوب لأني تأخرت في طلبه.

     وضاق صدره كثيراً، وأكثر من مهاتفتي، فوعدته أن أزور المدينة في فترة الحج، فإذا فرغ من نسكه التقينا فيها، وقد يسّر اللَّه تعالى ذلك، فتم اللقاء في الحرم النبوي الشريف على منوِّره أفضل الصلاة والسلام.

     عرف كلٌّ منا الآخر؛ مع أن الزمن فعل بنا ما فعل، فقلت له كما قلت لزهير: لماذا شاب شعرك وأنا لم أغب عنك سوى أربعين عاماً؟ كان يضحك ويبكي من السرور، وقبَّل يدي وأنا كاره، وحين لمته قال لي: لقد كنت تعاملنا معاملة طيبة، شكرت له كرمه ووفاءه ونبله.

     قلت له: سبق أن أرسلت لي علبة من المنِّ، فقال: وهذه علبة أخرى منه هدية لك أيضاً، تمنيت أن يكون اللقاء أربعين دقيقة، أي بمعدل دقيقة واحدة عن كل سنة!! لكنَّ العميد الوفي استأذن بعد دقائق، فلما استغربت أخبرني أن القافلة تكاد تنطلق عائدة إلى العراق، وفيها زوجته، فودعته، وأنا أعجب من تصاريف القدر، وسرعة الزمان، وخلوت بنفسي متأملاً معتبراً، ورأيت فيما رأيت أن السنوات الأربعين إغماضة عين، أو إغفاءة مجهود.

هل رأيته فعلاً؟

هل رأيته فعلاً؟

     منذ صباي وأنا أحلم أن أرى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في المنام، خاصة بعد أن مر بي الحديث الشريف الذي يقول: (من رآني فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي) (رواه البخاري ومسلم).

     وكان - ولا يزال - يرافق هذه الأمنية شعور بأن هذه الرؤية المأمولة فيها بشارة بالخير في الدنيا، والفوز في الآخرة.

     وأحياناً كنت آوي إلى الفراش متوضئاً، وأدعو اللَّه تعالى أن يكرمني بهذه الرؤيا، وربما ظللت أكرر الصلاة على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، حتى يغلبني النوم رجاء الفوز بما أود.

     وفي الليلة الفائتة، رأيت في المنام ما أود أو قريباً مما أود، رأيتني أخرج من إحدى الدور مسرعاً، لألتحق بمجموعة من الناس سبقتني إلى التجمع، بهدف الجهاد في سبيل اللَّه تحت قيادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم شخصياً.

     لم أر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولكن كل شيء في المنام كان يؤكد أنه سيقود المجموعة المجاهدة شخصياً، وكانت المجموعة قد سبقتني إلى التجمع لكنني كنت مسرعاً للالتحاق بها بهمة ونشاط.

     وعلى كل حال وجدت المنام بشرى سارة، وأولتها أني مسبوق إلى الخير، وأن رحمة اللَّه عون لي على اللحاق، وأولتها أيضاً أني بحاجة إلى المزيد من تصفية نيتي، وشحذ عزيمتي، ومغالبة أهوائي وأخطائي، وعساي أكون أقرب إلى رضوان اللَّه تعالى.

     ولعلي في منام آخر أرى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم رؤيا تامة، وأقبل يده الطاهرة، وأطلب منه الدعاء، ومن فرحتي بهذا المنام، سارعت إلى تأريخه فوراً، خوفاً من النسيان، فكتبت: «جدة - الأحد 9/ 2/ 1415هـ، 17/7/1994م».

لقاء ودود بعد أربعة عقود

لقاء ودود بعد أربعة عقود

     كان لي مجموعة من الزملاء الهنود أيام المرحلة الجامعية، وكان أحدهم من كيرالا في جنوب الهند، واسمه سيد محمد علي شهاب، وكانت تلوح عليه أمارات النبل والجاه والثراء، كان نحيفاً هادئاً مؤدباً أنيقاً، وكانت صلتي به جيدة جداً، وكنت أساعده في بعض أمور الدراسة التي يحتاج إليها، وأذكر أنني أهديته كتاب العقاد «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» فسرّ به، ثم جاء عام «1383هـ/ 1963م»، حين تخرجنا وذهب كل منا في سبيله.

     ودار الزمن دورة قصيرة مداها خمس سنوات، فشاء اللّه تعالى أن ألقاه، كنت في المدينة المنورة، وكنت في حرمها الشريف، صليت مع الإمام، ثم خرجت أمشي وأستروح وأنتظر الصلاة التالية، فإذا بنا وجهاً لوجه، كان قادماً من الهند بقصد الحج وزيارة المدينة المنورة، وحرمها الطاهر، وساكنها الأعظم محمد e، وشاء اللَّه تعالى الذي لا حد لقدرته؛ أن نلتقي رغم شدة الزحام، وتدافع الناس، وكثرة الوجوه، فرحنا وتمشينا وتعشينا، واستعدنا الذكريات السابقة، وحمدنا اللَّه تعالى على نعمة الأخوة، وافترقنا.

     ودار الزمن دورة طويلة جداً، فإذا به يهاتفني ويخبرني أنه في الرياض، فقد علم أني فيها، واستطاع من خلال زميل هندي آخر اسمه شعيب النجرامي يعمل في الدمام أن يحصل على رقم هاتفي فبادرني بالاتصال.

     في ضحى يوم الجمعة «12/ 4/ 1429هـ، 18/ 4/ 2008م» ذهبت إلى فندق قصر الرياض الذي أخبرني أنه فيه، ومن الجناح الذي يقيم فيه، والحاشية التي تحف به علمت أنه غني كبير، تقابلنا بعد هذه السنوات الطويلة فعرف بعضنا بعضاً؛ مع أن الشيب غيّر فينا ما غيّر، وبادرني بالسؤال: وكيف دير الزور؟ فابتسمت وقلت: ألا تزال تذكر؟

     وجلسنا معاً ننبش الذكريات، ونتحدث عن الأساتذة والزملاء، ويلخص كل منا للآخر في وقت قصير أمور حياته التي طالت وامتدت، سألني عن أولادي فأجبته، وأخبرني أنه أب لولدين وثلاث بنات، وأنه أبو «منوّر»، فقلت له: وأنا «أبو معاذ».

     كان من العسير بسبب وقته الضيق، وبرنامجه المزدحم، أن أحظى به في لقاء خاص يطول ويمتد، لقد جاء إلى الرياض بالأمس قادماً من الحجاز حيث أدى العمرة، وهو مسافر في الغد إلى الكويت، فدبي، فالهند، لذلك ودعته وفي النفس أشياء وأشياء.

     كانت الزيارة ودية، عابقة بالوفاء، أهديته بعض كتبي، فشكرني ودعاني لزيارته في كالكوت، في كيرالا.

     وصفه لي الأخ شعيب وهو هندي، كان زميلي وزميله في الجامعة بأنه بليونير لا مليونير، وأنه رجل مهم في ولايته، وقال عنه: إنه فيها صانع الرؤساء والحكام، فرجوت من اللَّه عزو جل أن يهيئ لي فرصة لزيارته لعلي من خلاله أضع نفسي - في حدود ما أقدر عليه - في خدمة المسلمين في كالكوت.

     في هذا الأخ الكريم أمارات نبل حقيقي، وسجايا فضل وكرم، وسلوك يدل على شرف المحتد، وطبيعة المروءة، ونقاء الطباع، تشعر أن ما حباه اللَّه تعالى به، من جاه وثراء لم يبطره، ولم يدفعه إلى الغرور، بل هو يتصرف به ومنه تصرف الشريف الأصيل، والسري النبيل، بدون مشقة أو تكلف، وكأنه الوردة الشذية تهب بفطرتها رائحتها الجميلة للآخرين.

     أكبرت فيه أنه ذهب إلى «تريم» في حضرموت لزيارتها، وما ذلك إلا لأنها بلد أجداده الذين هاجروا منها إلى الهند قبل قرون، والوفاء سمة الكرام، ومثل هذه الزيارة وفاء خالص، إن هذا الزميل الكريم منسوب إلى الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، فهو بذلك شريف من حيث النسب، كما أنه بسلوكه شريف من حيث التعامل.

     شكرت للأخ الكريم وفاءه، وعجبت من سرعة الزمان، وبعد أن عدت إلى البيت لأكتب هذه السطور، وجدتني أردد قول المتنبي:

كثيـــرُ حياةِ المرءِ مثلُ قليـلِها     يزولُ وباقي عيشِه مثلُ ذاهبِ

مناقشة الدكتوراه

مناقشة الدكتوراه

     ظلَلْتُ زمناً طويلاً أحلم بالدكتوراه، وذلك منذ حسمت اختياري وأنا لا أزال طالباً في نهاية المرحلة الثانوية في دير الزور، وهو أني سوف أدرس الأدب العربي في مصر، بدءاً بالبكالوريوس، وانتهاء بالدكتوراه والماجستير بينهما، وكانت نيتي أن أستمر فوراً في متابعة الدراسة العليا ودون انقطاع، وحين حصلت على البكالوريوس من قسم اللغة العربية في كلية الآداب، جامعة القاهرة عام  «1383هـ/ 1963م»، سجّلت على الفور مع سواي من الطلبة المتقدمين للحصول على الماجستير، وكان ذلك يستدعي منهم اجتياز سنة دراسية تسمى «السنة التمهيدية»، فاجتزتها في العام التالي «1384هـ/ 1964م»، وسجلت موضوعاً للماجستير، ثم إني تأخرت عن ذلك وقتاً طويلاً لظروف متنوعة، بعضها أنا مسؤول عنه، وبعضها لا قبل لي به.

     لكنني بعد الماجستير أخذت العبرة مما مرَّ بي، فتقدمت فوراً للدكتوراه، وبذلت جهدي أن أحصل عليها في أقصر وقت ممكن، وكأنني أحذر نفسي من تكرار خطئي السابق، وهذا ما تم بفضل اللَّه.

     كان الموضوع هو «عمر أبو ريشة، دراسة فنية» وبذلت جهدي في إعداد الرسالة، وحاولت أن أجعل شعر الشاعر هو مرجعي الأول، لتكون الدراسة أكثر أصالة، ولتكون «دراسة نصيّة» بالدرجة الأولى، وقد أعانني على ذلك معرفتي القديمة بالشاعر وشعره، وإدماني النظر فيه، ولا أزال أذكر كيف كنت أقرأ في ديوان الشاعر، هذا النص أو ذاك مرة بعد مرة، وأدوِّن الملاحظات التي أستخرجها منه، ثم أصنِّفها وأنسِّقها، وأجعلها العمدة فيما أكتب، وهو ما جعل للرسالة صفة الأصالة والتميز.

     وفي مساء يوم الأربعاء «7/ 12/ 1414هـ، 18/ 5/ 1994م» نوقشت الرسالة في قسم اللغة العربية، في كلية الآداب، جامعة عين شمس، وكانت لجنة المناقشة مكونة من الدكاترة يحيى عبد الدائم، وهو مَنْ أشرف على الرسالة، وإبراهيم عبد الرحمن، وأحمد مرسي، وقد منحتني اللجنة درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الثانية، وللَّه الحمد والشكر.

     كان الدكتور يحيى متعاطفاً معي لأنه عرف البحث وتابعه خطوة خطوة، وكان الدكتور أحمد متعاطفاً أيضاً لأنه كان زميلي في مرحلة الليسانس فعرفني بذلك معرفة وثقى، أما الدكتور إبراهيم فكان قاسياً عنيفاً، وقد قابلت قسوته وعنفه بالصبر والأناة، وكنت أحياناً أستأذنه في الرد على نقده لي فيسمح بذلك، ولكنه في أحيان أخرى لم يكن يسمح لي بالرد، لذلك كنت ألوذ بالصمت خوفاً من غضبه، ومع ذلك وجدت أن من واجبي أن أشكره بعد انتهاء المناقشة ومنحي الدكتوراه، فشكرته شكراً جزيلاً ووعدته أن أستفيد من ملاحظاته، كما شكرت الدكتورين الآخرين.

     لقد أكرمني اللَّه تعالى بالحصول على الدكتوراه مع أني تأخرت في ذلك كثيراً، لكنّ فرحي بها كان غامراً، وأن تصل إلى مطلوبك متأخراً خير من أنْ لا تصل، ثم إن عكوفي على إعداد الماجستير والدكتوراه، أيقظ فيَّ همة الشباب على البحث الذي انقطعت عنه بعذر، أو دون عذر.

     بعد انتهاء المناقشة، وإعلان النتيجة، شكرت اللجنة المناقشة على كرمها، وفرحت إذ وجدت حولي عدداً من الفقراء العاملين في الكلية من حرس وفراشين، يهنئونني ويطالبون بحقهم في «الإكرامية» المعتادة، فشكرتهم وفعلت.

     عدت إلى الفندق الذي سكنته، في مصر الجديدة، وشكرت اللَّه تعالى شكراً عميقاً، ثم أسرعت بتدوين أخبار هذا اليوم السعيد في أوراقي الخاصة خوفاً عليها من النسيان.

     جاءتني عدة تهنئات من مصر وغيرها، أما التهنئة المميزة فقد جاءتني من الشيخ علي الطنطاوي، فقد اتصل بي من بيته في جدة إلى بيتي في الرياض، يوم السبت «18/ 12/ 1414هـ، 28/ 5/ 1994م» بالهاتف، ليقول لي: «أنا لا أهنئك بالدكتوراه، ولكني أهنئ الدكتوراه بك»، إنها تهنئة الأب لابنه، والأستاذ لتلميذه، وقد زاد من قدرها أنه قالها لي وهو في خريف العمر، قد اعتزل الدنيا كلها، وعاش يرتقب نهايته، حريصاً على رضوان اللَّه عز وجل، وغير حريص على رضا هذا أو خائف من غضب ذاك، وقد وفقني اللَّه عز وجل يومها بإجابة مسددة إذ قلت له: إن كلامك هذا عندي أهم من قرار اللجنة التي منحتني الدكتوراه.

مناقشة الماجستير

مناقشة الماجستير

     في يوم الخميس، الساعة العاشرة والنصف صباحاً «20/ 12/ 1410هـ، 12/ 7/ 1990م» نوقشت رسالة الماجستير التي تقدمت بها إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب، جامعة القاهرة، في المدرج العريق الذي يحمل رقم 78، وكان موضوع الرسالة «الرثاء في شعر البارودي وحافظ وشوقي» وكانت بإشراف الدكتور طه وادي.

     وقد شارك في المناقشة مع الدكتور المشرف الأستاذان الكبيران، الدكتور شوقي ضيف، والدكتور أحمد هيكل، وقد رأيت في تشكيل لجنة المناقشة على هذا المستوى الرفيع شرفاً كبيراً لي ووساماً أعتز به، وقلت ذلك خلال تلخيص للرسالة، وقد انتهت المناقشة بمنحي درجة الماجستير بتقدير «امتياز»، والحمد للّه على كرمه.

     وقد اعترض الدكتور شوقي ضيف، أستاذي وأستاذ الأجيال، خلال مناقشته لي، على ما قررته من أن أحمد شوقي كان من حيث العقيدة والعاطفة عميق التدين، محباً للإسلام، منافحاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأن ما يؤخذ عليه هو معاصيه السلوكية، لذلك وصفت معصيته بأنها «معصية سلوك» لا «معصية معتقد»، وهذا أمر واقع من ناحية، وفيه إنصاف للشاعر وللبحث العلمي من ناحية، وأصر الدكتور شوقي ضيف على اعتراضه ودافعت عن وجهة نظري فلم يقبل، وما ذلك إلا لاعتزازه بهذا الشاعر الكبير وإعجابه الطويل العريض به.

     أما الدكتور هيكل، فقد طلب مني أن أقرأ صفحة كاملة من الرسالة؛ قال: إنها ساقطة من النسخة التي بين يديه، فقرأتها كما أراد، ثم انتظرت أن يسألني فلم يفعل، ثم إني خلوت بنفسي وأعدت النظر في الصفحة المقروءة، فاستبان لي الأمر، كان في الصفحة شعر ونثر، وكلام لي ولغيري، فأراد أن يتأكد أني كاتب الرسالة، وتأكد له ذلك، حين قرأتها قراءة فصيحة دقيقة منضبطة لغة ونحواً وصرفاً ووزناً وفي ثقة تامة، ذلك لو أن أحداً كتب الرسالة نيابة عني لفضحتني هذه القراءة تماماً، وللأستاذ الجليل عذره المنطقي لأن بعض الطلبة من أصحاب العزائم الخائرة، والنيات الدنيئة صاروا يستأجرون آخرين يكتبون عنهم رسائلهم، أما الدكتور شوقي ضيف فلم يلجأ معي إلى هذا اللون من الاختبار لمعرفته بي منذ أيام البكالوريوس، وهي معرفة وثقى.

مركز الملك سلمان الاجتماعي

مركز الملك سلمان الاجتماعي

     حين تقاعدت من العمل الوظيفي، وكان «المجلس الأعلى للإعلام» آخر محطاتي فيه عام «1424هـ/ 2003م»، لم أشك من الفراغ الذي يشكو منه أكثر المتقاعدين، ذلك أني مولع بالقراءة طوال عمري، وأحب الخلوة القصيرة والطويلة بين الحين والآخر، وفي القراءة والخلوة ما يشغل المرء بنفسه.

     وكنت أرى وأسمع الكثير من عجائب بعض من يتقاعد عن العمل الوظيفي، إذ يشعر أنه قد فقد قيمته، وأصبح عالة على مَنْ حوله، وأن عليه أن يعيش محزوناً محسوراً ينتظر موته، وتزداد حالة هذا المتقاعد سوءاً إذا كانت له منزلة في وظيفته السابقة، يأمر من خلالها وينهى، فلم يعد يجد من يأمره وينهاه، أو كانت له مكانة رفيعة يأتيه الناس بسببها لقضاء مصالحهم فزالت المكانة فانفض الناس عنه، وكان الناس - ولا يزالون - يتندرون على هذا الصنف من المتقاعدين، ويروون عنهم طرائف كثيرة، منها أنهم يطيلون المكث في منازلهم يحاسبون الزوجة والشغالة، على كأس قد انكسر، وحذاء قد اتسخ، وملعقة وقعت على الأرض، وما إلى ذلك، فيضيق بهم أهل البيت ويضيقون هم بأنفسهم.

     ومن أطرف ما سمعته في هذا المجال قصة جميلة دلالتها صحيحة، سواء كانت حقيقية أم مصنوعة، وهي أن ضابطاً في الجيش العثماني، أحيل إلى التقاعد بعد أن بلغ رتبة عالية، وكان نشيطاً دقيقاً محباً لعمله متقناً له، ينفذ أوامر رؤسائه بدقة، ويحمل مرؤوسيه على أن يفعلوا مثله، واعتاد الرجل على أن يؤمر فيطيع، وأن يأمر فيطاع، حتى أخذت حياته هذا القالب، والجيش العثماني معروف بالحزم والضبط والربط فلا غرابة أن صار حازماً ومحزوماً، ضابطاً ومضبوطاً، رابطاً ومربوطاً، وحين تقاعد كان قد تحول إلى شيخ لا يجيد إلا ذلك.

     ضاقت الدنيا بالرجل، وضاق هو بنفسه، وضاق بيته به، وظل كذلك حتى هداه أحد رفاقه إلى حل سارع إلى تنفيذه.

     كان هذا الضابط يعيش في طرف مدينته، وفي منطقة تحتاج إلى ماء لعابري السبيل، وكان الحل هو أن وضع هذا الضابط مائدة طويلة يصف عليها كوباً أحمر، وآخر أخضر، وآخر أبيض، ويملأ هذه الأكواب بماء عذب يقدمه مجاناً للعابرين ابتغاء ثواب اللَّه تعالى، فإذا جاءه عابر ومد يده إلى الكوب الأحمر نهاه عن ذلك وقدم له الأخضر، ويفعل مثل ذلك مع الكوبين الآخرين.

     وهكذا وجد الضابط ما يشغل نفسه به، وجد أنه لا يزال قادراً على أن يأمر، وأن أمره لا يزال ينفذ، وأنه حاز ثواب اللَّه تعالى في سمائه، وثناء جيرانه في أرضه، فاستراح وأراح، وذهب عنه وعن ذويه الضيق.

     على كل حال، لم يشكل لي التقاعد مشكلة نفسية أو بيتية، بسبب حبي للقراءة والكتابة، وحضور الديوانيات الجميلة في الرياض، فضلاً عن اشتراكي في مركز الملك سلمان الاجتماعي الذي أعدته الدولة للمتقاعدين، وكان من فضل اللَّه U عليّ - وأفضاله كثيرة - أن البيت الذي أسكنه قريب جداً من المركز، وهو ما سهّل علي كثرة الذهاب إليه، حتى إنني في بعض الأحيان أذهب إليه مرتين في اليوم الواحد.

     كان هذا المركز نعمة كبرى علي، كان واحة غنية بمعنى الكلمة، فيها غَناء العقل والجسم والروح.

     وللواحة في وجدان العربي معنى جميل، وظلال وارفة، وذكريات حسان، ذلك أنها تعني ما يلقاه المسافر في الصحراء، بعد التعب والظمأ والحر والجوع والخوف، من راحة وري وظل وشبع وأمن، ومن هنا يستدعي اسم الواحة لدى العربي سلسلة محببة من المعاني والمشاعر والخواطر، ولا غرابة فالواحة هي المكان الذي يصل إليه المسافر في الصحراء، ليجد فيه الماء والظل والنخل والكرم والأمان، فيسعد بذلك من ناحية وينسى كل ما عاناه من ناحية.

     ولكننا إذا امتددنا بمفهوم الواحة ووسعناه، نجد أنه قد يكون صديقاً عزيزاً تأنس إليه، تجد فيه الصدق والوفاء والعون، أو كتاباً رائعاً تجد فيه العلم الغزير والبيان الصافي فتخلو به وأنت سعيد، وقد تكون ملتقى دورياً مع عدد من أهل العلم والفضل والسماحة يسمّى ديوانية أو أمسية أو ندوة، يعبق بالود الصادق والرأي الحصيف والخبرة المتبادلة، يذهب إليه الإنسان فيسعد به، ويضيف إلى خبرته الجديد النافع، وينصرف عنه وهو متشوف للعودة إليه.

     وقد رأيت في مركز الملك سلمان الاجتماعي واحة حسناء، بل عدداً من الواحات، فأنت تجد في هذا النادي البديع الخضرة الجميلة ترعاها يد صناع ماهرة، وتجد فيه مضماراً بديعاً للمشي تحيط به الأشجار الباسقة من الجانبين، وتجد فيه الماء الحار والبارد، وتجد المقهى اللطيف، وتجد الديوانية الواسعة الرحبة تقرأ فيها الصحف، وتسمع الأخبار، وتلاقي الأخيار، كما تجد الطبيب إذا كنت محتاجاً، والتدليك الطبي إذا رغبت، والمسبح إذا أردت السباحة، وصالات الرياضة الملأى بالأجهزة الرياضية المناسبة لمختلف الأعمار والرغبات، وقبل كل ذلك ترى كوكبة من أهل الفضل تقوم على إدارة هذا النادي بود واقتدار.

     وإذا أردت الاستزادة من المعرفة فهناك مكتبة تدعوك وترحب بك، وإذا أردت أن تتذكر البادية فهناك خيمة واسعة تقول لك: أهلاً وسهلاً، أما الصلاة - والصلاة كتاب موقوت - فإن صوتاً جميلاً مسجلاً يناديك إليها حين يصدح بالأذان فتهرع إلى مسجد هو غاية في الأناقة.

     أليس لي أن أقول - دون أن يتهمني أحد بالمبالغة: إن نادي الملك سلمان الاجتماعي، هو واحة غنية جميلة، بل عدد من الواحات؟!

إنني أرجو أن يكون لهذا المركز النافع عدد من الفروع في أطراف الرياض الممتدة الواسعة، بل في كل مدن المملكة حماها اللَّه عز وجل.

في المجلس الأعلى للإعلام

في المجلس الأعلى للإعلام

     عملت في المجلس الأعلى للإعلام في الرياض مدة جميلة امتدت إلى أكثر من عشر سنوات، مرت وكأنها حلم بهيج في ليلة بهيجة، ومرد ذلك إلى عدة أمور.

     أولهاً: طبيعة عمل المجلس، ذلك أنه جهة استشارية تقدم رأيها في عدد من الموضوعات الإعلامية أو القريبة من الإعلام، لذلك لم تكن له صلة بالجمهور والمراجعين إلا فيما ندر، وهذا الأمر أضفى على المجلس قدراً حميداً من الهدوء والأناة والتأمل، والقراء وأصحاب الأقلام يحتاجون إلى ذلك كثيراً.

     ثانيها: أن عدد العاملين في المجلس كان قليلاً، فكانوا يعرف بعضهم بعضاً معرفة جيدة، ويتزاورون، وكانت روح الأخوة والزمالة هي السائدة بينهم، والمودة هي الشائعة، والبسمة هي الغالبة، وهذا فضل من اللَّه تعالى عظيم، لأن العادة أن يتنافس الزملاء وأن يتحاسدوا.

     ثالثها: شخصية الأمين العام للمجلس الذي كان المسؤول فيه، وهو الأستاذ الفاضل عبد الرحمن العبدان، وهو من أبناء القصيم، درس الشريعة في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، وتدرج في العمل الوظيفي، وانتزع إعجاب الناس وحبهم حيث كان.

     وهنا أذكر بالخير والثناء موقف أخي النبيل الوفي الأستاذ عبد الرحمن الأنصاري، الذي سبقني إلى العمل في المجلس حين جئته أستشيره، لقد نصحني أن ألتحق بالمجلس، وحدثني عن طبيعته حديثاً مشجعاً، ثم أكد لي أني سأجد في أمينه العام شخصاً نادراً جداً، من سعادة الإنسان أن يعمل بإمرته.

     والتحقت بالمجلس فوجدت أمينه العام كما سمعت وخيراً مما سمعت، إنه آية من آيات اللَّه في الحلم والنبل والأدب الجم، ولو أن سائلاً سألني عن النموذج الكريم الذي يجسّد حسن الخلق فيمن عرفت من الناس لقلت بلا تردد: إنه الأستاذ العبدان.

     وانعقدت المودة بيننا في سرعة، كان عزيزاً علي، وكنت مقرباً منه، وقد أعجبه سَمْتي الديني، وأعجب كثيراً بأفكاري ومقترحاتي التي كنت أطرحها عليه، وكان يرى أن بعضها خيالي غير قابل للتطبيق مع أنه جيد وصحيح.

     ولقد انعكس خلقه العالي على العاملين بإمرته، فتحول العمل - مع أنه واجب رسمي - إلى أداء محبب إلى النفس، ينشط إليه الإنسان برغبة وفاعلية، وصار المجلس بفضله واحة إخاء ومودة، كان محباً للإحسان بفطرته، وكنت واحداً ممن أحسن إليهم، ولذلك فهو في قلبي ما حييت، وأنا أدعو له كل يوم.

     وكان يجمع الإخوة المستشارين العاملين في المجلس ضحى كل ثلاثاء، ويدوم اللقاء قرابة ساعتين، ولو أن إنساناً ساذجاً رأى هذا اللقاء وسمع ما يدور فيه لظنّه إضاعة للوقت، لكن الأستاذ العبدان كان من خلال هذا اللقاء يجدد للمستشارين معلوماتهم، ويزيد من خبرتهم، ويعرف نقاط القوة والضعف فيهم.

     وكان المجلس ينتقل إلى جدة في الصيف، مع من ينتقل من أجهزة الدولة، وكان الانتقال يدوم أشهراً طويلة، وقد استفدت فائدة جليلة من هذا الانتقال حيث كنت أترك العائلة في الرياض، وأخلو بنفسي، فأقرأ كثيراً، وأكتب كثيراً، وأغتنم قربي من مكة المكرمة بين الحين والآخر فأسارع إلى الحرم الشريف معتمراً أو زائراً، وأذكر أني عكفت على ديواني المتنبي وبدوي الجبل، فقرأتهما مراتٍ لا أحصيها.

     وحين تقاعدت عن العمل قلت للأستاذ العبدان: لقد جنيتَ علي يا أستاذ، قال لي: كيف؟ قلت: حين أفكر في الالتحاق بعمل جديد الآن، أجزم أني لن أجد رئيساً بفضلك فأحجم، ولعل في هذا الإحجام خيراً كثيراً، ذلك أن لدي ما أشعر أنه مفيد شعراً ونثراً، فأنا الآن بفضل اللَّه تعالى أحاول كتابة هذا المفيد، والتفرغ عون كبير عليه.

في ضيافة المدينة المنورة

في ضيافة المدينة المنورة

     من أفضال اللَّه تعالى عليَّ، وأفضالُه لا تعد ولا تحصى، أنه شرَّفني بالإقامة في المدينة المنورة، على منوِّرها أفضل الصلاة والسلام، عامين مباركين، مدرساً في المعهد العلمي فيها «1387 - 1389هـ، 1967 - 1969م».

     كان هذان العامان عامين مباركين حافلين، فقد كان المعهد العلمي واحة خير ومودة وعلم، وكان مديره الشيخ علي الدخيل أخاً فاضلاً حازماً، وكان نائبه الشيخ حميد المالكي أخاً فاضلاً ليناً، وكان أحدهما يكمل الآخر.

     وبسرعة بالغة انعقدت صلة طيبة جداً، بيني وبين مَنْ في المعهد من إدارة وأساتذة وطلاب، أعانني على ذلك أني كنت شاباً نشيطاً مندفعاً يحب إقامة الجسور وبناء العلاقات، وأني كنت أنظر إلى التدريس أنه رسالة لا مهنة، وأنّ مَنْ في المعهد جميعاً عاملوني بنبل ومودة وأخوة.

     هذا عن المعهد الذي أكرمني اللَّه تعالى به، أما الحرم النبوي الشريف، ومنوِّره النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فهما فوق الوصف والبيان، إن الفرحة تملأ قلب المسلم حين يتاح له أن يقيم في المدينة المنورة أسبوعاً أو أسبوعين يصلي في مسجدها الطاهر، ويسلّم على سيده وسيد الخلق أجمعين، فكيف إذا كانت الإقامة عامين؟

     وقفت أمام المواجهة الشريفة مسلِّماً على الرسول الكريم وصاحبيه العظيمين مرات لا أحصيها، وظفرت بمثل ذلك في الصلاة في الحرم الشريف، وفي الروضة المطهرة، وفي زيارة مسجد قباء، ومثوى الشهداء في أُحُد، ومكان معركة الخندق، وما إلى ذلك من معالم طيبة الطيبة.

     وسمعت دروساً تلقى في الحرم الشريف، ومحاضرات عامة في الجامعة الإسلامية، والمعهد العلمي، وثانوية طيبة، ورأيت عدداً من الأعلام واستمعت لهم بإصغاء، أبرزهم المرحومان الصالحان الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ أبو الحسن الندوي، وخرجت في رحلات لطيفة خارج طيبة الطاهرة مع أساتذة المعهد، وطلبته، وغيرهم، وحضرت عدداً من المرات ندوة «الوادي المبارك» التي كان يقيمها الأستاذ عبد العزيز الربيع ؒ، وكان يومها مدير التعليم في المدينة المنورة.

     ولما كان عمري قريباً من أعمار معظم الطلبة في المعهد، ولما قابلوا ودي بود أكرم، وتحيتي بأحسن منها؛ تحول معظمهم إلى أصدقاء وزملاء، كنت أشجعهم على العلم، وأحثهم على التفوق، وأسمِّي لهم عدداً من المؤلفين والمؤلَّفات وأوصيهم بها، وأروي لهم النادرة الطريفة، والقصة الشيقة، فكانوا يسعدون بي وكنت بهم أسعد.

     واليوم حين أكتب هذه السطور بعد زمان طويل، أراني في منتهى السعادة حين أجد كوكبة من فضلاء الطلبة ونجبائهم، شقوا طريقهم في الحياة وتألقوا، ونالوا مكانة عليا عن جدارة واستحقاق، أجدني سعيداً لأن المسلم يحب الخير للآخرين، وأجدني سعيداً لأنني كنت أحثهم على الخير وأدعوهم إلى التفوق.

     من هذه الكوكبة المباركة أتذكر كلاً من: عايض الردادي، عوض الردادي، سليمان الرحيلي، عبد اللَّه الرحيلي، محمد العوفي، معيض العوفي، فيحان المطيري، محمد أيوب، عبد الرحمن الحميدي، حسام خاشقجي، حمادي التونسي، منصور العمرو، سليمان النملة.

     وإنني إذ أزجي لهؤلاء التحية الخالصة، أزجي تحية أفضل منها للكرام الآخرين الذين غابت أسماؤهم عن ذاكرتي، والكريم مَنْ عذر.

     ومن طرائف تلك المرحلة أني كنت في رحلة مع أسرة المعهد، وهناك أعطاني بعضهم بندقية صيد، فأطلقت الرصاص على بعض الطيور فأصبته فعدوني رامياً، وفي رحلة أخرى كنت نائماً فجاء أحدهم بضبّ، ووضعه عليّ ثم أيقظني ليرى ردّ فعلي، فقمت بهدوء فرأيت الضب فنفضته عني بهدوء، فعدوني شجاعاً.

     ومن أجمل ذكرياتي عن المدينة المنورة، على منوِّرها أفضل الصلاة والسلام، أنني حرصت على أن أصلي في مسجدها الطاهر أربعين صلاة لا تفوتني منها صلاة، وفعلت ذلك أكثر من مرة، طمعاً بالعطاء العظيم الذي وعد به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من يفعله، وحين كنت أصلي الصلاة الأربعين أشعر أن كل ذرة فيَّ تشكر اللَّه تعالى، والسعادة فيها تمتد وتمتد وكأنها بحر لا ساحل له، ولا عجب فآلاء اللَّه تعالى لا تحصى.

     كانت المدينة المنورة يومها قليلة السكان، صغيرة المساحة، وكنا شباباً صغاراً، قليلي المسؤوليات، وهذا ما جعل وقتنا متسعاً، لذلك كثرت لقاءاتنا وطابت؛ في الحرم الشريف وفي العقيق وفي العاقول، وكنا ثلاثة لا نكاد نفترق، صبري مرزا، وخالد قرفان، وأنا.

     لقد أكرمني اللَّه تعالى بالسفر إلى كثير من البلدان، الغني منها والفقير، المتقدم والمتخلف، المسلم وغير المسلم، وتعرفت من خلالها إلى عدد من الأعلام، وفي بعضها كانت لي ضيافة متميزة مشكورة، ولكني لم أجد مثل اللذة الروحية التي غمرتني ولا تزال تغمرني كلما كنت في المدينة المنورة إذ أشعر فيها أن نفسي أصفى، وروحي أنقى، وأعصابي أهدأ، وجسمي أنشط، ووقتي أوسع، ومطالبي أقل، وعقلي أذكى، وأن السكينة تملأ كل ذرة في كياني، وأن رجائي يربو، وأن مخاوفي تتضاءل، وأشعر أحياناً أنني أتنفس النور، وأحثو السعادة بيدي حثواً، وربما ابتسمت من الفرح والشكر، وربما بكيت.

     وقد كتبت في المدينة المنورة ومنوّرها صلى الله عليه وسلم طائفة من قصائدي، أعتز بها غاية الاعتزاز، آخرها قصيدة مطولة اسمها «طبت داراً» أرسلتها إلى النادي الأدبي في المدينة المنورة مشاركة مني في مسابقة شعرية أعلن عنها.

     وصلى اللَّه عليك يا سيدي يا رسول اللَّه، أنت هاجرت إلى يثرب، وأقمت فيها أول دولة للإسلام، ولقيت فيها ربك، فحوى ترابها جسدك الطاهر، أنت نوّرتها فكانت المنورة، وأنت طيّبتها فكانت الطيبة، فآلاؤها هبة منك لها، ومن هذه الآلاء نقتبس، وفيها نرفل، وبها نسعد، وإليها نحنّ، ويحن إليها المسلمون؛ حيث نكون ويكونون.

الأكثر مشاهدة