الأحد، 2 يناير 2022

مساء شائق

مساء شائق

أقامت إثنينية الأستاذ عبد المقصود خوجه في جدة حفلاً لتكريم الدكتور شاكر الفحام، وطلب إليّ منظمو الحفل المشاركة فيه، ففعلت.

     الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وبعد:

     فيطيب لي أن أشارك في هذا المساء الشائق لتكريم معالي الدكتور شاكر الفحام، وأحيي في هذا الحفل الذي هو عرس من أعراس الثقافة، المعاني الكريمة التي تكمن في عقول القائمين عليه وقلوبهم، وهي إعلاء قيمة الفكر والبيان، والإشادة بذوي الجهود المتميزة في حقول العلم والدعوة والإبداع، فهم في الحقيقة أنبل ما في الحياة، وهم أبقى ما في الحياة، وهم القادة والرادة والسابقون.

     الضيف الكريم المحتفى به، جمع بين الأدب والسياسة، وهو الآن يقود سفينة المجمع العلمي العربي في دمشق، وهو مجمع جاد عريق له جهوده المشكورة في خدمة ثقافتنا عامة، واللغة العربية خاصة، ولا غرابة، فدمشق منذ شرّفها اللَّه بالفتح الإسلامي بلد الإسلام وظئر العربية، وستبقى.

     تَرْبطني بالضيف الكريم - مع تباين انتمائنا الفكري - أكثر من صلة سيكون بعضها مفاجئاً له، تربطني صلة الإسلام وهي أول صلة، وأبقى صلة، وأغلى صلة، والإسلام كان وسيبقى: الهوية، والقضية، والماضي، والحاضر، والمستقبل، والأمل، والحل.

     وتربطني صلة العروبة، فالعروبة المؤمنة وعاء للفضائل ومهاد للمروءات ومستودع للمعادن الغالية، إنها موئل الكرم، ومثابة النبل، ومسرح الشجاعة، ومنبت الحرية، ودارة البطولة، ومنبع الوفاء، ومصنع الإباء، ومهوى العزة، ومُسْتراد الأريحية والنخوة والغيرة والفروسية.

     ولقد اختار اللَّه تعالى جزيرة العرب منطلقاً لرسالته، وله الحكمة البالغة، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، لأنها الأجدر بحملها مكاناً وزماناً وإنساناً ولساناً، ومن يومها اكتسبت هذه الجزيرة الميمونة هويتها ومهمتها، وأدتها خير أداء، والتاريخ خير شاهد، وانظر ما رواه عن بنيها الكرام منذ انطلقوا كالصقور فاتحين عادلين ظافرين يحملون إلى الدنيا هدي الإسلام ورحمته وعدله وحضارته، فكانوا وبحق خير أمة أخرجت للناس.

     وتربِطني بالضيف الكريم صلة الانتساب إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، فلهذا القسم العريق أفضال كثيرة، وقد كنت في السنة النهائية فيه حين حَرَصت على حضور مناقشة الدكتوراه التي تقدم بها الضيف الكريم وكانت عن الفرزدق.

     ثم إننا من تلاميذ العلامة المرحوم محمود محمد شاكر، حارس العربية، وعاشق التراث، وسادن الأصالة، الذي فتح للناس عامة ولمريديه خاصة قلبه وعقله وبيته ومكتبته، وطالما استفدنا من كرم نفسه وصدق أبوته، وغزير علمه ودقيق ملاحظته، وتقبلنا شاكرين صابرين باسمين شتائمه حين يغضب علينا بحق أو من دون حق.


إن من حق كل أمة أن تعتز بلغتها، ولنا نحن العرب أن نعتز بلغتنا كما يعتز الآخرون وأزيد، لأنها لغة ديننا قرآناً وسنة وثقافة، ولأنها لغة حضارتنا الغنية المتميزة، ثم لأنها اللغة الأغنى والأخصب والأجمل والأعرق، إن لنا أن نفتخر أننا الأمة الوحيدة التي يستطيع تلاميذ المرحلة الابتدائية فيها أن يفهموا ويحفظوا وينشدوا نصوصاً عمرها أكثر من ألف عام خلافاً لكل لغات الأرض، لذلك نحن لا نبالغ قط حين نقول عن لغتنا: إنها مجد باذخ، وقول جميل، وعراقة وأصالة، وحياة وتجدد، وعرض يصان، ودرة غالية تسكنُ العقولَ والقلوب والألسنة قبل الكتب والأوراق.

هذه اللغة العالية الغالية الشريفة تتعرض الآن لهجوم واسع من العجمة والعامية والابتذال وما يسمى الشعرَ الشعبي وما تؤذينا به فضائيات تجور على كثير من ثوابت الأمة ومنها اللغة العربية.

والحرب على العربية جزء من المؤامرة الكبرى التي تحاك ضد الأمة، ولن أخاف من قوم مردوا على اتهام من يتحدث عن المؤامرة، بأنه أسير الوهم، بل هم أُسارى الوهم، فالمؤامرة كانت وستبقى، وهي أكبر مما نظن ويظنون، لكنها قد تنجح وقد تخفق وقد ترتد على صانعيها.

إنني أهيب بكل غيور على اللغة وبالمؤسسات العلمية المتخصصة من جامعات ومراكز بحث علمي ومعاهد ومجامع؛ أن يهب الجميع لخدمة العربية بالعمل العلمي الجاد على كل المستويات، وأهيب بالضيف الكريم وهو على رأس مجمع محترم عريق أن يكون على رأس المبادرين في هذه المعركة الشريفة النبيلة التي تزداد الحاجة إليها يوماً بعد يوم.

***

هذه تحية النثر، أما تحية الشعر فهي هذه القصيدة التي كتبتها عن «الضاد» وإني إذ أمجد الضاد، أمجد الضيف الكريم، وأمجد هذه الكوكبة الكريمة من أهل العلم والفضل التي جاءت إلى هذا المساء الشائق.

***

الضاد

     الضاد لغة بهية عبقرية تمنحك من كنوزها بمقدار ما تقبل عليها.

يـا لســـاناً مثلَ الضحى عربيَّـا     تشـــرب العينُ حسنَه العبقريَّـا
وتصيـــخ الآذان عشقاً وشوقـاً     لغـواليــه بـــكـرة وعشيــــــــا
سيـــداً للبيـــان كنـــتَ وتبـقى     سيـــداً مالكـــاً وهوباً غنـــــيـا
تهــب الفكر كلَّ معنى جميـــل     حيــن تكسوه من حُلاك حليـــا
تــأسر الذائقَ العصيَّ رضـــاه     إذ تـلقّـــاه ســـاحراً ســـــامريا
ويجيء المعنى البعيد المرامي     فيــك يزهو مثلَ الصباح بهيــا
كل نعــمى على بســاطك راح     كل حســنى على رواقــك ريـا
كالدنــــان المعتقــــات اللـواتي     طبـــن طعماً وفحن مسكاً شذيا
أنت نهـــر أكوابـــه مترعـــات     وشــراب مثــل الرحيق نقيــــا
وبســـاط مثــل الربيع الموشّى     ضـاحكَ الغيثُ حسنَه الموشيـا
شهــد الأعصــرَ الطوالَ ولمَّـا     يَخــبُ حسناً وما يزال صبيـــا
إنـــه الضـــاد شمس كل بيــان     كـــان مذ كــان ملهماً وسريـــا
ســـرق الحسنَ كله واكتســــاه     وجـــلالَ الـنهى وكان حريــــا
ومضى يمــلأ الحيــــاة طيوبـاً     ويجــوب الآفـــاق طلق المحيا
***

ما تمــــلى بيـــــانَه ذو بيـــــان     وذكــــاء إلا اعتـــرته الحميـــا
وأعــــارته جـــذوة تتــــــنزى     وأصــــارته ضاحكاً أو شجيــا
مستعيــــداً ما راقــــه واستبـاه     مستهــــاماً به شغوفـــاً حفيــــا

***

وكـفى الضــــادَ عزة وفخــاراً     ما أطل الصبـــاح يوماً وحيــا
أن فيه الكتــــاب يتــــلوه قـوم     ملؤوا الرحبَ دانيـــاً وقصيـــا
ربما هبـــت البشـــــارات فيـه     فســرى فيهم الرضاء رخيــــا
أو توالـــت قوارع فتهـــــاووا     حــذر النــار سجــداً وبكيـــــا
ستشــيب الحياة والناس تبــلى     وسيـــبقى غضاً ويبقى طريــا
***

أنـــا للضــــاد عاشق فســـلوه     كيـــف أحببتـــه زمانــاً مليـــا
وحبــــــاني من وده ما حباني     واصطفـــــاني فكنت براً وفيا
ســـكن الضاد كاللبانـات قلبي     وبنـــاني وخاطري والمحيـــا
ولســــاناً يراه أحـــلى وأشهى     من كؤوس الـطــلاء في شفتيا
هو ضيفي في يقظتي ومنامي     ورفيــــقي أحنو ويحنو عليـــا
هو في كـــل ذرة من كيـــاني     وأخـــو خلوتي وفي مقلتيـــــا
وهو إلفي وصبـــوتي ونديمي     جئــــته مغـــرماً وجــــاء إليا
وهو لحن في مسمعي عبقري     وشـــذاً فـــاح طيبه ورديـــــا
***

عشت يا ضـــاد سيـداً وسَرِيّاً     مثـــلما كنت سيــــــداً وسَرِيّا

حكاية الفلفل

حكاية الفلفل

     عرفت إلى الشيخ سلمان الحسني الندوي في مدينة الرياض العامرة، عندما كان طالباً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، قسم الدراسات العليا، ومنذ لقيته وحاورته وجدت فيه ذكاءً وألمعيةً، وروحاً دعويةً صادقةً، فأحببته كثيراً، ورأيت أنه شخص مميز، وقيادي، وعنده قدرة على التجديد والابتكار والريادة.

     وقد صدقت الأيام ظني فيه، ذلك أنه عاد إلى مدينته لكنو فبرز وأجاد، وصنع اللَّه على يديه خيراً كثيراً.

     وفي مدينة لكنو في الهند توجد ندوة العلماء، وكان رئيسها يومذاك الشيخ المربي الصالح القدوة أبا الحسن الندوي:، الذي تعلقنا به منذ شبابنا الأول، لأننا كنا نقرأ له ما يكتب، ونتابع نشاطاته المباركة، ونشاطات ندوة العلماء التي يقودها، وهذه الندوة بمناهجها، وأساتذتها، وطلابها ومطبوعاتها، جديرة بالاحترام، لأنها نموذج كريم للإسلام السوي المعتدل، الذي يقوم على العقيدة الصحيحة، والسماحة والوسطية، وتغلب على أبنائها روح الصبر والزهد والعفاف، وحب الآخرين، وإعلاء قيمة الأخوة والوحدة، وكراهية الخلاف والجدل، والرضا بالقليل.

     وشاء اللَّه تعالى أن أزور الهند، وكانت لا تزال لديَّ بقية من الشباب، والحماسة والقدرة على التجوال، والتعرف إلى المؤسسات الدعوية، فعزمت على الذهاب إلى ندوة العلماء في لكنو، لزيارة الشيخ الصالح أبي الحسن، أطلب منه النصح، وأرجو الدعاء، ولأشاهد الآخرين من تلاميذ الشيخ وأقاربه، وبخاصة من يعمل في مؤسسات الندوة التعليمية والدعوية، ومنهم الشيخ سلمان الذي كان من تلاميذ الشيخ وخلصائه، ومن أقربائه أيضاً، ذلك أني وجدت من العقوق أن أزور الهند ولا أزور لكنو وندوتها المباركة وأبناءها الكرام، وقد أكرمني اللَّه تعالى فغلبت العقوق والكسل، وظفرت بالزيارة.

     وكما هو المتوقع كانت الزيارة طيبة جداً، بسبب كرم الإخوة في الندوة، وبسبب تقارب المفاهيم الدعوية، وبسبب اليسر والسماحة وكراهية التكلف، هذا كله جعلني أشعر أني بين أهلي وذويَّ، نتحدث ونتحاور، ونتفق ونختلف، ونحن في غاية الرضا والود والصفاء.

     كانت عناية الجميع بنا جيدة، ولكن عناية الشيخ سلمان كانت أكبر لقدم المعرفة من ناحية، ولنشاطاته المتنوعة من ناحية، وقد حرص على أن يطوف بنا عليها، ففعل، وشكرنا له ذلك.

     كان من أهم ما قلته للإخوة هناك: إن العمل الدعوي ينبغي ألَّا يقدس تجاربه، ولا تجارب الآخرين، وأن يمارس النقد لهذه التجارب بضوابطه الشرعية والموضوعية، لأن الوعي بأخطاء هذا العمل الدعوي، أو ذاك؛ يعين الأجيال القادمة على تحاشيها، أما السكوت عنها فإنه قد يغريها بتكرارها، وخطأ السكوت مثل خطأ التكرار أو أشد.

     ومن أجمل الذكريات الطريفة الباقية في ذاكرتي؛ أننا جلسنا في فناء مفتوح على شكل دائرة، وكان بجواري أخ عربي هو ضيف مثلي، وبدأ شاب هندي نابه من تلاميذ الشيخ النجباء يقدمنا إلى الآخرين، فقال فيما قال: معنا الأخوان العالمان الذكيان الداعيان، وطفق يكرر الثناء ويبالغ فيه، في جمل محكمة، ومترادفات بليغة، باهرة جداً، بديعة جداً، لقد كانت مقدرته اللغوية المتألقة تنافس فيه محبته المتألقة لنا، وقد أجاد فيهما معاً وتألق.

     وقد راعني حبه الصادق الذي جعله يبالغ في الثناء، وراعتني لغته العربية بياناً وجمالاً وسبكاً، ومعرفةً واسعة بقواعد اللغة نحواً وصرفاً، أما مخارج الحروف فكانت في غاية الضبط والوضوح والإحكام، حتى بدا لي أنه بلبل يغرد، قلت في نفسي يومها: هذا الرجل يجيد العربية أحسن من أبنائها، بل أحسن من كثير ممن يحملون درجة الماجستير والدكتوراه فيها.

     المهم أنه حين انتهى من تقديمه لي ولأخي الجالس بجواري، طلبت الكلمة، فأذنوا لي، فشكرته شكراً جزيلاً على حسن تقديمه، وروعة لغته، ولكني عتبت عليه لأنه أسرف في الثناء، وكان ينبغي له أن يقتصد فيه، لأننا لا نستحق هذا الثناء الطويل العريض الذي أسبغه علينا.

     هنا بدت لي منه ميزة أخرى تدل على ذكائه، وحسن تخلصه، وسرعة بديهته، ذلك أنه قال: إن ما يقوله الأخ حيدر يؤكد لنا صدق ما تعلمناه من أساتذتنا أن سادتنا العرب أزهد الناس في الثناء، وأقربهم إلى التواضع، لنقاء فطرتهم، وسماحة نفوسهم، وكراهيتهم التكلف.

     وأقسم إنني ازددت بما قاله حباً له وإعجاباً به، ولو أن اسمه بقي في ذاكرتي لذكرته بما يستحق من الشكر والتقدير.

     انقضت الأيام كأنها حلم سعيد، وقد استفدت من آرائهم، ولعلهم استفادوا من آرائي، وأنا على ثقة أن استفادتي كانت أكبر.

     كنت في هذه الأيام أنام في غرفة خصصوها لي، وكانوا يعدون لنا الطعام، وكان طيباً وكثيراً، ولكني كنت أشكو من كثرة الفلفل في الطعام، فيقولون لي: إن ذلك هو المعتاد، ولكن هذا المعتاد عندهم يؤذيني كثيراً، فأطلب إنقاصه فيفعلون، ولكني أجد الطعام بعد الإنقاص لايزال مؤذياً، فأطلب من جديد فيفعلون، ولكن بدون فائدة، ذلك أنهم قوم اعتادوا على كثرة الفلفل، فمهما أنقصوا منه يظل بالنسبة لي كثيراً، فلم أجد إلا السكوت، وكنت آكل في بعض الأحيان وفمي يحترق، وعيناي تدمعان، ومع ذلك ظللت بين الحين والآخر أذكرهم بكثرة الفلفل تصريحاً أو تلميحاً، أو دعابةً؛ بدون جدوى، حتى عرفوا مشكلتي معه، وصبري عليه، وصارت هذه المشكلة، أشبه بنادرة طريفة، يتداولها بعضهم في سياق من الدهشة أو الاستغراب أو التسلية.

     كان مسك الختام أن دعاني الشيخ سلمان لألتقي عدداً من الطلبة النابهين الذين يجيدون اللغة العربية في قاعة واسعة، وكان هذا من ذكائه، لأن إجادة لغة الخطاب من المتحدث والسامع يجعل الفهم أفضل، والتواصل أتم.

     وجلسنا على المنصة هو وأنا في مقابل الطلبة، وتحدثنا وتحدثوا، وكان القبول والتوفيق والود تبدو آثارها المحمودة على الوجوه والأفواه، فلما آن وقت الانصراف فاجأني الشيخ سلمان بسؤال أمام الطلبة، فقال: قد سمعت منا وسمعنا منك، لكن لاحظت أنك لم تذكر عيباً لنا، ولابد أنا لنا عيباً بل عيوباً، فصارحنا.

     هنا شعرت أن الشيخ ساق لي من حيث لا يدري مفاجأة طريفة جداً أختم بها اللقاء، وأجعل الطلبة ينصرفون وهم يضحكون.

     قلت له: بل هناك عيب كبير، ولكن ليس من اللائق أن أحدثكم عنه وأنا ضيفكم الذي وجد منكم غاية الحفاوة والتكريم، قال: لماذا؟ قلت: سوف تغضبون، عندها وعدني أنهم لن يغضبوا، فأصررت على موقفي، وأصر هو على موقفه، وساد القاعة صمت ثقيل جداً، إذ توقع الطلبة أني وجدت فيهم عيباً مهماً في عقيدتهم أو سلوكهم أو نشاطهم، وأن هذا العيب بلغ من الفداحة مبلغاً يجعلني أمتنع عن ذكره.

     وظل الشيخ سلمان يكرر الطلب والوعد، وظللت أتظاهر بالخشية من الغضب، حتى ذهبت الظنون بالطلبة وشيخهم إلى أسوأ التوقعات، وهذا بالضبط ما كنت أسعى إليه.

     عندها وقفت على قدمي وقلت لهم: هل تعاهدونني على أن تقبلوا مني نقدي لكم من دون غضب؟ فقالوا جميعاً: نعم.

     فقلت والقاعة في صمت عميق، والآذان تصغي، والعيون تنظر، ولو أنك حينها ألقيت إبرة صغيرة في القاعة لسمعت صوتها: «اسمعوها مني بغاية الصراحة، نحن - ضيوفَكم العربَ - نشكو من قلة الفلفل في الطعام»!

     عندها انفجر الجميع دفعة واحدة في ضحكة جميلة بريئة، ملأى بالفرح والإعجاب، وهذا ما كنت أعمل من أجله، فما أجمل أن تنتهي بعض النشاطات نهاية سعيدة!.

عهود الأصفياء


عهود الأصفياء

رأيت مجموعة من الشبان الأخيار الواعدين، فيهم دين ونبل وطموح، فأعجبت بهم، وكتبت لهم هذه العهود؛ لتكون مبادئ تحكم صلتهم، وتحميها من الضعف، وتقودهم إلى مزيد من الصلاح والنجاح.

     إن دائرة الأخوّة بين المسلمين دائرة واسعة، تجعل المسلم يحب كل أخ له في هذه الدنيا؛ امتثالاً لقول اللَّه تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10]، لكن هناك أخوّة خاصة تقع ضمن دائرة الأخوّة العامة يخص بها المسلم بعض من حوله، حباً وعوناً ونصحاً ونصرةً وإيثاراً والتقاءً ومشورةً، ولا تناقض بين الأخوّتين لأن منبعهما واحد هو الدين الحنيف، وغايتهما واحدة هي الظفر برضوان اللَّه تعالى وتعميق الانتماء إلى الأمة الواحدة، ولقد آخى الرسول الكريم e عند الهجرة إلى المدينة المنورة بين المسلمين أنصاراً ومهاجرين أخوَّة ثنائية شاملة كانت تقوم بين واحد من المهاجرين وآخر من الأنصار، وما كانت هذه الأخوة الثنائية لتنتقص من الأخوة العامة أو تكون بديلاً منها.

     واليوم - ونحن في هذا العصر اللاهث الذي طغت فيه الأثرة والفردية والتسارع، وضعف فيه التعاون بين الناس حتى بات الفرد يشعر أنه يكاد يكون وحده في معمعة الحياة - تبدو الحاجة ماسة جداً إلى هذه الأخوّة الخاصة التي تنشأ بين الأخ وبين عدد مختار من الإخوة الكرام الأصفياء، يجد فيها طعم الحب في اللَّه، وفوائد التعاون على الخير، والواحة التي يستظل بها في هجير الحياة اللاهب، يصطفيهم ممن يلتقي معهم ميولاً وروحاً واهتماماً وظروفاً.

     وإذا كانت الحاجة ماسة جداً إلى هذه الأخوّة الخاصة في الظروف الصعبة التي يمر بها الإنسان في هذا العصر اللاهث، فإنها في الظروف الاستثنائية - ومنها الغربة، والمرض، والهجرة، والحروب، والكوارث، والبطالة، والعجز، والشيخوخة - تصبح أشد، وألزم، لأنها في هذه الأحوال تغدو كطوق النجاة الذي يحمي الإنسان من الهلاك بإذن اللَّه.

     ويمكن أن تتكون هذه الأخوّة الخاصة بين مجموعة من زملاء في مهنة، أو جيران في حي، أو أبناء مدينة أو قرية أو إقليم، أو أقارب، أو فريق معنيٍّ بأمر ما، أو أمشاج من هذه الشرائح المتنوعة.

     والتعصب لهذه الأخوة الخاصة أمر مفيد لأنه مدعاة إلى مزيد من التعاون الخيِّر، وإنما يذم التعصب إذا زاد عن حده فتحول إلى جاهلية مقيتة، ومن أجمل ما قيل في التفريق بين التعصب الحميد والتعصب الذميم جملة بليغة - لعلها للشيخ رشيد رضا يرحمه اللَّه - تقول: «القليل من التعصب يعمِّر، والكثير منه يدمِّر».

     ومن الدواعي المنطقية العملية التي تزيد من قيمة هذه الأخوّة الخاصة وتعليها، وتعطيها أولوية على ما سواها، أن مروءة الإنسان وماله ووقته وطاقته محدودة لا يمكنه أن يوظفها بالقدر نفسه للقاصي والداني، فلا بدَّ من التريث والاصطفاء.

     وفيما يأتي مجموعة من الضوابط والمفاهيم والقواعد والأخلاقيات التي يرجى أن تأخذ بهذه الأخوة إلى النجاح، ويمكن أن تحمل اسم «عهود الأصفياء»، ومن شاء أن يختار اسماً آخر فله ذلك.

· الأخوَّة كنز ثمين من خيري الدنيا والآخرة، وهي قبل ذلك كله وبعده امتثال لأمر اللَّه تعالى.

· التواصي بالحق والتواصي بالصبر ركنٌ ركين من أركان هذه الأخوة.

· التناصحُ فريضة من فرائضها، يراه الناصح واجباً، ويراه المنصوح غنيمة.

· الهدف الأكبر من هذه الأخوَّة هو رضوان اللَّه تعالى، وما ينجم عنها من فوائد دنيوية هو فرعٌ لا أصلٌ، وتبعٌ لا غاية.

· في التناصح ينبغي أن نتذكر التوجيه النبوي الشريف الذي يقرر أن المؤمن مرآة أخيه المؤمن، فالمرآة ناصح صادق وجاد وصريح، ولكنه عفيف مؤدب.

· عهود هذه الأخوة تشمل الحياة والموت معاً، فالذي يبقى بعد أخيه يدعو له، ويبر أهله من بعده، والذي يسبق أخاه إلى دار البقاء يزوره في نومه ويحادثه إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.

· الضعف البشري أمر مقرر، ولا تستغرب عوارضه حين تصدر عن أحد، ولكن المهم أن تظل للمسلم البوصلة الهادية التي تدله إلى الاستقامة، وتعيده إلى الجادة، ولذلك ليس من المستبعد أن يخطئ المرء في حق أخيه، ولكن الهجر فوق ثلاثة أيام حرام، فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه، أَنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» متفق عليه.

· ينبغي إشاعة روح التسامح والتغافر والتماس الأعذار واحترام الخصوصيات.

· تحاشي الإلحاحِ والإملال والإحراج والجدل العقيم.

· إعلاء قيمة المال والحرص عليه واستعماله في مرضاة اللَّه.

· معرفة أدب الحوار، والتقيد به.

· معرفة أدب الخلاف، والتقيد به.

· أمران لا يمكن التسامح فيهما: الولاءُ والبراء أولاً، والكذب ثانياً.

· المسلم طالب حق في قوله وفعله، لا طالب غلبة.

· من أشجع الشجاعة الإنصافُ من النفس، وإنصاف الآخرين، والاعتذار، وكتمان السر، والصبر على الاستقامة، والصبر عن المعصية، وقبول النصيحة، وإسداؤها، والمصارحة، والقدرة على التجدد.

· من اللوازم الدنيوية لهذه الأخوّة: بذلُ المعروف، والسعي في الحوائج، وإصلاح ذات البين، وإقراض المحتاج، وردّ الدين، وحفظ الحرمة، والذبّ في ظهر الغيب، وتمني الخير للجميع.

· ومن لوازمها الدينية والدنيوية معاً: عفةُ اللسان، ونقاء الضمير، وسلامة الصدر، والبشر الصادق، والعفو والحلم، والترفع عن معاصي القلوب من حقد وحسد وأثرة وغش ولؤم وشحّ وكبرياء.

· استصحاب النية الخالصة لوجه اللَّه تعالى ينبغي أن يكون حالة دائمة، وأن يقترن هذا الاستصحاب بتحري الصواب، فقد تصدق النية ويضيع الصواب، والعكس بالعكس صحيح.

· النية الصادقة المقترنة بالصواب تحول العادات والمباحات إلى عبادات.

· بعض الناس حَلٌّ حيث يكون، وبعضهم مشكلة حيث يكون، فعسانا نكون من الصنف الأول.

· الإكثار من الاستخارة دأب الصالحين، والإكثار من الاستشارة دأب العقلاء.

· كرم النفس مقدم على كرم اليد، وكلاهما مطلوب.

· نقاء السريرة مقدم على نقاء العلانية، وكلاهما مطلوب.

· لا يمكن أن يكون المتصافون متماثلين متطابقين، فذلك مخالف لسنة اللَّه تعالى في التنوع والاختلاف بين خلقه، فضلاً عما يطرأ على الإنسان الواحد من نقص وزيادة، وعليه فالمطلوب أن تتلاقى إيجابيات هؤلاء المتصافين في التعاون، أما العيوب والسلبيات فيكون فيها التغافر والتناصح والتماس الأعذار، وبذلك يصبح التنوع تنوعَ تكامل وتعاون لا تنوعَ عداوة ونزاع.

· تعاون الأصفياء في دائرتهم الخاصة لا يلغي حق الآخرين عليهم في العون، وإذا تعاونوا فيما بينهم فقط وانغلقوا على أنفسهم دون الآخرين فإنهم - لا محالة - سيقعون في دائرة الأثرة، ويستجلبون عليهم عداوة الآخرين، وعندما يستعلون على من سواهم يسقطون من الغرور، وربما آل الأمر بهم إلى أن يصبحوا عصابة كارهة مكروهة، ومثل هذا الانغلاق خلق يهودي ذميم.

· التغاضي والتجاهل حيث ينبغي أمارة على عقل يقظ، وحكمة بالغة، وحب للخير، ونفس طيبة سمحة، وربما كان التغاضي في بعض المواقف أولى من المصارحة وأجدى.

· ينبغي أن ننزل الناس منازلهم التي يستحقونها لدينٍ، أو علمٍ، أو عقلٍ، أو فضلٍ، أو مروءةٍ، أو سابقةٍ، أو سنٍّ، أو خبرةٍ، أو تجردٍ.

· إذا كان لأحد منزلة يستحقها فعلينا أن نحفظ له ذلك وأن نعينه عليه، وعليه هو أن يجتهد في البقاء على مستواها، وألا تصرفه حقوق هذه المنزلة عن واجباتها.

· إذا كان لأحد منزلة ذات سمت ديني؛ فإن ذلك لا يعطيه حقوقاً خاصة على الناس يطالبهم بها، بل إن ذلك يحمله مسؤولية مضاعفة في التواضع والشكر وخدمة الآخرين، وإذا أعطاه الناس عن طواعية منهم حقوقاً له عليهم؛ فعليه أن يحذر من آفات الغرور والأثرة والتسلط والعُجْب والرئاسة، لأنها سوف تتسلل إليه.

· خير التقدير ما كان عن حب ورغبة واقتناع، وخير الواجب ما نبع عن إحساس نبيل بالمسؤولية,

· وسائل التأثير الخيِّر في الناس عامة، وفي الأصدقاء خاصة؛ كثيرة، ولكن القدوة الحسنة ستظل الأولى منها، خصوصاً إذا اقترنت برجاحة عقل، وسماحة نفس، وحب صادق، وترفع عفيف.

· لكل إنسان في الحياة أسرار خاصة به، وله أن يكتمها عن الآخرين، ولكن ليس لأحد أن يكتم سراً يهم بقية إخوانه، وينفرد به دونهم.

شباب متجدد

شباب متجدد

     حين كنت طالباً في الجامعة، كان الشباب يبدو لي جميلاً واعداً ممتداً من ناحية، وكان يبدو لي وكأنه ملك يدي من ناحية، ولذلك كنت أمارس نوعاً من التسويف الخاطئ يصرفني عن الجد اللازم الذي ينبغي لي أن أبذله في شؤون ديني ودنياي، وكنت أقول لنفسي: سيظل الشباب بين يدي حتى الأربعين.

     وحين اقتربت من الأربعين وجدت الشباب قد تفلّت مني، فقلت لنفسي: بل الشباب يمتد حتى الخمسين، فلما اقتربت من الخمسين رفعت سقف الشباب إلى الستين، فلما جاءت الستون رفعت سقف الشباب فجعلته مفتوحاً، وقلت لنفسي: الشباب هو شباب القلب، فالإنسان يبقى شاباً مهما امتد به العمر إذا كان قلبه عامراً بالأمل، وروحه ملأى بالعزيمة، وإرادته تحفل بالعطاء.

     أما التسويف الذي وقع مني ولا يزال يقع، فهو خطأ فادح، والتسويف من ألد أعداء الإنسان، حتى إن أحد المربين الصالحين من سلفنا الصالح وصفه بأنه من جند الشيطان.

     أما محاولتي تجديد الشباب، أو بالأحرى تجديد الإحساس به، فما هو بخطأ، لأنه لون من مخادعة النفس لتستمر في إحساسها بالحياة، وبإحساسها أنها لا تزال فاعلة نافعة.

     ولإحساس المرء إزاء نفسه، وإزاء الآخرين، وإزاء الحياة أثر مهم في شبابه وشيخوخته، ولرُبَّ شابٍّ في ميعة العمر يحمل نفسية شيخ واهن، ولرُبَّ شيخٍ واهن جاوز السبعين يحمل نفسية شاب متدفق.

     هذا الإحساس بالشباب المتجدد يحتاج إليه الناس جميعاً، وبخاصة من جاوز سن الستين، وتقاعد عن العمل إذا كان موظفاً، ذلك أنه يمنحه شعوراً بالحياة والأمل، ويمنحه عزيمة تنأى به عن العجز والخمول، ويمنحه رغبة في العطاء والنفع، إنه لأمر جميل جداً أن يشعر الإنسان إذا كبر أنه لا يزال نافعاً، وأن له رسالة في الحياة يؤديها، ويزداد هذا الأمر جمالاً حين يكون الإنسان مكفي المؤونة غير محتاج إلى السعي في طلب الرزق، ذلك أنه يشعر في هذه الحالة بنعمة اللَّه تعالى عليه، الذي جعل يده عليا، والذي مد له في عمره، ففرغه للصالحات الباقيات، من الصلوات، والتلاوات، ومجالسة الصالحين، وبذل المعروف، وقضاء الحوائج، وما إلى ذلك من أبواب الخير الكثيرة التي فتحها لنا ديننا العظيم.

رسالة ماجستير

رسالة ماجستير

     نوقشت ضحى يوم الخميس «14/ 7/ 1437هـ، 21/ 4/ 2016م»، رسالة الماجستير المقدمة من الطالب محمد الودعاني، في كلية اللغة العربية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، وكانت اللجنة المناقشة: الدكتور محمود عمار مشرفاً، والدكتور حسن النعمي، والدكتور عبد الكريم عبد الكريم، وحاز الطالب درجة الماجستير بتقدير امتياز، وكان موضوع الرسالة: شعر حيدر الغدير دراسة أسلوبية.

     وقد ترددت كثيراً في حضور المناقشة، ثم حضرت، ودخلت القاعة بهدوء شديد، وانتحيت جانباً كأني لا أريد أن يراني أحد، لكن الدكتور المشرف رآني فحياني وهو على منصة المناقشة، وأثنى علي ثناء يليق بذوقه وخلقه.

     انتهت المناقشة وكانت في غاية الدقة العلمية، والصراحة في الثناء وفي النقد عليّ وعلى الطالب، وكما أجادت اللجنة في مناقشة الطالب علمياً وذوقياً، أجاد الطالب كذلك في ردوده علمياً وذوقياً، وبذلك كانت المناقشة رفيعة المستوى بفضل اللَّه.

     ظللت في مكاني جالساً صامتاً، فلما انتهت المناقشة جاء إلي الدكاترة الثلاثة في ود صادق، وأدب رفيع، فتبادلنا التحيات والعناق، ثم أخذت لنا ومعنا الطالب الصور التذكارية.

     وجدت من واجبي أن أقابل هذا الأدب العالي بمثله، فقلت للدكاترة وللطالب الودعاني: أنا اليوم بينكم خاطب لا خطيب، جئت أخطب منكم الود والأخوة، وستكون استفادتي من الملاحظات العلمية على الرسالة أكثر من استفادة كاتبها الودعاني.

كدت أنهار

كدت أنهار

     نشأت بفضل اللَّه تعالى مسلماً عربياً، معتزاً بالإسلام، معجباً بالعروبة، كان ذلك بسبب بيئتي التي نشأت فيها، وهي بيئة مسلمة عربية، ثم بسبب أساتذتي الذين عمقوا فيَّ هذه الروح، وبسبب حبي القراءة حباً جماً منذ الصغر، وبذلك ازدادت معرفتي بفضائل الإسلام، وبفضائل العروبة، من مروءة وكرم، وحب للآخرين، وسعادة في خدمة الأخيار، وما إلى ذلك، وهو ما تشربتُه من القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة، وعظمة التاريخ الإسلامي وبطولاته، ونبل السجايا العربية ونقائها، ثم إني عكفت على عيون الشعر العربي الذي أُولِعت به من صغري، فوجدت فيها عرضاً بديعاً شائقاً لهذه السجايا يغري باتباعها، فازددت حباً لها، وإعجاباً بها.

     وقد سكنت هذه الفضائل أعماقي، وصارت بوصلة لي في حياتي، ويعلم اللَّه تعالى أني كنت أتمثل بها، وأحاول أن أكون على مقتضاها دوماً، ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

     ومن أفضال اللَّه عليَّ أنه كانت لي قدرة على خدمة الآخرين، خدمة تتفاوت قوة وضعفاً، من حال إلى حال، لكنني ظللت في كل الأحوال مولعاً بصناعة الخير مع الآخرين في فرحة واحتساب.

     ومع الزمن بدأت وقائع الحياة تدعوني إلى المراجعة بسبب ما لقيته من هذا وذاك، من قريب، أو زميل، أو إنسان له صفة دعوية، أو ضيف نرى له علينا حق الضيافة.

     وعلى المرء أن يعجل بالحسم مع هؤلاء وأمثالهم، فهم صنف رديء دنيء، والمضيُّ معهم أكثر مما ينبغي بالدعم والصبر، له مضار كثيرة، إذ يستسهلون النعمة التي تأتيهم من غيرهم دون أن يكدحوا في سبيلها، ويعتادون الكسل والاتكالية، وتعظم فيهم روح الدناءة والصغار، وتموت فيهم روح الجدية والكرامة، فيصبحون عبئاً حقيقياً على أنفسهم وذويهم، مثلهم مثل الحشائش الطفيلية الضارة التي تنبت في الحدائق والمزارع، يضاف إلى ذلك أنهم ينظرون إلى من يستمر في عونهم، على أنه إنسان طيب إلى درجة الغفلة والبلاهة التي تجعلهم قادرين على خديعته، إن المروءة مع أهل السوء خطأ، أما الاستمرار فيها معهم فهو خطأ مضاعف وحماقة غبية.

     رأيت العقوق، والكذب، والسرقة، ونكران الجميل، والشتائم الدنيئة الملأى بالحقد والحسد، ومعاذ اللَّه أن أعمم، فالتعميم خطأ كبير، لقد وجدت عدداً من الأوفياء الأخيار الذين يمثلون نماذج مشرفة للنبل والشرف، لكنهم قلة قليلة.

     هناك أقارب عجزة لا يحتملون عناء الصبر والكفاح والرضا بالقليل، ويريدون أن يعيشوا فوق قدرتهم، فإذا صنعت لهم خيراً، ودعوتهم إلى العيش في حدود قدرتهم غضبوا جداً، وإذا توقفت عن إعطائهم ما يريدون، وكما يريدون؛ سبوك سباً مقذعاً، ودعوا عليك، وفي هؤلاء وأمثالهم يصدق قول الشاعر:

إن ذا اللــؤمِ إذا أكرمتَــهُ     حسب الإكرام حقّاً لزمَكْ

     وقول الآخر:

كحمارِ الســـوءِ إِن أشبعتهُ     رفسَ الناسَ وإِن جاعَ نَهقْ

     وقول الآخر:

وظلم ذوي القربى أشدُّ مضــاضةً     على المرء من وقع الحسام المهنَّدِ

     وما قيل عن أقارب السوء وزملاء السوء هؤلاء؛ يقال عن آخرين لهم صفة دعوية لا يستحقونها في قليل أو كثير، هذا إمام في مسجد، وهذا خطيب يعظ الناس، وهذا ذو عمامة كبيرة ولحية طويلة، وهذا عضو بارز في مؤسسة دينية رسمية أو شعبية، وهذا إنسان تحول الدين عنده إلى حرفة يعيش منها، ماتت فيه روح الدعوة، وانطفأت فيه حرارة الرسالة، ودفء الأخوة، وصار يؤدي عمله بصفة ميكانيكية آلية لا حياة فيها ولا حمية، لأنها عنده مجرد وسيلة للكسب لا أكثر ولا أقل.

     وقد حزنت حزناً عميقاً لما رأيت وطال حزني، وبدأ ظني بالناس يسوء، وبدأت أميل إلى العزلة، حتى كدت أنهار؛ أنهار لا بمعنى التخلي عما أحببته من مكارم الأخلاق والسجايا، فذلك ما يحث عليه الدين الإسلامي، والفطرة السوية، بل هو ما تحبه المعادن الكريمة التي توجد في كرام الخلق من مسلمين وغير مسلمين، والمعادن الكريمة ليست حكراً على المسلمين، وقد تجد مسلماً معدنه دنيء، يجاوره غير مسلم معدنه نبيل، ولكن أنهار بمعنى أن أعيش إنساناً سلبياً، فضائله شخصية خالصة، لا يهتم بالآخرين، ولا يسعى في خدمتهم.

     لقد حزنت كثيراً لما رأيته من سوء الأقارب والزملاء، ولكن حزني لما رأيته من سوء الآخرين الذين لهم صفة دعوية كان أكبر بكثير، لأنهم بسوئهم يقدمون نماذج زائفة للعمل الدعوي تصد عن سبيل اللَّه، وتعطي أعداء الدين حجة لتشويه الدين، وتشويه صورة دعاته، حتى الأخيار منهم، وأنا أرى بإصرار أن يمنع هؤلاء من العمل الدعوي، على أن تهيأ لهم فرصة العيش الكريم من غير الدين، يُقْصى هذا عن الإمامة، وذاك عن الخطابة، وذاك عن التدريس، وتحلق لحية الرابع، وتنزع عمامة الخامس، وهكذا.

     إنَّ العمل الإسلامي ينبغي أن يقوم به الأخيار الأذكياء من أصحاب المعادن الكريمة والعقول الراجحة والنفوس الطيبة، لأنهم أجدر الناس بهذه المهمة الشريفة، ولا يعني هذا أنهم لا يخطئون، فالخطأ من طبيعة البشر، لكن لهم ميزة كبرى، فهم إن أصابوا فذلك خير، وهو المتوقع منهم، وإن أخطؤوا ردتهم مزاياهم إلى الصواب، وهو خير، وهو المتوقع منهم كذلك.

     أما الأذكياء الفاسدون، والأغبياء المخلصون، والمشوهون في عقولهم، أو في نفوسهم، فينبغي أن يُمْنعوا من العمل الدعوي بتاتاً، لقد كانوا وسيظلون أرزاء على البلاد والعباد، والدين والدنيا، والتاريخ الإسلامي ملآن بحكاياتهم وحماقاتهم، وعندي أن حماية العمل الدعوي من أذى هؤلاء ينبغي أن تسير جنباً إلى جنب مع اكتساب مواقع جديدة له، بل ربما ينبغي أن تتقدم عليه أخذاً بالقاعدة الأصولية التي تقرر أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ذلك أن دين اللَّه عز وجل، أعز وأعظم وأشرف من أن يقوم به ذكي طالح، أو غبي صالح.

وهؤلاء الذين ينبغي أن يُمْنعوا من العمل الدعوي، هم مسلمون، ولديهم حظوظ متفاوتة من الخير والشر، وينبغي للعمل الدعوي أن يبذل جهده في تربيتهم والارتقاء بهم، إن منعهم واجب علينا، ودعوتهم واجب علينا أيضاً، إنهم مسلمون كانوا ويظلون، لأن الإسلام يقرُّ بالضعف البشري، فيستوعب الذكي والغبي، والشجاع والجبان، والكريم والبخيل، ومَنْ يأخذ بالعزيمة ومَنْ يأخذ بالرخصة، وهكذا، والتفاوت بين الناس من سنن اللَّه تعالى في خلقه، وله حكمته البالغة.

     طال حزني لما رأيت، ولكن اللَّه تعالى مَنّ عليَّ بعدد من الخيار، كنت أشكو لهم ما بي، فيربطون على قلبي، وكأني المعنيّ بقول الشاعر:

ولا بدَّ من شكوى إلى ذي مروءةٍ     يواسيـــكَ أو يُسْليكَ أو يتوجَّـــــعُ

     ثم إني تذكرت مجموعة من القصص القديمة، نعرفها جميعاً منذ الطفولة، لكن تذكرها في الموقف الذي كنت فيه كان نافعاً جداً لي، مسح عني الحزن، وأعادني إلى الاعتدال والاستواء.

· منها قصةُ قابيل الذي قتل أخاه هابيل، الذي لم يؤذه قط.

· ومنها قصةُ سيدنا يوسف عليه السلام مع إخوته الذين همُّوا بقتله، فاكتفى أرشدهم بإلقائه في البئر.

· ومنها سيرةُ أعمام الرسول صلى الله عليه وسلم، منهم من دافع عنه بشجاعة حتى الموت، لكنه لم يسلم (أبو طالب)، ومنهم من أسلم وحسن إسلامه (العباس)، ومنهم من أسلم إسلام إيمان وشجاعة وحمية، وقاتل حتى استشهد، فكان سيد الشهداء (حمزة)، ومنهم من عاداه أشد العداوة حتى هلك، وأنزل اللَّه عز وجل فيه قرآناً يتلى إلى آخر الدهر (أبو لهب).

· ومنها حديث الإفك، حيث اتهمت فيه السيدة الطاهرة عائشة الصديقة بنت الصديق، بالفاحشة، وهي أطهر عرض، زوجها الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وأبوها الصديق رضي الله عنه، وكان ممن اتهمها أحد الصحابة الذين شاركوا في معركة بدر، ولهؤلاء منزلة عظمى، وكان فقيراً يقدم له الصديق ما يعينه على العيش الكريم، وقد غضب منه لافترائه على ابنته الطاهرة، وأقسم إنه لن يساعده بعد الإفك الذي شارك فيه، فنهاه اللَّه تعالى عن ذلك.

     إن اللَّه تعالى وضع أمامنا هذه القصص، وهناك كثير غيرها، لنتذكر أن الدنيا دار ابتلاء، وأن المجتمع المسلم مهما طهر وسما فليس مجتمع ملائكة، بل هو مجتمع بشر يصيبون ويخطئون، وأن الإساءة قد تأتي للإنسان حتى ممن أحسن إليهم من أقارب وأباعد، وهذا مما يهون عليه ما أصابه، وخصوصاً إذا تذكر أن من هم أحسن منه بكثير أوذوا أكثر منه بكثير، وإذا تذكر أن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، وأن الدار الآخرة هي دار القرار، الذي ينبغي للإنسان أن يعمل للفوز فيها.

     على أن هذا الموقف الإيجابي الحميد، الذي ينبغي للمسلم أن يقفه إزاء الأذى الذي يتعرض له، ينبغي أن يصاحبه موقف إيجابي حميد آخر، يكمل موقفه الأول ليكون ممن ينتفع بأخطائه، ويمنع تكرارها.

     وخلاصته أن يتسلح بالحذر في التعامل مع الآخرين، ويميز بين أنواعهم ومعادنهم وقدراتهم، وينزل كل واحد منهم المنزلة اللائقة به، وإذا توسم في واحد منهم خيراً فواجبه أن يمنحه الثقة بالتدريج، حتى تكون خسارته يسيرة إذا تبين له أنه ليس جديراً بالثقة.

     كما عليه أن يفكر في البدائل الجديدة التي ينبغي له أن يتخذها حتى لا يكون عاجزاً سلبياً.

     وأن ينظر إلى الخيرات الكبيرة المتنوعة التي يرفل فيها، من نعم سابغة، وإخوانٍ أخيار، والعاقل ليس له أن يأسى على ما أصابه من أذى، وينسى الخيرات التي تحيط به.

     وعليه أن يتذكر أيضاً أن المصيبة في الدنيا مهما عظمت أهون من المصيبة في الدين.

     وأن يتذكر كذلك أن له أجراً كبيراً عند اللَّه عز وجل على ما أصابه إن صبر واحتسب، وبذلك تذهب عنه العَبْرة، وتبقى لديه العِبْرة، وفي ذلك خير كبير.

     وينبغي للمسلم أن يستصحب قاعدة الاعتدال في علاقاته مع الآخرين، أياً كانوا، فالإسلام دين أخوّة، وجماعة، ومحبة، وتعاون، والمسلم إلف مألوف، لكن عليه أن يحذر من الطرفين المذمومين في هذه العلاقات: أولهما: التوسع الزائد فيها، لأن أغلب العلاقات التي من هذا النوع تنتهي إلى الفتور، وربما إلى العداوة، وثانيهما: الجفاء الذي يجعلها باردة، لا حياة فيها ولا روح، وكأنها عمل ميكانيكي رسمي، يؤديه الإنسان، لأنه مكلف به لا أكثر، ولا أقل.

     ومما يتصل بقاعدة الاعتدال هذه أن يميز الإنسان بين الناس من حيث فضائلهم، وقدراتهم، ومعادنهم، واهتماماتهم، ويعيد النظر في حكمه عليهم بين الحين والآخر على ضوء ما يرى منهم تقديماً، وتأخيراً، وحذفاً، وإضافة، وتعديلاً.

     ومما يتصل بهذه القاعدة أيضاً حسن التعامل المالي، الذي ينبغي أن يكون في غاية الدقة والوضوح والصراحة، وفي حدود الحاجة الكافية، وفي حدود القدرة الممكنة، فالهبة شيء، والهدية شيء، والقرض شيء، ولا ينبغي لشيء أن يأخذ مكان سواه.

     والقرض بالذات ينبغي أن يكون قائماً على الرضا، لا على الإلحاح والحياء، وأن يوثق بالكتابة، وأن يؤدى في وقته، والتعامل المالي بين الأصدقاء اختبار حقيقي لدقتهم، وأمانتهم، واحترامهم لأنفسهم، وهذا اختبار يخفق الكثيرون فيه، وينجح القليلون، وكما أن على المقترض أن يكون صادقاً في طلبه من حيث وجود الحاجة الداعية للاقتراض، ومن حيث العزيمة الجادة على الأداء، فإن على المقرض أن يتحلى بالشجاعة والصراحة في شروطه، وأن يعتذر إذا لم تكن له ملاءة مالية، أو لم تكن له ثقة بطالب القرض، وقد يقع الإنسان في الحرج في حالة رفضه للإقراض، لكن هذا الحرج سيوفر عليه ما يشعر به من الندم والضيق والمطالبة بالسداد، إن أقرض من لا يستحق، أو أقرض من لا يملك ملاءة مالية كافية، وما قيل عن القرض يقال عن أي تعامل مالي آخر، ويزداد التأكيد عليه كلما ازدادت أهمية هذا التعامل.

     وباجتماع هذين الموقفين المتكاملين، ينجو المسلم المصاب بالأذى من طول الحزن، ومن الاكتئاب، ومن العجز والسلبية، ومن إساءة الظن بالجميع، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن ذلك يجعله قادراً على التجدد، والابتكار، والأمل، وحسن الظن بالناس، وبذلك يعيش مسلماً إيجابياً سعيداً، ينفع الناس، وينفع نفسه، حتى يلقى اللَّه تعالى راضياً مرضياً.

مشروع دعوي نادر المثال

مشروع دعوي نادر المثال

     في ضحى يوم الإثنين «28/ 5/ 1429هـ، 2/ 6/ 2008م»، زرت برفقة الأخ الكريم الدكتور عبد الباسط بدر، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، في المدينة المنورة، على منوِّرها أفضل الصلاة والسلام.

     دخلنا المجمع على موعد مع أمينه العام الأستاذ الدكتور محمد العوفي، الذي كان في استقبالنا، وأخذنا في جولة طويلة في أنحاء المجمع، وأبهائه، وقاعاته، وآلاته، ومستودعاته...، وهو يشرح لنا ما نمر به.

     لم أكن أفهم كثيراً من هذه القضايا الفنية التي كان الأمين يشرحها لنا، لسببين، الأول: أني لا أعرف كثيراً من القضايا، ولا أحسن استيعابها، لأنها ليست من اهتمامي، الثاني: أن الفرح كان يملأ علي أقطار نفسي، كان الفرح في عقلي وروحي ونفسي يتحول إلى أكاليل من الثناء والدعاء تصعد إلى بارئ الأرض والسماء، وإلى بساتين من الشكران والرضوان تسجد للرحيم الرحمن.

     ذلك أني وجدت المال ينفق بذكاء وسخاء في أكرم الميادين وأجلها وهو خدمة كتاب اللَّه تعالى، دستور الأمة، وهاديها إلى الفلاح في الدنيا والآخرة.

     وأني وجدت النيات المؤمنة، والأيدي المتوضئة، والعزائم الجادة، والخبرة المتمكنة، تطوّع ابتكارات العلم الحديث، لخدمة كتاب اللَّه تعالى بحماسة وجدارة واقتدار، في هذا المجمع النادر المثال، وهو أمر يؤكد أنا نحن - المسلمين - قادرون على طيِّ الفجوة العلمية بيننا وبين من سبقونا، والإضافة إليها، والابتكار فيها، وذلك حين تتوافر لديهم النية الصادقة، والعزيمة الجادة، والأداة المسعفة، كما أنه أمر يدعو قادة المسلمين، وأمراءهم، وعلماءهم، وأغنياءهم، إلى أن ينفقوا أموالهم في مشروعات عظيمة النفع، ميمونة الاختيار، محكمة التخطيط، كهذا المشروع الجليل النبيل.

     ومما يجدر ذكره أن هذا المجمع يصدر ثمانية ملايين نسخة من المصحف الشريف في العام إذا كان العمل فيه وردية واحدة، فإذا كان العمل ورديتين يصدر ضعف ذلك.

     ومما يجدر ذكره أيضاً أن له عناية متميزة بترجمات معاني القرآن الكريم إلى لغات جديدة، ومراجعة الترجمات السابقة لمزيد من الإتقان.

     والشكر كل الشكر لكل من أسهم في هذا المشروع المبارك، منذ أن كان فكرة في الضمير إلى أن صار حقيقة بالغة الروعة، والشكر كل الشكر للعاملين فيه أجمعين، وعلى رأسهم سعادة الأستاذ الدكتور القدير الحازم الألمعي «محمد العوفي» حفظه اللَّه ورعاه.

رؤيا مباركة

رؤيا مباركة

     صليت الصبح في وقتها بفضل اللَّه تعالى، ثم اضطجعت على السرير أقرأ الورد اليومي فنمت، رأيت أني في حقل صغير أخضر، أسقي بالخرطوم - وأنا فرح مسرور - نخلة عجيبة، عظيمة القطر، جذورها ضاربة في الأرض، وفروعها باسقة في السماء، وتبدو أعظم وأجمل من النخل المعتاد، فأولت الرؤيا خيراً.

     أولتها أن ما انتهيت إليه من خلال قراءاتي ومتابعاتي الطويلة للعمل الدعوي، هو صحيح تماماً، فيه القوة والرسوخ والصواب، وإن خالف الكثيرين ممن حاورتهم فيه، وأن علي أن أصر عليه وأبشر به حيث استطعت.

     هذا من حيث العموم.

     أما من حيث الخصوص فقد وجدت في هذه الرؤيا بشارة مشجعة تخبرني أن مدرسة الحرمين في نيبال، التي شرفني اللَّه تعالى بخدمتها، ستكون بإذنه وعونه نموذجاً تطبيقياً لما أحلم به في تلك البلاد.

     لقد ربطت هذه الرؤيا على قلبي، وأشعرتني أني في الطريق الصحيح، والحمد للَّه تعالى على أفضاله التي لا تعد ولا تحصى.

عيوب وذنوب

عيوب وذنوب

     فطر اللَّه تعالى الإنسان مجبولاً على الخطأ والنقص والنسيان، لكنه برحمته الواسعة التي وسعت كل شيء أعطاه الفرصة ليتوب ويتجدد، ووعده بالقبول.

     ولي مثل خلق اللَّه أجمعين عيوب وذنوب، أقع فيها بين الحين والآخر، ونسأله تعالى أن يستر منا العيوب، ويغفر لنا الذنوب.

     ومن فضل اللَّه عليّ أن ولائي للإسلام، وحبّي له، واقتناعي بأنه سبيل سعادتي في الدنيا والآخرة، وضع أمامي البوصلة التي تحميني من الخطأ قبل أن أقع فيه، وتعينني على تجاوزه إذا وقعت فيه، والمسلم خطّاء، لكنه رجّاع إلى الحق.

     ومن فضله أيضاً عز وجل أنه عرَّفني بالفرق بين حقوقه وبين حقوق الناس، وحفظت الجملة المأثورة عند علمائنا وهي: «حقوق اللَّه مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحَّة»، وقد دعاني ذلك إلى أن أحرص حرصاً شديداً على النجاة من الإساءة لأحد من الناس، وإن أسأت سارعت إلى الاعتذار، وقلت لنفسي: إذا نجوت من حقوق العباد فأرجو أن تسعني رحمة اللَّه الواسعة إن فرَّطت في حقوقه.

     ومن فضله أيضاً، تقدست ذاته، وجلت صفاته وأسماؤه، أن أتاح لي أن أعرف الفرق بين معاصي القلوب ومعاصي الجوارح، وأن معاصي القلوب أخطر، وأن التخلص منها أعسر، فحرصت حرصاً شديداً على أن أنجو منها، وعساي نجحت.

     وقد عرفت مبكراً الفرق بين الكبائر والصغائر من الذنوب، فحرصت حرصاً شديداً على تحاشي الكبائر، ونجحت بفضل اللَّه تعالى وعونه في تحاشيها، لكنَّ كبيرة «الغيبة» لم أنجح في تحاشيها، وظللت بين الحين والآخر أقع فيها، ثم إني عزمت عزماً قوياً على التخلص منها، وجعلت ذلك نصب عيني، وجعلت أحاسب نفسي حساباً شديداً إذا وقعت فيها، وأرجو من اللَّه تعالى أن يعينني بالنية الصادقة والإرادة الحاسمة حتى أتخلص منها جملة وتفصيلاً.

     من عيوبي أنَّ فِيَّ طيبةً زائدة، وحياء مبالغاً فيه، وحسن ظن يصل إلى درجة الغفلة، ومثالية مع من يستحق ومن لا يستحق، وقد آذتني هذه العيوب كثيراً، وأطمعت فيّ اللؤماء والسفهاء، وأضاعت علي الكثير من الفرص، وخسّرتني الكثير من المال، وأصابتني بكثير من الحزن والإحباط، وجعلتني ألوم نفسي لوماً شديداً، حتى إني قلت في حق نفسي ساخراً منها: «لست بالخِبِّ، ولكن الخِبَّ يخدعني»، وحتى وجدتني أصل إلى نتيجة مريرة ولكنها صادقة جداً، وهي أن مثالية الإنسان وفضائله وحياءه تصبح أعباء عليه تؤذيه أشد الأذى حين يتعامل بها مع من لا يستحقها.

     ومن عيوبي أني عملت فيما لم أخلق له، وفيما لا أحسنه في قليل أو كثير، وحمّلت نفسي ما لا تطيقه، وما لا يأمرها به الدين ولا تطالبها به المروءة، ولو أني عرفت قدراتي بدقة، وحددت أهدافي بوضوح، وضبطت وسائلي بإتقان، لكان حظي من النجاح أكبر، وحظي من الإخفاق أقل.

     ومن عيوبي أني بطيء في اتخاذ القرار، وهذا من أسباب الإخفاق لا النجاح، ولو أني كنت أكثر يقظة وحزماً لتخلصت مبكراً من كثير مما آذاني في حياتي من صلات واهتمامات وخسائر، كلفتني الكثير من الوقت والجهد والمال والأعصاب.

     ومن عيوبي أن أحزاني على بعض ما أصابني من الأذى؛ تطول أكثر مما ينبغي، وهو ما يجعلني أحتاج إلى وقت أطول، ومكابدة أشد حتى أتخلص منها.

     على أن مما أعانني وعزاني في ذلك كله؛ أني أمتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ، وأشكر من يدلني عليه، وأرى فيه أمارة على صدق الأخوة، من أهل العقل والنبل، والوفاء والنقاء، والصدق والمصارحة، اتفقت وإياهم على تبادل النصح وإن قسا، وبذل المروءة حين تجب، فكانوا لي واحة من الدفء والود والكرم، جزاهم اللَّه خير الجزاء.

     ومما أعانني على تجاوز الأحزان، ومحاولة التخلص من الذنوب والعيوب، ومحاولة الظفر باستقامة أعلى ونية أصفى، أني الآن في خريف العمر، أنظر إلى الموت القادم أكثر مما أنظر إلى الحياة المدبرة، وأحرص على الظفر برضوان اللَّه تعالى حين ألقاه، ولي في ذلك أمل عريض ورجاء واسع.

     إن المستقبل الحقيقي للإنسان يبدأ بعد أن يموت، أما عمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا فهو أقل من ذرة في ملكوت اللَّه، وأضأل من ثانية في زمانه الممتد.

مع الشعر

مع الشعر

     تعلقت بالشعر منذ صباي الأول، لكن هذا التعلق كان في حدود أمثالي من الزملاء، ولكني مع الزمن وجدت هذا التعلق يزداد، حتى إذا جاءت المرحلة الثانوية وجدتني أحسم خياري في الدراسة الجامعية، فدرست الأدب العربي في جامعة القاهرة، واستأثر الشعر بمعظم اهتمامي في أثناء هذه الدراسة.

     وظللت أقرأ الشعر وأنظمه، ولكني لا أنشر منه شيئاً لعدم رضاي عن معظم ما أنظمه، ثم شغلتني عن الشعر صوارف كثيرة، من العمل، ومن القراءات الكثيرة المتنوعة، حتى إذا تجاوزت الخمسين وجدتني أعود للشعر بقوة، ووجدتني أبدأ بنشر ما أرضاه من القصائد، وقد أدى هذا التأخر إلى ضعف شهرتي شاعراً، وأدى إلى أني لم أندم على ما نشرت، لأني نجوت من تعجّل النشر الذي يعمد إليه بعض الشعراء ثم يندمون على ذلك، لأنهم بعد النضج لا يرضون عما تعجلوا نشره، وبعد الخمسين صار الشعر هاجسي الأكبر، وأحياناً الوحيد.

     ومن أفضال اللَّه تعالى عليَّ - وأفضاله لا تعد ولا تحصى - أني أستشير ثلة من كرام الإخوة فيما أودّ نشره، فأضعه بين أيديهم، وأنتظر آراءهم، وأعيد النظر فيه على ضوء هذه الآراء، وكانت الصراحة هي قانون التعامل، وكنت أفرح بنقدهم مهما كان، انتقاصاً أم ثناءً، وربما طويت القصيدة جملة وتفصيلاً إذا اقتنعت بما بيّنوا لي فيها من عيوب، لقد كانت لهؤلاء الإخوة أيادٍ بيضاءُ على شعري، وكان صدري يرحب بملاحظاتهم أجمل ترحيب، وكانوا يعرفون مني ذلك ويشكرونني عليه، وأبرز من كانوا يصوِّبون لي شعري ويقوِّمونه: الدكتور أحمد البراء الأميري، والأستاذ صدقي البيك، والأستاذ شمس الدين درمش، والأستاذ عبد الرزاق دياربكرلي؛ وكان أجرأَ الجميع عليَّ، وربما مزق القصيدة التي بين يديه لضعفها، فكنت أبتسم وأشكره، وربما استجبت لرأيه وألغيت القصيدة، جزاهم اللَّه عني خير الجزاء، فقد كانوا عوناً في ارتقاء شعري.

     شغفت في البداية بشعر شوقي، وأعجبت به ولا أزال معجباً، وقد أدمنت النظر فيه ولا أزال، وهو بحق شاعر عبقري وعملاق.

     ثم شغفت بالمتنبي ولا أزال، وهو جِنِّيُّ الشعر العربي وعبقريه، وهو ذو قدرة كبرى على الحشد والتركيز، فضلاً عن معرفة عميقة بأسرار النفس الإنسانية ونوازعها، وهذان الأمران أهم أسباب خلوده وتميزه، وعند بعض الناس أنه حكيم وفيلسوف لا شاعر، وعند بعضهم الآخر أنه حكيم وفيلسوف من ناحية، وشاعر من ناحية أخرى، وأنا من هؤلاء، لقد انفرد إلى حد كبير بالقدرة على الحشد والتركيز، والغوص في أعماق الإنسان وميوله، وكان له في ذلك تفوّق بارز، لكنه شارك الشعراء العظام الآخرين في أمجادهم الشعرية، وحين أقرأ روائع شعره أشعر أن دمي يتغير، وأن الكهرباء تسري في جسمي، وأتمثله قائماً أمامي، وينتابني إزاءه إعجاب شديد، وقد عكفت على ديوانه مرات لا أحصيها.

     وشغفت أيضاً بالشاعر الكبير بدوي الجبل، وقد قرأت ديوانه هو الآخر مرات كثيرة لا أحصيها.

     وليس لي أن أغفل عن الشاعر الكبير عمر أبو ريشة، لقد كنت معجباً به من قديم، وازداد إعجابي به لما صار موضوع رسالتي للدكتوراه، وهذا جعلني أقرؤه مستمتعاً من ناحية، ودارساً فاحصاً من ناحية أخرى عدة سنوات.

     إن هؤلاء الشعراء الأعلام أبرز أساتذتي في الشعر، كانوا ولا يزالون، وإن بصماتهم عليَّ واضحة جداً.

     وعكفت أيضاً على بعض كتب المختارات، لأن فوائدها كثيرة، فهي تجمّع ما تفرق هنا وهناك، ثم إنها في العادة تنتقي روائع الشعر، والتنوع الذي فيها يطرب من ناحية، ويغني من ناحية، ويبعد الملل من ناحية، وأذكر أني قرأت عدة مرات، وبغاية الدقة «المختار من الشعر الأندلسي» للدكتور محمد رضوان الداية، و«الزهرة» للأصبهاني، و«السحر والشعر» للسان الدين بن الخطيب، و«الشعر العربي روائعه ومدخل لقراءته» للدكتور الطاهر أحمد مكي.

     وحين يقع لي نص شعري يعجبني في جريدة أو كتاب أو مجلة، أصوّره، ثم أضعه مع أمثاله في ملف خاص، وأقرؤه مرة بعد مرة، ثم أتركه، ثم أعود إليه بعد زمن يطول أو يقصر، فأعكف عليه من جديد، وهكذا، حتى أشعر أني تشربته تماماً، وربما قرأت بعض هذه النصوص أكثر من عشرين مرة، وهو أمر فعلته مع «القوس العذراء» لشيخ العربية الكبير محمود محمد شاكر ؒ، أما قصيدة «أسعف فمي» للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، فقد أعجبت بها جداً، ولعلي قرأتها مئة مرة أو أكثر، ولا أزال مشوقاً إليها.

     ولقد كان لهذه الطريقة في اختيار النصوص الممتازة، وإدمان النظر فيها، وتشرّب معانيها وأساليبها وموسيقاها وصورها أثر كبير فِيّ.

     وأنا أحب النظم في الأحوال التي يفرغ فيها البال، ويعتدل المزاج، وتغيب الصوارف، وتطول الخلوة، وتجتمع الشوارد، وأغرق تماماً فيما أكتب، والقصيدة التي أضع لها اسمها في أعلاها وتاريخ نظمها ومكانه في أسفلها أكون قد رضيت عنها، وأجزتها، وإلا فإنها لا تزال تحت المراجعة لفترة تطول أو تقصر.

     وقد أكتب قصيدة ثم أنصرف عنها وقتاً يطول أو يقصر، فإذا عدت إليها ورضيت عنها، أو عدلتها تعديلات طفيفة، فإني أضع لها تاريخها القديم، أما إذا كثرت التعديلات فإني أضع لها تاريخها الجديد.

     وأنا اجتهدت في شعري بشكل عام طلباً للإتقان، لكنني في بعض الأحيان أفرغ منه سريعاً كأن القصيدة كانت مختزنة فيَّ بكاملها، وكأنها كانت تكتبني ولا أكتبها، وكأنها ماء في صنبور فتح فتدفق، وهذا ما حصل لي على سبيل المثال في قصيدتي «هوية»، وفي أحيان أخرى يطول بي الأمر فتأخذ القصيدة مني عدة شهور كما حصل لي على سبيل المثال في قصيدتي «صلاح الدين».

     وقد صدر الجزء الأول من شعري تحت عنوان «ديوان حيدر الغدير» عن مكتبة التوبة في الرياض «1436هـ/ 2015م» في 556 صفحة، من القطع العادي (24×17)، وفيه مقدمتان ضافيتان للأخوين الكريمين الأستاذ عبد الرزاق ديار بكرلي، والدكتور أحمد البراء الأميري، جزاهما اللَّه خير الجزاء، وهناك أجزاء تالية بإذن اللَّه.

الأكثر مشاهدة