الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

إشراقات المركز الإسلامي في اليابان

إشراقات المركز الإسلامي في اليابان

     سبق -بفضل الله عز وجل- أن تم افتتاح مقر مؤقت للمركز الإسلامي في اليابان قريباً من مسجد طوكيو، وقد صار هذا المركز معروفاً لدى جميع المسلمين في اليابان، وبدأ غير المسلمين يترددون عليه بشكل تدريجي للتعرف على الإسلام.

     وقد أعرب المركز عن شكره وتقديره للهيئات الإسلامية والإخوة الأكارم الذين مدّوا له يد المساعدة المادية والأدبية، ومكّنوه من أن يقف على قدميه. ويخص بالشكر سمو الأمير أحمد بن عبد العزيز الذي قدّم للمركز 3000 دولار، ووزارة الأوقاف الكويتية التي قدّمت 7449 جنيهاً إسترلينياً، والمهتدي الياباني "إبراهيم يامشتا" الذي قدّم 350 دولاراً، والأستاذ صلاح محمد علي حسن الذي سيتبرع بتكاليف طبع كتيّب عن الإسلام باللغة اليابانية وهو سكرتير سفارة السودان في طوكيو، والمأمول أن يحقق هذا الكتيّب نفعاً واسعاً. هذا؛ وكان المركز قد تسلّم قبل ذلك تبرعات مشكورة من سفارة قطر في طوكيو، وبعض أهل الجود والخير، جزى الله الجميع خير الجزاء.

     هذا؛ وقد قام بعض أعضاء المركز الإسلامي في طوكيو بزيارة لمدينة "ناجويا" على بعد 400 كم جنوب غرب طوكيو، وهي إحدى كبريات المراكز الصناعية والتجارية في اليابان، وألقوا محاضرات عن الإسلام، وقد استجاب "هيروشي أتشكاوا"، وهو نجل أحد كبار الأثرياء في المنطقة، وأبدى استعداده لتقديم قطعة أرض كبيرة لإقامة مركز إسلامي ثقافي عليها، كما أبدى استعداده للمشاركة في بنائها، وقد فاتَح المسؤولين في ناجويا بذلك فرحبوا بالفكرة.

     وقد قام وفد من مهندسي هذه المدينة ووجهائها بزيارة المركز الإسلامي في طوكيو، وكان من بينهم "هيروشي أتشكاوا" وأخوه، وجرى الحديث عن تفاصيل التعاون لإقامة مركز إسلامي في مدينتهم. ومن المأمول بإذن الله أن تقام قلعة للإسلام في هذه المنطقة الجديدة المهمة، ويمتد فيها ومنها النور إلى المناطق المجاورة.

     كما قام بعض أعضاء المركز الإسلامي في طوكيو برحلة إلى مدينة "توكشيما" في جزيرة "شكوكو"، وهي رابع جزيرة في اليابان، حيث توجد إحدى التجمعات الإسلامية في اليابان وعلى رأسها الأخ "كيبا"، واجتمعوا بالمسلمين، وأُلقِيَت المحاضرات.

     هذا؛ وقد لوحظ أنّ في المنطقة إقبالاً على تعلّم اللغة العربية، وتم الاتفاق على أن يذهب أحد الدعاة إليهم، أو أن يزوَّد مسلمو تلك المنطقة بدروس عن طريق المراسلة والتسجيلات، بسبب قلة الدعاة في اليابان وندرتهم، بحيث لا يستطيعون تغطية مناطق اليابان جميعاً بنشاطاتهم.

     وقد باشر الشيخ شفيق الرحمن خان، مبعوث جمعية الدعوة الإسلامية في ليبيا عمله في المركز الإسلامي بطوكيو داعية متفرغاً. وتم توزيع الدعاة الثلاثة الآخرين الذين أرسلتهم الجمعية نفسها، على التجمعات الإسلامية في مختلف أنحاء اليابان. وقد باشر الأخ عبد الرب شجاع عمله بتفرغ جزئي في مقر المركز، والمأمول بإذن الله أن يتم تفريغ بعض الطاقات المسلمة من يابانيين وغير يابانيين للتوسع في العمل الإسلامي.

     وتجري الآن ترجمة الكتب والرسائل التالية إلى اللغة اليابانية:

1- مكانة المرأة في الإسلام وتعدد الزوجات في الإسلام للدكتور جمال بدوي.
2- من أدب القرآن الكريم للدكتور علي حسن السمني.
3- رسائل في الصلاة والزكاة والصوم والحج، وحياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، والتعريف بالقرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف. وهذه الرسائل المنوي ترجمتها هي تلك السلسلة الكريمة التي أصدرتها جمعية الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا لتعليم الإسلام بالمراسلة.

     وسوف يفتح المركز الإسلامي في طوكيو قريباً إن شاء الله، فصولاً لتعليم اللغة العربية والدين الإسلامي لأبناء موظفي السفارات العربية والإسلامية وأبناء الجاليات المسلمة في طوكيو. ويقوم المركز الآن بعملية استطلاع أولية لتحقيق هذه الفكرة، وقد وجد تجاوباً واستعداداً كبيرين. كما سيفتتح المركز -إن شاء الله- فصولاً لليابانيين غير المسلمين لتعليمهم اللغة العربية، والطهي العربي والشرقي.

     وقبلت جمعية الدعوة الإسلامية في ليبيا مشكورةً توصية المركز الإسلامي بالنسبة لأحد المسلمين الصينيين حيث التحق بمعهد الدعاة في طرابلس، وقُدِّمَتْ له التسهيلات اللازمة.

     وبدأ المركز الإسلامي في طوكيو بجمع عناوين كافة المسلمين المقيمين في اليابان، وانتهز فرصة عيد الأضحى المبارك في العام الماضي، ووزع البطاقات اللازمة على المصلّين لكتابة أسمائهم وعناوينهم وجنسياتهم، ومدة إقامتهم في اليابان، وذلك من أجل الانتفاع من مجهوداتهم في حقل الدعوة.

     واستجاب المركز الإسلامي لطلبات المهندسين والفنّيين المسلمين الذين يقيمون خارج طوكيو، والقادمين من مختلف البلاد الإسلامية، وبعث لهم الكتب عن الإسلام باللغتين اليابانية والإنكليزية، ويقوم المركز بالإجابة على كافة الاستفسارات التي ترد إليه.

     وقد قام الحاج عمر ميتا، الزعيم الياباني المسلم بتمثيل كافة المسلمين المقيمين في اليابان، في المؤتمر الذي عقدته الجماعة الإسلامية بالهند.

     وقام المركز بالاتصال بكافة السفارات العربية والإسلامية في طوكيو، واستطلع رأيها في المشاركة الفعالة في المركز الإسلامي، ولقي كل موافقة وتأييد، وقدّم طلباً للسفير الجزائري بطوكيو، باعتباره عميد السلك الدبلوماسي العربي، وذلك من أجل دعوة السفراء المسلمين للمناقشة في وضع صيغة للتعاون مع المركز الإسلامي.

     وقد حصل المركز الإسلامي في طوكيو على دساتير المراكز الإسلامية في روما وبروكسل وواشنطن للاستفادة منها في وضع دستور ملائم له.

     وبعد؛.. فهذه نبذة يسيرة جداً عن نشاطات المركز الإسلامي في طوكيو، وهي نشاطات ينبغي أن تلقى الدعم المادي والمعنوي، لأنها إيجابية جادة، وذات نتائج عملية ملموسة. ومن المعروف أن اليابان بيئة مناسبة وخصيبة للدعوة الإسلامية، تبشّر بعطاء واسع، وقد شهدت مؤخراً عدة حوادث من الدخول الجماعي في الإسلام.

     والمسلمون جميعاً، حاكمين ومحكومين، دعاةً وعلماء، تجاراً وأغنياء، متوسّطين وميسورين؛ مطالبون بدعم النشاطات الخيّرة دون استثناء، لأن الدعوة إلى الله عز وجل، وظيفة كل مسلم، وليست مسؤولية العلماء فقط، وأبواب الخير مفتوحة، ويمكن تقديم كلِّ معونة ممكنة، وهي صدقة جارية، أجرها عظيم ممتد باقٍ بإذن الله، كما قال ربنا تبارك وتعالى: ﴿مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنۢبُلَةٍۢ مِّاْئَةُ حَبَّةٍۢ وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ﴾، [البقرة:261].
*****

الإعلام والمهتدون الجدد

الإعلام والمهتدون الجدد

     تتابع الصحف والمجلات الإسلامية –مشكورة على ما تفعل– أبناء ذلك النفر الكريم الذي يهتدي إلى الإسلام في شرق الأرض وغربها، وكثيراً ما حفلت بمقالات عن هؤلاء المهتدين الذين يلقون قيادهم للإسلام بعد دراسة وتأمل واقتناع.

     وكانت هذه المقالات –في كثير من الأحيان– من الدسامة والقوة والنفاذ بحيث يشعر المرء أنها جديرة بالعناية والاهتمام، وذلك للتعرف على مسارب الهداية وطرائقها وأساليبها ومنافذها إلى النفس الإنسانية، ثم لاستلهام هذه المعرفة لكسب المزيد من المؤمنين بهذا الدين الخالد المحفوظ.

     وإن التعرف إلى ما حدث لهؤلاء المهتدين فكراً وقلباً وسلوكاً وأحداثاً قبل إسلامهم وخلاله وبعده من الأمور المهمة التي يحتاج إلى التعرف إليها كل مَنْ يود خدمة دينه وعقيدته، ويسعى إلى إبلاغه للناس، ذلك أنها تهيئ للدعاة زاداً طيّباً يتسلحون به في هذا العصر سلاحاً جيداً، ويُلمّون من خلاله بمشكلات الحائرين ممن يبحثون عن الحق، ويتعطشون إلى دراسة دين صحيح، ويجدون في الإسلام أملاً منقذاً، وهادياً منيراً ومناراً مرشداً.

     وما مِنْ ريب في أن ثقافة العصر الحديث قد هزّت معاقل الأديان المحرّفة، وعجزت في الوقت نفسه أن تنال الإسلام بما يسيء، بل إنها في لبابها الصحيح ونتائجها القويمة قد أقبلت نحو الإسلام تؤيد حقائقه وتعلي من شأنها.

     ولولا غشاوات الجهل والتعصّب عند بعض الشعوب غير المسلمة، ولولا الوضع الذي عليه المسلمون اليوم، والذي يشكّل في كثير من جوانبه إساءةً للإسلام نظراً لتخلف المسلمين وعجزهم وفرقتهم وبعدهم عن دينهم.. لولا ذلك لرأيت الإسلام تلقائياً، وبقوته الذاتية، يتقدم هنا وهناك، ويزيد من أعداد المهتدين، ويغمر مواقع كثير بنور الهداية.

     وما دامت غوائل الجهل والتعصب عند غيرنا، ومآسي بعدنا نحن -المسلمين- عن ديننا، لا تزال فاشية مستحكمة؛ فإن من واجبنا أن نبذل جهوداً مضاعفة لنشر الإسلام، بيقظة ومثابرة، وعمل دائب حتى يُظهر الله دينه ولو كره الجاحدون.
*****

أمة الإسلام.. الأمريكية!

أمة الإسلام .. الأمريكية!

     إذا صدقت التوقعات المتفائلة التي يقدّرها بعض الدعاة المسلمين، فإن الدعوة الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية مقبلة على تطور كبير ناجح بإذن الله.

     وهنا لا بد لنا من أن نتذكر الشهيد "مالك شباز" أو "مالكولم إكس" رحمه الله، الذي جاهد لكي يحوِّل جماعة "إليجيا محمد" المعروفة باسم "أمة الإسلام" إلى الإسلام الصحيح الذي اكتشفه بعد حجّه عام 1383هـ=1936م، لكنه استشهد قبل أن يحقق حلمه، ولقد ظل الكثيرون من العاملين للإسلام هناك على أمل قوي في إمكانية استقامة هذه الجماعة وعودتها إلى الإسلام الصحيح.
***

     وفعلاً بعد موت "إليجيا محمد" وتولّي ابنه "وارث محمد" المعروف باسم "والاس محمد" لشؤون الجماعة بدأت تظهر في تصرفاته وأعماله وتصريحاته، نبرة الهداية والاستقامة خاصةً فيما يتعلق بالرجل الأبيض، وهي النقطة نفسها التي بدأ منها تحول "مالك شباز" من جماعة "إليجيا محمد" إلى الإسلام الحق.

     إن مليوني مسلم الآن في أمريكا -على بعض التقديرات- يتطلعون إلى إقامة جسور تربطهم مع شعوب العالم الإسلامي، وإن بوسعهم أن يصبحوا قوة سياسية منظمة لمساندة العالم الإسلامي وتبنّي قضاياه، فضلاً عن عملها للتبشير بالإسلام والدعوة إليه في تلك القارة الغنية الضالة، أمريكا.

     ومن المعروف أن جماعة "إليجيا محمد" هي مجموعة أمريكية سوداء تنتسب للإسلام، لكنَّ لديها جملةً لا يستهان بها من الأخطاء في العقيدة والتصور والسلوك، ويبدو أن فرصة تصحيح انتمائها للإسلام قوية آخذة بالزيادة والنماء، خاصة في عهد قائدها الجديد "والاس محمد" الذي ورث أباه في زعامتها. ويبدو أن "والاس" ينوي أن يتجه بجماعته إلى الإسلام الصحيح بشكل مرحلي، فجعل مجموعته تصوم عام 1975م، أما الصلاة ففي عام 1976م، وأما الحج ففي عام 1977م.

     وقد أطلقت الصحافة على هذه الجماعة من قديم اسم "المسلمون السود"، أمّا هم فقد أطلقوا على أنفسهم بادئ ذي بدء اسم "أمة المسلمين التائهة"، وقد بدأت حركتهم منذ 40 عاماً وأسسها "إليجيا محمد"، وهم ليسوا جميعاً من السود، بل فيهم عدد من المسلمين البيض، وهم موزَّعون في شيكاغو؛ وفيها مركزهم الرئيسي، وفي نيويورك وواشنطن، وبوسع المرء أن يلحظ تحوّلاً مهماً في اتجاهات هذه الجماعة، بدأ من أبريل 1975م بوفاة "إليجيا محمد" واختيار ابنه "وارث" الذي يسمونه "والاس" ليكون خليفة لأبيه.

     وفي عهد الأب المتوفى كانوا يحرصون على ركن واحد من أركان الإسلام وهو الشهادتان، أما بقية الأركان فكانت مؤجّلة، وقد قرر "وارث" تنفيذ بقية الأركان على ثلاث مراحل.

     وفي عام 1975م أعلنوا للمرة الأولى البدء في صيام شهر رمضان المبارك، وقالوا: إنهم بذلك يشاركون 800 مليون مسلم أداء فريضة الصوم، ويشعرون أنهم ارتبطوا بمسلمي العالم، وصاروا أوثق صلة بهم وأمتن.

     ولقد نقل "إليجيا محمد" عشرات الآلاف من المجرمين والقتلة إلى الإيمان، ووصلهم بالإسلام. صحيح أنه لم يَصِلهم بالإسلام الحق، لكنه جعلهم في المناخ المناسب الذي يمكن من خلاله أن يتقدموا نحو الإسلام الحق، وفيما يبدو لنا، وفيما نرجو ونؤمل أن هذا التحول المرجو هو دور "وارث محمد" إن شاء الله.

     ومما يجدر ذكره أن هذه الجماعة حوّلت اسمها من "أمة المسلمين التائهة" إلى اسم "أمة الإسلام"، وهذا التحويل وإنْ كان شكلياً إلا أنه أجمل وأصح.

     وتبني جماعة "أمة الإسلام" مسجداً كبيراً لها الآن، يضاف إلى مساجدها الكثيرة المنتشرة في أمريكا، ولهذه الجماعة جريدة اسمها "محمد يتكلم" تطبع ربع مليون نسخة، وتحرص على كتابة عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم" باللغة العربية على رأس كل صفحة من صفحات هذه الجريدة، التي تتولى تعليمهم أمور الإسلام، فهي تكتب مثلاً عن الصيام وشروطه وأحكامه وحكمته، وعن الزواج في الإسلام، وعن خلق البشر والكون في التصور الإسلامي، وتترجم معاني بعض الآيات الكريمة، وما إلى ذلك.

     ولهذه الجماعة محطة إذاعة ترسل خمس ساعات يومياً تشرح فيها مبادئ الإسلام وأحكامه، ولها بنك إسلامي خاص بها في شيكاغو بدون ربا، ولها أسواق سوبر ماركت، ويذبحون فيها على الطريقة الإسلامية، ولها مطاعم تحرم الخمور ولحم الخنزير، ولها أربع مدارس يسمونها "الجامعة الإسلامية"، وهي مدارس نموذجية، ولها حرس خاص بها لكثرة الاعتداءات التي وقعت عليها من أعدائها، وهذا الحرس مدرَّب ومسلح، وهو مرخَّص رسمياً، وفيه ضباط مؤهلون.

     وما مِنْ ريب في أن هذه الحركة لها الآن شكل مختلف تماماً عما كانت عليه من قبل، لقد ارتقت في سلوكها، وبدأت تصحح عقائدها، وتسعى لمزيد من العلم بالإسلام والمعرفة به وتطبيقه عملياً.

     ولمزيد من الصلة بالعالم الإسلامي؛ قال "وارث محمد" زعيم الجماعة: يجب أن نبدأ بإقامة علاقات قوية مع الإسلام، عن طريق خطوة من جانبنا، وخطوة من جانبكم. والخطاب هنا للمسلمين حيث كانوا وللعالم الإسلامي.

     وتريد هذه الجماعة من العالم الإسلامي مِنَحاً دراسية في الأزهر وجامعة الرياض وغيرهما من جامعات العالم الإسلامي، وتريد أيضاً أن يُستثمرَ بعض المال الإسلامي في البنك غير الربوي الخاص بها بغية دعم حركتها، وتريد أيضاً تبادل الزيارات.

     وتفكر هذه الجماعة في إقامة مدينة إسلامية فاضلة على مساحة 500 فدان لتكون مقراً لها، ونموذجاً للحياة الإسلامية الرشيدة، وليس ذلك مستغرَباً في أمريكا، فقد سبق أن أنشأت جماعة "المورمون" مدينة لها عاشت 50 عاماً.

     وتستعد جماعة "أمة الإسلام" لنشاطات جديدة متنوعة، مما يجعل المرء يتساءل عن مصادر تمويلها. والمصدر الرئيسي للتمويل هو التبرعات وهي ليست قليلة، يضاف إلى ذلك 20% من رسوم الدراسة، وأرباح البنك غير الربوي، وإيرادات المستشفى الخاص بالجماعة، وإيرادات مشروعات استثمارية كثيرة أخرى. وتنفق الجماعة على نشاطاتها المتنوعة في المساجد والكنائس والمدارس والملاجئ والسجون وأدوات الإعلام.
***

     وبعد.. فهذا عرض سريع لجماعة "أمة الإسلام" الأمريكية، وهي الجماعة التي اشتهرت باسم "المسلمين السود" لأن الصحافة الأمريكية أطلقت عليها هذه التسمية وما زالت تكررها حتى ذاعت وانتشرت. وفي هذا العرض ما يجعل الإنسان متفائلاً بمستقبل زاهر للدعوة الإسلامية في أمريكا إن شاء الله.

     على أنّ هذا التفاؤل لا يجعلنا ننسى أن فكرة التأجيل في فرائض الإسلام ليست من الإسلام، فما دام القوم قد أدّوا الشهادة وأسلموا وصاموا فعليهم أن يؤدّوا الصلاة فوراً، ويبدأ القادرون منهم في أداء فريضة الحج والزكاة. ونحن إذ نقرر هذه الملاحظة ونؤكدها، لا يغيب عنا قط أن القوم تحسّن وضعهم الإسلامي كثيراً، والمأمول أن يزداد هذا التحسن حتى يكونوا على الإسلام التام إن شاء الله.
*****

أوروبي ذكي يبحث عن الإسلام

أوروبي ذكي يبحث عن الإسلام

     هي فرصة ثرية أن يُتاح للمرء لقاء فكري مع مثقف ذكي، يجمع إلى ذكائه وثقافته رغبة جادة في الوصول إلى الحقيقة، وتزداد هذه الفرصة ثراءً وجمالاً وإمتاعاً حين يكون هذا المثقف الذي يلتقي به الإنسان، قد خاض معارك روحية وفكرية عبر تأملات ومناقشات ودراسات ورحلات كثيرة، مع نفسه ومع غيره، حتى انتهى به الأمر آخر المطاف إلى أن يودّع عهد الحيرة والضلال الذي كان فيه، وينتقل إلى عهد من اليقين والحق، فيكون لذلك تحوّلٌ جذري في حياته مادياً وفكرياً؛ مادياً حيث ينتقل من بيئته الأولى التي تحوَّل عن عقائدها إلى البيئة الجديدة التي آمن بدين ذويها، وفكرياً بالتغيير الضخم بين القناعات التي كانت تملكه من قبل، والقناعات الأخرى التي بات يملكها من بعد.
***

     والملتقى الآن مع أحد المثقفين الأوروبيين الأذكياء الذين شاء الله عز وجل أن يكرمهم بالهداية للإسلام.

× ولكنْ، ماذا كان موقف الرجل من الدين إبّانَ نشأته في أوروبا قبل أن يسلم؟ ترى ألم يكن يؤمن بدين؟

- لا، فقد كنتُ أؤمنُ بأن الكتب المقدّسة إنما هي من صنع حكماء نسبوها إلى الله جلَّ جلاله. إن أكثر الناس في الغرب قد أقلعوا منذ زمن طويل عن اعتبار الكتب المقدسة وحياً من الله. إنهم يرون فيها تلهفات الإنسان وأشواقه الروحية كما تطورت عبر العصور، وقد كنتُ واحداً من هؤلاء.

× ولكنْ متى بدأ هذا الخاطر يتزعزع في نفس الرجل وتنشأ محلّه بدائل جديدة؟

- لقد بدأ يتزعزع عندما بدأتُ أعرف شيئاً عن الإسلام، لقد وجدت المسلمين يعيشون بطريقة تختلف تماماً عن الطريقة التي كان الغربيون يعتقدون أنها الطريقة التي يجب على الإنسان أن يتبعها في العيش. وفي كل مرة تعلمت شيئاً جديداً عن الإسلام كان يُخيَّلُ إليّ أني اكتشفت شيئاً جديداً كنتُ أعرفه دائماً، دون وعي مباشر.

× ها هو الرجل قد أخذ يكتشف إيجابياتٍ في الإسلام تشدّه إليه. لا بدّ أنه في تلك الفترة نفسها قد أخذ يكتشف في الجهة المقابلة سلبياتٍ في أوروبا، تبعده عنها، ترى ماذا بدا له أنه أشدّ الأمور سوءاً في أوروبا؟

- الغربيون في تعاظم عَماهم، مقتنعون بأنّ مدنيّتهم هي التي ستجلب النور والسعادة للعالم، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فكّروا في نشر المسيحية، في العالم أجمع. أمَا وقد خَبَتْ حماستهم الدينية في هذا القرن العشرين إلى درجة أصبحوا معها لا يسمحون للدين بأن يؤثر في الحياة العملية، فقد بدؤوا بدلاً من ذلك، يبشّرون بالرسالة المادية لطريقة الحياة الغربية، وهي الاعتقاد بأن جميع المشاكل الإنسانية، يمكن حلّها في المصانع والمختبرات ومكاتب الإحصائيين.

من الواضح تماماً أن الغربيين قد نحّوا دينهم عن التأثير العملي في حياتهم، وقد يحمل هذا على الظن بأنهم بسبب هذا الموقف إزاء دينهم، يمكن لهم أن يكونوا منصفين في نظرتهم إلى الإسلام، وعلى قدرٍ من الحياد معقول، يجعلهم على جادة الاعتدال. ولكن الحقيقة أنهم بالرغم من انسلاخهم من دينهم لا يزالون في جملتهم يحملون موقفاً عدائياً ذا روح صليبية حاقدة من الإسلام.

× ترى كيف يمكن أن نلخص أفكارهم إزاء الإسلام؟

- الآراء الشائعة في الغرب عن الإسلام يمكن تلخيصها على النحو التالي: إن سقوط المسلمين عائد قبل كل شيء إلى الإسلام، الذي هو بالنظر إلى كونه بعيداً جداً عن أن يكون مذهباً دينياً يضاهي المسيحية أو اليهودية مزيجٌ غير مقدّس من الغلوّ الصحراوي والخرافة والقدرية الخرساء، يحول بين أتباعه وبين الاشتراك في تقدم الإنسانية نحو الأنظمة الاجتماعية العليا. وبدلاً من أن يحرر الإسلام الروح الإنسانية من أغلال الإبهامية، تراه يُحْكِمُ هذه الأغلال ويشدها. وهكذا يعتقد معظم الغربيين، أنه كلما كان تحرير المسلمين من تعلقهم بالمعتقدات والعادات الاجتماعية الإسلامية أعجل وأقرب، وحُمِلوا على أن يتبنّوا الطريقة الغربية في الحياة، كان أفضل لهم ولسائر العالم.

يمكن أن يقال: إنّ تلك هي خلاصة الفكر الغربي الشائع ضد الإسلام، وهي في الحقيقة مجموعة من التصوّرات الضالة الخاطئة المجافية لحقائق الإسلام الناصعة الجلية البيضاء.

× ترى هل استطاع الرجل أن يخرج بقناعة مخالفة لقناعة العالم الذي كان ينتمي إليه فيما يتصل بالإسلام؟

- لقد كانت للرجل رحلات طويلة في العالم الإسلامي، وكانت له لقاءات كثيرة مع طوائف شتّى من أبناء هذا العالم، من علماء ومثقفين وتجّار وعامة وغيرهم، وكانت له مناقشات ودراسات وتأمّلات، وكان إلى جانب هذا كله يحمل قدراً حميداً من الإنصاف والموضوعية يُشكَرُ له حقاً.

× ترى كيف بدا له الأمر ومعه كل هذا الحشد من الإيجابيات؟ كيف بدا له الأمر إزاء موقف الغربي العادي من الإسلام؟ وكيف بدا له الأمر في تقديره الشخصي الخاص؟

- كانت ملاحظاتي قد أقنعتني بأن رأس الغربي العادي كان يحمل صورة مشوّهة عن الإسلام، ذلك أنّ في الإسلام تلازماً متناغماً بين العقل والدافع الحسّي، بين الحاجة الروحية والحاجة الاجتماعية.

× إنه شيء سار أن نجد إجابة الرجل، تأخذ هذا المنحى الواعي المنصف. ترى هل تكاملت لديه الصورة عن الحقيقة؟ وهل يستطيع أن يقدم تفسيراً عن السرّ في تأخر المسلمين؟

- لقد كان واضحاً عندي أن تأخر المسلمين لم يكن ناجماً عن أي نقصٍ في الإسلام، بل من عدم عملهم هم بتعاليمه.
*****

جولة في أعماق رجل غربي أسلم

جولة في أعماق رجل غربي أسلم

     فقراء إلى الأعماق، أولئك الذين يمتلكون المتاع الكثير والمال الوفير، إذا لم يملكوا مع هذا كله، وقبل هذا كله سعادة باطنية، وأمناً داخلياً عميقاً، وتواؤماً وانسجاماً بين مملكتي الإنسان الداخلية والخارجية.

     ما فائدة أن تملك كل شيء وأنت في قلق!؟ ما جدوى أن تحيط نفسك بالرياش والأثاث والطنافس، وتسكن في بيت فاخر، وتملك السيارات الفارهة، والأموال الكثيرة، والأسهم الرابحة الهائلة، وأنت في داخلك تعاني الألم والوحدة، والحيرة والأسى، والتمزق واليأس، محزون مهزوم مقرور كريشة في رياح الشتاء!؟

     إنها لتعاسة حقاً أن تملك كل شيء وتخسر نفسك، أن تتحكم في أشياء خارجية كثيرة جداً لكنك تعجز عن التحكم في ذاتك، أن تقود سيارتك حيث تحب لكنك لا تدري أين تقود نفسك!..

     أما أولئك الذين توحّد مصيرهم، وتواءمت أملاكهم الداخلية مع أملاكهم الخارجية، وعرفوا في حياتهم الغاية والنهاية والهدف، وطفقوا نحوها يسعون، فهم السعداء حقاً أياً كانوا وحيث كانوا.

     هذه السعادة الغامرة الهانئة، وهذا الأمن الباطني العميق، وهذا الرضى الهادئ الفخور.. افتقده في بلاده مثقف غربي كبير، وطفق يبحث عنه حتى وجده في ديار قوم آخرين.

     بصفاء ووضوح أخذتُ أروي خبراتي الشرقية إلى العالم الغربي الذي كنتُ في الأصل أنتمي إليه، ولما كنتُ قد اكتشفتُ، صلة بين الأمن العاطفي عند المسلمين وبين الإسلام الذي ينتمون إليه، كذلك بدأ يتضح لي أنّ افتقار أوروبا إلى الوحدة الداخلية الذاتية، وحالتها الأدبية والأخلاقية المضطربة، ربما كانا ناتجين عن فقدانها ذلك الاتصال بمعتقدها الديني الذي صاغ تجربة المدنية الغربية.

     هنا في أوروبا –كما قد رأيت– كان مجتمع يبحث عن تنظيم روحي جديد، بعد أن كان قد تخلّى عن الدين، إلا أنه كان ظاهراً أنّ عدداً قليلاً من الغربيين كانوا يدركون أي شيء عنه، ذلك أن الأكثرية كانت تفكر سواءً بطريقة واعية، أو غير واعية على النحو التالي تقريباً:

     بما أنّ إدراكنا وتجاربنا العلمية، وحساباتنا، لا تكشف عن شيء معين محدود عن أصل الحياة الإنسانية ومصائرها بعد موت الجسد، فإن علينا أن نركز جميع طاقاتنا في إنماء قوانا المادية والعقلية، وأن لا نسمح لأنفسنا بأن تشوّشها وتعرقلها الآداب والأخلاق التي هي فوق العقل، أو الافتراضات والادعاءات الأدبية والأخلاقية التي تقوم على ظنون وأوهام تزدري البرهان العلمي.
***

     هكذا طفق المثقف الغربي، يصف ديار قومه، ومبلغ ما يسودها من قلق بسبب تركها للدين الذي تثبت التجارب يوماً بعد يوم أنه أكبر باعث للسكينة، وطارد للقلق، وانكبابها الذي تحاول أن تسوّغه عقلياً على ملذات الدنيا، والانغماس فيها وعبِّ أكبر قدر ممكن منها. ومثل هذا كفيل بأن يجعل عالم الغرب، يحفل بألوان شتّى من الصعاب.

     عالم يعتريه الجيَشان والاضطراب، سفك دماء، وتدمير وعنف، إلى حد لم يسبق له مثيل، تهافت في كثير من التقاليد الاجتماعية، وتصادم بين المذاهب الفكرية، وصراع مرير في كل مكان في سبيل طرائق جديدة في الحياة.
***

     علامات عصرنا ما كانت إلا نُذُراً مرعبة، دخان الحرب العالمية ومجازرها، حروب لا تُحصى، جملة من الثورات والثورات المضادة، كوارث اقتصادية فاقت كل الكوارث التي سجّلت من قبل، من هذه الأحداث الهائلة كلها ظهرت الحقيقة:

     إن التركيز الغربي الحاضر في التقدم المادي، والفن الصناعي، لم يستطع مطلقاً أن يحوّل وحده الفوضى الحاضرة إلى كل شيء يشبه النظام.

× ولكنْ ألم يَنْمُ في الرجل اعتقاد جديد؟ ألم تبرز لديه قناعات جديدة!؟ وما معالم تلك القناعة يا ترى!؟

- لقد تبلور اقتناعي الفطري أيام الشباب بأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، لكنه ما لبث أن تحوّل إلى اقتناع عقلي جديد.

- إنها قناعة عقلية بأن عبادة التقدم التي سادت عصري المضطرب لم تكن أكثر من عوض سقيم مبهم عن إيمان قديم بالقيم المجرّدة، أي إيمان كاذب اخترعه أناس فقدوا جميع قدراتهم الداخلية على الإيمان بالقيم المجرّدة، وكانوا الآن يخدعون أنفسهم بالاعتقاد بأن الإنسان بطريقة ما، وبدافع تطوّري بحت، يستطيع أن يتغلب على مصاعبه الحالية.

- إنني لم أستطع أن أفهم كيف أنّ أياً من الأنظمة الاقتصادية الحديثة، التي انبثق من هذا الاعتقاد المضلِّل الخادع، يستطيع أن يشكل أكثر من مسكّن لبؤس المجتمع الغربي وشقائه!؟ إنها تستطيع في أفضل الأحوال أن تداوي بعضاً من الأعراض، لكنها لا تستطيع أن تداوي السبب الأصلي.

× ولكنْ ماذا أيضاً؟ ألم يكن الرجل يجد شيئاً من الاهتمامات التي كانت تشغل الناس في ديار ذويه!؟

- لا.. لم أكن أشعر بأي اندفاع نحو أي من الأهداف والمساعي التي غمرت الجوّ الثقافي في أوربا في ذلك الحين، وملأت أدبها وفنّها وسياستها بدويّ من المحاورات الناشطة. ذلك أنه مهما كانت معظم تلك الأهداف والمساعي متناقضة بعضها مع بعض؛ فإنها جميعاً كانت تشترك في أمر واحد: الافتراض الساذج أن الحياة يمكن أن تقال من فوضاها، وأن تصبح أفضل لو أنّ أحوالها الخارجية.. الاقتصادية والسياسية أصبحت أفضل.

- ما مِن ريب أنه افتراض محزن، وأنه حل للمشكلة يزيد من فداحتها وتعقيدها، لأنه ينصبّ على الجانب المادي وحده، ويُغفِلُ في الإنسان أشواقه وتطلعاته الأخرى التي تتجاوز نداء الجسد. إزاء هذا الافتراض المحزن الضال؛ كيف كان شعور الرجل يومذاك؟

- شعرتُ شعوراً قوياً أن التقدم المادي وحده، لم يستطع أن يوفر الحل، وبرغم أنني ما كنت أعرف تماماً.. أين يمكن إيجاد مثل هذا الحل!؟ فإنني لم أستطع مطلقاً أن أوضّح في ذاتي، ذلك الاندفاع الذي كان يبديه أبناء عصري نحو التقدم.
***

     وبمعزل عن المثقف الغربي الذي قدر له فيما بعد أن يهتدي ويسلم، فإن في الغربيين حيرةً وقلقاً واضطراباً باطنياً عميقاً، وهُم يتوهّمون أنّ أمنهم الباطني يمكن أن يستقر ويحقق لهم السعادة عن طريق الإغراق في المادة، وإهدار أشواق الروح، وما علم الضائعون أنهم صائرون إلى مزيد من الضياع.

     حين يُقَدَّرُ للإنسان أن يعاني ضروباً من الحيرة والقلق، فإن الهدوء ينأى عنه والسكينة تغادر أحناءه، ويقع فريسة لمخاوف وصراعات داخلية شتى.. تنوشه من كل مكان. ربما يتنقل في بقاع الأرض، وربما يعمل في مجالات عديدة، لكنه مع ذلك سيظل مرهقاً محزوناً مكدوداً؛ إلا إذا انتهى به المطاف إلى جادة الهداية وموكب الإيمان.
***

× تعال نجُبْ معاً أعماق شخص أوروبي عريض الثقافة عرف المرحلتين، عرف مرحلة القلق والضياع، وعرف مرحلة الهداية والإيمان، تعال نعِشْ مع عقله وقلبه، سلوكه ومشاعره، ونلحظ بدقة حواره مع ذاته، ومع اكتشافاته لدنيا جديدة غير التي أَلِفَها من قبل، والنُقلات الفكرية التي كانت تحدث في حياته والتي قادته في نهاية المطاف إلى الإسلام.

- كل هذه السنين الغارقة قد طفت على السطح الآن، وكشفت عن وجوهها مرة ثانية، ودعتني بأصوات عديدة، وفجأة خفق قلبي، وأدركت كم كان طويلاً لا نهاية له!.. قلتُ في ذات نفسي: لقد مضى عليك وقت طويل وأنت تسير وتسير دائماً، إنك لم تحوّل حياتك بعد إلى شيء يمكن إمساكه باليد، ولم يوجد مطلقاً حتى الآن أي جواب عن السؤال: إلى أين؟ لقد كنتَ ولا تزال تُغِذ السير تائهاً عبر أراضٍ عديدة، ضيفاً في مواطن كثيرة، ولكن الحنين والشوق لم يسكنا في أعماقك.

- ثقافتي الأوروبية، لقد خلّفتُها ورائي، ولم أشعر مرة بأني محتاج إليها، والحق أنني قد صرت بعيداً جداً عنها بحيث إني أجد من العسير عليّ، وبصورة متزايدة أن أكتب في الصحف الأوروبية التي أكسب منها معاشي. وكلما بعثتُ بمقالةٍ ما.. يبدو لي كأنما أرمي حجراً في بئر لا قرار لها، فالحجر يختفي في الفراغ المظلم، ولا يرجع إليَّ منه حتى الصدى، لأعلم أنه قد وصل إلى غايته.

× تلكم ملامح من البدايات، بدايات الرجل الفكرية الشاقة قبل إسلامه، ترى أكانت فترة هذه الصراعات والتساؤلات في أعماق الرجل فترة طويلة!؟ ترى هل كان طريقه إلى عالمه الجديد، عالم الإسلام، متعباً له؟

     حقاً لقد كان طريقاً طويلاً، ولكنه بالرغم من ذلك الطول فقد كان مستقيماً بسيطاً. هكذا سِرتُ من العالم الثقافي الأوروبي الذي لم أملكه قط، إلى آخر كان في الحقّ عالمي الخاص، وهو الإسلام.

     كانت لدى الرجل رغبة عميقة في الحركة، حركة الجسد في دنيا المسافات والأبعاد والأَرَضِين جعلته يرحل هنا وهناك، يسافر إلى أماكن نائية وبعيدة، ترى هل كانت هذه الحركة الجسديّة تعبيراً لا شعورياً عمّا كان فيه كم مِن قلق داخلي مرهق!؟

- لا بد أن تطوافي كله.. إنما كان في الحقيقة تعبيراً عن رغبة خبيئة في نفسي بلقاء عالم.. نظرته إلى مسائل الحياة الصميمة، إلى الحقيقة نفسها، تختلف عن كل ما أَلِفْتُه في طفولتي وشبابي. ما أطول الطريق من طفولتي وشبابي إلى أوروبا الوسطى إلى حاضري في ديار العرب، من النمسا إلى السعودية وباكستان، من اليهودية دين آبائي وأجدادي إلى الإسلام الذي أنتمي إليه الآن!.. لقد كان طريقاً طويلاً حقاً، لكنه في الوقت نفسه عذب وجميل.

× ترى هل درس الرجل الذي كان يهودياً دينه الأول الذي نشأ عليه بين أهله وذويه، أم أنه لم تُتَح له هذه الفرصة!؟

- بمقتضى تقاليدنا العائلية كنتُ قد درستُ على أيدي أساتذة خصوصيين، العلوم الدينية العبرانية بتعمق كبير، ولقد أنفقت الساعات الطوال في دراسة الكتب المقدسة. وهكذا لم أبلغ الثالثة عشرة من عمري حتى صار في إمكاني أن أقرأ العبرية، وأكتبها بسهولة، وأتحدث بها في طلاقة، كما أني حصّلت معرفة جيدة بالآرامية، وهذا يفسر السهولة الكبيرة التي تعلمتُ بها العربية فيما بعد.

× إنها دراسات عميقة تلك التي انكبّ عليها الرجل إبّان شبابه. ترى أي أثر تركَتْه فيه هذه الدراسات؟

- الحق أنّ هذه الدراسات أسهمت في إبعادي عن دين آبائي وأجدادي بسبب عددٍ من التناقضات التي وجدتها فيه، ثم إنه تبيّن لي واضحاً أن اليهودية ليست ديناً عالمياً، إلا أن خيبة الأمل التي أصابتني في ذلك الحين إزاء اليهودية لم تُؤَدِّ بي إلى أن أبحث عن الحقائق الروحية في جهات أخرى. لقد كنتُ حائراً. ولكي أكون منصفاً لنفسي، فعليَّ أن أؤكد بأنّ حيرتي لم تكن من صنع يدي، ذلك أنها كانت حيرة الجيل الذي انتميتُ إليه بأكمله.

- لقد تميّزت العقود الأولى من القرن العشرين بالفراغ الروحي، لقد أصبحت جميع القيم الروحيّة والأخلاقية التي أَلِفَتها أوروبا عدة قرون، غير ذات شكل مقرر محدّد، وذلك بفعل الفظائع التي كانت قد حدثت إبَّان الحرب العالمية الأولى.

- ولم يكن يبدو أن مجموعة جديدةً من القيم ستفرض نفسها. لقد كان في الجو شعور من الهشاشة والخطر، إحساس مسبق بالجيَشان الاجتماعي والعقلي جعل المرء يشك فيما إذا كان من الممكن أن يكون هناك مرةً أخرى أي استقرار في أفكار الإنسان ومساعيه.

- كان كل شيء يبدو وكأنه يسيل في فيضان غير منتظم، ولم تستطع الحيرة الروحية لدى الشباب أن تجد لنفسها موطئ قدم، وبسبب فقدان المقاييس الأخلاقية الموثوق بها، لم يستطع أحد أن يقدِّم إلينا نحن الشبان أجوبة مُرضية عن كثير من الأسئلة التي كانت تحيّرنا.

- كان العلم يقول: "المعرفة هي كل شيء"، ونسي أن المعرفة دونما هدف أخلاقي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الفوضى والغموض.

- إن المصلحين الاجتماعيين كانوا يريدون بناء عالم أفضل وأسعد، لكنهم لم يكونوا يفكّرون إلا بمقتضى ظروف خارجية، اجتماعية واقتصادية. هذا التحوّل الأخلاقي في الفرد، كان يمكن أن يؤدي إما إلى الفوضى الأخلاقية الكاملة والشك، أو إلى إيجاد مُلْتَمَس شخصي مبدع لما يمكن أن يشكل الحياة الطيبة.

- وحتى لو شعرت بنفسي مقيّداً ببقايا الفضيلة التقليدية؛ فقد كان من الصعب جداً عليّ أن أتفادى الانجراف في التيار الذي كان قد بدأ يجرف الكثيرين. لقد كنت أفخر كآخرين كثيرين من أترابي؛ بما كان يعتبر ثورة على التقاليد الجوفاء.

- لقد نما قلقي وتزايد، وجعل من العسير عليّ جداً أن أتابع دراستي في الجامعة، فإذا بي أتركها نهائياً لأعمل في الصحافة التي قادتني نحو بلاد العرب، التي قادتني آخر المطاف إلى الإسلام.

- حرية الإنسان في داخله بحيث يكون سيد نفسه.. من أخطر الأمور التي تجعل الإنسان يشعر بالاستقرار والطمأنينة والأمن، والاتّساق والانسجام. هذه الحرية تقدم للمرء حين تتوفر عطاءً في غاية الإيجابية والنفع والفاعلية، أما حين تغيب فإن نتائج في غاية السوء تترتب على غيابها، وعلى كل حال فإن حرية الإنسان الداخلية ثمرة غالية من ثمار الإيمان تنمو في بستانه الوارف الفينان.

- وحين يستعرض المرء سِيَرَ بعض الغربيين المهتدين الأذكياء يجد لديهم عناية بهذه الحرية وإكباراً لها، ويجد أن غيابها عند ذويهم، وتوفّرها عند بني الإسلام من العوامل المهمة في دفع حركة مسيرتهم نحو الهداية.

× ترى كيف نجد ذلك عند مهتدٍ أوروبي ذكي؟

- الأمن الباطني، الطمأنينة الراضية، الهدوء الفخور، الاتساق والتكامل والبِشْر، الانسجام والسلام والصفاء.. تلك أمور في غاية الخطورة، افتقدها هذا المثقف الأوروبي في عالم الحضارة الغربية، ومن خلال ما كتب عرفنا مبلغ حبّه وشوقه لهذه الأمور التي وجدها آخر المطاف في الإسلام.

× ترى هل يذكر الرجل كيف بدأ يجدها في غير بيئته وأهله؟

- أجلْ، كان ذلك في خريف عام 1922م، وكنت أعيش في بيت "خالي" بالقدس القديمة، وكانت السماء تمطر كل يوم تقريباً، فلم أستطع معه الخروج إلا قليلاً، لذا فإني كثيراً ما كنتُ أجلس إلى النافذة التي كانت تطل على فناء متّسع وراء البيت، وكان هذا الفناء ملكاً لرجل مسلم عجوز، وفي كل صباح قبيل الفجر كان يؤتى بأحمال الخضار إلى ذلك المكان من القرى المجاورة.

- كنت أرى الرجال وهم يعنون بالخضار والدواب معاً، كانوا فقراء لا تستر أجسامهم سوى ثياب رثة بالية، ولكنهم كانوا يتصرّفون كالسادة العظام!..

× كالسادة العظام، إنه أمر مستغرَب، ترى كيف كان ذلك؟

- عندما كانوا يجلسون على الأرض لتناول الطعام، ويأكلون أرغفة الخبز مع قليل من الجبن، أو حبات من الزيتون، لم أكنْ أستطيع إلا أن أعجب بنُبل جلدهم واحتمالهم وهدوئهم الداخلي.

- كنتَ تستطيع أن ترى أنهم يكنّون الاحترام لأنفسهم ولأمور حياتهم اليومية، وكان المسلم العجوز صاحب الفناء يتجول بينهم مستنداً إلى عصاه، ذلك أنّه كان يشكو التهاب المفاصل، كان يبدو كزعيم عليهم، فقد رأيت أنهم يطيعونه دون تردد أو سؤال.

- كان المسلم العجوز يجمع هؤلاء الرجال للصلاة عدة مرات في اليوم، وكانوا يؤدونها في الخلاء إذا لم يكن المطر ينهمر بغزارة، كانوا يقفون جميعاً في صف واحد طويل وكان هو الإمام، كانوا كالجنود في دقة حركاتهم، ذلك أنهم كانوا ينحنون معاً باتجاه مكة المكرمة، ثم ينهضون ثانيةً ليسجدوا وتمسّ جباههم التراب، كانون يتّبعون كلمات قائدهم التي عرفتها فيما بعد: "الله أكبر"، وكان يقف حافي القدمين، على سجادته المُعَدّة للصلاة، مغمض العينين، مكتوف الذراعين، محركاً شفتيه، شارداً في استغراق عميق. لقد كان بإمكانك أن ترى أنه كان يصلي بروحه كلها.

× ترى ما الذي أحس به صاحبنا إذ ذاك ولم يكن يومها مسلماً؟

- الحق أنه قد أزعجني أن أرى مثل تلك الصلاة العميقة مقترنة بحركات جسمية آليّة، فسألتُ المسلمَ العجوز ذات يوم وكان يفهم الإنكليزية قليلاً عن ضرورة هذه الحركات خلال الصلاة؟ ولم أكدْ أنطق بسؤالي حتى شعرتُ بالندم وتبكِيتِ الضمير، فما كنتُ أنوي أن أجرح شعور الشيخ الديني.

× ولكنْ ماذا كان رد الشيخ العجوز؟

- لم تبدُ عليه قطُّ علامات الاستياء، لقد افترّ فمه الخالي من الأسنان، وبدأ بتفسير مقنع بسيط، والحق أنه بذلك التفسير البسيط فتح لي أول باب للدخول في الإسلام، لقد بدأتُ أشعر بخضوع غير عادي كلما رأيتُ رجلاً يصلّي، يقف عاري القدمين على سجّادته المخصصة للصلاة، أو على حصيرة من قش، أو على الأرض العارية مكتوف الذراعين، محنيّ الرأس، مستغرقاً بالكليّة، ناسياً كل ما يجري حوله، سواءً كان ذلك في أحد المساجد، أو على رصيف أحد الشوارع المكتظة: رجلاً مطمئناً إلى نفسه.
***

     وإذن ففي ديارنا نحن المسلمين، عرف المثقف الأوروبي المهتدي، نموذجاً رائعاً للأمن الداخلي، لحرية الإنسان الباطنية، عرف ذلك لدى المسلم العجوز، في القدس، بعد أن أعياه الوصول إليه في أوروبا.

     في هذه الديار، وجد الرجل قبل إسلامه قوماً –هم مسلمون صادقون– يملكون هناءة نفسية عميقة، وأمناً باطنياً سابغاً، وطمأنينة مكينة راسخة، وهدوءاً عريضاً فخوراً، واتساقاً وتكاملاً وانسجاماً.

     تلكم النماذج مثّلت إلى حد بعيد وبشكل مشرّف، كيف يمتلك المسلم حريته الباطنية، سيادته على ذاته، إدراكه الغاية والطريقة، المصير والوسيلة!؟ كيف يوائم وينسّق بين مملكته الداخلية، وبين الأشياء الخارجية التي كانت تحيط به!؟ كيف يمضي في حياته على ثقة تامة من منهجه، ويقين راسخ بصحة طريقه، وإحساس غني عارم بالثقة والاستعلاء!؟

     وما مِنْ ريب أن هذه المكاسب الغنيّة، والهدايا الثمينة، التي تبدَّت للرجل الأوروبي، والتي كانت من أسباب إسلامه فيما بعد، إنما هي بعض العطاء العظيم الواسع الثري الذي يمنحه الإسلام، لمن ألقى إليه القياد، ومنحه وَحْدَه كامل ولائه، وأقبل على التعامل مع كنوزه الرائعة بفهم ووعي، وصدق وإخلاص.
*****

الجواب السديد للعمدة الرشيد

الجواب السديد للعمدة الرشيد

     حين يكون المسلمون على درجة مناسبة من حسن الوعي والفهم، وصفاء النية والقصد، وجدّية التمسّك والالتزام، إزاء دينهم، ينشأ عن ذلك عهد وثيق محكم بينه وبينهم.

     إنه عهد مأخوذ عليهم من حيث هم مسلمون، وهو حقيقة الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض وحملها الإنسان، وهو عهد طيب كريم، طاهر الآفاق والأنفاس، نبيل الهدف والغاية، عفّ الوسيلة والطريقة، يربط الإنسان المحدود الفاني بقوة الله المطلقة العظيمة، ويبارك العمر ويرفعه، ويطهّره ويزكّيه.

     وهو عهد مسؤول على خط الالتزام البصير، والتمسك الواعي، دوراناً مع القرآن حيث دار، مهما افترق القرآن والسلطان، ومهما كانت أحجام التضحيات، ومهما اشتد بريق الرغب اللامع أو الرهب المخيف.

     وهو عهد يجعل رابطة الإيمان، وأخوّة الإسلام، أعظم رابطة تشد قلوبنا، فيكون مَنْ دخل الإسلام هذا اليوم، أقرب إلى قلوبنا، وألصق بها من الفاجر الفاسق ولو كان ذا قربة أو جوار.

     مع هذه الأخوّة الوثيقة، وعهدها الأمين، وأواصرها القوية، ووشائجها الكريمة، نلتقي بمثقف أوروبي ذكي، قادته العناية الإلهية إلى الإسلام، لنجوب معه آفاق رحلته الشجاعة بحثاً عن الحقيقة.

     لقد قام الرجل برحلات كثيرة إلى بلاد المسلمين، وكانت هذه الرحلات تنسج له خيوطاً ناعمة، خفية وظاهرة، شدّته إلى ديار العرب والمسلمين، وعاداتهم وأخلاقهم، ودينهم آخرَ المطاف. ترى أي إحساس كان يملأ منه الجوانح، يوم أن عاد إلى الغرب بعد أول رحلة قام بها في ديار الإسلام؟

     لقد ألهمتُ أولَ ما ألهمتُ في دمشق بأن طريقاً جديداً إلى الحقّ كان قد أخذ يظهر أمامي ويتكشّف، وحين عدت إلى أوروبا بعد زيارتي دياركم، وجدت أن من الصعب عليّ، أن أعيش مرة أخرى في العالم الغربي. ذلك أنني من ناحية كنت توّاقاً إلى أن أتفهّم تفهّماً عميقاً، القلق الذي أحدثته لي أولُ معرفة لي بالعرب وثقافتهم، رجاءَ أن يعينني ذلك التفهم على أن أفهم بطريقة أفضل ما كنت أنا ونفسي أتوقع من الحياة. ومن ناحية أخرى كنت قد وصلت إلى نقطة اتّضحَ لي عندها أني لن أستطيع بَعْدُ أنْ أنسجم مع أهداف المجتمع الغربي.

     لقد دخل الإسلام إلى الرجل رويداً رويداً ومن دون أن يشعر في بادئ الأمر، دخل من خلال حادثة هنا، ومناقشة هناك، دخل من خلالِ صلةٍ عابرةٍ برفيقِ سفر، وصداقةٍ وطيدةٍ بزميلٍ مقيم. دخل من خلال مواقف كثيرة، كان فيها رحيل جسدي، وتأمل باطني، ولقاءات منوّعة مع مسلمين وغير مسلمين. لقد كان في ذلك كله، يلقي عنه ثوبه الغربي ويلبس ثوبه الإسلامي. ترى، أَمَا مِنْ معالمَ بارزة يذكرها الرجل في تحوّله البطيء العميق؟

     كنت مسافراً في القطار من القاهرة إلى بورسعيد، وكان معي في العربة، تاجر يوناني، وعمدة قرية مصري. كان العمدة بالرغم من جهله، يظهر ذوقاً سليماً حادّاً. وقد أنشأت بيننا صداقةُ الرحلة جوّاً من المودّة. وتشعّب بنا الحديث، وكنا نتحدث عن بعض المبادئ الاجتماعية في الإسلام، تلك المبادئ التي كانت في ذلك الوقت تشغل حيّزاً من تفكيري. ولم يوافقْ رفيقي اليوناني المسافر، موافقةً كلية، على إعجابي بالعدالة الاجتماعية في الشريعة الإسلامية.

     ترى ماذا قال صاحبه اليوناني المعترض؟

     قال: إن الشريعة الإسلامية ليست عادلة بالمقدار الذي تعتقده يا صديقي العزيز، ثم استدار إلى زميلنا المصري قائلاً: إنكم تقولون: إنَّ دينكم عادل جداً، فهل تستطيع مثلاً أن تقول لنا: لماذا يبيح الإسلام للمسلمين أن يتزوّجوا من الفتيات المسيحيات أو اليهوديات، ولا يبيح لبناتكم وأخواتكم أن يتزوّجن من المسيحيين أو اليهود؟ هل تسمّي هذا عدلاً؟

     وماذا قال العمدة المصري؟

     قال: طبعاً أسمّيه عدلاً. هكذا أجاب العمدة الوقور دون أن يتردّدَ لحظةً واحدة. وسأخبرك لماذا جاءت شريعة الإسلام بهذا؟ نحن المسلمين لا نعتقد بأن المسيح عليه السلام هو ابن الله، ولكننا نعتبره فعلاً، كما نعتبر موسى عليه السلام، وسائر الأنبياء، رسول صدق من الله تعالى.

     فإذا تزوّجت فتاة مسيحية أو يهودية من رجل مسلم، فإن بإمكانها أن تطمئن إلى أن أحداً من الأشخاص المقدّسين في نظرها، لا يمكن أن يؤتى على ذكره بين أفراد العائلة الجديدة إلّا بكل احترام، في حين أنه من الناحية الأخرى إذا تزوّجت فتاة مسلمة من غير مسلم، فإنَّ مَنْ تعتبره رسول الله، خليق بأن يذم ويساء إليه. وهل تعتقد أنت أن من العدل تعريضها لمثل هذا الإيلام والإذلال؟

     تلكم كانت إجابة العمدة المصري، وهي إجابة ذكية موفّقة. ترى، ماذا كان موقف التاجر اليوناني منها، وأي أثر تركته هذه الإجابة في شخص صاحبنا الأوروبي الذي نجوب معاً آفاق رحلته المظفرة نحو الهداية؟

     يقول صاحبنا:

     لم يجد اليوناني ما يجيب به، إلّا أن هزَّ كتفيه، أما أنا فقد بدا لي أن العمدة الأمي البسيط، بذوقه الفطري السليم، قد أصاب كبد الحقيقة، في مسألة على جانب عظيم من الأهمية. ومرةً أخرى –كما حدث لي مع المسلم العجوز في القدس– أحسست أن باباً جديداً إلى الإسلام كان يفتح لي.
*****

حوار عميق لغربيٍّ مع الشيخ المراغي

حوار عميق لغربيٍّ مع الشيخ المراغي

     كان حواراً عميقاً، متشعباً وموصولاً، ذلك الذي ظل يجري بين الرجل وآخرين وبينه وبين نفسه. وكانت مواد هذا الحوار كثيرة متنوعة، ولا غرابة في ذلك إذ إنه عاش في الفترة الأولى من عمره، تحكمه ثقافته الأوروبية الموروثة، وعقائده التي نشأ عليها، ثم قُدر له بعد ذلك أن يلتقي بالإسلام وعالمه، دراسةً وتأملاً ومعايشة، وبدأ هذا العالم الجديد يشدّه إليه رويداً رويداً حتى فاز به في نهاية المطاف فأسلم.

     كانت أهم مواد الحوار تدور حول الأمور الأساسية الكبرى التي يختلف إزاءها العالَمان، عالَمه القديم، وعالَمه الجديد، خاصة في ميادين العقيدة والآداب والأخلاق، ثم بدرجة أقل في ميادين السياسة.

     دار هذا الحوار في أعماق الرجل، ودار بينه وبين آخرين، ينتمي بعضهم إلى عالَمه القديم الأول، وينتمي بعضهم الآخر إلى عالَمه الجديد الثاني. حوار سبق إسلامه وواكبه، ثم أعقبه بعد ذلك حوار كان همساً داخلياً، ومحاكمات ومقارنات في الأعماق، وكان أيضاً حديثاً مع كاتب هنا، ومفكر هناك، وصحفي يلتقي به، وعالم دين تجمعه به الظروف، وحاكم منطقة يمر بها في إحدى رحلاته. كان حواره، الداخلي منه والخارجي، يمثل دأباً دائباً، ووعياً صبوراً، وسعياً ملحاحاً، من أجل الهداية ومن أجل الحقيقة، ومن أجل مزيد من الاطلاع.

     قلت لصديقي اللوذعي الشيخ المراغي في إحدى المناسبات: قل لي يا شيخ مصطفى لماذا يجب أن يكون من الضروري للمرء أن يقتصر على تعليم واحد معيّن، وعلى مجموعة واحدة معينة من الوصايا؟. ألا يمكن أن يكون من الأفضل له أن يترك كل إلهام أخلاقي لصوته الداخلي؟

     ذلك ما قاله الرجل في بعض حواره للشيخ الأزهري المعروف الذي أجاب قائلاً:

     إن ما تقوله في الحقيقة يا أخي الشاب -وكان صاحبنا يومذاك لا يزال شاباً- هو: لماذا يجب أن يكون هناك أي دين نظامي!؟

     والجواب بسيط: إن عدداً قليلاً جداً من الناس هم الأنبياء وحدهم قادرون حقيقةً على أن يفهموا الصوت الداخلي الذي يتكلم في ذواتهم. إن معظمنا مقيّدون بالمصالح والرغبات الشخصية. ولو قدّر لكل واحد منا، أن يتّبع ما يمليه عليه فؤاده فحسب، إذن لسادت بيننا الفوضى الأخلاقية سيادة تامة، ولما استطعنا قط أن نتفق على أي طريقة من طرائق السلوك.

     إنك تستطيع أن تسأل بداهة ما إذا لم يكن هناك شذوذ لهذه القاعدة العامة، أعني أناساً متنوّرين يشيرون بأنهم ليسوا بحاجة إلى أنْ يُرْشَدوا فيما يعتبرونه حقاً أو باطلاً، ولكنني عندئذٍ أسألك بدوري: ألا يمكن لكثير وكثير من الناس أن يدَّعوا هذا الحق الاستثنائي؟ عندها ماذا تكون النتيجة؟

     تلكم كانت إجابة الشيخ المراغي، ولقد كانت إجابة سديدة محكمة، وهي تنهض دليلاً لا يُرد في أنه لا يمكن لأحد أن يستغني عن الدين، بحجة انصياعه لصوت الخير في أعماقه. في ضوء هذه النتيجة: كيف يمكن للرجل أن يصف دين جيله في أوروبا؟

     إن جيلي عرف ديناً إيجابياً واحداً، هو عبادة التقدم المادي. وكانت معابدُ ذلك الدين المصانعَ الجبارة، ودور العرض السينمائية، والمختبرات الكيميائية، وقاعات اللهو، والمشاريع المائية والكهربائية. وكان كُهّانها الصرافين والمهندسين والسياسيين، ونجوم السينما، والإحصائيين، وزعماءَ الصناعة، والطيارين، ومفوّضي الشعب، وكانت الخيبة الروحية متجلية في الفقدان الشامل للاتفاق على معنى الخير والشر، وفي إخضاع الأحداث الاجتماعية إلى قاعدة واحدة هي "المصلحة".

     إن الرجل يضع "المصلحة" في موضع المخطئ المسيء. يبدو للمرء ابتداءً أن المصلحة مطلب إنساني يشكل حافزاً بشرياً في كل مكان، ودافعاً إلى التقدم والعمران. أي خطر وجده الرجل في الخضوع لقاعدة "المصلحة"؟

     الخطر أن مصلحة هذا تناقض مصلحة ذاك، وأنها لا ضابط لها، تماماً كالمرأة اللعوب، إنها تنطوي على ذلك الحنين الشره إلى السلطة واللذة. لقد أدى تطبيق قاعدة المصلحة إلى انقسام المجتمع الغربي، إلى فئات متخاصمة، مسلّحة حتى أسنانها، مصممة على أن يسحق بعضها بعضاً، متى.. وفي.. وحيثما تضاربت مصالحها وأهواؤها، أما في الجانب الثقافي فقد كانت النتيجة إيجادَ نموذج إنساني اقتصرت فضيلته على مسألة النفع العملي وحده، وكان النجاح المادي، مقياسَه الأعلى للخطأ والصواب.

     وهل أدّى ذلك إلى اضطراب عميق في حياة الجيل الذي ينتمي إليه الرجل؟

     لقد بلغ الاضطراب فيها حدّاً ثقيلاً. كذلك رأيتُ مبلغ حياتنا وشقائها، وقلّة الحياة المشتركة بين الإنسان والإنسان بالرغم من هذا الإلحاح الضار الذي كاد يتميز بالهستيرية، على المجتمع والأمة. وكذلك رأيتُ مبلغ خروجنا على غرائزنا السليمة، ومبلغ الضيق والعفن الذين أصابا أرواحنا.

     إنه شقاء مرير هذا الذي يتحدث عنه. ترى ألم يدفعهم إلى البحث عن دواء في غير بلادهم؟

     لم يَبْدُ لي مطلقاً، ولا أظنه بدا لأحد من الناس حولي، أنه يمكن الحصول على جواب، أو على أجوبة جزئية على الأقل عن هذه الأمور المحيّرة من غير تجارب أوروبا الثقافية نفسها، لقد كانت أوروبا بداءة تفكيرنا ونهايته أيضاً.

     ولكنْ، أما كان في أوروبا أيّامَ جيله، من يستطيع أن يخاطبهم، عقلياً بالحجة، أو وعظياً بإثارة نوازع الخير؟

     إن الوعظ وحده، والإدراك العقلي وحده، لم يكن لهما بالطبع أن يُحدِثا تبدلاً في الاتجاه الروحي لدى المجتمع الأوروبي. لقد كانت الحاجة تدعو إلى إيمان قلبي جديد، استسلام عميق، لا يسمح بـ"إذا"، و"لكنْ". و"ربّما".. وأمثال هذه التعِلّات. ولكنْ من أين الفوز بمثل هذا الإيمان؟

     إن على أوروبا أن تستجمع شجاعتها كلَّها، للشك في أسسها الروحية والأخلاقية الخاصة، يَوْمَها لم أكنْ قد وصلتُ إلى الحد الذي أستطيع معه حتى أن أسأل نفسي ما إذا كانت الحياة الغربية في أساسها الطريقةَ الوحيدةَ الممكنة؟ كنت أحتاج وقتاً طويلاً لأتجاوز النظرة الأوروبية، الثقافية الأنانية التي اندمجتُ فيها اندماجاً كلياً فترة طويلة من الزمان قبل أن أدخل في دين الإسلام.

     لم يكن جيلي يملك سوى التسكّع اليائس وراء صيغ جديدة من التعبير في الفنون والاجتماع والسياسة. لم يكن يملك سوى ذلك الصراع العنيف بين النداءات المتناقضة للحرب، وبين المبادئ المخترعة بدقة متناهية.

     إن جميع آلاتنا، وناطحات سحابنا لم تَعُدْ تستطيع شيئاً لإعادة الوحدة إلى روحنا المحطّمة.
*****

إسلام إستيراد الأمريكي وركس الإنكليزي

إسلام إستيراد الأمريكي وركس الإنكليزي

     لقد كان سلوك المسلمين في عهد الفتوح من أكبر أسباب انتشار الإسلام بين الناس فيما امتد إليه من أصقاع، ولو كانت القوة الحربية التي أرهبت الفرس والروم هي السبب في الانتشار، لتقلّص الإسلام بتقلّص تلك القوى وانحسارها.

     إن التاريخ يثبت أن سلوك الفاتحين كان السبب الأكبر في تمسك المغلوبين بدين الغزاة حين رأوهم رسل رحمة وفضيلة، ودعاة عدل وهداية، ورجال أخوّة ومحبّة، وحمَلة دين سمح سهل لا غلو فيه ولا غموض ولا تعقيد.

     ومن حقائق التاريخ المقررة أن الأمم التي دخل المسلمون بلادها بالفتح العسكري أقل بكثير جداً من الأمم التي دخل المسلمون بلادها بدون قتال، بل عن طريق الرحلات والتجارة وما إلى ذلك.

     لقد كان التاجر المسلم الأعزل يتقدم بدينه إلى المئات والآلاف وهو غريب بينهم داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، والسلوك العملي القويم، والمعاملة الأخلاقية النبيلة، فيجد الاستجابة السريعة الواسعة لدعوته، ذلك أنه كان داعية بلسانه، وقدوة باستقامته، وأسوة حسنة بخلقه الوفي، وسلوكه الأبيّ، وعفّته وأمانته.

     وما سجّله التاريخ في هذا المضمار يجد مثيله اليوم لدى ما يقوله الإخوة المهتدون الجدد في وصف مَنْ احتكوا بهم من أفاضل المسلمين، ذلك أن هؤلاء الإخوة من المهتدين الجدد –كما تدل على ذلك كتاباتهم وأقوالهم وإجاباتهم على الأسئلة التي توجَّه إليهم– قد وجدوا في سلوك مَنْ دعوهم إلى الإسلام نبلاً حيّاً، وطهراً عالياً، واستقامة ومروءة، ورحمة حانية، وبذلاً للمعروف، وعوناً على قضاء الحاجات، وإخاءً في الله عز وجل يقوم على المحبة فيه جل شأنه دون أن يكون لذلك حظ من أمور الدنيا.

     كان إستريد هيرما سمارت الأمريكي طالباً بجامعة إلينوي في أمريكا، وقد أتيح له أن يدرس القرآن الكريم، وأن يصاحب بعض المسلمين، فوجد من إخائهم المتعاطف ما حمله على مناقشتهم والفرح بصحبتهم والاندماج فيهم، فكان أن سعد بما ينعمون من تراحم أخوي لا يعرف الغرض، ومودة ومروءة تستعليان على المنافع والمطامع. لذلك لم يكن غريباً أن يصبح هذا المجتمع النظيف الكريم مصدر إعجابه بالإسلام، وسر انجذابه إلى المسلمين. يقول الرجل في ذلك:

     "إن المسيحية تنادي بالشفقة، وأن يكون المرء حارساً لأخيه، ولكنْ إذا قورنت هذه العبارة بأخلاق المسلمين في جامعة إلينوي وأعمالهم، ومدى عطفهم بعضهم على بعض، وعلى الآخرين؛ فإنها سوف تبدو عبارة جوفاء. وسأذكر أمثلة على ذلك:

     فَمَنْ غَيْرُ المسلم يتبرع بتوصيلي إلى البيت وسط عاصفة ممطرة، وقد علمت فيما بعد أنه تلقى رسالة من عائلته بنبأ عن وفاة والده؟

     ومَن غَيْرُ المسلم يجمع التبرعات لأخيه المسلم الذي استنزف أمواله كي يتسنى له دراسة سنة أخرى لإنهاء إجازة الدكتوراه؟

     ومَن غَيْرُ المسلمين يساعدون أخاً لهم على نقل أغراضه التي ملأت ثلاث سيارات عندما طلب إليه إخلاء البيت فجأة، وقد قام بهذه العملية حوالي ثمانية عشر مسلماً؟".

     أما ركس إنجرام المهتدي الإنكليزي فيقول في بعض حديثه:

     "في الثلاثينات قدمت إلى الإسكندرية وهمت على وجهي حتى وصلت إلى دمنهور، وعلى شاطئ ترعة هناك رقدت، وفي أثناء نومي رأيت دخاناً يتجمع ثم يضيء، وصحوت وكلمة الإسلام ملء ناظري وحواسي. وفي الطريق ما مررت بقروي إلّا أقرأني السلام ودعاني للطعام وبذل جهده في إكرامي وإضافتي في منزله. أنا غربي وهم شرقيون، أختلفُ عنهم طبعاً وديناً، فما بالهم يسارعون إلى إكرامي أنا الذي رأيت كيف يرتاب الناس بعضهم في بعض؟ ولو أنك مررت على فلاح في أوربا وأقرأته السلام أكان يكرمك مثل هذا الإكرام!؟ وإذا وجدتَ رجلاً يأكل ووقفت إلى جانبه؛ فهل هو يشركك في طعامه عن طيب خاطر!؟ وهل إذا قرعت باباً يفتح لك على مصراعيه فتنزل ضيفاً كريماً!؟ تواردت هذه الخواطر على نفسي وحاولت الإجابة عنها، وعند ذلك علمت أن الإسلام هو الذي جعل تلك النفوس حية كريمة.
*****

غربي يهتدي بسلوك أهل الشام

غربي يهتدي.. بسلوك أهل الشام

     لا شيء يكشف عن صدق الناس الذين يحملون المبادئ والمذاهب والأفكار ويتبنّونها ويدعون إليها، ويعرّي أصالتهم وجدّيتهم، كأنْ يحيا الإنسان معهم في معايشة يومية متكررة، في غدوهم ورواحهم، بيعهم وشرائهم.. نومهم ويقظتهم، فرحهم وحزنهم... وما إلى هذا، ذلك أن المواقف المرتبة، واللقاءات الصناعية، والمهرجانات الرائعة، قد تخفي وراءها كذب أصحابها.. ويعلو صوت طبولها فيغطي على ما فيها من زيف وتفاهة وخواء.

     لذلك فإن كثيرين من المشهورين الذي يراهم الناس عظماء، يفقدون كثيراً من اللمعان والبريق كلما اقترب الناس منهم وشاهدوهم على حالهم الحقيقية من غير قشور أو رتوش أو طلاء.

     ومن الأدلة الناصعة على صدق أصحاب المبادئ أن يعرف الناس جوانب من حياتهم الخاصة، ورأي ذويهم فيهم، لأن حياة المرء الخاصة تكشف مدى انسجامه مع ما يعتقد، ولأن أهل الإنسان أدرى به، فهم يعلمون إن كانت صورته الخارجية أمام الناس تماثل صورته الداخلية أمامهم، أم أن بين الصورتين بوناً شاسعاً.

     وقد كانت هذه الحقيقة الكبيرة سبباً في أن شهد أحد المفكّرين الغربيين المنصفين بصدق الرسول الكريم ﷺ، لأنه لم يكن هناك أي تناقض بين حياته الخارجية وحياته الداخلية، بل كانتا متماثلتين متكاملتين منسجمتين، لهذا كان أهل بيته مؤمنين إلى أقصى حدود الإيمان بنبوّته وصدقه.

     ففي المعايشة اليومية، وفي تفاصيل الحياة الصغيرة، وفي الأعمال العادية الجزئية يستطيع المرء أن يميز صدق الناس عامة، والدعاة وأصحاب المبادئ خاصة، ولعل هذا يقدم سبباً مهماً من أسباب انتشار الإسلام في شعوب البلدان المغلوبة أيام الفتوحات الأولى، دون أن يكون له مبشرون رسميون، ودعاة موظفون، مهمتهم هي تبليغ الدين ونشره.

     إن الذي قاد الشعوب المغلوبة إلى الإسلام هو اكتشافها صحة الدين من ناحية، وصدق المسلمين من ناحية أخرى في تبنّيهم له، وحملهم إياه، وذلك من خلال معايشتها للمسلمين الفاتحين، واحتكاكها بهم في حياتهم اليومية.

     في العشرينات من هذا القرن، حلَّ في دمشق أحد المثقفين الغربيين الأذكياء، فرأى حياة الناس يومذاك، وتصرفاتهم اليومية، ما كان واحداً من أسباب إعجابه بالعرب والمسلمين، وهو الإعجاب الذي قدر له أن يتزايد وينمو وتصحبه دراسات وتأملات انتهت به إلى الإسلام.

     بانفعال نفساني تواق إلى تفهم جديد، وبعينين مفتوحتين على أشياء لم أتخيلها من قبل، كنت أتجول إبان تلك الأيام الصيفية في أزقة السوق الرئيسية في دمشق.

     هكذا طفق الرجل يتحدث عن نفسه. ولو أننا سألناه عما وقف عليه في تلك الأيام لظفرنا منه بالجواب التالي:

     وقفت على ذلك الاستقرار الروحي في حياة سكانها. إن أمنهم الباطني كان يمكن أن يُرى في الطريقة التي كان أحدهم يتصرف بها نحو الآخر، وفي الاعتبار الكبير الذي كانوا يلقون به ويودعون بعضهم بعضاً، وفي الطريقة التي كان اثنان منهما يمشيان بها معاً، يمسك أحدهما بيد الآخر، كالأطفال، لا لشيء إلّا لأنهما كانا يشعران بالود، كلٌّ نحو صاحبه، وفي الطريقة التي كان أصحاب الدكاكين يتعاملون بها بينهم.

     أولئك التجار في الحوانيت الصغيرة، أولئك الذين لا يَنُون ينادون المارة، أولئك كانوا يبدون وكأنما ليس فيهم أي قدر من الخوف أو الحسد، حتى إن صاحب الدكان يترك دكانه في عهدة جاره ومنافسه كلما دعت الحاجة إلى أن يغيب بعض الوقت.

     وما أكثر ما رأيت زبوناً يقف أمام دكان غاب عنه صاحبه!.. يتساءل في نفسه: أينتظر عودة البائع أم يذْهب إلى الدكان المجاور؟. ويتقدم التاجر المجاور المنافس، ويسأل الزبون عن حاجته، ويبيعه ما طلب من البضاعة، لا بضاعته هو، بل بضاعة جاره الغائب، ويترك له الثمن على مقعده. أين في أوربا يستطيع المرء أن يشاهد مثل هذه الصفقة!؟

     ما مِن ريب أنها صورة شيّقة تلك التي شهدها المثقف الأوربي يومذاك في دمشق، صورة حملته على أن يؤدي في أبطالها هذه الشهادة القيّمة:

     لقد بدوا لي أباةً متواضعين، مرهفي المشاعر والأحاسيس، وإذا خاطبتهم بلسانك أضاءت عيونهم السوداء بابتسامة مفاجئة، ذلك أنهم لم يكونوا انطوائيين لا يهتمون إلّا بأمورهم الخاصة. يضاف إلى ذلك أنهم يحبون الغريب. لقد كانوا سادة عظاماً، متحفظين، ومستعدين مع ذلك لتقبل أمور الحياة جميعاً.

     وبعد تجوال فكري وجسدي طويلين، اهتدى الرجل إلى الإسلام، وكانت معايشته اليومية لنماذج من المسلمين أحسنت التعبير عن ولائها للإسلام، الباب المبارك الذي قاده إلى الهداية.
*****

حسين رؤوف.. والدعوة بالقدوة الحسنة

حسين رؤوف.. والدعوة بالقدوة الحسنة

     لقد كانت القدوة الحسنة وستظل أعظم وسائل الدعاة في دعوة الناس إلى الحق وهدايته إليهم، وإذا كانت حقيقةً مقررة أن تقول: إنها من أعظم أسباب انتشار الإسلام في فترة الفتوح وما بعد الفتوح، فإنها حقيقةٌ مقررة كذلك أن تقول: إنها اليوم أيضاً من أعظم أسباب انتشار الإسلام، وإن شئت مزيداً من اليقين فادْرُسْ سِيَر المهتدين في عصرنا هذا.

     حسين رؤوف يصلح شاهداً على هذه الحقيقة، لقد كان هذا الرجل، وهذا هو اسمه بعد أن ترك المسيحية واهتدى للإسلام، مصلحاً اجتماعياً ومِن خيرة شباب الإنكليز المثقف. ولد الرجل لأبوين أحدهما يهودي والآخر كاثوليكي، ثم تربّى في مدرسة إنكليزية لم تترك في نفسه اهتماماً بالمسيحية، فاتجه إلى دراسة اليهودية فأنكر عليها أنانيتها المتعالية وازدراءها لأناس يشاركون اليهودية إنسانيتهم البشرية، ووجدها في النهاية طقوساً تشابه المسيحية في السطحية دون تأثير حي فعال في الروح الإنسانية. ثم عاشر المسلمين في لندن فشاهد من سلوكهم الذاتي ما طمأنه بداهةً إلى سمو دينهم المثالي الواقعي معاً، وقد تحدث عن ذلك فقال:

     وقد دُعِيتُ ذات يوم لمشاهدة الصلاة (يقصد صلاة المسلمين)، والمشاركة في تناول طعام الغداء الذي قُدِّمَ عقب صلاة العيد، وكان ذلك في عام 1945م؛ مما أتاح لي الفرصة لتأمل مجموعة دولية من المسلمين عن كثَب.

     لم تكن تلك المجموعة من العرب ولا من أي قومية أخرى، وإنما كانت تمثل مختلف أجناس الدنيا وطبقاتها الاجتماعية، وكان فيها شتى ألوان البشر، فقد التقيتُ ضمن هذه المجموعة بأمير تركي كما لقيت أناساً يمكن اعتبارهم في الحياة العملية من طبقة الشحاذين.

     وجلس هؤلاء وأولئك جميعاً يتناولون طعام الغداء بمناسبة العيد، بعضهم مع بعض، ولم تَبْدُ من الأغنياء أي بادرة تَنُمُّ عن التواضع المفتعل، كما لم تشمّ أي رائحة من النفاق المغرور بالنسبة للشعور بالمساواة التي كانت تنبعث من الرجال البيض وهم يتحدثون مع جيرانهم السود، ولم تَجْرِ أي محاولة للانسحاب أو الانعزال عن بقية البشر كما في اليهودية، كما لم أشاهد أي تعاظم مضحك من قِبل أي أحد منهم يتصنّع الفضيلة ويخفي الأثَرة. وهذا جو لم أعثر على مثله في مكان آخر، وحسبي أن أقول: إنني دخلت هذا الدين (يقصد الإسلام) بعد تفكير وتأمل، وبعد دراسة جميع الأديان الهامة في العالم.

     وفي مكان آخر يتحدث حسين رؤوف عن معاني المودة والكرم وحسن الضيافة التي وجدها لدى المسلمين فيقول: لقد سافرتُ إلى أقطار كثيرة في أنحاء العالم، وأُتِيحت لي فرصة كافية لملاحظة طريقة استقبال الأجانب في كل مكان، فلم أجد أحداً من أتباع الديانات الأخرى كالمسلمين في كرم ضيافتهم، وعطفهم على الغرباء المُبَرّأ من كل مصلحة.

     إن حسين رؤوف صاحب ذهن ذكي لمّاح، وهذا ما هداه إلى الأغوار العميقة بعد أن تجاوز السطح الخارجي وهو يغوص على الجواهر فيمن يتعرف إليهم من المسلمين. ولا غرابة إذن أن تجده يفرق بين التواضع الفطري السليم، وبين التواضع المُفتعل المُتَكلَّف، ويفطن إلى النفاق المغرور عند من يصطنع المساواة، والإخلاص النقي عند من يؤمن بالمساواة، ويلتزمها التزاماً جادّاً لا يعرف الغش والكذب والتمثيل.
***

     ومن خير الشهادات –في الصدد الذي نحن فيه– شهادة البارون عبد الله أرشيبالد هاملتون، وهو مسلم إنكليزي بارز حمل لقب بارون من الدرجة الثانية، وشغل منصب قائد في سلاح الدفاع الملكي البريطاني. يقول الرجل:

     كان اعتناقي للدين الإسلامي تلبية خالصة لما يمليه ضميري، ومنذ ذلك الحين وأنا أحس أني رجل أفضل، وأصبحتُ إنساناً حقيقياً. ليس هناك أي دين من الأديان تعرض لمثل ما تعرض له الإسلام من إساءة، ولكن.. يا ليت قومي يعلمون!.. أن الإسلام يمنح القوة للضعيف والغِنى للفقير.

     ويتحدث الرجل عن السلوك الإسلامي حديث المشاهد المتأمل، فيقول:

     لا أحسب أني بحاجة كبيرة إلى الحديث كثيراً عن مبدأ الأخوة العالمية بين البشر في الإسلام، فهذه حقيقة مُسلَّمٌ بها، إذ إن الأمير والحقير، والغني والفقير كلهم سواسية، وإني ألمس دائماً هذه الروح الكريمة بين إخواني المسلمين، كما أثق بحديثهم، فقد لقيت منهم كل معاملة عادلة كرجل عادي، وأخ لهم، كما تكرّموا عليّ أعظم الكرم، واستضافوني أحسن الضيافة، فأنا أشعر دائماً أني واحد منهم.
*****

الأكثر مشاهدة