الخميس، 7 يوليو 2022

أفحكم الجاهلية يبغون!؟

أفحكم الجاهلية يبغون!؟

     قال الأستاذ الشهيد سيد قطب -رحمه الله- في تفسيره المشهور "في ظلال القرآن"، وهو يفسّر قول الله عز وجل: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].

     الجاهلية ليست فترة تاريخية، إنما هي حالة توجد كلما وُجِدت مقوماتها في وضع أو نظام، وهي في صميمها الرجوع بالحكم والتشريع إلى أهواء البشر لا إلى منهج الله وشريعته للحياة، ويستوي أن تكون هذه الأهواء أهواء فرد، أو أهواء جماعة، أو أهواء طبقة، أو أهواء أمة، أو أهواء جيل كامل من الناس، فكلها ما دامت لا ترجع إلى شريعة الله أهواء.

     يشرّع فرد لجماعة فإذا هي جاهلية لأن هواه هو القانون أو رأيه هو القانون، لا فرق في العبارات. وتشرّع طبقة لسائر الطبقات فإذا هي جاهلية لأن مصالح تلك الطبقة هي القانون. ويشرّع ممثلو جميع الطبقات وجميع القطاعات في الأمة لأنفسهم فإذا هي جاهلية لأن أهواء الناس الذين لا يتجردون أبداً من الأهواء، ولأن جهل الناس الذين لا يتجردون أبداً من الجهل هو القانون. وتشرّع مجموعة من الأمم للبشرية فإذا هي جاهلية لأن أهدافها هي القانون أو رأي المجامع الدولية هو القانون.

     ويشرّع خالق الأفراد وخالق الجماعات وخالق الأمم والأجيال للجميع فإذا هي شريعة الله التي لا محاباة فيها لأحد على حساب أحد، لا لفرد ولا لجماعة ولا لدولة ولا لجِيل، لأن الله ربُّ الجميع، ويعلم حقيقة الجميع ومصلحة الجميع، فلا يفوته سبحان أن يرعى مصالحهم وحاجاتهم بدون إفراط ولا تفريط. ومن هنا خطورة هذه القضية في حياة بني الإنسان وفي نظام الكون كله، وصدق الله العظيم: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون:71]، فالحكم بغير ما أنزل الله معناه الشر والفساد والخروج في النهاية عن نطاق الإيمان بنص القرآن.

*****

الأربعاء، 6 يوليو 2022

الطريق إلى الغاية النبيلة

الطريق إلى الغاية النبيلة

     قال الكاتب الكبير سيد قطب رحمه الله:

     من الصعب عليّ أن أتصور كيف يمكن أن نصل إلى غاية نبيلة باستخدام وسيلة خسيسة!. إنّ الغاية النبيلة لا تحيا إلّا في قلبٍ نبيل، فكيف يمكن لذلك القلب أن يطيق استخدام وسيلة خسيسة، بل كيف يهتدي إلى هذه الوسيلة!؟

     إننا حين نخوض إلى الشط الممرع بركة من الوحل، لا بد أن نصل إلى الشط ملوّثين. إن أوحال الطريق ستترك آثارها على أقدامنا وعلى مواضع هذه الأقدام، كذلك الحال حين نستخدم وسيلة خسيسة. إن الدنس سيَعْلَقُ بأرواحنا، وسيترك آثاره في هذه الأرواح وفي الغاية التي وصلنا إليها.

     إن الوسيلة في حساب الروح جزء من الغاية، ففي عالم الروح لا توجد هذه الفوارق والتقسيمات. الشعور الإنسانيّ وحده إذا أحسّ غاية نبيلة لن يطيق استخدام وسيلة خسيسة، بل لن يهتدي إلى استعمالها بطبيعته.

     الغاية تبرر الوسيلة، تلك هي حكمة الغرب الكبرى لأن الغرب يحيا بذهنه، وفي الذهن يمكن أن توجد التقسيمات والفوارق بين الوسائل والغايات.

*****

الإصلاح والتربية

الإصلاح والتربية

     على الرغم من فكرة الإصلاح تستهوي كثيراً من الناس، وتُعجب بها طوائف كثيرة من البشر، وتنجذب إليها عن رغبة صادقة في الخير، ورجاء حقيقي نبيل في تحقيق الإصلاح بالفعل، وعلى الرغم من ذيوع هذه الفكرة وتداولها بين الناس واستمرار الحديث عنها في صور شتى وأشكال متباينة، فإن هذه الفكرة لم تحظَ عند الكثيرين بالفهم العميق الجاد، والدراسة المتأنية البصيرة، فضلاً عن أن تستحيل لديهم من فكرة نظرية إلى خطة عملية قابلة للتطبيق في واقع الحياة العملي.

     إن إصلاح الأمم والأفراد أمر عسير حقاً لا يجيء جزافاً ولا يتحقق عفواً، ولا يتم بجهد يسير ولا يمنح قياده لكل مُطالِب به حتى لو كان هذا المُطالِب به حسن النية صادق الرغبة فيما يفعل ويقول ويدعو إليه، ذلك أنه لا بد للإصلاح كي يتم من مُصْلِحٍ مخلص بصير، ومن عمل دائب صبور، ومن جهد متكامل متوازن، بحيث يحقق المصلح من خلال ذلك تربية عميقة أصيلة تبعد السلبيات، وتزيد الإيجابيات، وتدفع بحركة الإصلاح إلى الأمام.

     والأمة -فضلاً عن الفرد- لا تنهض من كبوة، ولا تقوى من ضعف، ولا ترتقي من هبوط، ولا تنجو من عيوب، إلّا بعد تربية أصيلة متكاملة، عميقة حقة، جادة ذكية. وقد تبدو التربية أمراً سهلاً لكنَّ هذا في الواقع خطأ كبير، فالتربية الهادفة التي نطلبها هي أشقُّ عمل في هذه الحياة على الإطلاق، وشتان بين تربية النفوس وإنمائها وصقلها، وتهذيبها والسموّ بها، وتفجير طاقاتها وإمكاناتها، وإنقاذها من عيوبها، وزرع الفضائل والمكرُمات فيها، وبين أي عمل آخر مثل إنشاء المباني وإقامة الجسور وشق الطرقات وتشييد المباني، بناء السدود، فذلك كله وإن كان لازماً ونافعاً ومطلوباً أقل بكثير من تربية الناس، أفراداً وأمماً، أقل من حيث الثمرة المطلوبة، وأقل من حيث الجهد المبذول.

     وإذن فإصلاح الأمم لا يتم إلا بتربية صادقة متكاملة، متناسقة متوازنة، تُحدِثُ فيها التغيير النفسي العميق، وتغوص بعيداً في الأعماق، وتحوّل الهمود إلى حركة، والغفوة إلى صحوة، والركود إلى يقظة، والفتور إلى عزيمة، والقعود إلى طاقة فعّالة بنّاءة، وتُوَزَّعَ الاهتمامات وتشتتها وتفرقها، إلى وجهة محددة بدقة، عرفت وسائلها بدقة وحددت طرقها التي تقود إليها. تربية تحوّل الوجهة والأخلاق والميول والعادات، وتهذب الغرائز والرغبات، وتُحدِث تبديلاً عميقاً جداً في حياة الأمة يجعل إمكاناتها تتدافع في طريق الخير والحق على كافة المستويات، وبدون ذلك يكون الإصلاح كذباً ولهواً، والنهضة حبراً على ورق، وشعارات التطوير والتنمية والرقي وما إلى ذلك كلاماً أجوف يتبدد في الهواء.

     ولقد قرر القرآن الكريم سنة قائمة ثابتة من سنن الله عز وجل في هذه الحياة ... وذلك في الآية الكريمة المعجزة، الوجيزة جداً، الغنية جداً: ﴿إِنَّ اللّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، فبدء التغيير إذن يكون من داخل النفس الإنسانية قبل أي شيء آخر، ولكن هذا التغيير ليس بالأمر السهل الهيّن، إنه عبء ثقيل شاق وإنْ كان عبئاً نبيلاً، تنوء به الكواهل، وتعيا دونه الهمم، ما لم تستند إلى القوة التي لا تنفد، والمعين الذي لا ينضب، إلى الإيمان، ذلك أن الإنسان مخلوق مركّب معقّد جداً، ومن أصعب الصعب تغيير نفسه وسلوكه وقلبه، لكنه إن تم تغييره وفقاً لتعاليم الإيمان الخيّرة، جاء الإصلاح الحقيقي الجاد، والتربية المنشودة المأمولة، وتدفق منه العطاء النافع المبارك، وصحّت مسيرته، واستقامت طريقته، وعاد بالنفع على نفسه، وعلى مَنْ حوله، وعلى جماعته وبلده.

     ولا شك أن التحكم في مياه نهر كبير، أو تحويل مجراه، أو حفر الأرض، أو نسف الصخور، أو شق الطريق، أو بناء المعامل والسدود، أو أي تغيير في معالم الكون المادي أسهل بكثير من تغيير النفوس وصياغة القلوب والعقول، فبناء تلك الأشياء المادية أمر سهل حين تتوفر أدواته ووسائله، أما بناء الإنسان فهو أمر شاق حقاً.

     إن من العسير الصعب الشاق حقاً أن تبني الإنسان، الإنسان القادر على نفسه، المسيطر على رغباته ونوازعه، الموجّه لطاقاته في سبيل الخير، النائي بمحض اختياره عن الشرور، الملتزم بإرادته الحرة بالفضائل والمكرمات، المتحكم في شهواته، المحدد لغايته ووسيلته معاً، الذي يؤدي واجبَه قبل أن يطلبَ حقه، الذي يعرف الحق ويتبناه ويدافع عنه، ويعرف الخير ويحبه لنفسه، ويحبه للناس كذلك، الذي يتحمل مسؤولية في إصلاح الفاسد وتقويم المعوج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

     إن صياغة مثل هذا الإنسان أمر شاق جداً، صعب حقاً، ثقيل وعسير، لكنه بالرغم من كل ذلك أمر مطلوب وممكن:

     مطلوب لأن الفائدة المرجوة منه بعد تمامه عظيمة جداً، تعوّض كل الجهد المبذول، وتقدم محصولاً عظيم النفع للفرد وللجماعة، بل وللإنسانية كلها.

     وممكن لأنّ مفتاحه موجود، وهو الإيمان، الإيمان الذكي البصير الجاد، المترفع عن السفاسف، المتوجه إلى الله عز وجل فيما يفعل، إنه هو المفتاح القادر على ذلك، ولقد حققه بالفعل في صورة جماعة بشرية متكاملة مثالية هي صورة المجتمع الإسلامي الأول، وفي صور فردية متألقة، تظل تظهر بين الحين والآخر، لتكون شواهد صدق على مقدرة الإيمان على تربية الرجال، وإعدادهم إعداداً مشرفاً في غاية التألق والسمو، والنفع والإيجابية.

*****

العقاد وسرُّ بقاء العربية

العقاد وسرُّ بقاء العربية

     قال الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد رحمه الله وهو يتحدث عن سر بقاء اللغة العربية بينما بادت لغات كثيرة ساد ذووها حيناً من الدهر:

     لقد قيل كثيراً: إن اللغة العربية بقيت لأنها لغة القرآن الكريم، وهو قول صحيح لا ريب فيه، ولكن القرآن الكريم إنما أبقى اللغة، لأن الإسلام دين الإنسانية قاطبة، وليس بالدين المقصور على شعب أو قبيل، وقد ماتت العبرية وهي لغة دينية، أو لغة كتاب يدين به قومه، ويحسبون أنهم وحدهم المخصوصون بالخطاب من عند الله، ولم تمت العبرية إلا لأنها فقدت المرونة التي تجعلها لغة إنسانية، وتخرجها من حظيرة العصبية الضيقة، حيث وضعها أبناؤها منذ قرون.

     إن هذه الفضيلة الإنسانية التي لا تفرق بين العربي والأعجمي، ولا بين القرشي والحبشي، لهي التي أنهضت لخدمة اللغة أناساً من الأعاجم غاروا عليها من حَيْف الأعجمية، أي غاروا عليها من لغة أمهاتهم وآبائهم، لأنها "أي العربية" لغتهم على المساواة بينهم وبين جميع المؤمنين بالقرآن الكريم، كتاب الإسلام، ولو كان هذا الكتاب عصبياً لا يشرك في تراث الدين أحداً غير أبناء لغة من اللغات، لما جاءت الغيرة عليه من الأعاجم كما جاءت من أبناء قحطان وعدنان.

     ونحن معاشر المتكلمين بالعربية في عصرنا، نسير على نهج الأقدمين في خدمتها كلما حرصنا على قواعدها، وحرصنا إلى جانب القواعد على مرونتها، وعلى مزيتها الكبرى من قبول التجديد والموافقة لمطالب بني الإنسان في جميع العهود.

     وستبقى اللغة العربية ما دام لها أنصار يريدون لها البقاء، ولم ينقطع أنصارها في عصرنا الحاضر، بل نراهم بحمد الله يزدادون ويتعاونون، ويتلاقى أبناء البلاد المختلفة على خدمتها ودعمها، لأنهم مختلفون بمواقع البلاد، متفقون بمقاصد الضمائر والألسنة.

*****

خالد محمد خالد بين موقفين

خالد محمد خالد بين موقفين

     في شهر رمضان من عام 1397هـ (1977م) كتب الأستاذ خالد محمد خالد مقالاً في جريدة الأخبار في القاهرة أعلن فيه أن الإسلام دينٌ ودولة، وقبل ذلك التاريخ بأكثر من ربع قرن، كان قد أعلن في كتابه "من هنا نبدأ" قوله: "إن الدين لا يعنيه أن يكون دولة، ولا يعنيه أن يتدخل في بناء الدولة".

     ولا ريب في أنّ عدول الأستاذ المؤلف عن رأيه الأول المخطئ، عمل مشكور وشجاعة أدبية وخُلُق كريم من أخلاق العلماء.

     وحين سُئل عن ذلك أجاب: هذا رجوع عن رأيي وتصحيح له، والكاتب الأمين هو الذي لا يفتأ يراجع نفسه ويتقصّى أفكاره فإذا اكتشف فيها خطأ صحّحه وهتف به.

     وقال عن كتابه "من هنا نبدأ" الذي حمل رأيه الأول المخطئ:

     الكتاب سيظل كما هو كتاباً مقروءاً ذلك لأنه لم يقتصر على قضية الحكم في الإسلام فحسب، بل هو ينتظم قضايا أخرى لا تزال لها أهميتها ولم يتغير رأيي فيها، وسيبقى الكتاب كما هو شاهداً على مسار التفكير وتطوره عند المؤلف وعند عصره، بيد أني في الطبعات التالية من الكتاب سأصدرها برأيي الجديد مع تفنيد الرأي القديم وطرحه من الحساب.

     وحين سُئل عن تصوّره للإسلام ديناً ودولة كيف هو هذا التصوّر أجاب:

     الإسلام دينٌ متكامل وشريعة عميمة شاملة، جاء ليعطي الإنسان منهجه، روحاً ومادة، فرداً ومجتمعاً ودولة. إنّ النصّ القرآني ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: 26]، يشير إلى ما يمكن أن نسمّيه الوظيفة السياسية للأنبياء والمرسلين، إنه أمر بتحمل أعباء الخلافة والحكم.

     ونحن حين نقول الإسلام "دين ودولة" لا نهضم الدولة بل نرفع من قدرها إذ نضعها في كنف الله العلي القدير وفي صحبة قوانينه وكلماته. وحين نتقبل من الأنبياء رعايتهم السياسية إنما نأوي إلى ركن شديد ونصوغ حياتنا في أحسن تقويم.

     إن الفقه الإسلامي لم ينل من الأمة المسلمة حتى الآن ما يستحقه من ولاء وهو كفيل بإغنائها عن كافة القوانين الدخيلة في غير تخلف أو جمود.

*****

العرب والمُلْك

العرب والمُلْك

     "إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية، بسبب خُلُق التوحش الذي فيهم، فهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة، وبعد الهمة، والمنافسة على الرئاسة فقلّما تجتمع أهواؤهم، فإذا وُجِد الدين كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة فيهم، فيسهل انقيادهم ويتم اجتماعهم، ويحصل لهم التغلب والملك، وهم مع ذلك أسرع الأمم قبولاً للحق والهدى، لسلامة طباعهم من ذميم الأخلاق". (مقدمة ابن خلدون).

     "وكم استنجد أهل غرناطة!.. كم استصرخوا إخوانهم العرب والمسلمين في كل مكان!.. وكان الحل والإنقاذ في أيديهم لو أنهم اتفقوا فيما بينهم، لو نسي كل واحد منهم نفسه، لو ذكر كل واحد منهم أن الأمر يتعلق بمصير شعب وحضارة وعقيدة، إذاً لنجا الأندلس. ولكن كل شيء كان ممكناً إلا الاتفاق، كل شيء كان في نظرهم مقبولاً إلا أن يسلم أحدهم للآخر، كلهم أرادوا أن يكونوا ملوكاً، وفي أثناء الصراع ضاعت المملكة فأصبحوا متسوّلين مشرّدين". (د.حسين مؤنس: في كتابه "في رحلة الأندلس).

*****

شعراء ومشاعر

شعراء ومشاعر

     تزدحمُ المشاعر الكريمة، وتتدفق المعاني النبيلة في فؤاد الشاعر العربي القديم "معن بن أوس"، هو كالمقنع الكِندي أصالةً وشموخاً وارتفاعَ نفس في أبياته التي يقدمها بين يدي ابن عمه دلالةً على الوفاء والإخلاص.

     هو المعنى الرائع الذي يتجاوز حدود "الأنا" الضيقة ليتصل برحاب المودة والعطاء وتَدَفُّقِ الوجدانِ بالخير، وازدحامِه بالنُبل، وارتفاعه على الصغائر.

     إنه يصفح عن الإساءة عسى أن يكون هذا الصفح سبيلاً إلى تطهير نفسه:

لعَــــمْرُكَ مـا أدري وإني لأوجــلُ     على أيِّنـــا تعـــدو المنيّــــــــةُ أوَّلُ
وإني أخـــوك الدائمُ العهـدِ لم أخنْ     إذا ســـاءَ خصمٌ أو نَبــــا بكَ منزلُ
أحاربُ مَنْ حاربتَ من ذي عداوة     وأحبـــسُ مالي إنْ غُرِمْتَ فأعقــلُ

     إنّ الشاعر يؤمل أن تصنعَ هذه الحسنى صنيعَها في قلب قريبة فتجعلَه يدركُ أنَّ شاعرَنا كنزٌ له، قوةٌ ومضاء، عدةٌ يقابل بها الحادثات، إنه يدُه اليمنى، وإنه سيقطعها ويخسرها إن تخلى عنه وأهمله:

وإن سُؤْتني يوماً صفحتُ إلى غدٍ     ليعقـــبَ يوماً منـــكَ آخرُ مُقبِــــلُ
كأنـــكَ تشفي منـكَ داءَ إســـاءتي     وسخطي وما في رِيبَتي ما تعجّلُ
وإني على أشيــــاءَ منك تَرِيبــني     قديماً لَذو صَفْحٍ على ذاك مجــملُ
سَتُقْطَعُ في الدنيا إذا ما قطعـــتني     يمينُـــكَ، فانظرْ أيَّ كفٍّ تبــــــدّلُ

     وهذا الاتجاه الكريم نجده عند شاعرٍ آخر يتجاوز مواضعَ الهوان والإسفاف، ويرنو ببصره إلى أفقٍ سامق كريم، تشده الأخلاق العالية، وتأسِرُ قلبَه فضائل الصفات فإذا به يرى أن العفو والتسامح زينةُ الفتى، وأنّ أحسنَ خلائقِه أن يبتعد بسمعه عن الفواحش حتى كأنّ في أذنيه صَمماً عن كلِّ قولٍ مشين.

     وهذا الفتى النبيل الذي يشدُّ ناظرَيْ شاعرنا "سالم بن وابصة الأسدي" سليمُ دواعي الصدر، لا يبسطُ أذى، لا يمنعُ خيراً، لا يقولُ سوءاً ولا هُجْراً. وهو إلى جانب ذلك عاقلٌ ماجد، كريمٌ حر، يلتمسُ الأعذارَ لزلةِ صديقه إذا أخطأ، غنيُّ النفس لا يذهبُ بلبِّه بريقُ الدنيا، ولا تهزُّ أعصابَه أكداسُ المال والذهب لأنه إذ ذاك سيتحولُ إلى فقيرٍ لا يشبع مهما ازداد مالُه كأن المتنبي بعينه يقول:

ومَنْ ينفق الساعاتِ في جمع ماله     مخـــافةَ فقرٍ فالـــذي فعَلَ الفقــــرُ

     يقول سالم بن وابصة الأسدي عن الفتى الذي يراه نموذجاً للفضائل التي يحبُّها ويتعشقُها:

أحبُّ الفتى ينفي الفواحشَ سمعُـــه     كـــأنَّ به عن كل فاحشـــةٍ وَقْـــرا
سليمُ دواعي الصدر لا باسطاً أذى     ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هُجْـــــرا
إذا شئتَ أن تُدْعى كريماً مكـــرَّماً     أديباً ظريفاً عاقلاً ماجداً حُــــــــرّا
إذا ما أتتْ من صـــــاحبٍ لكَ زلّةٌ     فكنْ أنتَ محتالاً لزلّتــــه عُـــــذرا
غِنَى النفسِ ما يَكْفيكَ من سَدِّ خَــلَّةٍ     فإن زادَ شيئاً عادَ ذاك الغنى فَقــرا

     ومن أروعِ نماذج هذا الاتجاه في الشعر العربي أبياتُ الشاعرِ الحماسي "الحارث بن وَعْلة الجرمي" إذْ قتلَ قومُه أخاه "أُمَيْماً"، فهو يتحملُ المرارةَ في أسى واصطبار، وشجاعةٍ ورجولة، فيلوذُ بخُلُقِ العفو والتسامح، ويعتصمُ بمعانيهما فتحميهُ فضائلها من لذةِ الانتقام، وشهوةِ البطش والثأر.

     إنّ سهمَه سيرتدُّ إليه إذا أطلقه نحوَ قومه، فهُمْ منه، وهو منهم، وستكونُ البليةُ أشدَّ وأنكى حينذاك:

قــومي هم قتلوا أُمَيْــــمَ أخي     فـإذا رميتُ يُصيبني ســهمي
فلئــنْ عفـــوتُ لأَعْفُوَنْ جَلَلَاً     ولئنْ سطوتُ لأوهِنَنْ عظمي
لا تـــأمننْ قوماً حقـــــــرتهمُ     وبدأتـــهمْ بالشتــــمِ والرَغْــمِ
أن يأبـــــروا نَخْلاً لغيـــرهمُ     والأمرُ تحقـــــرهُ وقـد يَنْـمي
وزعمتـمُ أن لا حلـــــومَ لنــا     إن العصا قُرِعَتْ لـذي الحِلْمِ

     لقد ارتقى الشاعر في أبياته هذه درجاتٍ رائعة في فضائل الرجال والكمال، وبلغ غايةً مشرفة منيفة في درجات قهر النفس والسيطرة على نوازعها.

     وفي موقف مشابه نلتقي بالشاعر العربي الذي قَتل أخوه ابناً له فأدركته الحيرة ولم يدرِ ما الذي يفعل، ثم وجدَ الخلاص في أن يراهما مثلَ يَدَيْنِ إحداهما أصابته بالأذى؛ فماذا يفعل بها؟ يقول:

أقولُ للنفس تَأْســــاءً وتعـــزيةً     إحدى يدي أصابتني ولم تُـــرِدِ
كلاهما خَلَفٌ عن فقدِ صــاحبِه     هذا أخي حينَ أدعوه وذا ولدي

     أمّا بشار بن بُرْد فإنه يصل إلى مستوى أبعدَ من ذلك، إذْ يجعلُ من معاني العفو والتسامح منطلقاً وقاعدةً يُبْنى عليها سلوكٌ حيوي، ويحاول أن يجعلَ من هذه القاعدة قانوناً يحكمُ بين الناس، وتقومُ عليه صِلاتُ الود والمرحمة والمحبة. فعلى المرء أن يغفرَ لصديقه زلّته، وألّا يبالغَ في تعقبِ أخطائه، ويلتمسَ له العذر، وإلّا فإنه سيجدُ نفسه وحيداً في خاتمة المطاف:

إذا كـنــتَ في كل الأمور معــــاتـباً     صديقَـــك لمْ تــلقَ الذي لا تعــــاتبهْ
فعِـــشْ واحداً أو صِلْ أخـــاك فإنـه     مقــــارفُ ذنـــــبٍ مرةً ومجــــانبهْ
ومن ذا الذي تُرْضى سجـــاياه كلها     كفى المرءَ نبـــــلاً أن تُعَدَّ معـــايبهْ
إذا أنتَ لم تشربْ مِراراً على القذى     ظمئتَ وأيُّ النـــاسِ تصفو مشاربهْ

     في شعرِنا العربي روائعُ خالدةٌ من الشعرِ الأصيل، وإنما يَغْفُلُ عنها جاهلٌ أو متجاهل.

     وجديرٌ بنا أن نلتقيَ بها ونتعرفَ إليها، وننظرَ بازدراء إلى أولئك الذين يحتقرون تراثَ أمتهم، ويقلدون الآخرين تقليدَ القردة لأنهم قبلَ كلِّ شيء مهزومون، مهزومون نفسياً وفكرياً وحضارياً. وإن التخلصَ من هؤلاء المهزومين خطوةٌ مهمةٌ جداً لا بد أن نقطعها ونحن نبحث عن الأصالة ونحثُّ الخطى نحو النهضة الصحيحة، ونرقبُ بشوقٍ عظيم وأعصابٍ مشدودة طلوعَ الفجرِ الصادق.

*****

وا إسلاماه!

وا إسلاماه!

     بلغت موجة التتار منتهى عنفها وزخمها وضراوتها عام 656هـ= 1258م؛ حين وصلت بغداد فاجتاحتها، وقتلت خليفة المسلمين فيها، وفتكت بالمدينة فتكاً ذريعاً جداً، فكانت نكبة بغداد عاصمة الخلافة من أفدح نكبات التاريخ وأشنعها.

     وبعد السقوط المريع لبغداد صار واضحاً جداً أن مركز الثقل الجديد لمقاومة التتار انتقل إلى القاهرة التي كان يتولى السلطة فيها أمير مملوكي شجاع هو السلطان المجاهد قطز؛ الملقب بالملك المظفّر، الذي يُعَدُّ بلا جدال مَعْلماً بارزاً من معالم الجهاد في تاريخ المسلمين.

     وامتدّت أنظار التتار إلى مصر، وكتبوا إلى قطز محذّرين منذرين، فأشار علماء المسلمين عليه ألّا يضيع الوقت، وأن يأخذ بأسباب الجد والاجتهاد والجهاد، وطالبوا بإعلان الجهاد، والأخذ بزمام المبادرة لأنه "ما غُزِيَ قومٌ في عقر دارهم إلا ذلّوا"[1]، ولأن اتباع مبدأ "ذات الشوكة"، وملاقاة العدو هو الحل المشرّف لسلطان القاهرة وساكن القلعة.

     وانتشر العلماء في البلاد يزيلون أركان الوهن والفساد، ويطهّرونها من الضعف والترف، ويجتثّون منها كل ما يُغضب الله عز وجل، ويحرّكون وجدان الأمة وضميرها بعقيدة التوحيد وراية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويحثّونها على الجهاد، ويشجّعونها على البذل والفداء.

     وحين اكتملت العدة عبرت جيوش الإسلام بقيادة قطز وحوله العلماء وقادة المماليك سيناء تسبقهم فرق خاصة من الفدائيين كانت تُعرف باسم "الجهادية". ودخلت هذه الجيوش بلاد الشام الجنوبية باسم الله وعلى بركته، وعلى نيّة الجهاد في سبيله، وعَفَّرَ قطز وأمراء المماليك وجوههم بالتراب سائلين الله عز وجل أن يكتب النصر للإسلام والمسلمين.

     وكانت "وا إسلاماه" صرخة الحرب وشعارها وهتافها المدوّي، كانت تهزّ القلب، وتفجّر الشجاعة، وتستنهض العزيمة، وتستثير كوامن البطولة وحبّ الموت. كانت "وا إسلاماه" كلمة وعى حقيقتها ومغزاها البربريُّ والسوداني، والتركي والعربي، والكردي والفارسي، وغيرهم من مختلف الألسن التي ضمّها جيش الإسلام الماجد يومذاك.

     وفي الثالث من أيلول/ سبتمبر (1260م= 658هـ) دارت رحى معركة عين جالوت قاسية عنيفة رهيبة، وانتصر الإسلام نصراً حاسماً خالداً. ودُفِنَ في ساحة المعركة ذلك القول الانهزامي الاستسلامي الذي سار من أقاصي آسيا إلى بلاد الشام وهو "إذا جاءك أن التتار انهزموا فلا تصدّق".

---------------
[1] قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تعليقٍ له على مقالة الشيخ أحمد شاكر حول تصحيح الكتب (ط: دار البشائر الإسلامية، بيروت): هذا من قول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في خطبة طويل. وجاء في رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية إلى السلطان الملك الناصر (ص16) مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالله أعلم بثبوته. اهـ. https://al-maktaba.org/book/31615/32132

صلاح الدين الأيوبي.. الوجه الآخر

صلاح الدين الأيوبي.. الوجه الآخر

     كلما ألمّت بالمسلمين نكبة، من النكبات العسكرية خاصة، فزعوا إلى تاريخهم يتذكرون أبطاله العظام الذين صنعوا لهم انتصارات رائعة ومذهلة، كخالد والمثنى، وسعد وأبي عبيدة، وعقبة وطارق، وقطز والظاهر، ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم.

     ولعل أكثر شخصية من هؤلاء تقفز إلى دائرة الاهتمام في الحس الإسلامي إبّان الظروف القاسية، هي شخصية القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي، ذلك أن الرجل ظهر في ظروف قاسية كانت تحيط بالمسلمين وتفتك بهم، داخلياً وخارجياً. أما العدو الصليبي فقد كان في عزّ قوته وغلبته وغطرسته ولم تلبث حال المسلمين أن انتقلت على يد صلاح الدين إلى الأفضل فالأفضل باستمرار، حتى كان مسك الختام أن حرر القدس من يد الصليبيين بعد أن امتدت سيطرتهم عليه قرابة قرن من الزمان.

     وإذن فإنه من البدهي أن تحتل شخصية صلاح الدين في نفوس المسلمين طوال عصورهم، وإبّان الفترات القاسية منها خاصة، مساحة كبيرة من الاهتمام والتعلق والتشبث لا تحتلها شخصية أخرى، وإنه من البدهي أيضاً أن يكون اهتمام مسلمي اليوم، وتعلقهم وتشبثهم بصلاح الدين، يحتل مساحة كبيرة، ويأخذ حجماً واسعاً، ذلك أن القدس التي حررها صلاح الدين، قد وقعت أسيرة بيد اليهود، وهي تنتظر بطلاً كصلاح الدين، يحررها من بغي اليهود ودنسهم ويعيدها إلى الراية المسلمة.

     أمّا بطولة صلاح الدين العسكرية، وأمّا جوده ونُبْله، وأمّا إيثاره وعلوّ نفسه؛ فهي أمور مشهورة جداً، ذائعة في الشرق والغرب على السواء، لكنّ غير الذائع هو وجهه الآخر الذي لا يكاد يعرفه الناس وهو ما نحاول جلاءه الآن.

     يقول القاضي بهاء الدين بن شداد عن صلاح الدين، وقد كان قاضي عسكره، وملازمه في حله وارتحاله، وكاتب سيرته:

     كان شديد المواظبة على الصلاة بالجماعة، حتى ذكر يوماً أن له سنين ما صلى إلّا جماعة، وكان إن مرض يستدعي الإمام وحده، ويكلف نفسه القيام ويصلي جماعة. وكان يواظب على السنن الرواتب، وكانت له ركعات يصليها إذا استيقظ بوقت في الليل، وإلّا أتى بها قبل صلاة الصبح، ولقد رأيته يصلي في مرضه الذي مات فيه، وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى. وأما صدقة النفل فإنها استنفدت جميع ما ملكه من الأموال، فإنه ملك ما ملك، ومات ولم يخلّف في خزانته إلّا سبعة وأربعين درهماً، وديناراً ذهبياً واحداً، ولم يترك داراً ولا عقاراً، فجُهِّزَ وأُخْرِجَتْ جنازته بالدَّيْن وهو ما يؤكده القاضي ابن شداد ويُقسم عليه.

     وكان يجلس للعدل كل اثنين وخميس، وكان يستقرئ من يحضره في الليل الجزأين والثلاثة والأربعة من القرآن الكريم وهو يستمع، وكان شديد الرغبة في سماع الحديث الشريف، وكان الجهاد وحبه، والشغف به، قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاءً عظيماً، بحيث ما كان له حديث إلّا فيه، ولا نظر إلّا في آلته، ولا كان له اهتمام إلا برجاله، ولا مَيْلَ إلا لمن يذكره ويحث عليه.

     وقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده، وسائر ملاذه، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تتقاذفها الرياح يمنةً ويسرة، ولقد وقعت عليه الخيمة في ليلة ذات ريح شديدة، ولا يزيده ذلك إلا رغبة ومصابرة واهتماماً. وكان الرجل إذا أراد التقرب إليه، حثّه على الجهاد، أو ذكّره بأخبار الجهاد، ما استكثر عدواً قط ولا خافه، ولا فقد أعصابه في هزيمة ولا ظفر، وكان اعتماده على الله تعالى.

     ذلكم هو الوجه الآخر لصلاح الدين، الصلاة والقرآن، والذكر والجهاد، والصدقة والثبات، والعدل والإخلاص. وإنّ هذا الوجه المشرق الذي يكاد يكون مجهولاً من أكثر الناس، هو سبب ظهور ذلك الوجه المعروف، وجه الحرب والنبل والغلبة والانتصار، والمروءة والأريحية.

     لقد انتصر صلاح الدين على نفسه؛ قبل أن ينتصر على أعدائه، لقد حرر نفسه وجيشه وأمته من الشوائب، وجعلها ملأى بالعقيدة الصحيحة والإيمان القوي؛ قبل أن يحرر القدس من النصارى الصليبيين. لقد هزم في نفسه الشح والأثَرَة والإخلاد والتواكل والسفاسف والدون؛ قبل أن يهزم في ديار المسلمين الفرقة والشتات، والبدع والفساد، والكفر والضلال. وإن معركته الكبرى التي خاضها في أعماق نفسه هي التي مهّدت له السبيل إلى الفوز في المعارك الكبرى التي خاضها بغية توحيد ديار المسلمين وطرد الصليبيين المعتدين.

*****

الزنكيَّان والأيوبيُّ والحروب الصليبية

الزنكيَّان والأيوبيُّ والحروب الصليبية

     كان دخول الصليبيين ديارَ الإسلام، وإقامتهم أربع دول فيها نكبة كبرى أصيب بها العالم الإسلامي. فقد قامت حكومات هؤلاء الغزاة في قلب ديار الإسلام، أما المسجد الأقصى فقد حُوِّلَ إلى كنيسة، وأما القتل فقد كان صعباً مرعباً. وحسبك أن تعلم أنَّ الغزاة حين اقتحموا القدس، وتوجَّهوا إلى الأقصى ذبحوا فيه سبعين ألفاً، حتى علت دماء الشهداء؛ فإذا بخيول الغزاة تخوض فيها حتى رُكَبِها كما جاء في رسالة بعث بها بعض المنتصرين إلى أوربا يصفون فيها ما كان من أمرهم في يوم الاقتحام الدامي المشهور.

     حدث هذا كله، وكان بلا ريب نكبة عظمة، وكارثة كبرى، لكن المسلمين أفاقوا من روعة الذبح المستمر، والغفلة والفرقة، وعادوا إلى مصدر قوتهم، وسر انتصارهم، ومفتاح شخصيتهم، عادوا إلى الإسلام فصححوا أخطاءهم، وأقاموا طريقهم على هدي كريم، من هدي الإسلام، فإذا بالحال يختلف، وإذا بموجة امتداد الأعداء وانحسار المسلمين تتوقف، وإذا الأمر ينعكس، فيبدأ المسلمون في الامتداد، ويأخذ الصليبيون بالانحسار، ويحدث في التاريخ ما سمي بحركة الاسترداد، أي استرجاع المسلمين لبلادهم وتطهيرها من رجس الغزاة.

     فمنذ أن ظهر الزنكيان العظيمان، عماد الدين زنكي الذي استعاد الرُّها من الصليبيين، وابنه نور الدين زنكي، الذي أكمل جهاد والده، بل ومن قبل ذلك ببعض الوقت بدأ المد الإسلامي ونشطت حركة الاسترداد، أي أن ذلك تمَّ منذ أن قررت الأمة الإسلامية أن تجاهد، وتركت الراحة الكسلى، والقعود الكئيب، والحلول الاستسلامية الانهزامية، وقررت أن تكون على مستوى إسلامها، فتنهض بالجهاد وأعبائه خير نهوض، وتلتمس في ذلك معين القوة الذي يتدفق فيها فيمدها بالعزيمة والهمة والحركة، وتكتشف خلال ذلك كله حقيقة نفسها ومفتاح شخصيتها، إذ تعود للإسلام وتحرص على الاستمساك به، وعندها يكون لديها من البديهي المقرر أن تجاهد لتطهر أرضها من الغزاة الظالمين.

     ويشهد التاريخ أن الأمة المسلمة منذ أن قررت القتال لم تسترح، وبذلت الكثير من التضحيات، لكنَّ كل ما بذلته كان أقل مما خسرته يوم هانت وتنكبت سبيل الجهاد، وصدق مَنْ قال: ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، هذه واحدة.

     أما الثانية فهي أنها حين قررت أن تجاهد، ارتفعت إلى مسؤولية إسلامها، وهذا فوز عظيم لها عند ربٍّ كريم، وهذا يؤكد ما نقوله دائماً من أن الإسلام سبيلُ سعادتنا في الدين والدنيا معاً، فها هم المسلمون إذ طفقوا يجاهدون الصليبيين، أثبتوا جدارتهم بإسلامهم من ناحية، فإذا بهم يغلبون العدو، ويكون لهم النصر المظفر في دنياهم، فضلاً عن أمل الفوز في أخراهم عند رب العالمين من ناحية ثانية.

     وتنقلت راية الجهاد الإسلامي من الزنكي الأب عماد الدين، إلى الزنكي الابن نور الدين، ثم انتقلت من نور الدين إلى صلاح الدين الأيوبي، الذي شاء الله تعالى أن يكتب على يديه أعظم فصول مرحلة الاسترداد، وهو معركة حطين وفتح بيت المقدس. لم يرهبْ صلاحُ الدين خطورةَ المعركة قط، ولم يخشَ أن أوربا كلَّها وراءَ عدوِّه اللدود، بل اعتصم بالله تعالى، واستمدّ منه العون، ثم أخذ يبذل كل جهوده، ويحشد كل ما يقدر عليه من وسائل وإمكانات وأسباب، ولجأ إلى الإسلام سرِّ قوة المسلمين ومفتاحِ شخصيتهم، ورفعَ رايةَ "وا إسلاماه"!.. فامتصَّ الهزائم، وانتقل من نصر إلى نصر، وزحف عام 583هـ= 1187م إلى حطين، حيث قصم ظهر العدو هناك، وفي العام نفسه فتح بيت المقدس.

     عادت القدس إلى المسلمين من جديد، وعاد المسجد الأقصى إلى ما كان عليه من قبل، ودوّى الأذان من جديد، وعبقتِ الأرض ريّا الساجدين، وضاعَ في الجو عِطْرُ الجُمَعِ الحسان، بعد انقطاعٍ دام حوالي قرن من الزمن.

     وبعد صلاح الدين واصل مَنْ خَلَفَهُ من الأيوبيين والمماليك تطهير ما بقي من ديار الإسلام بأيدي الصليبيين، حتى استرجع قلاوون في آخر الأمر عكّا، ولم يبقَ للعدو في البلاد شيء قط.

     ترى أثمةَ شكٌّ في أنَّ هذه الانتصارات العظيمة إنما تعود إلى الإسلام، دين الله الخالد المحفوظ، سبيلِ سعادتنا، وموئلِ فخارنا، وسرِّ قوتنا، ومفتاحِ شخصيتنا!؟

*****

الأكثر مشاهدة