الثلاثاء، 22 أغسطس 2023

إسلام الياباني الدكتور شوقي فوتاكي (1)

إسلام الياباني الدكتور شوقي فوتاكي
(1)

     تدل دراسة أحوال الشعب الياباني، وتفحص ظروفه المختلفة، أنه ميدان خصيب للدعوة الإسلامية، إذا توجّهت نحوه جهودٌ تجمع الصدق والوعي، والشواهد على هذه الحقيقة كثيرة متنوّعة، ودلالتها واضحة في غاية النقاء والوضوح والصراحة. وفي توقّفنا مع الدكتور شوقي فوتاكي، الطبيب الياباني المشهور، الذي أسلم مؤخراً، دليل على تلك الحقيقة، وعلى غيرها من حقائق الإسلام الأساسية.

     يقول الدكتور شوقي عن نفسه: إنه كان يؤمن بالأمور الروحية منذ صغره، وحين أُتيحت له فرصةُ التعرف إلى الإسلام خاصة منذ عامين ماضيين، عن طريق صديقه أبي بكر موريي موتو؛ اقتنع أنّ ما يؤمن به من أمور روحية، قريب من الإسلام، ووجد الإسلام يروي ظمأه الروحي فأسلم.

     والدكتور شوقي ليس رجلاً عادياً، بل هو طبيب مشهور في طوكيو يتردد على المستشفى الذي يديره حوالي عشرة آلاف شخص، ويحظى بسمعة اجتماعية ممتازة في الخير، ومحبة مَنْ يتعاون أو يعمل معه، ومن يتردد على مستشفاه.

     ونظام الضمان الصحي في اليابان يجعل الدولة تلتزم بـ70% من نفقات العلاج، بينما يتحملُ المريضُ الباقي، وهو 30% من تلك النفقات. والمرضى الذين يأتون للعلاج عند الدكتور شوقي يتنازل لهم عن الـ30% مكتفياً بالـ70% التي يأخذها من الحكومة، وهذا دليل على شخصية الدكتور شوقي ونفسيته الخيّرة، وهو أيضاً أحد الأسباب التي تفسّر الشعبية الواسعة التي يتمتع بها والتي يحاول الآن توظيفها لصالح الإسلام.

     وقد شعر الدكتور شوقي بعد أن هداه الله تعالى للإسلام، بواجبه في نشر الدعوة الإسلامية وإبلاغها لذويه، وهذا نابع من إخلاصه وحسن فهمه، ونابع كذلك من شعور الاعتزاز بالإسلام، والفخار بالانتماء إليه، وهو شعور نبيل واثق يمتلك على الدكتور شوقي اهتماماته ومطامحه في هذه الفترة. لذلك تراه حريصاً على اغتنام أي فرصة مواتية لإبلاغ الإسلام لبني قومه.

     لقد التقى بصديقه الذي يعمل مديراً لإحدى الجامعات المهمة في اليابان، المرّةَ بعدَ المرّة، وهو لا يفوّتُ واحدة من هذه المرات دون أن يدعو صديقه للإسلام. ويتفنن الدكتور شوقي في طريقة الدعوة ووسائلها، وقد أسلم بسبب جهوده أكثر من 200 شخص مؤخراً، علماً أنه أسلم منذ عدة سنوات فقط، ومع ذلك يقول: نحن نخجل من هذا العدد القليل الذي اهتدى إلى الإسلام.

     وقد نشرت مجلة شيوكان شينتيو، وهي مجلة مشهورة في اليابان مجموعة من الصور الملتقطة في مسجد طوكيو لعدد من المسلمين الجدد الذين هداهم الله تعالى على يد الدكتور شوقي فوتاكي، وفي هؤلاء رجال، وفيهم نساء، بل وفيهم أطفال رضّع، حيث جاء البعض بأولادهم الصغار، وأطفالهم الرضّع في يوم الإسلام الجماعي في مسجد طوكيو.

     كانت النسوة بالثياب البيضاء في الدور الثاني من المسجد ومعهنّ الصغار والأطفال، وكان الرجال في الدور الأرضي منه. وبعد صلاة الجمعة تقدم المهتدون الجدد واحداً واحداً يختارون الأسماء الإسلامية، حيثُ كانت أُعِدَّتْ لهم قوائمُ مسبقة بها، مع ترجمة لمعانيها، ليختار كل منهم الاسم الذي يروق له، وكان الجميع في منتهى السعادة.

     قال أحد المسلمين الجدد: لقد أسلمتُ اليوم بفضل الله تعالى، ثم بفضل الدكتور شوقي فوتاكي وهو أستاذنا الكريم، ولا بد أن أدرس الدين الإسلامي دراسة عميقة حتى أكون مسلماً عظيماً، وأسأل الله تعالى أن يسهّل لي ذلك.

     وقال آخر: الحمد لله، أسلمتُ اليوم بفضل الله تعالى، ثم بفضل السيد فوتاكي، أنا سعيد جداً الآن، ومضى يقول: لم تكن اليابان تميل إلى الاهتمام بآسيا وأفريقيا مع أنها جزء من هذه البلاد، أما الآن فقد أصبحت تهتم بهذه البلاد التي علينا أن نتعلم تاريخها ودينها وعاداتها بشكل جيد كي نصل إلى التفاهم الصحيح معها، والآن أملنا كبير في أن تنمو العلاقات حتى تصبح وحدة المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، ويصبح المسلمون كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، وأرجو الله العظيم، أن يسدد خطانا ويوفقنا في نشر دين الإسلام في اليابان.

     وهذا كله يدل على شخصية الدكتور شوقي الخيّرة والفاعلة معاً، وحين بدأ ينشر الدعوة الإسلامية، أعدّ دعوة في بيته حضرها الدكتور صالح السامرائي وعدد من أعضاء السفارات، وفي تلك الجلسة، أسلم أربعة من أصدقائه وأقربائه، وحين عرف أنّ أحد الحضور هو من مواليد مكة المكرمة، ازداد ومَنْ معه تأثراً وتعلقاً به، وهكذا جعل الله تعالى البيت الحرام مهوى للأفئدة حتى عند هؤلاء المسلمين اليابانيين الجدد.

     وبعد .. فهذا عرض سريع جداً يكشف عن الفرص الكبيرة، المتاحة أمام انتشار الإسلام في اليابان، والتي يحسُن بالمسلمين أن ينتهزوها ليقدموا رسالة الإسلام الخالد، نوراً وهداية، لهذا الشعب الحائر، الذكي الشجاع الطموح.
*****

إسلام الكونت هنري وشاكر جورج

إسلام الكونت هنري وشاكر جورج

     يمكن للمرء أن يقرر أنّ هناك عدداً من المفكرين المنصفين، الغربيين والعالميين، جاءتهم الفرصة المواتية لدراسة الإسلام دراسة جادة متكاملة، ومن مصادر نقية، بعيدة عن تشويه رجال الكنيسة ومَنْ يشابههم ممن يحملون روحاً صليبية معادية للإسلام والمسلمين.

     وهؤلاء المفكرون الذين درسوا الإسلام هذه الدراسة الموضوعية الأمينة، قد انتهت في كثير من الأحيان، إلى أن اتخذ هؤلاء المفكرون من الإسلام، مواقف كريمة حقاً، فبعضهم أعلن إسلامه على رؤوس الأشهاد، وطفق يدعو إليه، وبعضهم أسلم ولم يمارس أي دعوة لدينه الذي اهتدى إليه، وبعضهم لم يُسلم، لكنه قال في الإسلام وحضارته وما يتصل به، أقوالاً في غاية الروعة والإنصاف.

     ولقد كانت الحروب الصليبية سبباً من الأسباب القديمة المبكرة التي جعلت الكثيرين من الغربيين، يغيّرون وجهة نظرهم فيما يتعلق بالشرق على العموم، وبالإسلام على الخصوص، وذلك بسبب ما شاهدوه في الشرق المسلم من صفات الشهامة والنبل والفروسية والأخلاق السامية الشريفة، وبسبب ما اكتشفوا من أنّ الدين الإسلامي، ليس دين همجية ووحشية وخرافة وما إلى ذلك من افتراءات، كان يُلْحِقها زوراً وبهتاناً رجال الكنيسة بالإسلام وقرآنه الكريم، ونبيّه الطاهر صلى الله عليه وسلم.

     وبدأ الغربيون يدرسون، في شيء من التدبر والرويّة، هذا الشرق المسلم، الذي كان لا يثير في نفوسهم إلا ما رسمه رجال مُغرضون متعصّبون، من صور له وللحياة فيه، وعقائده وآدابه، تبعث النفور والاشمئزاز. ثم كانت الرحلات الكثيرة، وكان الاتصال المستمر، والصلات المباشرة الوثيقة، من العوامل الفعالة في إزالة كثير من الأوهام التي علقت بأذهان الغربيين عن الشرق وعن الإسلام.

     ومما لا شك فيه أنه لم يعد يوجد اليوم في الغرب، كاتب يحترم نفسه، يذكر أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو إله المسلمين ومعبودهم، كما كان يقول ذلك من قبل كُتّابٌ سابقون.

     ولم يقف الأمر عند إزالة الأوهام فحسب، لكنَّ تيارَ فَهْمِ الإسلامِ فهماً جيداً أميناً، قد بدأ يخطُّ مجراه، لذلك أخذنا نسمع حديثاً منصفاً موضوعياً، يثني على الإسلام أحسن الثناء، ويدلي بشهادات عظيمة في ذلك.

     وهؤلاء الكُتّاب المنصفون الغربيون، نجد منهم مَنْ أعلن إسلامه، في غير لبس ولا مراءاة، وجابهَ الرأي العام في بيئته بعقيدته الجديدة، وأخذ يدعو إليها مكرِّساً وقته لنشرها، ومنهم مَنْ أحبّ الإسلام ولا ندري ما الذي أسرّه في نفسه، وإن كان المرء يتوقع أنّ مِنْ هذا الفريق مَنْ أسلم لكنه آثر أن يظلّ إسلامه طي الكتمان.
*****

     ومن مشاهير الأوروبيين الذين يَحسُنُ بالمرء أن يتوقف عندهم وهو يتحدث عن صلة عدد من الغربيين المنصفين بالإسلام، الكونت هنري دي كاستري.

     إنّ هذا الرجل درس الإسلام دراسة عميقة، وكتب عنه كتاباً تُرجِمَ إلى العربية ونُشِرَ فيها تحت عنوان "الإسلام سوانح وخواطر". وقصة تفكيره في دراسة الإسلام قصة طريفة.

     كان الرجل من كبار الموظفين في الجزائر بالرغم من سنّه المبكرة، وكان يتجوّل ممتطياً صهوةَ جواده ويسير خلفه، ثلاثون من فرسان العرب الأقوياء، وكان فخوراً بمركزه، وكان يملؤه الغرور للمدح الذي يزجيه إليه هؤلاء الذين تحت إمرته.

     وفجأة وجدهم يقولون له في شيء من الخشونة، وفي كثير من الاعتداد بالنفس: "لقد حان موعد صلاة العصر"، ودون أن يستأذنوه في الوقوف، ترجّلوا واصطفّوا للصلاة متجهين إلى القبلة.

     ودوّت في الصحراء كلمة الإسلام الخالدة: "الله أكبر"، وشعر الكونت في هذه اللحظة بشيء من المهانة في نفسه، وبكثير من الإعجاب والإكبار لهؤلاء الذين لا يبالون به، ذلك لأنهم اتجهوا إلى الله وحده بكل كيانهم.

     وبدأ يتساءل: ما الإسلام؟ أهو ذلك الدين الذي تصوره الكنيسة في صورة بشعة تنفر منها النفس ولا يستريح إليها الوجدان؟

     لقد أثّر موقف الفرسان الجزائريين في نفسه، وجعله يقوم بعملية استبطان داخلي وحوار مع نفسه، ثم طفق الرجل يدرس الإسلام، فإذا به يعجب به إعجاباً شديداً، وإذا به يرى أن من واجبه أن يعلن ما اهتدى إليه فكان كتابه المنصف: "الإسلام سوانح وخواطر".
***

     وعلى سبيل المثال: إنّ الحيرة في فهم الإله المثلث كانت مثار جدال شاق بين الحائرين المتطلعين نحو الهداية وبين قساوسة الكنائس. وقد يختلف هذا الجدال في تفاصيله وطرائقه وأساليبه، لكنك تجد الجوهر في حقيقته واحداً، وقد أحسن المهتدي المسلم شاكر جورج اللبناني البيروتي الذي اختار لنفسه بعد إسلامه اسم وليد أحمد، تلخيص ذلك في حوار دار بينه وبين راعي كنيسته في بيروت، وإليك هذا الحوار مع مقدمة وجيزة تُفضي إليه:

     عاودتُ قراءة القرآن، وكان يشدّني إليه شعور خفي لم أكن أعرف تفسيراً له، وبدأتُ أوازن بين ما أقرؤه في القرآن وبين ما تعلمتُه طوال حياتي الدراسية الماضية من العقيدة النصرانية، فشعرتُ أني أعيش في دوامة، وجاء يوم الأحد التالي فذهبتُ إلى الكنيسة واستمعتُ إلى القداس وبعد أن فرغ الراهب من تلاوته؛

× قلتُ له: أبونا،
- فقال: نعم،
× قلت: أنا إنسان أليس كذلك؟
- فقال: بلى،
× فقلتُ: إذا تحوّلتُ إلى جماد ألا تذهب عني صفة الإنسان؟
- فقال: نعم،
× فقلت: كيف تقولون بأنّ الله قد تحوّل من إله إلى إنسان ولم يفقد صفات الألوهية؟
- فقال: اذهب؛ فإنّ لك عقل شيطان،
× فقلتُ له: أبونا أقنِعْني أنّ الله عندما أصبح إنساناً، وفدانا بدمه قد بقيت فيه صفات الألوهية،
- فقال بعد صمت: تعال عندي بعد غد كي أعطيك الإجابة، وطبيعي أنه لم يَرَ إجابة أبداً.
***

     وإذا أحببتَ أن تضع يدك على نموذج آخر من هذه النماذج التي كانت قبل هدايتها تمثل ضيقاً شديداً بعقيدة الكنيسة ومنطقها المعقّد الذي ترفضه الفطرة السويّة والعقل الذكي، فإليك هذه الرواية عن فولتير الكاتب الفرنسي ذي الصيت الذائع:

     حين كان تلميذاً في المدرسة الابتدائية لم يُسِغْ عقله عقيدة التثليث أبداً، وكيف أنّ الثلاثة واحد، والواحد ثلاثة، وحدث أنْ كان في درس للحساب، فسأل الأستاذ تلاميذه الصغار وهو يعلّمهم الجمع: واحد زائد واحد زائد واحد، كم يساوي؟ فسارع فولتير يقول: يساوي واحد، فنهره الأستاذ ووصفه بأنه حمار!.. فقال له فولتير: ولكن أستاذ الدين هو الذي علمني أنّ الأب والابن والروح القدس ثلاثة في واحد!..
*****

الجمعة، 30 ديسمبر 2022

إسلام اللورد هيدلي الفاروق (4)

إسلام اللورد هيدلي الفاروق (4)

     قد تصل القناعة أحياناً بالإنسان إلى حد يجعله يجزم بصواب رأي أو معتقد، أو بخطئهما، لكنه قد يفتقر إلى القدر الكافي من الشجاعة الأدبية ليعلن على رؤوس الأشهاد قناعته هذه؛ خاصة إذا انتهى إلى أنّ ما عند قومه من دين ضلالٌ وخطأ، وأنّ الصواب عند قوم آخرين. وهذا الافتقار إلى القدر الكافي من الشجاعة يقلل من فرص انتشار الإسلام في كثير من الأحيان خاصة في البيئات التي تسود فيها النصرانية.

     في هذا الصدد يقول المهتدي الإنكليزي اللورد هيدلي الفاروق، وهو واحد من أهم الإنكليز الذين أسلموا: أعتقد أنّ هناك آلافاً من الرجال والنساء مسلمون في أعماق قلوبهم (وحديثه هنا عن بلاده)، ولكنّ التقاليد والخوف من التعليقات الشديدة، والرغبة في تجنب أي إزعاج أو تغيّر؛ تتضافر الأمور للحيلولة دون تصريحهم بالحقيقة الواقعة على رؤوس الأشهاد.

     وهنا لا بد لنا أن نتذكر في هذا المضمار؛ أنّ انتقام الكنيسة وعداءها لمن خرجوا على تقاليدها، هو من العنف والرهبة، بحيث يجعل الإنسان يطيل التفكير قبل أن يعلن إيمانه بالإسلام ويجهر بذلك.

     وإنني إذ أتخذ هذه الخطوة (يريد إعلان إسلامه) أعلمُ تماماً أنّ كثيراً من أصدقائي وأقاربي ينظرون إليَّ متوهّمين أني خسرت روحي ولا أملَ في الدعاء لي، مع أنني ما زلت أومن بنفس العقائد التي آمنتُ بها منذ عشرين عاماً، ولكن النطق الصريح بحقيقة أمري هو الذي أفقدني رأيهم الحسن.

     على أنه إذا كان هناك من اتخذ الموقف الأضعف الذي أشار إليه اللورد هيدلي الفاروق، فإنّ هناك من اتخذ الموقف الأقوى فجهر برأيه دون وجل، وأعلن قناعته على الناس، وكان له من الشجاعة الأدبية ما يجعله يحتمل سخريات الساخرين ومناقشات المجادلين. ودائماً كان لهذا الصنف الأقوى من المهتدين من نقاط الضعف والبعد عن العقل السليم والمنطق الواضح في أديانهم السابقة ما يجعلهم في الموقف الأحسن ويسلّحهم بأدلة قوية وبراهين لا ترد.
*****

الخميس، 29 ديسمبر 2022

إسلام اللورد هيدلي الفاروق (3)

إسلام اللورد هيدلي الفاروق (3)

     كثير من الناس، قد يكونون مقتنعين بفكرة ما أو مذهب معين، لكنهم يخافون من أن يعلنوا قناعاتهم هذه، بسبب الضغوط المتنوعة التي يمكن أن تواجههم في المجتمع الذي يعيشون فيه، خاصة حين يؤمنون بعقيدة ما، يَدين بها أقوام من البشر، كانت بينهم وبين مجتمعهم ألوان من العداوات والصراعات. لهذا كان إيمان مَنْ يؤمنون بأديان غيرهم يحتاج إلى جرأة أدبية، وشجاعة معنوية، يستطيع معهما، اتخاذ قراره بادئ ذي بدء، ثم إعلانه من بعد ذلك.

     ولعل كثيرين من الغربيين اليوم، يؤمنون في أعماقهم أنّ الإسلام دين حق، وأنه دين الهداية والرحمة والعدالة، الذي يحقق للإنسانية كل خير تريده وتصبو إليه. ولعل أعداداً أخرى منهم، لم تصل إلى مثل هذه القناعة الواضحة الحاسمة النهائية، لكنها آمنت بأنّ كثيراً من مبادئ الإسلام صحيحة وكريمة، ويمكن أن تحقق للإنسانية خيراً كثيراً. ولكنْ لا هؤلاء ولا أولئك، استطاعوا إعلان قناعاتهم هذه، لافتقادهم الجرأة المعنوية التي تجعلهم يفعلون ذلك.

     من أجل ذلك يستطيع المرء أن يقول: إنّ اللورد هيدلي الفاروق، الإنكليزي الذي أسلم كان على درجة عالية من الصواب حين قرّر هذا المعنى وأكّده، وذلك حين قال وهو يتحدث عن سبب إسلامه: أعتقد أنّ هناك آلافاً من الرجال والنساء (يقصد أهل أوروبا) مسلمون في أعماق قلوبهم، ولكن التقاليد، والخوف من التعليقات الشديدة، والرغبة في تجنب كل إزعاج وتغيير، هذه الأمور كلها تضافرت للحيلولة دون تصريحهم بالحقيقة الواقعة (أي بصحة الإسلام).

     ولكنْ من الواضح أنّ الرجل كان على خلاف أولئك الخائفين من إعلان قناعاتهم على رؤوس الأشهاد. لقد آمن بالإسلام، وشهد أنه هو الحق، وهتف بذلك في مجتمع ذويه وقومه، دون خوف أو تردد، على الرغم من علمه أنّ كثيراً من أقاربه وذويه وبني قومه سيكون موقفهم منه، موقف الكراهية والعداء، أو الازدراء والاحتقار، أو الكيد أو الإيذاء، أو ذلك كله جميعاً.

     يقول الرجل عن نفسه: لقد أقدمتُ على الإعلان بأنني اعتنقتُ الإسلام، مع ثقتي التامة، بأنّ كثيراً من أصدقائي وقرابتي ينظرون إليّ الآن، كأنني ضللتُ سواء السبيل في تقديرهم، إلى حد لا يجدي معه نُصح أو ينفع معه دعاء. ومع ذلك فإنّ عقيدتي هي هي كما كانت من عشرين عاماً، إنما كان إعلاني لها أخيراً على الملأ هو ما أفقدني حُسن تقديرهم.

     ولم يغِبْ عن الرجل أنّ المسيحي الذي يُسلم، لا يخسر المسيحية الحقة أبداً، ذلك أنّ الإسلام جاء يصدّق الحق الذي سبقه ويهيمن عليه، فهو لم يخسر المسيحية، إنما رَبِحَ الحق منها، وهو لم يخسر المسيح عليه الصلاة والسلام، بل رَبِحَ إلى جانبه محمداً صلى الله عليه وسلم.

     يقول الرجل عن نفسه: لقد بيّنتُ في إيجاز بعض الدوافع التي حدت بي إلى اتّباع الإسلام، وبيّنتُ أني أعتبرُ نفسي بهذه الخطوة نفسها أصبحتُ مسيحياً أفضل مما كنتُ من قبل. وإنني لَأُهيبُ بغيري أن ينهج نفس المنهاج الذي أعتقدُ مخلصاً أنه الصراط المستقيم، الذي يجلب السعادة لهؤلاء الذين يرون فيما أقدمتُ عليه خطوة إلى الأمام، وليس فيها على أي حال معنى العداء للمسيحية.

     ويبدو من متابعة ما قاله وكتبه اللورد هيدلي أنّ الرجل كان على درجة عالية وصحيحة من حُسنِ الوعي وسلامة الفهم، ويبدو كذلك أنّ الرجل خاض بحاراً من التأملات في داخل نفسه، ومن المقارنات بين الإسلام والمسيحية، وأنّه كانت في أعماقه معاناة داخلية ضخمة امتدت دهراً طويلاً من الزمن، يقول عنه الرجل: فكّرتُ وصلّيتُ أربعين سنة كي أصل إلى حل صحيح.

     ويقول الرجل عن تجربته في التفكير والهداية: عندما كنتُ أقضي أنا نفسي، الزمن الطويل من حياتي الأولى في جو المسيحية، كنتُ أشعر دائماً أنّ الدين الإسلامي فيه الحُسن والسهولة، وأنه خالٍ من عقائد الرومان والبروتستانت. وقد ثبّتني على هذا الاعتقاد، زيارتي للشرق التي أعقبت ذلك، ودراستي للقرآن المجيد.

     وها هو الرجل يقول عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: إنّ حياة محمد صلى الله عليه وسلم، هي كمرآة أمامنا، تعكس العقل الراقي، والسخاء والكرم، والشجاعة والإقدام، والصبر والحِلم، والوداعة والعفو، وباقي الأخلاق الجوهرية التي تُكوِّنُ الإنسانية، ونرى فيها ذلك بألوان وضّاءة. خذ أي وجه من وجوه الآداب وأنت تتأكد أنك تجده موضّحاً في إحدى حوادث حياته. ومحمد صلى الله عليه وسلم، وصل إلى أعظم قوة وأتى إليه مقاوموه، ووجدوا منه شفقة لا تجارى، وكان ذلك سبباً في هدايتهم ونقائهم في الحياة. رحم الله اللورد هيدلي، وجزاه عن الإسلام خير الجزاء.
*****

إسلام اللورد هيدلي الفاروق (2)

إسلام اللورد هيدلي الفاروق (2)

     يشعر المرء بكثير من الاعتزاز، حين يدرس سيرة أحد الرجال الذين أسلموا، وكان إسلامهم عن وعي وبصيرة، وحماسة وصدق، خاصة حين يكونون من المستويات العالية المتفوّقة، والمعادن الحرة النفيسة.

     حقاً إن الإسلام دين هداية لجميع الناس في كل زمان ومكان، ولكنْ من الحق كذلك أنّ للنفوس الكريمة، ذات المعادن العليا مكانة خاصة، ودوراً هاماً في أمر الإيمان، ولعل هذا هو السبب في أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا وهو بمكة المكرمة، والمسلمون مستضعفون فقال: اللهم أَعِزَّ الإسلام بأحد العمرين، فأصابت دعوته عمر بن الخطاب ففاز.

     وربما كان اللورد هيدلي الفاروق، الإنكليزي الذي أسلم، صاحب معدن كريم، من هذه المعادن التي نتحدث عنها، ذلك أنّ المرء يلمس في بعض تصرفاته وكتاباته وأقواله ما يدل على ذلك. من ذلك شجاعته الأدبية التي كان يمتلكها، ومن ذلك أنه منذ منح الإسلامَ كامل ولائه، واختار سبيلاً للهداية والسعادة، طفق يفكّر كيف يستطيع أن ينقل هذا الدين إلى قومه، أو بالأصح كيف ينقل قومه إليه؟

     وفي كتابه الذي يحمل اسم: "رجل غربي يصحو فيعتنق الإسلام"؛ نجد الرجل يقرر لنا أنّ واحدةً من أفكاره الرئيسية لعدة سنوات، هي كيف يستطيع الإنسان أن يمارس دوره في الانتقال للغرب وهداية الناس فيه؟

     ويتساءل الرجل قائلاً: كيف يمكننا نحن -معشرَ الغربيين- أن نعد أنفسنا لنكتب ونفقه معنى الإسلام الحقيقي؟ ويبيّن أنّ كون رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً شرقياً ينبغي ألّا يكون عاملاً في صدود الغربيين عن الإسلام، لأنّ المسيح عليه الصلاة والسلام، كان هو الآخر رجلاً شرقياً.

     يقول: كيف أننا لم نَشْكُ من جنسية المسيح الذي نعرف أنه كان آسيوياً محضاً؟ كانت أمه العذراء مريم، آسيوية، وكان موسى وكل الأنبياء الموحى إليهم شرقيين، وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم شرقياً مثل الآخرين، وأُنْزِلَتْ عليه الشريعة من الله. فالقرآن الكريم من كلام الله عز وجل، كما كان الإنجيل وباقي الكتب المنزلة الأخرى. والقرآن يثبت ويحقق الكتب المقدسة الأخرى والوحي السابق.

     إنّ الرجل أسلم، ومن الواضح أنه منح الإسلام صادق ولائه، ومن هنا نراه كثير الاهتمام بنشر الإسلام، وحمل أنواره للناس عامة، ولمجتمعه الغربي خاصة، ويفكر كيف يستطيع هذا الدين العالمي أن يؤدي رسالته في العالم كله؟

     يقول الرجل: يجب عليّ أن أعترف أنّ زيارتي للشرق ملأتني احتراماً عظيماً للإسلام، هذا الدين السلس الذي يجعل الإنسان يعبد الله حقيقة طول الحياة، لا في أيام الآحاد فقط. أيمكن إذن أن يوجد دِين يمكّن العالم الإنساني من أن يجمع أمره على عبادة الله الواحد الحقيقي الذي هو فوق الجميع بطريقة سهلة خالية من الحشو والتداخل؟ ذلكم هو سؤال اللورد هيلي عن الدين العالمي الحق الذي يحتاجه الناس جميعاً، وهو سؤال يجعل الجواب عليه: إنه الإسلام.

     ويستشعر الرجل أعمق معاني الشكر، لله العلي القدير الذي هداه للإسلام فتراه يقول:

     روح الشكر هي خلاصة الدين الإسلامي، والابتهال أصل في طلب القيادة والإرشاد من الله. إنه وإن كان شكري لله تعالى على عنايته وكرمه، كان متأصلاً فيّ منذ صغري وأيام حداثتي، إلا أنني لا أستطيع إلا أن أشاهد ذلك من خلال السنين القليلة الماضية، التي قرع فيها الدين الإسلامي لبّي حقاً، وتملّك رشدي صدقاً، وأقنعني نقاؤه، وأصبح حقيقة راسخة في عقلي وفؤادي، إذِ التقيتُ بسعادة وطمأنينة ما رأيتهما قط من قبل، وكأنهما هواء البحر الخالص النقي الذي أستنشِقُه. وإنني وقد تحققتُ من سلاسة الإسلام وضيائه، وعظمته ومجده، أصبحتُ كرجل فرَّ من سرداب مظلم إلى فسيح من الأرض تضيئه شمس النهار.

     إنّ الرجل يعبّر عن شكره لله عز وجل، وعن سعادته بالذي أصابه من فوز وسعادة وطمأنينة، بأسلوب حي، فيه العاطفة الحيّة الجيّاشة، وفيه الحرارة الدافقة المؤمنة، وفيه البيان الجميل، وفيه الإحساس البالغ العميق، بعظيم فضل الله تعالى عليه، من أجل ذلك، وصف نفسه، إذ انتقل من الكفر إلى الهداية، بأنه كمن كان في سرداب مظلم يعاني من الضيق والوحشة والكآبة، ثم انتقل إلى فسيح من الأرض، تغمره شمس النهار، وتملؤه بالضياء والعافية، والبِشْر والألق والجمال. فكأنه بذلك وُلِدَ ولادة جديدة، وانتقل إلى دنيا طليقة هنيئة بهيجة ترفل بالخير والسعادة، يُسَرُّ بها كل من رآها، لكنَّ أعظم الناس سروراً بها، مَنْ عاش مِن قبل في دنيا تناقضها، دنيا من الظلمة والكآبة والشقاء والحيرة. لذلك كان يستنشق السعادة كما يستنشق هواء البحر النقي الخالص، وكانت كل ذرة من ذراته تستشعر الشكر العميق، لله عز وجل، الذي هدى هذا الرجل للإسلام.
*****

إسلام اللورد هيدلي الفاروق (1)

إسلام اللورد هيدلي الفاروق (1)

     اللورد هيدلي الفاروق، هو واحد من كرام النماذج الغربية التي شاء الله عز وجل لها أن تهتدي إلى نور الإسلام، ومثال عملي حي، على قدرة الإسلام على أن يفوز بالجديد من الأنصار والمؤمنين في مختلف الظروف، ومن شتى القطاعات المتنوعة وفي طليعتها قطاع المثقفين والمتفوقين.

     لقد اعتنق الرجل الإسلام في وقت كان فيه معظم العالم الإسلامي قد وقع تحت قبضة الاحتلال الصليبي لدياره، وذلك في مطالع هذا القرن، وفي وقت كانت فيه بلاده إنكلترا إمبراطورية ضخمة لا تغيب الشمس عنها بالفعل، وكانت هي بالذات تسيطر على كثير من ديار المسلمين، وتتحكم في مقدراتهم، ولها دور بارز في موازين السياسة العالمية.

     لقد أسلم الرجل في تلك الظروف التاريخية العصيبة، واستطاع الإسلام العظيم أن يجذبه إليه، فإذا به يمنح ولاءه، ولم يُحْجِمْ عن ذلك بسبب ضعف العالم الإسلامي وتخلفه واحتلاله ذلك أنّ الحق النقي الصريح، الذي جاء به الإسلام الخالد أعظم وأبقى من فترة ضعف هان فيها المسلمون، وقوي فيها أعداؤهم وتجبّروا وتسلطوا.

     واللورد هيدلي الفاروق هو "رايت أونو رابل سير رولاند جورج ألانسون". ولِد في عام 1855م، وكان أميراً بريطانيّاً بارزاً، وسياسياً ومؤلفاً، وكانت دراسته في جامعة كامبردج.

     وصار أميراً في عام 1877م، وخدم في الجيش فشغل رتبة كابتن ثم مُقدّم في الفيلق البريطاني الرابع. وعلى الرغم من كونه مهندساً بحكم المهنة إلا أنه كان يتمتع بأذواق أدبية واسعة. وكان في وقت من الأوقات رئيساً لتحرير جريدة سالزبوري جورنال.

     وكان مؤلفاً لعديد من الكتب أشهرها كتابه الذي يحمل اسم: "رجل غربي يصحو فيعتنق الإسلام"، وقد أعلن إسلامه في 16 نوفمبر 1913م، واختار لنفسه اسماً مسلماً هو "رحمة الله الفاروق"، وقد زار الهند في عام 1928م، وذلك في بعض أسفاره الكثيرة.

     وكان لإسلام اللورد هيدلي ضجة كبيرة نظراً لمركزه المرموق، ولِما يعهده فيه عارفوه من تروٍّ في الأمور ونضج في التفكير. وحين مَرَّ الرجل بالإسكندرية في طريقه إلى الحج، أقام له أهالي الثغر يومذاك حفلة كبيرة برئاسة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الغني محمود شيخ علماء الإسكندرية، وبرعاية الأمير عمر طوسون.

     يقول الرجل وهو يتحدث عن قصة إسلامه: من المحتمل أن يتصور بعض أصدقائي أنني وقعتُ تحت تأثير المسلمين، ولكن ذلك ليس هو السبب في تحوّلي إلى الإسلام، لأنّ اقتناعي كان حصيلة لدراسة دامت سنوات عديدة.

     ولم تبدأ مناقشاتي مع المسلمين المثقفين إلا منذ أسابيع قليلة، وكم كان اغتباطي عظيماً حين وجدتُ أنّ نظرياتي، في مقدماتها ونتائجها تتفق تماماً مع تعاليم الإسلام. وانّ القرآن الكريم ينص على أنّ الاتجاه نحو اعتناق دين جديد، لا بد أن يكون نابعاً من الاختيار الحر والحكم الذاتي، قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256].

     ويؤسفني أن أذكر أنّ المبشرين النصارى يقومون بعمل لا أرى مبرِّراً له. لستُ أدري لماذا يسعى المبشِّرون إلى تنصيرِ مَنْ هم أنصارٌ لعيسى عليه السلام أكثرَ من أنفسِهم؟ إنني أقول هذا عن علم، لأنّ ما تتميز به العقيدة الإسلامية من إحسان وتسامح وسعة أفق، أقرب إلى تعاليم عيسى عليه السلام من المعتقدات الضيقة الأفق التي تنادي بها الكنائس النصرانية المختلفة.

     ولنضرب مثالاً على ذلك بالعقيدة الأثناسية، التي تتناول مبدأ التثليث بطريقة محيّرة للغاية. فهذه العقيدة التي تُعَدُّ في غاية الأهمية لمعالجتها لمبدأ أساسي من مبادئ الكنائس، تصرّح بوضوح تام أنها تمثل العقيدة الكاثوليكية، وأننا إذا لم نصدقها فسوف نموت إلى الأبد، ثم نسمع أننا لا بد أن نتدبر مبدأ التثليث إذا أردنا الخلاص. وبعبارة أخرى علينا أن نتأمل فكرة إله، نخلع عليه صفة الرحمة والقوة، وفي ذات الوقت نتهمه بالظلم والقسوة، كأنّ الله العليّ الكبير وهو الأول والمهيمن يمكن أن يتأثر بصورة من الصور برأي الإنسان الفاني المسكين في مبدأ التثليث.

     وهكذا ينتقد الرجل المسيحية المحرَّفة هذا النقد الذكي العميق، ويبيّن بطلان مذهب التثليث وانهياره وتهافته وتناقضه، ويكشف عن سماحة الإسلام العظيم، وما فيه من تسامح وسعة أفق، لذلك لا غرابة أن كان المسلمون يوقرون عيسى عليه الصلاة والسلام أشدّ التوقير، فذلك أمر يوجبه عليهم دينهم، بل إنّ المسلمين كما يقرر اللورد هيدلي يوقرون المسيح عليه الصلاة والسلام، أكثر مما يوقره أولئك المنتسبون إليه، وهم أنصاره الحقيقيون لا أولئك الذين يعملون بين المسلمين للتبشير بالمسيحية، وهم حين يفعلون ذلك والمسيحية منهم براء، والمسلمون هم على أصلها الصحيح قبل تحريفها، كمثل من يحمل التمر من البادية ليبيعه في العراق، أو ينقل الماء على ظهور الجِمال ليبيعه على شواطئ النيل ودجلة والفرات.
*****

إسلام جاوبا الهندوكي المثقف

إسلام جاوبا الهندوكي المثقف

     هو رجل هندوكي مثقف، كان محامياً كبيراً بالمحاكم العليا في الهند. درس الإسلام فوجد الفرق الشاسع بينه وبين دينه الوثني الذي ورثه عن آبائه وأجداده. ومنذ أن شبَّ عن الطوق واكتملت لديه أسباب الدراية والفهم أخذ يقارن ويوازن بين الأديان خاصة بعد أن شعر أنه بحاجة إلى دين يضبط سلوكه، ويكون ميزاناً لحياته فكان أن اختار الإسلام فأسلم. إنه الأستاذ "ك. ل. جاوبا" الذي يبدو لنا من خلال معاناته ودراساته رجلاً حر الفكر مستنير الثقافة شجاع الرأي والمعتقد.

     شغل الرجل إحدى مناصب العدالة الراقية في بلاده، وألَمَّ بثقافات الغرب ودياناته ومذاهبه السياسية، وعاود الموازنة بينها جميعاً لعله يهتدي إلى وجهة مريحة، وينتهي إلى قرار يفوز معه بالطمأنينة والسلام.

     يقول الرجل: لقد أحسستُ رغم منصبي الكبير محامياً في المحاكم العليا بالهند أنني ما زلت طفلاً من الناحية الروحية، وكان إيماني بالهندوكية كمثل الطفل الذي يحبو ولا يقدر على شيء. لذلك رأيتُ لزاماً عليّ أن أبحث عن دين!..

     ها هنا نلمس أولى خطواته في البحث عن الهداية، ونشعر بالرغبة الجدية الصادقة في تلمّس الحق. فلننظر كيف بدأ الإسلام يملك عليه إعجابه.

     يقول الرجل: إنّ أول شيء شدّني إلى هذا الدين بساطته ووضوحه، فأساس العقيدة الإسلامية قائم على دعامتين بسيطتين، يستطيع أن يعيهما أبسط الناس، وهاتان الدعامتان هما أنّ النبي الكريم قد جاء بالوحي الربّاني من عند الله، وأنّ الله سبحانه وتعالى واحدٌ لا شريك له.

     ثم يَعْرِضُ الرجل لحقيقة المساواة التي يشيعها الإسلام بين الناس فيقول: فالمساواة في الإسلام تختلف عما في الاشتراكية أو البلشفية، وليست كالمساواة عند النصارى، حيث يُجلَد الرجل الزنجي لا لشيء سوى أنه وقع بصره على امرأة بيضاء، ويعبد الزنوج ربهم في كنائس خاصة مستقلة بهم عن كنائس البيض.

     والإسلام لا يقيم مراسيم خاصة لكل داخل فيه كما تفعل الأديان الأخرى، وإنما يكفي المرء أن ينطق بالشهادتين حتى يغدو عضواً في أعظم أخوّة عالمية يتساوى في ظلها الناس جميعاً.

     وفي الواقع العملي الملموس إلى جانب الناحية النظرية المجردة؛ يصبح من حق المسلم الجديد أن يقف في المسجد كتفاً إلى كتف وعلى قدم المساواة مع الملك، وليس في العالم كله أشمل وأصدق من هذه الأخوّة الإسلامية.

     ويعرض الرجل لمجتمعه الهندوكي، وما فيه من تقسيمات طبقية جائرة، تمنح أناساً لا لجهد بذلوه الأولوية والأفضلية، وتحطّ أقدار الآخرين دون أن يفعلوا شيئاً يسبّب لهم ذلك.

     يقول جاوبا: هناك خلاف كبير يقوم حالياً بين مجتمعات الهندوكية حول دخول فئة منها تُعرف باسم "الممنوع لمسهم" إلى المعابد الهندوكية (يقصد الرجل طبقة المنبوذين)، وهناك فئة معينة تزعم لنفسها أنها تحوّل هؤلاء الممنوع لمسهم إلى أشخاص عاديين بواسطة ما يُسمّى "شوذي"، وليس بوسع أحد من الهنادك أن ينتقل من طبقة إلى أخرى، كذلك تؤمن الديانة الهندوكية أنّ في استطاعة إنسان أن يُطهِّرَ إنساناً آخر.

     أما في الإسلام فإنّ هذا الدين لا يعرف مبدأ "لا مساس"!.. أو ما يسمّى "الممنوع لمسهم"، كما أنه لا يُطهِّرُ الإنسان فيه أخوه الإنسان، ولا سبيل إلى التطهر إلا بالتقرّب إلى الله دون وساطة أحد من خلقه، إذ كيف يتسنّى لبشر أن يطهِّر بشراً آخر وهو في حاجة ماسة إلى التطهير؟

     إنني بهذه المناسبة أتوجّه بالدعوة إلى كل فرد في الذين يُلقّبونهم بالممنوع لمسهم للدخول في الإسلام الحنيف، فهو وحده الذي يسوّي بينهم وبين بقية الناس، وهو وحده الذي ينتفي فيه الاعتقاد بأنَّ ظل إنسان ما يمكن أن يدنّس طعام أو حاجيات إنسان آخر، وهذا الاعتقاد سائد في الهندوكية. إنه في الإسلام لا فضل لأي إنسان على إنسان آخر إلا بالتقوى والعمل الصالح.

     ويتحدث المثقف الهندي المستنير عن سبب آخر حمله على الإسلام وهو كما يقول: قدرة الإسلام على التلاؤم والتكيف مع متطلبات الحياة الحاضرة، فليس هناك أي دين من الأديان المعاصرة يتمتع بمثل هذه المقدرة على حل المشكلات الحاضرة التي تواجه الإنسان في هذا الزمان، فالعالم اليوم يتشدق بالأخوة والمساواة، وهذان مبدآن أساسيان صحيحان في الإسلام، وهما مطبّقان عملياً بين المسلمين، أما المبادئ الأخرى فهي على النقيض من ذلك.

     ويتحدث العالم اليوم عن ضرورة الاعتراف بالمؤهلات، والإسلام يعترف بالفضل لذويه. كما نسمع صيحات حول حقوق المرأة، ومآسي الحياة الزوجية المعاصرة، والإسلام يمنح المرأة كل حقوقها واستقلالها، فعلاقتها بالرجل قائمة على أساس عقد كريم.

     لقد وُضِعَت الشرائعُ الإسلامية للبشر لا للملائكة، أما ما يحدث اليوم من شغب وفوضى ومهازل وتواطؤ وزنا فكل هذه المشكلات غريبة عن المجتمع الإسلامي.

     وبعد .. فهذه انطباعات عاجلة، لكنها ذكية وصادقة هتف بها هذا الهندي المثقف وهو يتحدث عن قصة إسلامه التي ختمها بهذا الدعاء الجميل: اللهم خذ بناصية عبادك إلى هذا الدين الحنيف.
*****

الشاعر الإيطالي فنسينزو (محمد رباح) (2)

الشاعر الإيطالي فنسينزو (محمد رباح) (2)

     الشاعر الإيطالي فنسينزو ماريا ريبو، الذي شاءت له العناية الربانية أن يفوز بالهداية، وينتقل من الظلمات إلى النور، وذلك حين أسلم عن وعي وصدق وحماسة، ثم طفق يحاول أن يجعل من نفسه جندياً لخدمة هذا الدين العظيم، والتبشير به، وهداية قومه إليه. هذا الرجل الذي سمّى نفسه بعد إسلامه "محمد رباح" نموذج كريم متفوّق يستوقف المرء ويستأثر بانتباهه واهتمامه.

     إنه ينتزع الإعجاب والإكبار، وإنك إذ تلمس في حياته ذلك كله، لا تخطئ أيضاً أن تلمس فيها العبرة الواضحة الجلية، والحقيقة القديمة الجديدة عن خلود هذا الدين، وعظمته واستمراره، وقدرته الذاتية على اكتساب أنصار له في كل حين يمنحونه صادق ولائهم وإيمانهم وشجاعتهم.

     إنك لا تخطئ أن تشعر بذلك، كما لا تخطئ أيضاً أن تجد في صدرك حزناً عميقاً، وأسفاً بالغاً، بسبب قعود أهل الإسلام عن حمل رايته ونشر أنواره في كل مكان وزمان، وبشكل خاص في زماننا هذا الذي اتصف بالحيرة والقلق والتخبط والضياع، والذي يتطلع إلى من ينقذه، والمسلم وحده هو القادر على التصدّي لمهمة الإنقاذ، وهو لا يفعل إلا قليلاً، على الرغم من أنّ انتماءه لإسلامه يُلزمه بذلك، ويُهيب به قائلاً على لسان إقبال:

إنَّ هذا العصــرَ ليــــلٌ فأنِرْ     أيهــا المسلمُ ليلَ الحـــائرينْ
وسفينُ الحقِّ في لجِّ الهـوى     لا يرى غيرَكَ ربّانَ السـفينْ

     ويُعَدُّ الأديب الإيطالي المسلم محمد رباح، ذا منزلة بالغة الأهمية في الأدب الإيطالي، حتى إنّ كثيراً من الأدباء والنقاد والدارسين يعدّونه واحداً من أكبر ثلاثة شعراء في القرنين التاسع عشر والعشرين، ويمكن أن ترى مصداق ذلك في كثرة الجوائز الأدبية والألقاب والمقالات والأحاديث الإذاعية، وكلها مُنِحَتْ له، أو تحدثَتْ عنه بعد وفاته، ذلك أنّ ديوان شعره صدر بعد أن فارق الحياة. وكأن الشاعر رحمه الله كان يستشعر بشيء من ذلك، فقد كتب بخط يده قبل وفاته يقول: "الديوان سيصدر يتيماً"؛ مشيراً إلى أن الديوان سيصدر بعد موته، وهذا الذي كان.

     وقد صدرت عن فنسينزو ماريا ريبو أي محمد رباح خمسة كتب حتى الآن لعدد من الأدباء الطليان، ومثل هذا العدد من الكتب، عن شاب لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره، دليل على موهبته الشعرية الكبيرة التي جعلته يحظى بمثل هذه العناية الفائقة.

     أما الجوائز والأوسمة والألقاب التي فاز بها، فإليكم بعضها على سبيل المثال: جائزة برغامو، وجائزة كاردانيللي تاركلينا، وجائزة سويير تيرم، وجائزة جيبو، وجائزة ماريا كريستينا بولوجيا. أما الذي كتبته عنه الصحف والمجلات فإنه يشكل في مجموعه عدة مجلدات.

     وفي شعره تكثر العبارات والاصطلاحات الدينية، وتَرِدُ في شعره بكثرة الكلمات العربية الدينية مثل كلمة أذان. ولا يخطئ من يعيش مع شعره أن يلمس ما فيه من إحساس رقيق وشعور مرهف. وله قصيدة كتبها قبل وفاته بمدة قصيرة تحمل اسم "خذني يا إلهي"، تُعَدُّ من أروع شعره حتى سمّاها بعضهم معجزة الشعر الإيطالي.

     تعرّف الشاعر رحمه الله في جامعة بيروجيا، إلى بعض المسلمين الأوفياء لدينهم من الطلبة العرب حيث كان طالباً هناك، فكتب قصيدته "مكتبة بيروجيا"، وفيها يتحدث باعتزاز بالغ عن الفتى العربي المسلم، وما يلمحه فيه من خُلُقٍ نبيل وعزة أبيّة، هي نفس العزة التي تمثل الأقدمين النبلاء في الصحراء كما يقول.

     وله قصيدة اسمها "إلى صفوح"، وصفوح هذا أحد الطلبة المسلمين كان على تقوى وورع سُرَّ بهما الشاعر فأهداه قصيدته التي يقول فيها: وهكذا ستفوز، صفوح رجل عدل وصاحب عقيدة مدهشة تحيّر العقول.

     وفي واحدة من قصائده الرائعة يقول: كيف نريد أن نتأقلم في الضباب ونستنشق هواء بِغْ بِنْ؟ ونصعد درجات الجامعة المليئة بالضوضاء؟ إننا نريد أذاناً يخرج من القلب إلى القلب يقول لنا: الحمد لله نحن مسلمون.

     وفي قصيدته الوجدانية المؤثرة "كعبةُ، إليكِ حاجّاً سآتي"، يقول:
كل ليلة أتوجّه إليك.
إله واحد رحمن رحيم.
خذني يا إلهي.
تقبّل صلاتي وتقبّل توحيدي.
لا أريد أن أرجع إلى الوراء وإليكَ وحدك أتوجه.

     وبعد، فإنها وقفة يسيرة مع الشاعر المسلم محمد رباح عليه رحمة الله، الذي وهب هذا الدين ولاءه بصدق وحماسة، ومضى يحاول نشره بين ذويه، وألّف كتاباً عنه مات دون أن يُنجزه، ورحل إلى العالم الآخر بعد أن فاز بالهداية، وأثبت قدرة الإسلام على اكتساب أنصار له من قطاع المتفوقين والنابغين.
*****

إسلام الشاعر الإيطالي فنسينزو (محمد رباح) (1)

إسلام الشاعر الإيطالي فنسينزو (محمد رباح) (1)

     عجيبةٌ قدرة هذا الإسلام العظيم على التقدم واكتساب مواقع جديدة له، إنْ في عالم الجغرافيا والأرض، وإنْ في عالم البشر والناس. هي قدرة عجيبة وعميقة معاً، والسبب الأكبر في ذلك أنها قدرة ذاتية، نابعة من تركيبه الربّاني المعجِز، لذلك تظل قادرةً على أداء دورها، حتى في تلك الظروف التي يقصّر فيها المسلمون عن القيام بواجبهم في نشر أنوار هذا الدين لينقذوا به الضالين والحائرين. ولعله لا شيء يدل على ذلك، ويؤكده ويصدّقه، كتلك الحالات التي نظل نسمع عنها بين الحين والآخر، والتي يكتسب الإسلام فيها، له أنصاراً متفوقين.

     وإنه لَمِنَ الإنصاف الحق، أنْ نذكر بخير أخاً كريماً من هؤلاء المهتدين المتفوقين طَوَتْهُ يد المنون، واعترف بفضله ونبوغه العدو قبل الصديق. إنه أخٌ إيطالي عزيز نبغ في الشعر وتفوق، حتى عُدَّ واحداً من مجددي الشعر في بلده، وفاز بجائزة ذات قيمة كبيرة وأهمية بالغة في عالم الشعر في إيطاليا، إنه الأخ فنسينزو ماريا ريبو، أو محمد رباح كما سمّى نفسه بعد أن أسلم.

     ولد محمد رباح في نابولي عام 1947م، ودرس المرحلة الابتدائية في المدينة نفسها، ثم انتقل مع عائلته إلى مدينة بوتنسا بيجينو حيث عمل والده مفتشاً في وزارة التربية، ودرس هناك المرحلة المتوسطة. ثم انتقل مرة أخرى إلى مدينة سبوليتو فأنهى المرحلة الثانوية بتفوق، ودخل جامعة بيروجيا التي تبعد عن بلده مسافة تبلغ حوالي 70 كم. وفي بيروجيا حيث يكثر الطلبة العرب بدأ احتكاكه بالوسط الأجنبي عنه، وفي 12 نيسان 1970م حيثُ بَقِيَ له بضعةُ شهورٍ على التخرج انتقل إلى رحمة الله عز وجل.

     وقد بدأ رحمه الله بكتابة الشعر صغيراً، وهذا دليل على رهافة حسّه، وكان رحمه الله شاعراً مرموقاً احتل بشهادة الجميع منزلة هامة في الجيل الجديد للشعراء الشبان بإيطاليا. كما بدأت دواوين شعره تتجمع وعمره ستة عشر عاماً، وحين توفي كانت قد بلغت ألف صفحة لم تُطبع حتى الآن.

     وقد تقلّب في حياة النعمة، واتصل بالطبقات الراقية في المجتمع الإيطالي، خاصة فئة الأدباء، حيث كان والده مفتشاً في وزارة التربية، وهو وحيدُ أهله، وهذا أتاح له فرصة الوعي المتقدم من ناحية، كما حمله على اختيار الفرع الأدبي في المرحلة الثانوية ودراسة الأدب في الجامعة من ناحية ثانية.

     وكان يعرف اللاتينية ويتكلمها، وله ترجمات شعرية من اللاتينية إلى الإيطالية، وكل هذه العوامل والمؤثرات، إلى جانب دراسته المقارنة للأديان، على ما يوجد في مصادر هذه الدراسة المقارنة من دسٍّ على الإسلام وتشويهٍ له، أوجدت عند المرحوم، الحافز للتعرف على الإسلام لأنه وجد فيه الشيء الوحيد الذي يركن إليه، وخاصة وقت الشدة كما نرى في كثير من قصائده.

     وأُعجِبَ محمد رباح بالإسلام، على الرغم من أنه لم يتعرف إليه نقياً من الشوائب، صحيحاً بعيداً عن الكذب والتشويه فأسلم، وأخفى إسلامه فترة من الزمن، ثم طفق يدعو قومه للإسلام مما أثار عليه حقداً مريراً.

     وقد أثبت الفحص الطبي أنه حُقِنَ بمستحضرٍ لتسييل الدم فأصابه نزيف شديد، وكانَ ساعةَ نَقلِه إلى المستشفى يقرأ القرآن الكريم ودمه ينزف، ودموعه تسيل، حتى فارق الحياة، مما جعل بعض المسلمين في إيطاليا يسمونه بالشهيد.

     أسلم رحمه الله في عام 1388هـ=1968م، وأتقن الصلاة والصيام، وحَسَّنَ إسلامَه وعقيدتَه وعبادتَه، وقام بزيارة مع والده إلى سوريا في العام التالي، وكانت رحلته تلك، رحلة الوداع، لينام بعدها قرير العين في العالم الآخر، وكان في استقباله نفر من خيار الناس وخاصة في مدينة حلب، حيث رأى هناك ما يسرُّ نفسه ويُرضي ضميره، ويزرع في وجدانه آثاراً وانطباعات عميقة ظهرت في شعره.

     إنه بمقدار ما يبتهج الإنسان حين يتوقف أمام أمر كهذا، يعتصر الألم قلبه حين يرى ما يرى من تقصير وعقوق. أمّا أنَّ الإنسان يبتهج فلأنه يشهد عملية هداية وتحول وانتقال من الظلمات إلى النور، ومن الجاهلية إلى الإسلام، حيث ينطلق امرؤ متفوق ذو موهبة كبيرة ليسير في مواكب الإيمان والهداية، وليجنِّد نفسه بعد ذلك للتعريف بالإسلام والدعوة إليه بين ذويه، حتى ينتقل إلى رحمة الله عز وجل في ميتة غامضة يحسبها بعض الناس شهادة في سبيل الله، والله أعلم.

     أمّا ما يتردد في الوجدان من ألم وأسف؛ فهو بسبب ما لدى أكثر المسلمين اليوم من تقصير وعقوق، تقصيرٍ يحملهم على القعود فلا يُبشّرون بدين الله، ولا يسعون لنشره وإنقاذ الناس به، وعقوقٍ يجعل أكثر الأدباء والمتأدّبين، يهتمون بشتى أدباء العالم، وفيهم من يستحق ومن لا يستحق، وفيهم الفاجر والفاسد والحائر، وفيهم مَنْ يقف جهاراً نهاراً معادياً لنا، ويسكتون عن الاهتمام بشاعرنا فنسينزو ماريا ريبو على الرغم من إسلامه ونبوغه.
*****

الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

الدكتور غرينيه المسلم

الدكتور غرينيه المسلم

     هو رجل مصري من أهل الخير والاستقامة، ومن ذوي الغيرة الإسلامية، ومتابعةِ شؤون المسلمين، وأخبار الدعوة إلى الله، ومَنْ يفوزُ بنورها، ويَنْهَلُ من عطائها، فيتحوّلُ إليها، ويؤمنُ بالإسلام، ويمنحُه ولاءه الصادق المكين. وطوّحت الأيام بهذا الرجل إلى فرنسا، فظلّ فيها على حسن خلقه، وجميل استقامته، وحسن اهتمامه، وظلّ فيها طاهر النفس عفيف الذيل، معنيّاً كعادته بشؤون الإسلام والمسلمين.

     تحدث الرجل عن نفسه فقال: كنتُ أسمع وأنا نزيل فرنسا بطبيب عظيم له شهرة واسعة بين بني قومه في حب الخير ونشر الفضيلة. هذا الطبيب هو الدكتور "غرينيه" الذي كان في بعض أيامه عضواً في مجلس النواب الفرنسي، فرأى الأمور التي تجري في ذلك المجلس، غير ملائمة لكثير من مبادئه الإنسانية، فانسحب منه على كثرة المتزاحمين على الظفر بكرسي فيه، وآثر الإقامة في بلدة صغيرة هادئة من بلاد فرنسا يداوي فيها أمراض الناس الجسمية والروحية. وقد اعتنق الإسلام عن بيّنة واقتناع.

     أردتُ أن أعرفَ هذا الرجل الفاضل، وأن أسمع من لسانه سبب خروجه من النصرانية ودخوله في الإسلام، فتوجهتُ إلى البلدة التي انزوى فيها مبتعداً عن ضجيج الحضارة وموبقات باريس، فلما دخلتُها جعلتُ أسألُ عنه، فكان كل من سألتُه عنه يجيبني بلهفة وابتهاج فعلمتُ من ذلك، أنّ جميع أهل ذلك البلد مغمورون بفضل الرجل، وليس منهم أحد إلا وقد سبق له شيء من الخير، فهو يطبّب الفقراء وأشباه الفقراء بلا مقابل، ويعطيهم العلاج من عنده، وإذا جاء معهم أطفال، يُدخِلُ على قلوبهم الصغيرة، البهجة والسرور بما يمنحهم من الملابس والحلويات وغيرها. وهو لجميعهم بمقام الوالد بمشورته ونصائحه وإرشاداته.

     ولما اجتمعتُ بالدكتور "غرينيه" في منزله عرّفتُه بنفسي، وذكرتُ له سبب زيارتي فرحّب بي كثيراً، ولقيتُ منه فوق ما كنتُ أتوقع، وسألتُه عن سبب إسلامه فقال:

     لقد كنتُ في أيام شبابي طبيباً بحرياً، ألازمُ السفن الشراعية، وأعيشُ فيها بين السماء والماء. واطّلعتُ مرةً على نسخة من القرآن الكريم مترجمة إلى الفرنسية بقلم المسيو ساڤاري. فقرأتُ فيها آية من سورة النور، تتضمن صفة الجاحد، وتخبّطه في جحوده كما يتخبّط الغريق بين ظلمات الأمواج في يومٍ شاتٍ كثير السحاب، وهي قوله تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَاۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ [النور:40].

     وكنتُ لما قرأتُ هذه الآية، لم أتشرف بعدُ بهداية الإسلام، ولا أعلم شيئاً عن المرشد الأعظم صلى الله عليه وسلم، فخُيِّلَ إليّ أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم، رجل عاش في البحار طوال حياته. ومع ذلك كنتُ أعجبُ كيف يتسنّى لرجل أن يصف تخبّط الضالين بمثل هذا الوصف الموجز الذي جمع بكلمات قلائل، أحوالَ البحار، وحالتها الطبيعية، حتى يكاد الإنسان يشهدُ الحقيقةَ بحواسه كلها.

     فلما علمتُ بعد ذلك أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم، لم يركب البحر قط، وأنه فوق ذلك كان أمّياً رجعتُ إلى القرآن الكريم، فأطلتُ النظر في سورة النور، وفي سائر آياتِ هذا الكتاب الحكيم، فأيقنتُ أنّه ليس من كلام البشر، وإنما هو من وحي الله عز وجل، فأسلمت. ولا أزال مغتبطاً بإسلامي الذي أراهُ دين الفطرة المعقولة، البعيد عن كل ما في الديانات الأخرى من بقايا الوثنية.

     ومما قاله الطبيب الفرنسي المهتدي للرحّالة المصري الذي زارهُ مُحاوراً مستفسراً:

     إني تتبّعتُ كل الآيات القرآنية الكريمة، التي لها ارتباط بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية التي درستُها من صغري، وأعلمُها جيداً، فوجدتُ هذه الآيات منطبقة كل الانطباق على معارفنا الحديثة، فأسلمتُ، لأني تيقّنتُ أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم، أتى بالحق الصُراح من قبل ألف سنة، من قبل أن يكون معلّمٌ أو مدرّسٌ من البشر. ولو أنّ كل صاحب فن من الفنون، أو علم من العلوم، قارن كل الآيات القرآنية المرتبطة بما تعلَّمَ جيداً كما قارنتُ أنا، لَأَسلمَ بلا شك، إن كان عاقلاً خالياً من الأغراض.

     إنها قصة عَطِرَةٌ مشوّقة، تلك التي يرويها الطبيب الفرنسي وهو يتحدث عن إسلامه. ولعلّ أطرف وأجمل ما فيها، أنّ الرجل لم يتلقّ الإسلام دراسةً على أحد من البشر، بل كان أستاذه الأول الذي قاده إلى الهداية، هو هذا الكون الواسع، وذلك حين شهد من البحر ما شهد من الظلام المطبق والموج الذي يعلوه موج، والسحاب الذي يكتنف ذلك ويعلوه، حتى إنه ظنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم قد عاش في البحار طيلة عمره، وذلك حين وجد الآية الكريمة المعجزة التي تصف ذلك وصفاً دقيقاً، فلما تبين له أنّ الأمرَ خلاف ذلك، وأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم لم يركب البحر قط، وأنه كان أمِّياً؛ استيقن أنّ القرآن الكريم هو كتاب الله عز وجل، فكان أنْ أسلم.
*****

الأكثر مشاهدة