الأحد، 7 أغسطس 2022

إقبال وذكرى أمجاد المسلمين في جامع قرطبة

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

إقبال وذكرى أمجاد المسلمين في جامع قرطبة

     وقف محمد إقبال رحمه الله عام (۱۹۳۲م) إبّان زيارته لإسبانيا، في جامع قرطبة العظيم وقفة مؤمن شاعر، يتذكر أمجاد المسلمين في الأندلس، وسيرتهم الشائقة المؤسية، وحكمهم الحافل بشتى جوانب الإبداع والتفوق في ميادين الحضارة، ودورهم التاريخي الرائد الذي يشهد به كثير من منصفي الغرب أنفسهم، في تحضير أوربا، ونقلها من حال الجهل والتخلف والانحطاط إلى صحوة ممتازة أسهمت أيما إسهام في بناء حضارتها فيما بعد.

     وتذكر بطولة طارق بن زياد ومن معه، ومغامرتهم الجريئة في اقتحام الأندلس، إذ ألقوا بأنفسهم فيها وهي نائية بعيدة عن مركز قوتهم وتجمعهم، والعدو في أرضه يعرفها جيداً، وعدده كبير، وزاده وفير، وسلاحه كثير، والنجدة قريبة إليه حين يطلبها، ولم يكن طارق يجهل موقفه هذا، لكنه لم يرهبه قط، بل استنجد بقوة الإيمان في أعماقه وأعماق جنوده، وألهب حماستهم، فكان له النصر المؤزر، والظفر العظيم، وكان قراره بالعبور والقتال مَوْلِدَ أمجادٍ كبيرة وامتدادٍ عظيم وانتشارٍ للإسلام رائعٍ معجب، وصفحة في تاريخ الحضارة الإنسانية عمرت ثمانية قرون .

     وشابت الأندلس الشوائب، وعصفت بها الفتن والمشكلات، فكانت بأمس الحاجة إلى عبقري آخر من طراز طارق، شجاع جسور، يقتحم الصعاب، ولا يرهب الشدائد، هو بالصقر أشبه منه بشيء آخر. وفعلاً ظهر هذا الرجل المأمول، وعبر إلى الأندلس كما عبر طارق وموسى من قبل، إنه صقر قريش عبد الرحمن الداخل الذي وصل هناك مع ثلة قليلة من الرجال الأشداء، والفتن كثيرة، والأهواء عارمة، والناس مزق شتى، وأقسام متناحرة، فصابر وثابر، وجد واجتهد، وقاتل وانتصر حتى دانت له الأندلس، وشاد في عاصمتها قرطبة الأثر الخالد الباقي إلى اليوم، جامع قرطبة.

      وقف محمد إقبال في جامع قرطبة، وقفة مؤمن خاشع، أمام الإيمان الذي حمل العرب على الخروج من جزيرتهم التي كانوا فيها ضائعين منسيين، لا يحفل بهم أحد، ولا يتوقف عندهم التاريخ، إلى الشرق والغرب، يحررون الناس من الفساد والضلال، ويرفعون كلمة الله تعالى عالية مدوية، ويزلزلون أركان الطواغيت والجبابرة، وما زال الإيمان يدفعهم حتى وصلوا الصين شرقاً، والأندلس غرباً.

     إنه الإيمان، والإيمان وحده، هو الذي أخضع الأندلس، المنيعة النائية الجميلة القوية. فانقادت لعزائم الفاتحين الذين صدقوا الله تعالى ما وعدوه، فمَنّ عليهم بالنصر والغلبة والظهور، حتى إذا خبت منهم العزائم، واستنامت فيهم البطولة، وضعف لديهم الإيمان هانوا على أنفسهم، وهانوا على أعدائهم، وبدأ في حياتهم دور الاضمحلال والأفول حتى لم يبق منهم أحد في الأندلس التي زال عنها الإسلام والمسلمون زوالاً نهائياً.

     رحم الله إقبالاً وجزاه عن شِعره الرائع خير الجزاء.. وأعادك أنت أیها المسجد الأسير إلى أحبابك وأهلك وذويك. 

*****

طريق خلاص العالم وسعادته في نظر إقبال

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

طريق خلاص العالم وسعادته في نظر إقبال

     لم يألُ محمد إقبال جهداً في بيان أن النظريات المعاصرة والفلسفات المادية الجديدة لا تشفي غلة الإنسان، ولا تروي ظمأه، ولا تقوى على انتشاله مما يعانيه من صعاب ومتاعب وتحديات لسبب بسيط وعميق، وربما اجتمعت البساطة والعمق معاً، وهو أنها هي المسؤولة عما آل إليه أمر الإنسان المعاصر من دمار، ذلك أن جميع العلل والأمراض والكوارث والنكبات والقلق والحيرة والتخبط والضياع؛ إنما هي وليدة هذه النظريات والفلسفات.

     لذلك يتناول إقبال الشيوعية والرأسمالية، وهما أشهر المبادئ المادية التي تتقاسم الإنسانية اليوم بالنقد الذكي الشجاع والتفنيد القوي الساخر. لقد قال في آخر حديث قدمه من الإذاعة قبل وفاته بشهور: "إن المصائب التي تكابدها الإنسانية والهاوية التي تتقدم نحوها كل ذلك من أجل النظريات الباطلة".

     ولقد أثبتت الأيام صدق نظره ونفاذ بصيرته؛ إذ ما كاد يمضي على كلامه هذا سنتان فقط حتى واجه العالم تلك الهاوية المدمرة المخيفة هاوية الحرب العالمية الثانية.

     ولقد أكد الشاعر الكبير أن مصدر شقاء الإنسان ليس إلا تلك الفلسفات التي وضعها الإنسان بنفسه، فهي التي أصابت العالم كله بالكوارث والويلات، ومهدت له الطريق نحو الهلاك، كما أنه تناول الشيوعية والرأسمالية والدكتاتورية والنازية وجميع المذاهب والدعوات الجاهلية بالذم والنقد الساخرين اللاذعين، وأثبت أنها سُمٌّ ناقع في جسد الإنسانية وعقلها وقلبها وسلوكها وأعصابها.

     لقد ثبَّت شاعرنا الكبير في المسلمين فكرة الحفاظ على الإسلام، وأن الغاية الأولى والكبرى لهم ينبغي أن تكون هي الثبات على عقيدته النقية العظيمة.

     أما الحرية السياسية، وأما الرفاهية الاقتصادية، وأما القوة العسكرية، وأما العدالة الاجتماعية، وأما التقدم العلمي والصناعي والثقافي والتكنولوجي، أما ذلك كله؛ فهو وإن كان مما يحرص الإسلام على تحقيقه لأبنائه، ويطالبهم أن يكونوا فيه مجلّين سابقين، فإنه في نهاية أمره ليس غايةً قط، إنما هو وسيلة المسلمين لأداء رسالتهم الإسلامية.

     ومن غير شك قط يستطيع الباحث أن يؤكد أن إقبالاً من عظام رجال الأمة الإسلامية في عصرها الأخير.

     لقد ارتفع صوته مدوياً بثقة قوية جداً، وجسارة لا حد، لها واستعلاء بعيد الأمداء بعظمة الإسلام وخلوده وصحته وقوامته على الناس في وقت كان فيه كثير من المسلمين مبهورين إزاء حضارة الغرب، مأخوذين بثقافته لا يملكون أن يتخذوا الموقف المتوازن السليم فكان له دور عملي شجاع أدى إلى نتائج إيجابية مباركة في واقع المسلمين، وخاصة في شبه القارة الهندية فأسهم فيه مع غيره من الأذكياء المخلصين في تحرير المسلمين من عقدة النقص والإحساس بالضعة والصغار إزاء الغرب الحضاري الذي كان في شرخ فتوته وشبابه.

*****

المسلم الحق في نظر إقبال

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

المسلم الحق في نظر إقبال

     لم يكن الشاعر العظيم محمد إقبال ينشر شعره، ويعلن آراءه وكلماته، حتى رأى فيه قادة الفكر، وذوو الرأي، وأصحاب التطلع إلى التأمل والتعمّق والإصلاح، عبقرية فذة، ونفساً وثّابة، وعقلاً راجحاً، يُرجى من ورائه الخير الكثير، والعطاء الرائع.

     وحين طفق يلقي محاضراته في إنكلترا بدأ الغربيون يهتمون بفكره وفلسفته، وخاصة حين كان يدرّس في جامعة لندن في أثناء غياب أستاذه "توماس آرنولد" عنها. ثم ازدادوا اهتماماً به حين نقل المستشرق الإنكليزي "نكلسون" منظومته "أسرار خودي" إلى اللغة الإنكليزية، وبدؤوا يعرضون لها بالنقد والتجريح آخذين على صاحبها أن فكره وفلسفته تخصّ المسلمين وحدهم.

     والإنسان الكامل عند إقبال هو المسلم، ولكنه ليس المسلم على إطلاقه، بل هو المسلم الحق الذي يتخلق بأخلاق الإسلام، ويسير على هداه. يقول إقبال في نجوى له لهذا الإنسان الكامل:

"اقرأ مرة أخرى في سيرتك الأولى درس الصدق والعدل والشجاعة لأنك أنت المنشود لتسود العالم مرة ثانية.
إن السجدة التي هي جديرة بالاهتمام هي السجدة التي تحرم عليك كل سجدة لغير الله.
المسلم الصادق في عزمه ينازع الأقمار تاج الفلك.
إنك أيها المسلم في العالم وحدك، وما عداك سرابٌ خادع ووهمٌ زائف.
إن إيمان المسلم هو نقطة دائرة الحق، وكل ما عداه في هذا العالم المادي وهمٌ وطلسمٌ ومجاز".

     وهو يدعو المسلم كثيراً إلى التمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، ويناشد المسلمين التعاون والتآزر، وأن يصبحوا كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، فلا تنال منهم الحوادث، ولا تعدوا عليهم العوادي.

     ولم يُغفل الشاعر العظيم سوء حالة المسلمين، فكان شديد الأسى لهم، عظيم الألم لما وقعوا فيه من فرقة وتشاحن وإخلاد إلى الأرض. يقول:

"لقد فقد المسلمون سَوْرَةَ الحب الصادق، ونزف منهم دم الحياة، فأصبحوا هيكلاً من عظام لا روح فيه ولا دم".

     أما المسلم الكامل الذي يعي معنى (لا إله إلا الله) ويحاول النهوض بمسؤولياتها فيقول عنه:

المسلم الصادق في عزمه     ينازع الأقمار تــاج الفلكْ

      وأما عن شمول رسالة المسلم، وترفعه على الحدود والقيود، وأن جنسيته عقيدته، فيقول: "إن الإسلام لا تعرف أرضه الحدود، ولا يعرف أفقه الثغور، ليس وطني دهلي، ولا أصفهان، ولا سمرقند، إنما وطني العالم كله".

*****

أثر والد إقبال في تربيته

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

أثر والد إقبال في تربيته

     تلقى إقبال عن أبيه الكثير من الدروس في الإيمان والأخلاق، وكان أبوه وراء شغفه الشديد بالقرآن الكريم.. كان يداوم على قراءته كثيراً، ويديم النظر في سحر بيانه وجلال قدره، ولا يكاد يكف عن الحديث عنه والإشادة به في شعره. يقول عن القرآن: "هو رأس مال أهل الحق، فيه ضمير الحياة، وفيه نهاية كل بداية، وبقوته كان عليٌّ فاتحَ خيبر".

     وكان إقبال قد كتب ذلك على نسخة من القرآن الكريم مُهدِياً إياها إلى ملك الأفغان "نادر خان" الذي لم يكد يقرؤها حتى بكى وقال: "لقد أتى على نادر خان زمان، وما له أنيس سوى القرآن وهو الذي فتحت قوته كل باب".

     وقد قصَّ إقبال في كتابه "رموز بيخودي" شيئاً من تأثير أبيه في نفسه، وشيئاً يكشف طبيعته هو ببساطتها وتواضعها وسماحتها حين روى القصة الآتية:

     سائل كالقضاء المبرم طرق بابنا طرقاً متوالياً فثُرْتُ غضباً وضربته بعصا على رأسه، فتبعثر ما جمعه بسؤاله، والعقل آنذاك لا يفرق بين ضلال وصواب، ورآني والدي فاغتم واربد وجهه، وتأوَّه وسال الدمع من عينيه، واضطربت روحي الغافلة وطار لبّي. قال أبي: "اذكر يا بني جلال المحشر، يوم تجتمع أمة خير البشر، وارجع البصرة كرة إلى لحيتي البيضاء ونحول جسمي المرتعش بين الخوف والرجاء. كن يا بني من البراعم في غصن محمد، وكن زهرة يحييها ربيع المصطفى".

     ولا مراء في أن ذكر إقبال لهذه الحادثة في شعره بعد ذلك يدل على مدى ما تركته في نفسه من أثر، ظهر بعد ذلك كثيراً في برّه بالفقراء وعطفه عليهم. يقول في بعض كتاباته: "ليس طريقي طريق المستكبرين بل طريق الفقراء"، وأنشد في شعره:

أرى الفقـــراءَ عبـــاداً تقــاةً     قيـــاماً في المساجدِ راكعيـنا
هم الأبرار في صـومٍ وفطرٍ     وبالأسحارِ همْ يســتغفرونــا
وليسَ لكم سوى الفقراءِ سِتْرٌ     يواري عن عيـوبكم العيونا
أضلَّتْ أغنيــــاءَكمُ الملاهي     فهم في ريبهم يتـــرددونــــا
وأهلُ الفقرِ ما زالوا كـنـوزاً     لـدينِ اللهِ ربِّ العــــالمينــــا

     ثم تجلّى عطف الشاعر العظيم على الفقراء في خطابه الذي أرسله إلى "محمد علي جناح" يشكو إليه فيه حال المسلمين في الهند، ويدعوه إلى العمل لإنقاذهم مما يعانون.

*****

قصيدة محمد إقبال إلى الأمة العربية

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

قصيدة محمد إقبال إلى الأمة العربية

     خصص الدكتور محمد إقبال، المفكر الشاعر الفيلسوف؛ قصيدةً تُعَدُّ من درر شعره، ومن أبدع ما جادت به قريحته الوقادة للحديث مع أمة العرب، تسجيلاً لفضلها وسبقها، ودورها الكبير في نشر الرسالة الإسلامية، والأخذ بيد الإنسانية الضائعة، صَوْبَ الحق والنور والهداية، وبدئها تاريخَ عهدٍ حر جديد، وفجر مضيء سعيد، وإهابة بها أن تعيَ حقيقةَ مهمتها، وخطورةَ دورها، واستنهاضاً لعزيمتها، أن تقوى وتنطلق، وتمارس مستلزمات واجبها الذي عَظُمت به وشَرُفت، وكانت خيرَ أمةٍ أخرجت للناس.

     ينطلق نَفَسُ الشاعر على سجيته، ويتدفق شعره العظيم الخالد، فيتحدث عن شخصية هذه الأمة، تلك الشخصية الحبيبة الأثيرة، التي كانت على يدها نهضةُ الأمة المسلمة بادئ ذي بدء، وهي أشرفُ وأجمل نهضة في حضارة الإنسان حيث كان، ويدع لعاطفته الجياشة، وعقله المتوقِّد أن يصدر عنهما خطابٌ لأمة العرب يقول فيه:

     "أيتها الأمة العربية التي كتبَ اللهُ لباديتها وصحرائها الخلود، من الذي سمعَ العالم منه نداء: لا قيصرَ ولا كسرى لأول مرة في التاريخ!؟ ومن الذي أكرمه اللهُ بالسبقِ إلى قراءة القرآن!؟ من الذي منحه الله سِرَّ التوحيد فنادى بأعلى صوته "لا إله إلا الله"!؟ وما هي هذه الأرض التي اشتعل فيها هذا السراج الذي أضاء به العالم!؟ هل العلم والحكمة إلا فتاتُ مائدتكم!؟ وهل قوله تعالى: {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} إلا وصفٌ لحالكم!؟

     إن نَفَس ذلك الأمي عاد على هذه الصحراء بالخصب والنماء، فكانت الأزهار والرياحين. إن الحرية نشأت في أحضانه، وإن حاضر الشعوب ليس إلا وليدَ أمسه. إن الجسد البشري كان بلا روحٍ ولا قلب، فأعطاه الروح والقلب، إنه حطَّم كل صنم قديم، وأفاضَ الحياة على كل غصن ذابل من أغصان العلوم والمدنيّة، وأنجب أبطالاً وقادةً مؤمنين، أقاموا المعارك الفاصلة بين الحق والباطل، فتارةً يدوّي الأذان في ساحة الحرب، وتارةً تتحلّى الآذان بقراءةِ القرآن بين صليل السيوف وصهيل الخيول. إنَّ سيف البطلِ المغوار كصلاح الدين، ونظرةَ الزاهد الأوّاب كأبي يزيد مفتاحان لكنوز الدنيا والآخرة.

     ليس الحمراءُ في غرناطة، وتاج محل في أكره؛ إلا صدقةً من صدقاتِ بعثته، ومَظْهراً من مظاهر عبقرية أمته.

     إن ما في أمته من ذوقٍ رفيع، وفكرٍ سليم، وفنٍّ بديع بعضُ هبات رسالته الخالدة الكريمة.

     كان الإنسان حفنةً من تراب، وقبضةً من دماء وأشلاء وعظام، لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان، فعرّفه بالعلمِ والإيمان، وأذاقَه لذةَ العبادة والإحسان، فجزاه الله عن الإنسانية أفضل الجزاء، فقد قاد خطاها صَوْبَ الحق والهداية".

     إن إقبالاً يريد أن يُهيجَ في أمة العرب نخوتَها وحميتها، وحماستها لدينها، فيذكِّرها بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ورسالته المشرّفة الطاهرة، ويوضّح لها أثره البعيد في حياتها وحياة الناس جميعاً، وهو أثر لا يضاهيه أثرُ أحدٍ آخر لا قبله ولا بعده كائناً مَنْ كان.

     إنه يذكرها بعهدها القديم قبل البعثة المشرّفة حين كانت حياتها فوضى ضاربة، وجهالة مطبقة، الحياةُ فيها كحياة الأنعام، تقتتل على ما يَعْظُم وما يهون، وتغزو قبائلها بعضَها بعضاً، بل ربما غزت نفسَها إنْ لم تجد من تتجه إليه بالغزو، مصداقاً لقول الشاعر الجاهلي:

وأحياناً على بكرٍ أخينا     إذا ما لمْ نجـدْ إلا أخانا

     كان مَثَلُها قبل الإسلام كمثلِ الجواد الذي يبدو قوياً نشيطاً لكنه عاجزٌ كسول، كمثلِ السيف الذي يبدو صارماً قاطعاً لكنه مفلولٌ لا ينفع، كمثلِ الماء الذي يبدو نقياً صافياً لكنه ملحٌ أجاج، لذلك يقول الشاعر: "أيها العرب، قدْ مَنَّ اللهُ عليكم، إذ جعلكم مثلَ السيف البتار أو أحدَّ منه، وكنتم من قبلُ رعاةً للإبل، فسخّر الله لكم المقاديرَ حينَ هداكم فاهتديتم، وناداكم فاستجبتم، حتى لو أقسمتمْ عليه لأبرّكم، وهنالك دوَّت تكبيراتكم وصلواتكم، وزَمْزَمَت جَلَبَةُ حروبكم ومغازيكم بين الخافقَين، فارتجّ بها ما بين الشرق والغرب، فما أحسنَ تلك المغامرات!.. وما أجمل هاتيك الغزوات!.

     إن الشاعر الكبير يُخلص في النداء أيّما إخلاص؛ ذلك أنَّ أملَه في أمة العرب كبير كبير، فهي التي نهضت بتكاليف الرسالة من قبل، وانطلقت تنشرها في المعمورة حين كانت حاجةُ البشرية إليها -وقد ضلّت- أشدَّ من حاجة الظامئِ التائه في الصحراء إلى الماء، وحاجةُ عصرنا اليوم إلى الهداية -وقد ضلّ وحاد وفسد- لا تَقلُّ عن حاجة عصرِ البعثةِ المحمدية على صاحبها أفضلُ الصلاة والسلام، إلى الهداية والرشد، وما دامت أمة العرب قد أدَّت بالأمس مهمتَها الجليلة الكبيرةَ تلكم، فهي موئلٌ للرجاء والأمل أن تؤديَ المهمةَ ذاتها اليوم، فتنطلقَ مواكبُها إلى شرق الأرض وغربها تحملُ الرسالةَ الهادية للعالم الضال الحائر.

     ومن أجل ذلك يُهِيبُ الشاعرُ الكبير بأمة العرب أن تنهضَ من نومها وكسلها، وتمارسَ دورَها المطلوب منها بحكمِ إسلامِها، وهو إنقاذ البشرية من الجاهلية الهابطة بالإسلام السامي، ومن الأفكار المتناقضة بالقرآن الذي لا يخطئ ولا يتناقض، ومن قيادتِها الحالية التي تسوقُها نحو الدمار بالقيادة المسلمةِ التي تقودها نحوَ السعادة والرشد والهداية، في دينها وفي دنياها.

*****

محمد إقبال وفيض الذكريات في جامع قرطبة

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

محمد إقبال وفيض الذكريات في جامع قرطبة

     ما كان محمد إقبال وحيداً حين دخل إلى جامع قرطبة يزوره عام (1932م) إبان رحلته إلى إسبانيا، وما كان وحيداً حين طفق يتجول في أبهائه وفِنائه، وينظر إلى سقوفه وأعمدته، فالجامع الخالد درة معمارية، والسائحون يفِدون إليه بكثرة، لكن شاعرنا الكبير كان وحيداً في خطراته وسبحاتِه، وتأملاته وسوانحه، وذكرياته وأشواقه، وأحزانه وأفكاره، والعبرةِ التي كان يتلمَّسُها في العظةِ الأندلسية، والشعر الذي كان يختلج في فؤاده ليكونَ واحدةً من دررِ قصائده وهي "في جامع قرطبة".

     وصلى الشاعر في الجامع الذي لم يعرف الصلاة منذ دهور، وسجد على أرضه التي طالما سجد عليها المؤمنون الصادقون، وتلا شيئاً من القرآن الكريم في ذلك الجامع الذي طالما ارتجّت أبهاؤه بأصوات الناس يقرؤون في كتاب الله عز وجل، وتناقلت جنباته دويَّ الأذان يرفعه المؤذنون على منائره العالية.

     تذكر الشاعر ذلك الأذان الذي كان يدوي في الجو، ذلك الأذان الذي يلخص في كلماته القليلة حقائق الإسلام الكبرى، فالله عز وجل هو الواحد الذي ليس له شريك، وهو أكبر من كل ما سواه أيّاً كان، والرسول الكريم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم هو رسول الله جاء برسالة الإسلام التي بعثه الله تعالى بها، وهذه الرسالة هي رسالة الفوز والفلاح ودرب الهداية والسعادة.

     إن هذا الأذان هو إعلان يومي متكرر لأساسيات الإسلام العقيدية، انفردت به الأمة المسلمة دون الناس، إذ إنه ليس له نظير في الأصوات والهتافات، والإعلانات والرسالات، لا يشبهه ناقوسٌ يُقرَع، ولا بوقٌ يُنفَخ، ولا نارٌ تُوقَد، ولا أي وسيلة أخرى من وسائل الإعلان.

     تذكر الشاعر ذلك الأذان العظيم، الذي كان يخشع له الكون، ويضطرب له العالم، وتتزلزل به أوكار الفساد والطاغوت، ذلك الأذان الذي تنفّس له الفجر الصادق في العالم في القرن السادس الميلادي، وانطلقت به موجة من النور والهداية سعدت بها الدنيا، وعاشت على طريق الاستقامة والهدى، واليوم ليس بين العالم الضائع التائه، الغارق في ماديته، المنحرف عن سواء السبيل، وبين هذه الموجة من النور والهداية، إلّا أن يستجيب لدعوة هذا الأذان، وهي رسالة الإسلام الخالدة المحفوظة، التي يحملها هذا الأذان في الآفاق كل يوم خمس مرات، معلناً مبادئها العظيمة، مبلغاً معانيها السماوية، فإن استجاب نجا وفاز، وسعد في دينه ودنياه؛ وإلّا ظل في الضلال تائهاً يتخبط، ينتقل من تيهٍ إلى تيه، ويعالج مشكلة مستعصية بدواء يسبب له مشاكل مستعصية جديدة.

     امتلأ إقبال يقيناً بأن الأمة التي استجابت لداعي الأذان، ودانت بعقيدته، وعاشت لرسالته، هي أمة الخلود التي لا تموت ولا تفنى وإن مرّت بها الشدائد والصعاب، وتوالت عليها النكبات والخطوب، امتلأ يقيناً بهذا، وهو في الجامع التاريخي العظيم، جامع قرطبة، يفكر ويتأمل ويتدبر، وحرّك هذا المنظر الرائع، والأثر الباذخ، والمسجد المحزون الفريد، الذي لم يعرف منبره الخطبة، ولم تشهد أرضه الصفوف، ولم تعرف منائره الأذان منذ قرون، حرّك في الشاعر الكبير؛ الإيمانَ والحنان، والأسى والحزن، وجادت قريحته الوقادة بقصيدته الرائعة التي أسماها "في جامع قرطبة"، والتي كتبها في إسبانيا، وكتب أكثرها في قرطبة نفسها.

     ذكر إقبال في قصيدته أن هذا العالم خاضع للفناء، وأن الآثار التي تخلّفها الأجيال، وأن البدائع الفنية التي تنتجها العبقرية الإنسانية بين حين وآخر، كُتِب عليها الاندثار والاضمحلال، ولا يعيش من بينها إلا ذلك الأثر الذي أكمله عبدٌ مخلصٌ لله، وأضفى عليه حيويته وخلوده، لأن عمله يستمد الحياة والنور من عاطفته المؤمنة، ومن حبه القوي الخالص.

     والحب عند الشاعر الكبير عاطفة لا صلة لها بالجنس والغرام، تسمو على المادة والمعدة، وتجمع بين الإيمان والحنان. وهذا الحب وحده هو القوة الوحيدة التي تقف أمام دورة الدهر الذي لا يكف عن الجريان، ولا يثبت لها شيء لأنه قوة كبيرة أمام قوة مماثلة، وسيل دفاق أمام سيل دفاق آخر.

     وعاطفة هذا الحب الفريد المتميز، الذي لا يشاكل أي لون آخر، عاطفة جياشة نبيلة، حافلة بأسمى المشاعر، وأكرم الأحاسيس، وهي عاطفة فياضة طهور، عميقة صدوق، لأنها قبس من أقباس الإيمان، وشعاع من شعلته، وبها كانت مواقف وحالات، فطالما حملت القائدَ على الشجاعةِ فانتصر في المعركة، والمصلي على الخشوع فبكى في المحراب، والعالِمَ على الحق فقال كلمته غير هيّاب سعيداً بتقديم رأسه في سبيل الله جل جلاله.

      وما من شك في أنها واحد من الدوافع الكبيرة التي حملت المسلمين على الخروج والمغامرة حتى وصلت بعض كتائبهم إلى الأندلس، فأقامت فيها دولة للإسلام شامخة عالية، كان من بعض معالمها في عاصمتها قرطبة، ذلك الأثر الخالد، جامع قرطبة المشهور.

      لقد طُويت الصفحة الإسلامية في الأندلس، عقيدةً وشريعة، ونظام حكم يسود الناس، ويحقق لهم السعادة والهداية، ويقودهم في درب الفلاح، الفلاح في الدنيا، والفلاح في الآخرة؛ طُويت هذه الصفحة من سِفْر الأندلس يوم مصرع غرناطة عام (1492م)، حين سلّم أبو عبد الله الصغير آخر حكام غرناطة مفاتيح بلده للملِكَيْن الكاثوليكيين فرديناند وإيزابيلّا.

     وبعد أن طُويت هذه الصفحة؛ جَرَتْ حملة شديدة، عنيفة دامية، لملاحقة كل آثار الحياة الإسلامية وبقاياها حتى باد معظمها، وصار أثراً بعد عين، لكنَّ زائر الأندلس يكاد يشعر بالروح العربية المسلمة حيث يذهب، وكأن القرون الطويلة الدامية لم تستطع القضاء إلّا على المظهر المادي الخارجي لتراث العروبة والإسلام.

      إنك إن زرت مسجد قرطبة ستخامرك مشاعر كتلك التي خامرت محمد إقبال يوم زاره، لكنك في غير قرطبة ومسجدها، وغرناطة وحمرائها، تكاد تشعر أيضاً بعبق خفي نبيل من العروبة والإسلام يلقي عليك السلام حيثما ذهبت في الأندلس التي اهتدت بنور الإسلام ثمانية قرون.

      لا غرابة أن يشعر الإنسان بأواصر القربى والنسب والمعتقد حين يكون في الأندلس، أندلس العطر والجمال، خاصة إذا كان شاعراً رهيف الحس قوي الشعور.

     ومرةً كان شاعر عربي يجوب حمراء غرناطة متذكراً متعجباً، مفتخراً محزوناً، لكنه كان صامتاً على كل حال، ولكنْ حين قالت له الدليلة الإسبانية مشيرةً إلى عظمة الحمراء: إنها من صنع أجدادها، شعر كأن طعنة أصابته، وتمنّى لو أن هذه الدليلة علمت أن سادة الحمراء وصانعيها ومبدعيها هم أجداده العرب المسلمون وليسوا أجدادها، وهم أسلافه العظام الفاتحون، وليسوا أسلافها.

الزخرفــاتُ أكـــادُ أسمعُ نبضَــها     والزركشاتُ على السقوفِ تنادي
قالتْ: هنا الحـمراءُ زَهْـوُ جدودنا     فـاقــرأْ على جــدرانِها أمجـــادي
أمجادها؟! ومسحتُ جرحـاً نازفاً     ومســـحتُ جرحــاً غائراً بفؤادي
يا ليتَ وارثتي الجميــــلةَ أدركتْ     أنَّ الــذين عَنَـــتْهُمُ أجـــــــــدادي

     وما يدري الشاعر الجريح؛ فلعلها قصدت أجدادها الذين هم أجداده!؟

*****

الأربعاء، 3 أغسطس 2022

محمد إقبال يرسم للمسلم طريقه

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

محمد إقبال يرسم للمسلم طريقه

     إن الشاعر الكبير محمد إقبال واحد من الرواد الأفذاذ الذين يظهرون بين الحين والآخر، ليكونوا أدلاءَ صادقين، وحُداةً مؤمنين، يهيبون بالأمة المسلمة أن تستعلي على الضعف، وتعلو على الخور، وترتفع إلى الآفاق اللائقة بها.. تمسكاً بالإسلام، واستعلاءً بالإيمان، وهدايةً للحيارى، وابتكاراً وتتفوقاً وأصالة.

     انظر إليه كيف يخاطب المسلم في هذا العصر مهيباً به أن يمارس دوره في هداية الضائعين والحائرين وإسعاد الناس بالإسلام:

إنَّ هذا العصـــــرَ ليلٌ فأَنِــرْ     أيها المســــلمُ ليلَ الحائرينْ
وسفيـنُ الحقِّ في لُجِّ الهـوى     لا يرى غيرَكَ ربّانَ السفينْ

     وانظر إليه كيف يحذر الأمة من التقليد، ويهيب بها أن تنجو من آثاره السيئة الكئيبة:

كـــلُّ مَنْ أنــــــــكـرَ ذاتِيَّـــــتَهُ     فَهْوَ أولى الناس طُرَّاً بالفنــــاءْ
لن يرى في الأرضِ شخصيتَهُ     كلُّ مَنْ قـــلَّـدَ عيشَ الغربــــاءْ

     وانظر إليه كيف يخاطب الأمة العربية، يذكرها بأمجادها وبطولاتها المؤمنة، وأنها أعظم مَنْ حرر الإنسان، وردَّ إليه كرامته، وهتف بحقيقة التوحيد:

أمةَ الصحراء يا شعبَ الخـلودْ     مَنْ سواكمْ حَلَّ أغلالَ الــورى
أيُّ داعٍ قبلَكُمْ في ذا الوجــــودْ     صاحَ لا كسرى هنا لا قيصرا
مَنْ سواكمْ في حديثٍ أو قديــمْ     أَطْـــلَعَ القرآنَ صُبْحاً للرشــادْ
هـاتفاً في مسمعِ الكونِ العظيمْ     ليسَ غيرُ اللهِ ربــــاً للعبــــــادْ

*****

ورود من بستان محمد إقبال

ورود من بستان محمد إقبال

     كان آخر ما أنشده الشاعر العظيم محمد إقبال في ختام ملحمة حياته الحافلة بالجهاد الحق والكلمة الشجاعة، والحكمة البناءة هو قوله "النغم العذب الذي ولى قد يعود وقد لا يعود، النسيم الذي يهب من الحجاز قد يهب أو لا يهب. إن أيام هذا الفقير –يعني نفسه– قد انتهت. سأقول لكم عن سمة المؤمن: هو من يستقبل الموت وعلى شفته ابتسامة التوحيد".

     ثم نطق بالشهادة وصعدت روحه إلى الرفيق الأعلى في (21 أبريل 1938م) قبل أن يرى ثمرة كفاحه، دولة باكستان، التي كان يؤمل منها أن تقوم لتكون نموذجاً للمجتمع المسلم، ولتؤدي دوراً لم تؤده مع الأسف بعد أن قامت.

     وفي بستان هذا الشاعر العبقري الذي يستحق أكثر بكثير مما أعطاه عصره حتى الآن، نتوقف لنقتطف من وروده هذه الريحانة العبقة التي نرى فيها كيف يربط نفسه بالخلود، وذلك في قوله: "كم من شاعر وُلِدَ بعد موته لأنه أغمض عينيه بعد أن فتح أعيننا، ثم رحل إلينا مرة أخرى وازدهر... مثل الورد ينبت من تراب قبره".

     وهذه وردة أخرى من بستان الشاعر العبقري: "إن بحر أصحابي ساكنٌ مثل الندى، لكن نداي يحمل طوفان البحر. انظر يا شباب إلى الموج يجري بسرعة إلى الشاطئ. اسمع حديث الموج للشاطئ. أخي يا أيها الشاطئ ألا ترى معي وجودي، إن وجودي دائماً في السعي، ودائماً أسعى، وإن لم أَسْعَ فلا وجود لي ولا أمواج. يا شباب: لا تجلس على الشاطئ في انتظار النعم. غُصْ في البحر، جاهد الأمواج، إن خلود الحياة في الجهاد".

     "يا إلهي حرر الفكر من العبودية، واجعل الشباب معلمين للشيوخ. امنحهم قوة تنبض بها حياتهم. امنح الشباب قلب عليٍّ، امنح الشباب حُبَّ الصدِّيق. أعط الشباب آلام قلبي وحبي وبصري".

     تلكم كانت زهرة ناضرة من بستان الشاعر العبقري، الذي كان مَعْلَماً من معالم الأصالة الإيمانية، ونموذجاً مشرفاً للبحث عن الذات المسلمة، والتعبير عنها تعبيراً حياً وقاداً، يجمع بين عمق الفكرة وصحتها، وحرارة العاطفة وجيشانها، وروعة الأداء وجماله.

*****

مهمة المسلم في الحياة في نظر إقبال

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

مهمة المسلم في الحياة في نظر إقبال

     تلقى إقبال، الشاعر العظيم الفيلسوف دراسته في مدارس الهند، وهي يومئذٍ ينوء كاهلها تحت الاحتلال الإنكليزي الذي استشرى داؤه في كل مظاهر الحياة الهندية، ذلك أنه عمل على بسط نفوذه الثقافي على شتى مناحي الحياة الفكرية في الهند، وبخاصة على التعليم النظامي.

     ثم أكمل إقبال دراسته العليا في إنكلترا، ولكن اتصاله هذا، الوثيق جداً، بالثقافة الغربية في الهند أولاً، وفي إنكلترا ثانياً؛ لم يؤثر أقل تأثير في قوة إيمانه بالإسلام، وثقته الهائلة بصحته وخلوده، بل ربما كان ذلك من الأسباب التي شحذت هذا الإيمان وزادته تمكيناً ورسوخاً وقوة، خاصة حين اكتشف زيف الحضارة الغربية وضلالها وانحرافها.

     قال ذات مرة: "يا ساكناً ديار الغرب، ليس أرض الله حانوتاً، إن الذي توهمتموه ذهباً خالصاً سترونه زائفاً، وإن حضارتكم ستنحر نفسها بخنجرها". وحين قال ذلك كان لا يزال يعيش بين ظهراني أهل هذه الحضارة، غير غافل عن نقاط ضعفها وسلبياتها الكبيرة.

     وقد ظل الرجل على قناعته هذه إزاء الحضارة الغربية، وظل يكررها في شعره ناعياً عليها إهدارها للروح والفضائل، وتعويلها على العقل بشكل مبالغ فيه. يقول عن الرجل الغربي: "إنه عاجز عن إخضاع عقله للحدس، ذلك الذي يكشف عن مجرى الأفلاك، لم يستطع أن ينفذ إلى العالم الداخلي، عالم أفكاره، ضلَّ في متاهات عقله فلم يستطع أن يفصل في أمر الخير والشر.

     وقد أتاحت له الفترة التي قضاها في أوربا، وكان دارساً جاداً جداً، وقارئاً شغوفاً، أن يكتشف زيف الحضارة الغربية، وكان يكثر من الحديث عن تلك الفترة، وكيف استطاع أن يخرج منها وهو أكثر إيماناً وأشدّ صلابة. يقول في ذلك: مكثت في أتون التعليم الغربي، وخرجت منه كما خرج إبراهيم من نار النمرود.

     لقد خرج من أتون الحضارة الغربية قوي الإيمان بالإسلام، عظيم الولاء له، يحبه حباً جماً، ولا يمل أبداً الحديث عن عظمته والتغني بأمجاده ورجاله.

     وخرج من هذا الأتون وهو راسخ الاعتقاد بأن "حكمة الغرب" هي التي جرَّت الشرور والويلات على الشعوب الإسلامية عامة والعربية خاصة. يقول مناجياً رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم: "إن حكمة الغرب قد أسرت الأمم، وتركتها سليبة حزينة لا تملك شيئاً، إنها مزقت وحدة العرب، واقتسمت تراثهم".

     ويخاطب الشاعر العبقري الكبير محمد إقبال، كل فرد في الأمة المسلمة فيقول له: إنك مسلم، فاجعل قلبك معموراً بالأماني والآمال. اذكر دائماً وعد الذي قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (آل عمران:9)؛ عشية الألم والضجر تسفر عن صبح العيد. ها هو ذا فجر الأمل قد تبلج من بين دياجير الظلام. هلم ننشر الزهور والرياحين على قبر الشهيد الذي فعل دمه المسفوح بأمتنا ما يفعل الغيث بالشجرة الثابتة... وفرعها في السماء.

     وإذا كانت ثقة إقبال بدور المسلم تبلغ هذا الحد العظيم، انطلاقاً من شعوره بأهمية الرسالة الملقاة على عاتقه، وخطورة المهمة التي انتُدِب إليها، فما من ريب أن هذه الثقة التي جعلته يهتف بهذا الحداء الحار، والنشيد الحي الدافق، تعود من بين ما تعود إليه، إلى يقينه الضخم بصحة الإسلام وخلوده واستمراره، وقدرته على حل كل مشكلات العصر، هذا من جهة، ومن جهة ثانية تعود تلكم الثقة إلى إحساسه بخطر الحضارة الغربية، وإدراكه نقاط الضعف فيها.

     يقول محمد إقبال بعد أن توغل في دراسة ثقافة الغرب وحضارته دراسة عميقة مستقصية: تعجبكم هذه الحضارة الحديثة، ويبهر عيونكم جمالها. ما هي سوى فصوص موَّهتها يد الصانع فخطف الأبصار بريقها الكاذب. إن الحكمة التي يتفاخر بها حكماء الغرب قد تحوَّلت في أيديهم سيوفاً تقطر دماً. لعمر الحق إن كل حضارة تقام على التنافس في الأموال والتكالب على الشهوات لا بد أن تنهار، وقد بدأت.

     ثم اتجه إلى جنيف حيث مقر عصبة الأمم التي كانت تمثل الهيئة الدولية يومذاك، والتي كان يسيطر عليها، ويحرك خيوطها، ويرسم سياستها؛ دهاة السياسة الغربية، فقال: لقد عمَّت في هذا العصر مجالس الأمم، لكن وحدة الإنسانية بقيت مختفية عن الأنظار. الهدف الذي ترمي إليه حكمة الإفرنج هو تمزيق الأمم، وغاية الإسلام إنما هي الوحدة الإنسانية، فقد بعثت مكة إلى جنيف بهذه الرسالة: ماذا تريدين؟ عصبة أمم أم عصبية بني آدم!؟

*****

محمد إقبال وجامع قرطبة

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

محمد إقبال وجامع قرطبة

     وقف الشاعر العظيم محمد إقبال رحمه الله تعالى عام (۱۹۳۲م) إبان زيارته لإسبانيا ومروره بجامع قرطبة العظيم أمام العاطفة القوية، والحب الطاهر، والوفاء الكريم، الذي حمل مسلمي الأندلس على بناء هذا الجامع العظيم، على أساس من التقوى والإيمان.

     وقف وقفة خاشع أمام الطموح الضخم الذي أوصل العرب من شبه جزيرتهم العربية إلى شبه جزيرة الأندلس؛ يحدوهم نداء الإيمان، وتعلوهم: الله أكبر!.. وقف قفة خاشعٍ أمام الجرأة وآثارها الكبيرة، خاشعٍ أمام العبقرية المعمارية التي أنتجت هذا الأثر الخالد، خاشعٍ أمام الفن العربي الإسلامي الذي ظهر في تصميمه الحكيم، وبساطته الرائعة، وجماله الفريد، وأثار ذلك كله أشواقه ولواعجه وإيمانه وشاعريته.

     ورأى إقبال أن هذا المسجد الفريد صورة للمسلم في تلك الأرض الحنون، تجلت فيه أخلاق المسلم وصفاته وخصائصه المستقلة المتميزة: علو في الهمة، واتساع في القلب، وبساطة في المظهر، وبراءة في النية، وثبات على الحق، وإعلان للعقيدة والمبدأ، واستعلاء وإباء، واعتزاز وشموخ، وطموح ضخم كبير، وعزيمة راسية راسخة، وثقة هائلة عميقة، وجَمْع بين الجلال والجمال، والأنفة والتواضع، والبطولة وحسن الخلق.

     وتذكر بهذا المسجد الحزين، أهله الذين رفعوه وشادوه، وتذکر بهم العقيدة التي كانوا يعيشون لها، ووهبوا أنفسهم لها، فعادت علیهم هذه الهبة بأكرم الثمار، عادت عليهم برضوان الله عز وجل، والأمل بثوابه وجنته في الآخرة، كما عادت عليهم بالفوز في هذه الدنيا، والمجد والظهور، فما أحسن هذا البيع!.. وما أكرم عقباه ومآله!..

     لقد بُني هذا الجامع العظيم في مدى طويل امتد مئتين وعشرين عاماً، وكان أول من شاده عبد الرحمن الداخل، وظل يزاد فيه ويوسع، وكانت التوسعة الأخيرة على يد الحاجب المنصور بن أبي عامر، فاكتمل بناؤه، وطفق يؤدي دوره في الهداية والعلوم، واحة للإيمان، وجامعة للمعارف، فكان من أشهر مساجد الدنيا جميعاً، ومن أعظم جامعاتها، وظل يقوم بدوره الرائد في الحضارة حتى دار الزمان، وقصّر المسلمون، وأدركتهم سنن الله تعالى التي لا تتخلف ولا تحابي أحداً قط، فسقطت قرطبة في يد الإسبان، وتوقف المسجد عن أداء دوره، وبقيت مبانيه حتى اليوم عبرة في ضمير الزمان، بالغة ناطقة، تهيب بالمسلمين في كل مكان ألا ينسوا دروسها التي كان ثمنها فادحاً جداً جداً: سقوطَ دولة، ومصرعَ أمة، وزوالَ دين.

     لعل فلسفة القوة بمعناها الإسلامي الواسع هي ملخص نظرية الشاعر الكبير محمد إقبال واتجاهه الفكري الذي ظل طيلة حياته يدعو إليه. وإنَّ هذا الذي فعله إقبال لأمرٌ بالغ الجلال والخطورة. ذلك أن التاريخ أثبت المرة بعد المرة، والكرة بعد الكرة؛ أن الشعوب التي تُعنى بالفنون عناية بالغة، وتنصرف إلى حياة الكسل بدل الجد والصبر والعناء، ويكثر فيها الجدل البيزنطي العقيم، وتضعف فيها الإرادة، وتفشو فيها وسائل الترف والملذات، وتخبو فيها نار الغيرة والحمية، وتتضاءل فيها نوازع العزة والنخوة. وتنتشر فيها فوضى الأفكار وبلبلة الآراء، ويغلب عليها الشك بدل اليقين، والاستخفاف بدل الجد.. أثبت التاريخ أن هذه الشعوب لا تثبت أمام عدو زاحف، أو خصم مقاتل. والشواهد على ذلك كثيرة: قصة اليونان، وقصة الرومان، وسقوط الأندلس، واستسلام فرنسا لألمانيا الهتلرية في الحرب العالمية الثانية، وغير ذلك كثير.

     إذن؛ فتحرير الأمة المسلمة من دواعي الوهن والعجز، وغرس معاني القوة والبطولة فيها أمر خطير.. جد خطير. وهو ما حاول إقبال أن يضعه، وهو ما نجح فيه إلى حد بعيد.

     وحين نظر إقبال إلى الأثر الفاتك المدمر لفلسفة الحضارة الغربية واتجاهها الأخلاقي في نفوس المسلمين، شن حرباً لا هوادة فيها ضد الغرب الحضاري ومدنیته المادية الآثمة الباغية. وعلى الرغم من أن آخرين سوى شاعرنا الكبير كانوا يؤدون الدور نفسه؛ إلا أنه لم يكتب لهم ما كتب له من الأثر والنتيجة. فهم لم يملكوا موهبته الشعرية العظيمة من ناحية، ولم تتح لهم فرصة الاطلاع العميق على حضارة الغرب وثقافته من ناحية أخرى.

     أما هو فقد كان الرجل الوحيد في عصره الذي ما كان يداينه أحد في تعمقه فلسفة الغرب وثقافته، وإحاطته بحضارته وحياته، وبصره العميق الدقيق بجوانب ضعفه وقوته، لذلك حين نهض يفند فلسفته وأفكاره كان يستمد من معين ثر غني دفّاق. فكان أن أذاب سحر الحضارة الغربية الذي كان يبهر القلوب، ویستولي على النفوس، ويستأثر بالاهتمام، والحقيقة أن لإقبال أثراً بليغاً في قمع ذلك الرعب الفكري والهزيمة النفسية من قلوب المسلمين إزاء هذه الحضارة المهاجمة.

     ومما لا ريب فيه أن الشاعر الكبير لم يألُ جهداً في إنقاذ المسلمين من عبوديتهم الجسدية، وتلقينهم درس الحرية، لكنه ركز جل تفكيره على إنقاذهم من العبودية الفكرية. ولعل هذا أوفى تلخيص للموقف الكبير الذي اتخذه الشاعر الكبير. 

*****

الأكثر مشاهدة