الخميس، 7 يوليو 2022

عبد الرحمن عزّام .. وهموم العصر (1)

عبد الرحمن عزّام .. وهموم العصر
(1)

     حين ينعمُ الإنسان النظر، ويطيل التفكير في أناة، حول القضايا الكبرى في العالم الحديث، والظواهر البارزة التي يمكن أن توصف بأنها طابع العصر وميسمه، وصفاته الصارخة العنيفة، يصل إلى نتيجة كبيرة، وهي أن الاضطراب والقلق، وروح التذمر، وفقدان الطمأنينة من صفات إنسان هذا العصر الذي نعيش فيه.

     الأمن النفسي العميق، الرضى الهادئ الفخور، البسمة الصافية العميقة، الطمأنينة الوادعة، السلام الداخلي الواثق، التناغم والانسجام بين ممتلكات الإنسان الخارجية وبين أعماقه الداخلية، ذلك كله بدأ ظله يتقلص باستمرار مع امتداد ثقافة العصر، وذيوع أخلاقه، وانتشار خصائصه في أصقاع المعمورة.

     إنه موجود بنسب مختلفة في بلاد العالم، لكن الملاحظ أن هناك علاقة عكسية بينه وبين خصائص العصر، فهو يتراجع حيث تتقدم هذه الخصائص وبنفس الشدة والمقدار، مما يجعل الإنسان يقرر دون تردد بأن العلاقة بين التراجع ها هنا، والتزايد ها هناك، هي علاقة السبب بالمسبب والعلة بالمعلول.

     وظاهرة كبيرة، وخطيرة جداً على مستقبل الإنسان كهذه الظاهرة، لا بد أن تشغل عقول عدد من الأذكياء ممن يُحَمِّلُونَ أنفسهم هموم العصر، وعناء التفكير في أسبابها.

     من هؤلاء الأستاذ عبد الرحمن عزام الذي يقول في كتابه "الرسالة الخالدة" تحت عنوان "هزيمة القوى المعنوية":

     "سبب آخر من أسباب الاضطراب العالمي، هو انهزام القوى المعنوية أمام القوى المادية، أو بعبارة أخرى تخلّف القوى المعنوية عن اللحاق بالتطور الفجائي للحياة المادية، واختلال التوازن بين الروح والمادة.

     وكان الناس وهم على الفطرة الأولى لا يسيطرون على المادة إلّا سيطرة محدودة، ولا يطمعون في التغلب على الطبيعة طمعهم بعد اكتشاف البخار والكهرباء، ونفاذهم إلى القوى الكمينة في الذرة، وإلى عناصر المادة، وتحويل تراكيب هذه العناصر، فلما افتنّوا في استخدام الكيمياء والميكانيكا، واستخرجوا من ذلك قوى جديدة، انصرفوا عمّا وراء الطبيعة، وعن عالم الروح إلى قهر الطبيعة والإيمان بالمادة وفعلها دون سواها.

     ففي أجيال معدودة تغيّر وجه الحياة، وانعكست وجهات النظر، فلو خرج أجدادنا من أجداثهم لاستنكروا حياة أهل الحضارة الجديدة، استنكار سكان الكهوف لسكان ناطحات السحاب، فقد تغيرت أسباب العيش، وتغيرت كيفياته، وتغيرت أغراضه، وانقلب الناس إلى السرعة يطلبونها، وإلى الحركة الدائمة يستطيبونها، فنفروا من الدعة والسكون بقدر ما كان أجدادهم ينفرون من الضوضاء والسرعة".

     ولكن أمَا كان بوسع إنسان العصر أن يُحدِثَ نوعاً من الانسجام والموازنة بين حياته المادية المتقدمة، وبين حياته الروحية العميقة، التي تتصل جذورها بفطرته من حيث هو إنسان؟

     من خلال ما جاء في كتاب "الرسالة الخالدة" يستطيع المرء أن يلمس حرص مؤلفه على نمو الإنسان الروحي، وتكامل سعادته، فكيف له أن يستمع إجابة المؤلف على السؤال الموجّه له قبل قليل عن الانسجام والتوازن المطلوبَين بين حياة الروح وحياة المادة؟

     "لقد تغيّر طرز الحياة فجأة ولمّا يستقر، بل هو في تغيّر مستمر، فالفرق بيني وبين أبي هو جيل واحد. ولكنه أعظم من الفرق بين أبي وبين آبائه قبل عشرات الأجيال".

     تلكم هي الإجابة المهمة للرجل، وهي إجابة تركز على التغير المادي بقوة، "هذا التغيّر المادي المستمر، وهذه السرعة لا تزال تتضاعف دون أن تبلغ حدها الأقصى قد جعلت الإنسان وهو يلاحق الحياة المادية الجديدة يغفل أو لا يستطيع أن يحتفظ بحياة معنوية مناسبة، فهو لا يستطيع أن يساير هذه السرعة المتفجرة تفجر المادة إلى أجزائها، مسايرة يحتفظ فيها بتراثه المعنوي".

     "وما الذي تَرَتَّبَ على ذلك؟ تخلّفت الحياة الروحية التي كسبها الناس في تجربة آلاف السنين، عن الحياة المادية الجديدة التي كسبوها في قرن واحد، وتطورت هذه الحياة تطوراً فجائياً، وبقي الإنسان مُثقلاً بتراث معنوي ضخم لا يتحرك معه فخلّفه وراءه".

     لقد عرف العالم خلال رحلته الطويلة عبر الأحقاب، مجموعة من الأُطُر والقواعد ظلّت تُشكِّلُ بين أبنائه قاسماً مشتركاً موحّداً، يجعل أمام الناس عدداً من المُثل والأهداف الكبيرة، التي لا يختلفون حول الإقرار بصلاحها. وكان من فائدة هذه المُثل والأهداف، أنها أسهمت في تقريب وجهات النظر بين الناس، وأنها كانت تهيئ الفرصة للاجتماع عليها إذا اشتدت الفتن والخلافات.

     فالصدق والوفاء، والرابطة الزوجية، والتعاون بين أبناء الأسرة الواحدة، وتضحية الأب من أجل أبنائه، وطاعة الابن لوالده، والفضيلة والعفاف، والعمل الشريف من أجل العيش الكريم، وتغليب الصالح العام على الصالح الخاص، والإقرار بقيمة الإنسان على أنه أثمن ما في الحياة؛ ذلك كله كان مجموعة من القناعات العقلية والوجدانية، تشكل –في الأعم الأغلب– القاسم المشترك الأعظم بين الناس الذي يلتقون عليه، ويؤمنون به، ويمكن أن يتخذ عندهم، بشكل أو بآخر، مادة للحوار والتفاهم.

     هذه القناعات التي هي بدون شك، من إرث البشرية الثمين الذي كسبته بعد تجاربها الطويلة التي لا يمكن إحصاؤها؛ أخذت في التراجع أمام ثقافة العصر. هذه القناعات التي تنحسر باستمرار في العصر الحديث، تمثّل جانباً خطيراً من جوانب مأساة الإنسان في ظلال الحضارة المعاصرة.

*****

نبيه فارس والمبشرون

نبيه فارس والمبشرون

     كتب الأستاذ نبيه أمين فارس أحد كبار أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت: في مجلة الأبحاث عام 1958م؛ كلاماً واعياً جريئاً يجدر بالمرء أن يتوقف عنده. قال هذا المؤرخ العربي:

     بينما كان الشرق الأدنى مطمحاً لأفكار بناة الإمبراطوريات، كان أيضاً مطمح أنظار جماعة أخرى من الناس تنشد أن تنجز عن طريق "الكلمة" ما عجز أجدادها الصليبيون عن تحقيقه عن طريق السيف، وبعبارة أخرى تَنشد احتلال مهد المسيحية وإخضاع العالم كله للمسيح.

     إن هذا الحلم المسيحي قديم قِدَمَ المسيحية ذاتها، وهو يستمد وحيه الدائم من الوصية العظمى كما سجلها أول المبشرين القدّيس لويس. ولعل سبب سيطرة هذه الوصية كرّةَ أخرى على عقول المسيحيين يعود إلى اليقظة الدينية التي عمّت في إنكلترا في أواخر القرن الثامن عشر، واليقظة الدينية المقابلة لها في الولايات المتحدة تمثلت فيما سمّي بروح إنكلترا الجديدة.

     وعلى ذلك فقد شهدت السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر والسنوات الأولى من القرن التاسع عشر ظهور كثير من الجمعيات التبشيرية التي كرّست نفسها لحمل الإنجيل إلى جميع البشر.

     ويمكن أن يُضافَ إلى هذين العاملين عامل آخر هو ازدياد المطامع السياسية والاقتصادية في ممتلكات رجل أوربا المريض [يقصد الدولة العثمانية]، ومن المحتمل أن يكون لهذا العامل الأخير علاقة باختيار الشرق الأدنى ميداناً مفضلاً للنشاط التبشيري.

     ومن أهم هذه الجمعيات التبشيرية التي ظهرت هذه الفترة "الجمعية التبشيرية الإنكليزية" التي أُسِّسَت في لندن عام 1799م، و"المجلس الأمريكي لمندوبي البعثات التبشيرية"، وقد أرسل المجلس الأمريكي بعد تسع سنين من تأسيسه أول مُبشريَّة إلى الشرق الأدنى.

     ويذكر الأستاذ نبيه أمين فارس أن المبشرين الذين اختاروا أن يجعلوا ميدان نشاطهم في مناطق بلاد الشام لكسب الكفار على زعمهم إلى دين المسيح عليه الصلاة والسلام، سرعان ما وجدوا أن الإسلام لم يكن قد فقد سيطرته على قلوب المؤمنين، وأن المبشرين صمّموا منذ البداية على استعمال الكلمة حيث فشل استعمال السيف.

     وفي سبيل هذه الغاية أسسوا المطبعة الأمريكية أولاً في مالطة عام 1822م، وفي بيروت عام 1834م، وأخذوا يفتحون مدارس للبنين والبنات بصورة منتظمة حتى بلغ عدد هذه المدارس ثلاثاً وثلاثين في أقل من هذا العدد من السنين، وعكفوا على إنجاز إعداد ترجمة عربية صالحة مقروءة للتوراة.

     وحين تضع كلام الأستاذ المؤرخ نبيه أمين فارس، في محله من التصوّر العام للخطة الصليبية لمحاربة الإسلام والمسلمين، تجد أنك تعود إلى وصية لويس التاسع الذي ترك معالم أساسية، ومقترحات جذرية، لخطة كبيرة شاملة تهدف إلى القضاء على الإسلام والمسلمين، بوسائل شتى، أهمها "الكلمة" لعلها تنجح حيث أخفق السيف.

     وما من ريب في أن المسلمين طُعِنوا من مصادر متعددة من بينها التعليم الذي بدأته الإرساليات التبشيرية بكل ما فيه من دس وسموم، وكيد خفي وظاهر، وكذلك الأمر بالنسبة للتعليم الذي أنشئ في العالم الإسلامي على أيدي قادة الاستعمار، ذلك أن هذا التعليم كان يتلاقى في النهاية مع أهداف التعليم الذي أنشأه المبشرون، وقُل مثل ذلك عن التعليم الذي أنشأه المستغربون من أبناء المسلمين، أولئك الذين نشؤوا على قيم الغرب ومفاهيمه ومُثله وثقافته، وجعلوا وجهتهم الفكرية إليه، وإعجابهم الثقافي به.

     وهنا يتلاقى عمل المبشر مثل زويمر، والقائد الاستعماري مثل كرومر، والمخطِّط الأجنبي للتعليم مثل دنلوب، والمخطِّط والمنفِّذ المستغرِب مثل طه حسين ومَنْ إليه، على خدمة الهدف الأكبر لحركتي الاستشراق والتبشير، وحركة التغريب من بعدهما.

*****

فرنسا والجزائر والإسلام

فرنسا والجزائر والإسلام

     لقد كان الشيخ الإبراهيمي هو الإمام الذي أمَّ المصلين لصلاة الجمعة في مسجد کتشاوه في الجزائر عام 1382هـ= 1962م لدى استقلال الجزائر، وكانت تلك الصلاة، أول صلاة للمسلمين منذ أن غابت شمس الإسلام عن المسجد منذ مئة وثلاثين سنة. ومسجد كتشاوه هذا لم يحوله الغزاة إلى كنيسة إلا بقوة النار والحديد، وإلا بالبطش وإراقة الدماء في تاريخ دامٍ هذا بعضٌ منه.

     وقف الطاغية "دوفيقو" في ظهيرة 18 ديسمبر سنة 1832م، من يوم الجمعة وقال: يجب أن تُتّخذ أجمل المساجد في الجزائر معبداً للإله المسيح. وأومأ بيده الى جامع "كتشاوه"، وهجم الجيش على الجامع، وهو غاصٌّ بالمصلين، فدافعوا عنه دفاع العقيدة، حتى قُتِلوا عن آخرهم، وطليت جدران الجامع بدمائهم، وقام القساوسة يتلون أناشيد الغفران على أشلائهم الممزقة".

     وطاغية آخر هو القائد الفرنسي "بيجو" تبجح وقال: آخر أيام الإسلام قد دنت، وفي خلال عشرين عاماً لن يكون للجزائر إله غير المسيح، ونحن إذا أمكننا الشك في أن هذه الأرض تملكها فرنسا فلا يمكن لنا أن نشك بحال في أنها قد ضاعت من الإسلام إلى الأبد، أما العرب فلن يكونوا مُلكاً لفرنسا إلا إذا أصبحوا مسيحيين جميعاً".

     وآخر هو "سانت أرنو" القائد الفرنسي الذي يقول: "لا تسأل عن أشجار الزيتون الباسقة التي ستكون فريسة وحشيتي، واليوم في برنامجي إحراق جميع مزارع وقرى قبيلة بني سالم، وابن القاسم. لقد أحرقت أكثر من عشر قرى كانت كلها بهجة وغنى، وتركت ورائي حريقاً حافلاً لقد لعبت بالبساتين يد الخراب، كما لعبت يد المناشير بأشجار الزيتون".

     وآخر هو الكاردينال "لا فيجوري" القائل: "علينا أن نخلص هذا الشعب ونحرره من قرآنه، وعلينا أن نعنى على الأقل بالأطفال، لننشئهم على مبادئ غير التي شبَّ عليها أجدادهم، فإن واجب فرنسا تعليمهم الإنجيل أو طردهم إلى أقاصي الصحراء بعيدين عن العالم المتحضر".

     وآخر هو "مانتا نياك" أحد القواد الفرنسيين الذي قال في كتابه "رسائل جندي": "لا يمكن تصور الرعب الذي يستولي على العرب حين يرون قطع رأس بيد مسيحية. فإني أدركت ذلك منذ زمن بعيد، ولن يفلت أحد من أظفاري، حتى يناله من قطع رأسه ما ينال، وقد أنذرت بنفسي جميع الجنود الذين أتشرف بقيادتهم أنهم لو أتوا بعربي حي لانهلت عليهم ضرباً بنصل سيفي، وأما قطع الرؤوس فيكون على مرأى ومسمع جميع الناس.

     هكذا يا صديقي العزيز تكون معاملة العرب في الحرب:

     قتل جميع الذكور الذين تجاوزوا خمس عشرة سنة، وسبي جميع النساء، وخطف جميع الأطفال، وشحن الجميع في السفن، ثم إقصاؤهم إلى جزر مرکیز، أو إلى الثلث الخالي من الأرض. وخلاصة القول: يجب إبادة كل من لا يتمرغ تحت أرجلنا كالكلاب".

     ونعود الآن إلى ظروف خطبة الشيخ البشير الإبراهيمي في مسجد كتشاوه أول الاستقلال. لقد كانت صلاة الجمعة تلك أول صلاة للإسلام في جامع كتشاوه بعد أن رد الله غربته الطويلة، وقد عبثت يد التشويه بالمسجد عبثاً شديداً فقد حول المتعصبون الطغاة المحراب إلى الجهة المعاكسة، فقد كان محراب المسجد يقابل مكة فجعلوه مقابلاً لباريس، بالإضافة إلى الهياكل والتماثيل التي ملؤوا بها أرجاء المسجد وقد شوهدت وهي تنكس كما نكس صحابة محمد ﷺ "الأصنام" عند فتح مكة ليعود المسجد شامخاً كما كان في أيام مجده وعهود عزه.

*****

الإسلام والاشتراكية في الجزائر

الإسلام والاشتراكية في الجزائر

     في عام 1382هـ= 1962م تم استقلال الجزائر بعد حرب طاحنة ضروس وتضحيات جسيمة، وفرح الشعب الجزائري بالاستقلال، وخرج إلى الشوارع يحتفل به، ويردد أهازيج جميلة كثيرة يقول في بعضها: "يا محمد مبروك عليك، الجزائر رجعت إليك".

     وتولى أحمد بن بيلّا رئاسة الجمهورية، واختار الأسلوب الاشتراكي على أنه الحل الوحيد للنهوض بالبلاد، وبعد ثلاث سنوات حدث انقلاب أطاح به، وتولى الرئاسة هواري بومدين الذي استمر في اختيار الأسلوب الاشتراكي. ومنذ ذلك التاريخ أودِع أحمد بن بيلّا السجن، حتى أفرج عنه الرئيس الذي جاء بعد بومدين وهو الشاذلي بن جديد، بعد أن أمضى في السجن خمسة عشر عاماً.

     قال بن بيلّا لزواره الذين جاؤوا يهنئونه بالخروج من السجن:

     إن جميع التجارب الماركسية في العالم، سواءً في الاتحاد السوفياتي أو الدول الشرقية، أو الصين، عجزت عن تحقيق هدفها الأساسي وهو الإنسان، حيث لا يكفي أن نُشبِعه، بل يجب علينا أن نهيئ له فرصة المبادرة، فالمبدأ الشيوعي القائم على الشعار: أنت تعمل، أنت تأكل، يجعل الإنسان أشبه بالحيوان.

     ويشرح بن بيلّا لزائريه أنه وإنْ كان أول من دعا إلى تطبيق الاشتراكية في البلاد، إلا أنه خلال تأمله الطويل في السجن تأكد لديه أن محاربة الفساد في الجزائر لن يتم إلا عن طريق الإسلام.

     ويقول أحمد بن بيلّا: الإسلام قيمة حضارية، لقد استطاع الإسلام أن يعيش أربعة عشر قرناً، بينما لم تستطع الماركسية أن تعمّر سنوات في أي دولة، وكذلك الأمر بالنسبة للأنظمة العربية.

*****

أحمد بن بيلّا والمصحف

أحمد بن بيلّا والمصحف

     قال الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بيلّا عن فترة اعتقاله الأولى: "كل ما كان لدي هو المصحف الشريف، وكان بالفعل نعم الرفيق!... سكنت إليه فأنزل على قلبي وأعصابي وعقلي برداً وسلاماً".

     "أغرقت نفسي في آياته. كانت لغتي العربية وقتذاك ضعيفة ولا تسعفني، لكني واصلت من دون كلل، وشيئاً فشيئاً، فتح الله عز وجل لي الأبواب المغلقة، ودخلتُ في رحاب الطهر والحكمة الإلهية، وانفتحتْ أمامي عوالم السماوات والأرض أنهل منها بغير حساب".

     "وأمدّني القرآن بقوة داخلية غير عادية لم يسبق أن أحسست بها من قبل: قوة عقلية ونفسية وحتى بدنية. وكلما أوغلتُ في القراءة وكررتُها تعرفتُ على أشياء جديدة، وانكشف لي العديد من مغاليق أسرار الكون والحياة.

     وإذا بنظرتي إلى نفسي والناس والحياة تصبح أكثر رحابة وصفاء، متطهرة من كل حقد، أو رغبة في انتقام صغير أو كبير... ألمسُ جيداً ما وقعتُ فيه من أخطاء، وأغفرُ من القلب أخطاء الآخرين في حقي، وأعيد النظر بقدرات عقلية ومعنوية أكثر عمقاً في كل ما تقدم وتأخر من حياتي وذنوبي وذنوب الآخرين؛ لأصلَ إلى درجة حقيقية ومخلصة على ما أعتقد في نقد الذات ونقد التجربة ونقد الآخرين، بمحبة وسعة صدر.

     ومنّ الله عليّ فمكّنني من حفظ القرآن الكريم بجميع أجزائه، وإذا بلساني العربي يصير فصيحاً. من باب القرآن الكريم، دخلتُ إلى السنّة وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم إلى كتب الفقه باتجاهاتها المختلفة، ثم إلى أمّهات المراجع الإسلامية".
*****

شكيب أرسلان والحضارة الغربية

شكيب أرسلان والحضارة الغربية

     يقول الأمير شكيب أرسلان في وصف الرجل الغربي، وهو الذي عاش طويلاً في الغرب، وعرف الناس هناك بدِقّة: "إنّ الإفرنجي هو الإفرنجي، ما تغيَّرَ في طبعه، فهو اليوم كما زحف إلينا قبل 800 عام بما فيه من الظمأ إلى الدماء، والقَرَم إلى اللحم، وإنّ المدنية التي يتذرع بدعواها إنْ هي إلا غطاء سطحي لِما هو كامنٌ في طبعه، متهيئ للظهور لأدنى حادث، فالمدنية العصرية لم تزد الفرنجيَّ إلا تفنّناً في آلات القتل، وفصاحةً في التمويه، وتسميةِ الأشياء بغير أسمائها".

     وقبل أن ندخلَ في دراسة هذه الشهادة الدقيقة، لا بد لنا من تقرير حقيقةٍ حضاريةٍ كبيرة، وهي أنّ الغربيَّ بالمعنى الحضاري، هو إنسانُ الحضارة الغربية الذي وضعَ ثقافتَها وتبنّاها أيّاً كانت انتماءاته السياسية التي يتوزّع الناسُ معها في دولة وأخرى. فالشرق الشيوعي كلّه جزء من الحضارة الغربية، وأمريكا كذلك جزء من الحضارة الغربية، وأيضاً أوربا بطبيعة الحال.

     ومعنى ذلك أنّ الدائرة الحضارية للغربي أوسع بكثير من دائرته الجغرافية، والمُعوّل ها هنا على الأصول الفكرية والعقائدية والأخلاقية، وموازين السلوك ومعايير الخير والشر، والقيم والمُثل، التي يشترك فيها أبناء الحضارة الغربية جميعاً، وإنْ فرّقتْ بينهم الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية.

     وكثيرةٌ هي الشواهد التي تكشف بدقة عن صحة رأي شكيب أرسلان في الرجل الغربي. لقد تمدّن هذا الرجل حقاً، وحقق إنجازات كثيرة، لكنه في أعماقه لا يزال شديد العنف والضراوة والبطش حين يتعامل مع خصومه، وما نبأ الحربين العالميتين الهائلتين عنا ببعيد، وقد كانتا تدور أساساً في بلاده وبين طوائف متقاتلة متصارعة من أبنائه.

     أمّا إذا وصل الأمر إلينا نحن -المسلمين- فإن الموقف يختلف، ذلك أن الضراوة تزداد، والعنف يكثر، والبطش يتضاعف أضعافاً هائلة. وحين وقعت ديار العالم الإسلامي في قبضة الرجل الغربي فعل بها الأفاعيل، حتى إن محاكم التفتيش في الأندلس التي أنشئت عقب سقوط الحكم الإسلامي فيها فعلت بالمسلمين من الأهوال، وصبّت عليهم من الكوارث ما جعلها تصبح أشنع ما جرى في تصفيات الخصوم، وأرهب مثل يُضرب في هذا المجال.

*****

محمود شيت خطّاب.. ومسجد في كل كتيبة

محمود شيت خطّاب.. ومسجد في كل كتيبة

     للأستاذ الكريم، اللواء الركن، محمود شيت خطاب، جهود علمية مشكورة في التأليف الدقيق المتقن، فيما يتصل بالتاريخ العسكري للمسلمين، وله كتابات موسوعية في هذا الميدان، تدل على اطلاع واسع وعمل دؤوب، وله إلى جانب ذلك مشاركات إيجابية في جملة من النشاطات الإسلامية.

     وفي مؤتمر "رسالة المسجد" الذي شهدته مكة المكرمة في شهر رمضان كان للأستاذ اللواء محمود شيت خطاب إسهام جميل، تمثل في بحث علمي جاد قدمه للمؤتمر، بعنوان "الرسالة العسكرية للمسجد" وردَتْ فيه طائفة من الاقتراحات البنّاءة نجملها فيما يأتي:

1. يجب إقامة المساجد في كل وحدة عسكرية وكل معسكر، وفي كل مدرسة ومعهد وكلية، وحث التلاميذ على أداء الصلاة. لقد أقامَ الأجانب العسكريون، كنيسةً في كل بارجة ومدرعة، وفي كل وحدة وكتيبة، ومدرسة ومعهد ومعسكر، لإدراكهم أهمية الدين في نفوس العسكريين خاصة حين ينشب القتال، وتبرز أهمية القوة المعنوية عند المقاتلين.

2. يجب اختيار العلماء العاملين، ليؤدّوا واجب الإمامة في كل وحدة وكتيبة ومعهد، وكلية عسكرية وغير عسكرية، واختيار أمثال هؤلاء المخلصين ليكونوا أئمة في المساجد العامة.

3. إعادة النظر في تربية النشء المسلم، وصياغة مناهج تربيته على أسس مستمدة من تعاليم الدين الحنيف، ذلك أن مناهج التعليم الحالية في كثير من المدارس والمعاهد والجامعات تناقض الإسلام نصاً وروحاً.

4. على البلدان العربية والإسلامية، أن تختار العلماء العاملين المخلصين للنهوض بواجب التوعية الدينية في الإذاعة والصحافة وأجهزة الإعلام والمساجد والنوادي وقاعات المحاضرات.

5. إجراء مسابقات دينية بين العسكريين وغيرهم، مثل إتقان قراءة القرآن الكريم، وحفظه، وتفسيره، وما إلى ذلك.

     إن المسجد بالعالِم الديني الذي فيه لا بأحجاره، ونحن لسنا بحاجة إلى تخريج علماء موظفين، بل نحن بحاجة إلى تخريج علماء حقيقيين، ينهضون بأمانة الإبلاغ حق النهوض.

*****

دروس من الحاج أمين الحسيني

دروس من الحاج أمين الحسيني

     كان سماحة المرحوم المجاهد أمين الحسيني مجاهداً صادقاً ثابتاً من طراز نادر فذ، وقد جمع إلى إخلاصه الشديد لقضية فلسطين خاصة، وقضايا العالم الإسلامي عامة، معرفةً واسعة بالعدو الصهيوني الماكر، وخبرةً غنية جداً بطبيعته وخسّته، وكان حيث يتكلم يقدّم الأدلة القوية والحجج المقنعة على ما يقول. وأحسبُ أننا في ظرف حرجٍ دقيق يجعل من واجبنا أن نستقي الدروس من ذلك المجاهد الكبير.

     قال المجاهد المرحوم: ليست فلسطين كسائر البلاد الإسلامية التي ابتليت بالاستعمار، فهي فوق ابتلائها بالاستعمار ابتليت باليهود الذين جاؤوا للإقامة فيها بشكل دائم، وإبادة شعبها الأصلي، ولم يكن عدد اليهود حين احتلت بريطانيا فلسطين يتجاوز 4,5%؛ من عدد سكانها، لكنّ هذه الأقلية الضئيلة انقلبت إلى أكثرية بالهجرة اليهودية الدائمة التي دبّرتها بريطانيا مع اليهود مع الدول الاستعمارية الأخرى.

     إن شعب فلسطين جاهد بشرف وشجاعة وصلابة، لكنّ قوى الشر في العالم، شرقيةً وغربية تألّبت عليه وتآمرت ضده لا لشيء إلا لأن هذا الشعب مسلم بالدرجة الأولى. ولو لم يكن مسلماً لما اعتدى عليه أحد.

     ولعل أسطع برهان على جهاد شعب فلسطين وتمسكه بأرضه أن إسرائيل قامت على أرض مساحتها 7% من مساحة فلسطين كلها. وقد وردت هذه الحقيقة في تقرير بريطانيا إلى الأمم المتحدة عند رحيلها عام 1948م. وعندما اطلع الرئيس الراحل ديغول على هذه الحقيقة عام 1963م، قال مذهولاً: إنه أمر لا يكاد يُصدّق، وإنه لَعارٌ على المدنية الأوربية والأمريكية في القرن العشرين.

     إن اليهود شعب مختلف عن كل شعوب العالم بما أَخَذَ به نفسه من استعلاء وأنانية لأنه يعتقد أنه شعب الله المختار، وأنّ الدنيا ما خُلِقت إلا له، وأنّ جميع البشر هم بمثابة الحيوانات، وهم مُكلّفون بخدمة اليهود، لذلك جعلوا الوصايا العشر في تلمودهم خاصةً باليهود دون بقية الناس.

     لقد كُتِبَ علينا أن نخوض معركةً مع اليهود لا تنتهي إلا بهلاك أحد الفريقين، ومخطئ جاهل واهم مَنْ يظن أن صُلحاً يمكن أن ينهي هذه المعركة.

     أتُرانا نستفيد من هذه الحقيقة!؟ تُرى أنستفيد مما قاله المرحوم أمين الحسيني في ظروفنا الحالية التي تنوشُنا فيها ذئاب الغدر من كل جانب!؟

     فمن أهم ما ينبغي على الأمم الجادة أن تقوم به عنايتَها واهتمامَها بتجارب قادتها الأذكياء المخلصين خاصةً في القضايا المصيرية المهمة؛ لذلك لا غرابة إذا اقتنعنا، وإذا دعونا إلى قناعتنا هذه بأن علينا الاستفادة من تجارب المجاهد الكبير الحاج أمين الحسيني عليه رحمة الله، فهو من أكثر الزعماء المسلمين وعياً وإخلاصاً، خاصة في أهم قضايانا اليوم وهي قضية صراعنا مع العدو اليهودي. فكيف يصف الرجل المجرّب المحنك الخبير أخلاق اليهود؟ يقول الرجل في ذلك:

     وأمّا صفات اليهود فإني لا أجد أصدقَ ولا أدقَّ ولا أشملَ من الصفات التي وصفهم الله تعالى بها في كتابه العزيز وهي:

- شدة عداوتهم للمؤمنين: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [المائدة:82].

- قسوة قلوبهم: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة:74].

- طبيعتهم العدوانية: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة:78-79].

- حبهم للإفساد: ﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًاۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة:64].

- أنانيتهم وشحهم واستئثارهم: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ۖ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا* أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ [المائدة:52-53].

- استباحتهم لغيرهم من البشر: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران:75].

     ترى أثمّة شك في صحّة ما قاله المجاهد المرحوم الحاج امين الحسيني!؟

     الجواب: لا..؛ إنّ ما قاله صحيح تماماً، وتشهد بصحّته قضايا وبراهين وشواهد كثيرة جداً.

     وبادئ ذي بدء إنّ القرآن الكريم، كتاب الله الخالد، المحفوظ المصون، يشهد بذلك، فهذه الآيات التي قُدِّمت تعلن ذلك. إنها تصف اليهود بشدة عداوتهم للمسلمين، وتصفهم بقسوة القلب، وتصفهم بالعدوان، وتصفهم بأنهم مفسدون في الأرض، وتصفهم بالأثرة والشح وكراهية الخير للآخرين، وتصفهم بالكذب على الله، كما تصفهم بأنهم يستبيحون لأنفسهم غيرهم من الناس في أموالهم ودمائهم وأعراضهم وفي كل شيء.

     إنّ مِن أهم المهم أن يعي المسلمون ذلك، وأن تعيه الأجيال الجديدة منهم خاصة، فهناك مَنْ يحاول أن يمكّن لهم في بلادنا، ويتنازل لهم عمّا اغتصبوه من ديار المسلمين.

     وأيّاً كان فإن الصراع بيننا وبينهم لا ينتهي إلا بهلاك أحد الفريقين، ثم إن الصلح معهم لن يُنهي المشكلة قط، ذلك أنّ اليهود مشهورون بنقض العهود، وقد قال الله تعالى عنهم: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 100]، ثم إن تكاليف السلام معهم أخطر بكثير من تكاليف الحرب. وإذن فهو صراع لا سبيل لنا إلى الفكاك منه، فلْنكن فيه رجالاً مؤمنين، ولنتحمل أعباء الجهاد فيه، فذلك خير لنا وأكرم وأجدى في ديننا ودنيانا.

*****

جهاد الشيخ عز الدين القسام

جهاد الشيخ عز الدين القسام

     يُروى أن الشيخ المجاهد عز الدين القسام خجل من أن يعلّم الناس دروس الجهاد، ومتى يكون فرض عين على كل مسلم، وهو قاعد، والاستعمار جاثم على فلسطين يعمل على إعداد الأمور فيها لتكون دولة لليهود فيما بعد.

     خجل الشيخ المجاهد عليه رحمة الله من موقفه إذ هو قاعد، بينما وجب عليه النفير للجهاد في سبيل الله عز وجل، فخرج بنفسه يطبق ما يدعو إليه، وينفذ أمر دينه في وجوب المبادرة لجهاد الأعداء الذين احتلوا دار الإسلام في وطنه، ومضى في عصبة من المؤمنين المجاهدين، يقاتل العدو، فكان لتلاميذه أستاذاً في المسجد يعلمهم الحلال والحرام، وكان أستاذاً لهم في الميدان يعلمهم الجهاد في سبيل الله جل شأنه.

     وحين ضيّق عليه المستعمرون الحصار في أحد المواقع، لم يهِنْ ولمْ يلِنْ، بل صابَرَ وجاهد، وحثَّ من معه على الصبر والثبات فإما النصر وإما الشهادة، فاستُشْهِد القسام، واستُشْهِد من معه جميعاً، وأفضوا إلى ربهم شهداء كراماً، أحياءٌ عنده يُرزَقون.

     إنّ في الذي فعله الشيخ القسام رحمه الله تعالى وأجزل مثوبته؛ ما يكشف عن عظمة هذه العقيدة المكافحة التي تأبى على أبنائها القعود والركون والاستسلام، وتُهيب بهم أن يكونوا على مستوى جديتها وخطورتها، لذلك توجَّب عليهم أن يتحركوا للوفاء بمستلزماتها وإن كانت الظروف شاقة، والتحديات كبيرة، وجلّت المسؤولية وعَظُمَت، وقَلَّ الناصر والمعين.

     فالقسام ومن معه كانوا قلة في العَدد والعُدد، ولم يكونوا مُدَرّبين على فنون القتال والحرب، وكانوا يواجهون استعماراً في غاية القوة والدهاء هو الاستعمار الإنكليزي، يوم كانت إنكلترا دولة لا تغرب عنها الشمس، وكانوا يواجهون كذلك إخوان القردة والخنازير وتجار الحرب والمفاسد والآثام، كانوا يواجهون الصهيونية الباغية المجرمة. ومع ذلك كله لم يَرَ القسام ومن معه بُدّاً من الخروج، ورأوا في قعودهم ما يطعن في صدق إيمانهم فخرجوا بعددهم القليل، وسلاحهم الضئيل، وإيمانهم القوي الجسور، وظلوا يجاهدون حتى فازوا بشرف الشهادة ومثوبتها.

     إنها العقيدة الإسلامية المكافحة هي التي حركتهم، وهي التي منعتهم من القعود والركون، وأبَتْ عليهم ليّن المهاد، وطيّب الطعام، ولذيذ السبات، وما زالت بهم، تحثهم على أن يرتفعوا إلى المستوى الذي ينبغي أن يكونوا عليه، ويثبتوا صدق انتمائهم للإسلام، وبالفعل حاولوا ونجحوا في المحاولة إلى أقصى حدود النجاح، وقدّموا نموذجاً من نماذج حركة المسلم حين تستولي عليه عقيدته، نموذجاً أساسه العقيدة الصادقة، وبنيانه التضحية الغالية في وقت كانت تبدو فيه الظروف الخارجية غير مشجعة، مما يعطي الأمر دلالة أكبر، وهي أن لعقيدة الإسلام القدرة الدائمة على الكفاح والجلاد والصبر حتى في الظروف الشاقة، فضلاً عن الظروف العادية أو تلك التي تكثر فيها الأحوال المواتية المشجّعة.

     وفي الحرب الفلسطينية الأولى التي كانت فيها جيوش عربية نظامية، وكانت فيها قوات فدائية شعبية، تجاهد هي الأخرى، دون أن ترتبط بحركات الجيوش العربية وتوجيهاتها، كنت تجد في هذه القوات الفدائية المتطوعة، رجالاً حرّكتهم العقيدة المكافحة المجاهدة فتوافدوا صابرين محتسبين لا يعرفون لجهادهم معنى إلا أنه في سبيل الله جل شأنه، توافدوا من مصر والشام، والأردن والعراق..، وغير ذلك من ديار الإسلام، بجهودهم الذاتية ومواردهم المحدودة، يتغلبون على دواعي القعود في أنفسهم أولاً، ويتغلبون على العراقيل التي كانت توضع في طريقهم، وألوان المصادرة والتضييق والتنكيل ليواصلوا المسير في طريق الجهاد، طريق القسّام الذي كان استشهاده لا يزال قريب العهد، واستطاعوا أن يسطّروا في تاريخ الجهاد صفحات رائعة مشرقة، تذكرك بصفحات الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، بلغ من روعتها وصدقها وأصالتها أن شهد بها بعض قادة اليهود أنفسهم في هاتيك الأيام، وإن حاولوا أن يشوهوا دوافعها الربانية النبيلة، وهذا ينهض دليلاً صادقاً على أهمية هذه العقيدة الإسلامية ودورها المبارك في إيقاد دوافع الجهاد والكفاح لدى أبنائها.

     أن تمتلك العقيدة الإسلامية القدرة على التحرك في أوقات الرخاء والعافية والكثرة، والقوة المرهوبة الجانب، أمر حميد طيب، لكنه أمر لا تنفرد به دون العقائد الأخرى. أمّا أن تمتلك القدرة على التحرك في أوقات الشدة والمحنة والقلّة، وتكالب العدو وبغيه، فذلك هو الأمر الحميد الرائع الذي تنفرد به دون العقائد الأخرى جميعاً، وهذا يدل على مقدرتها الذاتية على التحرك، التي تتيح لها ذلك في كافة الظروف والأحوال.

     وهذه الخاصية ظلت طيلة أحقاب التاريخ الإسلامي سبباً من أسباب بقاء هذا الدين، وانتشاره من بعد التوقف، وامتداده من بعد الانحسار، وهي في جوهرها دليل كبير على أنَّ هذا الدين رباني المصدر، محفوظ بحفظ الله تعالى له.

     إنَّ وعْيَنا بهذه الحقيقة، حقيقة عقيدتنا المكافحة الصابرة، جزء من حسن فهمنا لديننا الذي ينبغي أن نتصف به، وهو بعد ذلك سبب من أسباب إدراكنا للنصر إن شاء الله في هذا الوقت الذي تنوشنا فيه التحديات من كل جانب.

*****

عبد الكريم الخطابي

عبد الكريم الخطابي

     يوم اجتاح العدوان أرض الجزائر الأبية، وقف مجاهدوها الأبطال يقودهم البطل المؤمن الفارس الشجاع، الأمير الشاعر، عبد القادر الجزائري يقاتل قتالاً ضارياً لا هوادة فيه، سيظل دائماً موضع الفخار والإعجاب، والتقدير والإكبار، ذلك أنه موقف عملاق ثبت فيه ضد قوى كبيرة، تفوقه في العدد والعدة، والتدريب والتنظيم.

     ويوم وقف عبد الكريم الخطابي بطل الجهاد الدائب الصبور في الريف المغربي المسلم، يقاتل الجيوش الباغية الضخمة، ويحقق انتصارات عجيبة مذهلة، بأسلحته المتخلفة البسيطة، وموارده المحدودة الضعيفة، وإمكاناته المادية الفقيرة، عجب الناس أشد العجب لما تستطيع هذه الأمة المسلمة أن تقوم به حتى في أيام ضعفها ومحنتها مما يدل على أصالة ذاتية متميزة وقدرة مكنونة جبارة، وقوى مذخورة بالغة الخطورة.

     وموقف الخطابي –مثله كمثل موقف الأمير عبد القادر– موقف عملاق ينبغي للوفاء بحقه أن يُدرس بأناة وإحاطة، فهو مع الأسف مجهول من أكثر الناس بالرغم من ضخامته وعظمته.

     وإن ما قيل عن الجزائري والخطابي، يقال عن جهاد المختار في ليبيا ضد الطليان، وجهاد عرابي في مصر ضد الإنكليز، والمهدي في السودان، وأحمد بن عرفان في الهند، ومحمد حتَّى وسوموتو في إندونيسيا والأفغان، والشام والعراق.

     لقد كان جهاداً كبيراً جداً نهض به رجال عظام أوفياء، كرام شرفاء، مواقفهم في الشجاعة والصدق والبلاء شامخة باذخة، خالدة رائعة. لقد عوضوا عن نقص الموارد بعظمة الإيمان، وعن قلة العدد بالإقدام الجسور، وعن ضعف الإمكانات بالإقدام والجرأة.

     وأمثال تلك المواقف الكبرى مواقف الشجاعة البدنية الخارقة، كانت تستمد من معين ثرٍّ دفاق، هو الموقف النفسي الذي كان يملكه أولئك الرجال المجاهدون، وهو موقف يمتاز بالثقة والاستعلاء، والأصالة والذاتية، والشموخ والترفع، والأنفة والإباء، واليقين الراسخ المكين، بأنهم وحدهم على الحق الذي لا شائبة فيه من باطل، مهما توالت عليهم الهزائم، وأن عدوهم على الباطل مهما استطاع أن يحقق من انتصارات.

     أن يكون للمرء مثل هذا الموقف النفسي الشجاع وهو في حالة النصر أمر منطقي، وبدهي ومتوقع، لأنه ينسجم مع طبائع الأمور، وحقائق الأشياء، ونواميس الحياة، والفطرة البشرية التي فطر الله الناس عليها. ولكن أن يكون للمرء مثل هذا الموقف، وهو مهزومٌ جسداً، مقهورٌ أرضاً، مغلوبٌ جيشاً، مغلولٌ سلاحاً، مقتَحَمٌ داراً وموطناً؛ فهو أمر يستدعي الإكبار والإعجاب، ويستثير الدهشة والتقدير ويستأثر بالألباب والأبصار، وإنه لبعض عطايا الإسلام ومنحه لأبنائه.

*****

الأكثر مشاهدة