الأربعاء، 6 يوليو 2022

خالد محمد خالد بين موقفين

خالد محمد خالد بين موقفين

     في شهر رمضان من عام 1397هـ (1977م) كتب الأستاذ خالد محمد خالد مقالاً في جريدة الأخبار في القاهرة أعلن فيه أن الإسلام دينٌ ودولة، وقبل ذلك التاريخ بأكثر من ربع قرن، كان قد أعلن في كتابه "من هنا نبدأ" قوله: "إن الدين لا يعنيه أن يكون دولة، ولا يعنيه أن يتدخل في بناء الدولة".

     ولا ريب في أنّ عدول الأستاذ المؤلف عن رأيه الأول المخطئ، عمل مشكور وشجاعة أدبية وخُلُق كريم من أخلاق العلماء.

     وحين سُئل عن ذلك أجاب: هذا رجوع عن رأيي وتصحيح له، والكاتب الأمين هو الذي لا يفتأ يراجع نفسه ويتقصّى أفكاره فإذا اكتشف فيها خطأ صحّحه وهتف به.

     وقال عن كتابه "من هنا نبدأ" الذي حمل رأيه الأول المخطئ:

     الكتاب سيظل كما هو كتاباً مقروءاً ذلك لأنه لم يقتصر على قضية الحكم في الإسلام فحسب، بل هو ينتظم قضايا أخرى لا تزال لها أهميتها ولم يتغير رأيي فيها، وسيبقى الكتاب كما هو شاهداً على مسار التفكير وتطوره عند المؤلف وعند عصره، بيد أني في الطبعات التالية من الكتاب سأصدرها برأيي الجديد مع تفنيد الرأي القديم وطرحه من الحساب.

     وحين سُئل عن تصوّره للإسلام ديناً ودولة كيف هو هذا التصوّر أجاب:

     الإسلام دينٌ متكامل وشريعة عميمة شاملة، جاء ليعطي الإنسان منهجه، روحاً ومادة، فرداً ومجتمعاً ودولة. إنّ النصّ القرآني ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: 26]، يشير إلى ما يمكن أن نسمّيه الوظيفة السياسية للأنبياء والمرسلين، إنه أمر بتحمل أعباء الخلافة والحكم.

     ونحن حين نقول الإسلام "دين ودولة" لا نهضم الدولة بل نرفع من قدرها إذ نضعها في كنف الله العلي القدير وفي صحبة قوانينه وكلماته. وحين نتقبل من الأنبياء رعايتهم السياسية إنما نأوي إلى ركن شديد ونصوغ حياتنا في أحسن تقويم.

     إن الفقه الإسلامي لم ينل من الأمة المسلمة حتى الآن ما يستحقه من ولاء وهو كفيل بإغنائها عن كافة القوانين الدخيلة في غير تخلف أو جمود.

*****

العرب والمُلْك

العرب والمُلْك

     "إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية، بسبب خُلُق التوحش الذي فيهم، فهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة، وبعد الهمة، والمنافسة على الرئاسة فقلّما تجتمع أهواؤهم، فإذا وُجِد الدين كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة فيهم، فيسهل انقيادهم ويتم اجتماعهم، ويحصل لهم التغلب والملك، وهم مع ذلك أسرع الأمم قبولاً للحق والهدى، لسلامة طباعهم من ذميم الأخلاق". (مقدمة ابن خلدون).

     "وكم استنجد أهل غرناطة!.. كم استصرخوا إخوانهم العرب والمسلمين في كل مكان!.. وكان الحل والإنقاذ في أيديهم لو أنهم اتفقوا فيما بينهم، لو نسي كل واحد منهم نفسه، لو ذكر كل واحد منهم أن الأمر يتعلق بمصير شعب وحضارة وعقيدة، إذاً لنجا الأندلس. ولكن كل شيء كان ممكناً إلا الاتفاق، كل شيء كان في نظرهم مقبولاً إلا أن يسلم أحدهم للآخر، كلهم أرادوا أن يكونوا ملوكاً، وفي أثناء الصراع ضاعت المملكة فأصبحوا متسوّلين مشرّدين". (د.حسين مؤنس: في كتابه "في رحلة الأندلس).

*****

شعراء ومشاعر

شعراء ومشاعر

     تزدحمُ المشاعر الكريمة، وتتدفق المعاني النبيلة في فؤاد الشاعر العربي القديم "معن بن أوس"، هو كالمقنع الكِندي أصالةً وشموخاً وارتفاعَ نفس في أبياته التي يقدمها بين يدي ابن عمه دلالةً على الوفاء والإخلاص.

     هو المعنى الرائع الذي يتجاوز حدود "الأنا" الضيقة ليتصل برحاب المودة والعطاء وتَدَفُّقِ الوجدانِ بالخير، وازدحامِه بالنُبل، وارتفاعه على الصغائر.

     إنه يصفح عن الإساءة عسى أن يكون هذا الصفح سبيلاً إلى تطهير نفسه:

لعَــــمْرُكَ مـا أدري وإني لأوجــلُ     على أيِّنـــا تعـــدو المنيّــــــــةُ أوَّلُ
وإني أخـــوك الدائمُ العهـدِ لم أخنْ     إذا ســـاءَ خصمٌ أو نَبــــا بكَ منزلُ
أحاربُ مَنْ حاربتَ من ذي عداوة     وأحبـــسُ مالي إنْ غُرِمْتَ فأعقــلُ

     إنّ الشاعر يؤمل أن تصنعَ هذه الحسنى صنيعَها في قلب قريبة فتجعلَه يدركُ أنَّ شاعرَنا كنزٌ له، قوةٌ ومضاء، عدةٌ يقابل بها الحادثات، إنه يدُه اليمنى، وإنه سيقطعها ويخسرها إن تخلى عنه وأهمله:

وإن سُؤْتني يوماً صفحتُ إلى غدٍ     ليعقـــبَ يوماً منـــكَ آخرُ مُقبِــــلُ
كأنـــكَ تشفي منـكَ داءَ إســـاءتي     وسخطي وما في رِيبَتي ما تعجّلُ
وإني على أشيــــاءَ منك تَرِيبــني     قديماً لَذو صَفْحٍ على ذاك مجــملُ
سَتُقْطَعُ في الدنيا إذا ما قطعـــتني     يمينُـــكَ، فانظرْ أيَّ كفٍّ تبــــــدّلُ

     وهذا الاتجاه الكريم نجده عند شاعرٍ آخر يتجاوز مواضعَ الهوان والإسفاف، ويرنو ببصره إلى أفقٍ سامق كريم، تشده الأخلاق العالية، وتأسِرُ قلبَه فضائل الصفات فإذا به يرى أن العفو والتسامح زينةُ الفتى، وأنّ أحسنَ خلائقِه أن يبتعد بسمعه عن الفواحش حتى كأنّ في أذنيه صَمماً عن كلِّ قولٍ مشين.

     وهذا الفتى النبيل الذي يشدُّ ناظرَيْ شاعرنا "سالم بن وابصة الأسدي" سليمُ دواعي الصدر، لا يبسطُ أذى، لا يمنعُ خيراً، لا يقولُ سوءاً ولا هُجْراً. وهو إلى جانب ذلك عاقلٌ ماجد، كريمٌ حر، يلتمسُ الأعذارَ لزلةِ صديقه إذا أخطأ، غنيُّ النفس لا يذهبُ بلبِّه بريقُ الدنيا، ولا تهزُّ أعصابَه أكداسُ المال والذهب لأنه إذ ذاك سيتحولُ إلى فقيرٍ لا يشبع مهما ازداد مالُه كأن المتنبي بعينه يقول:

ومَنْ ينفق الساعاتِ في جمع ماله     مخـــافةَ فقرٍ فالـــذي فعَلَ الفقــــرُ

     يقول سالم بن وابصة الأسدي عن الفتى الذي يراه نموذجاً للفضائل التي يحبُّها ويتعشقُها:

أحبُّ الفتى ينفي الفواحشَ سمعُـــه     كـــأنَّ به عن كل فاحشـــةٍ وَقْـــرا
سليمُ دواعي الصدر لا باسطاً أذى     ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هُجْـــــرا
إذا شئتَ أن تُدْعى كريماً مكـــرَّماً     أديباً ظريفاً عاقلاً ماجداً حُــــــــرّا
إذا ما أتتْ من صـــــاحبٍ لكَ زلّةٌ     فكنْ أنتَ محتالاً لزلّتــــه عُـــــذرا
غِنَى النفسِ ما يَكْفيكَ من سَدِّ خَــلَّةٍ     فإن زادَ شيئاً عادَ ذاك الغنى فَقــرا

     ومن أروعِ نماذج هذا الاتجاه في الشعر العربي أبياتُ الشاعرِ الحماسي "الحارث بن وَعْلة الجرمي" إذْ قتلَ قومُه أخاه "أُمَيْماً"، فهو يتحملُ المرارةَ في أسى واصطبار، وشجاعةٍ ورجولة، فيلوذُ بخُلُقِ العفو والتسامح، ويعتصمُ بمعانيهما فتحميهُ فضائلها من لذةِ الانتقام، وشهوةِ البطش والثأر.

     إنّ سهمَه سيرتدُّ إليه إذا أطلقه نحوَ قومه، فهُمْ منه، وهو منهم، وستكونُ البليةُ أشدَّ وأنكى حينذاك:

قــومي هم قتلوا أُمَيْــــمَ أخي     فـإذا رميتُ يُصيبني ســهمي
فلئــنْ عفـــوتُ لأَعْفُوَنْ جَلَلَاً     ولئنْ سطوتُ لأوهِنَنْ عظمي
لا تـــأمننْ قوماً حقـــــــرتهمُ     وبدأتـــهمْ بالشتــــمِ والرَغْــمِ
أن يأبـــــروا نَخْلاً لغيـــرهمُ     والأمرُ تحقـــــرهُ وقـد يَنْـمي
وزعمتـمُ أن لا حلـــــومَ لنــا     إن العصا قُرِعَتْ لـذي الحِلْمِ

     لقد ارتقى الشاعر في أبياته هذه درجاتٍ رائعة في فضائل الرجال والكمال، وبلغ غايةً مشرفة منيفة في درجات قهر النفس والسيطرة على نوازعها.

     وفي موقف مشابه نلتقي بالشاعر العربي الذي قَتل أخوه ابناً له فأدركته الحيرة ولم يدرِ ما الذي يفعل، ثم وجدَ الخلاص في أن يراهما مثلَ يَدَيْنِ إحداهما أصابته بالأذى؛ فماذا يفعل بها؟ يقول:

أقولُ للنفس تَأْســــاءً وتعـــزيةً     إحدى يدي أصابتني ولم تُـــرِدِ
كلاهما خَلَفٌ عن فقدِ صــاحبِه     هذا أخي حينَ أدعوه وذا ولدي

     أمّا بشار بن بُرْد فإنه يصل إلى مستوى أبعدَ من ذلك، إذْ يجعلُ من معاني العفو والتسامح منطلقاً وقاعدةً يُبْنى عليها سلوكٌ حيوي، ويحاول أن يجعلَ من هذه القاعدة قانوناً يحكمُ بين الناس، وتقومُ عليه صِلاتُ الود والمرحمة والمحبة. فعلى المرء أن يغفرَ لصديقه زلّته، وألّا يبالغَ في تعقبِ أخطائه، ويلتمسَ له العذر، وإلّا فإنه سيجدُ نفسه وحيداً في خاتمة المطاف:

إذا كـنــتَ في كل الأمور معــــاتـباً     صديقَـــك لمْ تــلقَ الذي لا تعــــاتبهْ
فعِـــشْ واحداً أو صِلْ أخـــاك فإنـه     مقــــارفُ ذنـــــبٍ مرةً ومجــــانبهْ
ومن ذا الذي تُرْضى سجـــاياه كلها     كفى المرءَ نبـــــلاً أن تُعَدَّ معـــايبهْ
إذا أنتَ لم تشربْ مِراراً على القذى     ظمئتَ وأيُّ النـــاسِ تصفو مشاربهْ

     في شعرِنا العربي روائعُ خالدةٌ من الشعرِ الأصيل، وإنما يَغْفُلُ عنها جاهلٌ أو متجاهل.

     وجديرٌ بنا أن نلتقيَ بها ونتعرفَ إليها، وننظرَ بازدراء إلى أولئك الذين يحتقرون تراثَ أمتهم، ويقلدون الآخرين تقليدَ القردة لأنهم قبلَ كلِّ شيء مهزومون، مهزومون نفسياً وفكرياً وحضارياً. وإن التخلصَ من هؤلاء المهزومين خطوةٌ مهمةٌ جداً لا بد أن نقطعها ونحن نبحث عن الأصالة ونحثُّ الخطى نحو النهضة الصحيحة، ونرقبُ بشوقٍ عظيم وأعصابٍ مشدودة طلوعَ الفجرِ الصادق.

*****

وا إسلاماه!

وا إسلاماه!

     بلغت موجة التتار منتهى عنفها وزخمها وضراوتها عام 656هـ= 1258م؛ حين وصلت بغداد فاجتاحتها، وقتلت خليفة المسلمين فيها، وفتكت بالمدينة فتكاً ذريعاً جداً، فكانت نكبة بغداد عاصمة الخلافة من أفدح نكبات التاريخ وأشنعها.

     وبعد السقوط المريع لبغداد صار واضحاً جداً أن مركز الثقل الجديد لمقاومة التتار انتقل إلى القاهرة التي كان يتولى السلطة فيها أمير مملوكي شجاع هو السلطان المجاهد قطز؛ الملقب بالملك المظفّر، الذي يُعَدُّ بلا جدال مَعْلماً بارزاً من معالم الجهاد في تاريخ المسلمين.

     وامتدّت أنظار التتار إلى مصر، وكتبوا إلى قطز محذّرين منذرين، فأشار علماء المسلمين عليه ألّا يضيع الوقت، وأن يأخذ بأسباب الجد والاجتهاد والجهاد، وطالبوا بإعلان الجهاد، والأخذ بزمام المبادرة لأنه "ما غُزِيَ قومٌ في عقر دارهم إلا ذلّوا"[1]، ولأن اتباع مبدأ "ذات الشوكة"، وملاقاة العدو هو الحل المشرّف لسلطان القاهرة وساكن القلعة.

     وانتشر العلماء في البلاد يزيلون أركان الوهن والفساد، ويطهّرونها من الضعف والترف، ويجتثّون منها كل ما يُغضب الله عز وجل، ويحرّكون وجدان الأمة وضميرها بعقيدة التوحيد وراية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويحثّونها على الجهاد، ويشجّعونها على البذل والفداء.

     وحين اكتملت العدة عبرت جيوش الإسلام بقيادة قطز وحوله العلماء وقادة المماليك سيناء تسبقهم فرق خاصة من الفدائيين كانت تُعرف باسم "الجهادية". ودخلت هذه الجيوش بلاد الشام الجنوبية باسم الله وعلى بركته، وعلى نيّة الجهاد في سبيله، وعَفَّرَ قطز وأمراء المماليك وجوههم بالتراب سائلين الله عز وجل أن يكتب النصر للإسلام والمسلمين.

     وكانت "وا إسلاماه" صرخة الحرب وشعارها وهتافها المدوّي، كانت تهزّ القلب، وتفجّر الشجاعة، وتستنهض العزيمة، وتستثير كوامن البطولة وحبّ الموت. كانت "وا إسلاماه" كلمة وعى حقيقتها ومغزاها البربريُّ والسوداني، والتركي والعربي، والكردي والفارسي، وغيرهم من مختلف الألسن التي ضمّها جيش الإسلام الماجد يومذاك.

     وفي الثالث من أيلول/ سبتمبر (1260م= 658هـ) دارت رحى معركة عين جالوت قاسية عنيفة رهيبة، وانتصر الإسلام نصراً حاسماً خالداً. ودُفِنَ في ساحة المعركة ذلك القول الانهزامي الاستسلامي الذي سار من أقاصي آسيا إلى بلاد الشام وهو "إذا جاءك أن التتار انهزموا فلا تصدّق".

---------------
[1] قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تعليقٍ له على مقالة الشيخ أحمد شاكر حول تصحيح الكتب (ط: دار البشائر الإسلامية، بيروت): هذا من قول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في خطبة طويل. وجاء في رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية إلى السلطان الملك الناصر (ص16) مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالله أعلم بثبوته. اهـ. https://al-maktaba.org/book/31615/32132

صلاح الدين الأيوبي.. الوجه الآخر

صلاح الدين الأيوبي.. الوجه الآخر

     كلما ألمّت بالمسلمين نكبة، من النكبات العسكرية خاصة، فزعوا إلى تاريخهم يتذكرون أبطاله العظام الذين صنعوا لهم انتصارات رائعة ومذهلة، كخالد والمثنى، وسعد وأبي عبيدة، وعقبة وطارق، وقطز والظاهر، ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم.

     ولعل أكثر شخصية من هؤلاء تقفز إلى دائرة الاهتمام في الحس الإسلامي إبّان الظروف القاسية، هي شخصية القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي، ذلك أن الرجل ظهر في ظروف قاسية كانت تحيط بالمسلمين وتفتك بهم، داخلياً وخارجياً. أما العدو الصليبي فقد كان في عزّ قوته وغلبته وغطرسته ولم تلبث حال المسلمين أن انتقلت على يد صلاح الدين إلى الأفضل فالأفضل باستمرار، حتى كان مسك الختام أن حرر القدس من يد الصليبيين بعد أن امتدت سيطرتهم عليه قرابة قرن من الزمان.

     وإذن فإنه من البدهي أن تحتل شخصية صلاح الدين في نفوس المسلمين طوال عصورهم، وإبّان الفترات القاسية منها خاصة، مساحة كبيرة من الاهتمام والتعلق والتشبث لا تحتلها شخصية أخرى، وإنه من البدهي أيضاً أن يكون اهتمام مسلمي اليوم، وتعلقهم وتشبثهم بصلاح الدين، يحتل مساحة كبيرة، ويأخذ حجماً واسعاً، ذلك أن القدس التي حررها صلاح الدين، قد وقعت أسيرة بيد اليهود، وهي تنتظر بطلاً كصلاح الدين، يحررها من بغي اليهود ودنسهم ويعيدها إلى الراية المسلمة.

     أمّا بطولة صلاح الدين العسكرية، وأمّا جوده ونُبْله، وأمّا إيثاره وعلوّ نفسه؛ فهي أمور مشهورة جداً، ذائعة في الشرق والغرب على السواء، لكنّ غير الذائع هو وجهه الآخر الذي لا يكاد يعرفه الناس وهو ما نحاول جلاءه الآن.

     يقول القاضي بهاء الدين بن شداد عن صلاح الدين، وقد كان قاضي عسكره، وملازمه في حله وارتحاله، وكاتب سيرته:

     كان شديد المواظبة على الصلاة بالجماعة، حتى ذكر يوماً أن له سنين ما صلى إلّا جماعة، وكان إن مرض يستدعي الإمام وحده، ويكلف نفسه القيام ويصلي جماعة. وكان يواظب على السنن الرواتب، وكانت له ركعات يصليها إذا استيقظ بوقت في الليل، وإلّا أتى بها قبل صلاة الصبح، ولقد رأيته يصلي في مرضه الذي مات فيه، وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى. وأما صدقة النفل فإنها استنفدت جميع ما ملكه من الأموال، فإنه ملك ما ملك، ومات ولم يخلّف في خزانته إلّا سبعة وأربعين درهماً، وديناراً ذهبياً واحداً، ولم يترك داراً ولا عقاراً، فجُهِّزَ وأُخْرِجَتْ جنازته بالدَّيْن وهو ما يؤكده القاضي ابن شداد ويُقسم عليه.

     وكان يجلس للعدل كل اثنين وخميس، وكان يستقرئ من يحضره في الليل الجزأين والثلاثة والأربعة من القرآن الكريم وهو يستمع، وكان شديد الرغبة في سماع الحديث الشريف، وكان الجهاد وحبه، والشغف به، قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاءً عظيماً، بحيث ما كان له حديث إلّا فيه، ولا نظر إلّا في آلته، ولا كان له اهتمام إلا برجاله، ولا مَيْلَ إلا لمن يذكره ويحث عليه.

     وقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده، وسائر ملاذه، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تتقاذفها الرياح يمنةً ويسرة، ولقد وقعت عليه الخيمة في ليلة ذات ريح شديدة، ولا يزيده ذلك إلا رغبة ومصابرة واهتماماً. وكان الرجل إذا أراد التقرب إليه، حثّه على الجهاد، أو ذكّره بأخبار الجهاد، ما استكثر عدواً قط ولا خافه، ولا فقد أعصابه في هزيمة ولا ظفر، وكان اعتماده على الله تعالى.

     ذلكم هو الوجه الآخر لصلاح الدين، الصلاة والقرآن، والذكر والجهاد، والصدقة والثبات، والعدل والإخلاص. وإنّ هذا الوجه المشرق الذي يكاد يكون مجهولاً من أكثر الناس، هو سبب ظهور ذلك الوجه المعروف، وجه الحرب والنبل والغلبة والانتصار، والمروءة والأريحية.

     لقد انتصر صلاح الدين على نفسه؛ قبل أن ينتصر على أعدائه، لقد حرر نفسه وجيشه وأمته من الشوائب، وجعلها ملأى بالعقيدة الصحيحة والإيمان القوي؛ قبل أن يحرر القدس من النصارى الصليبيين. لقد هزم في نفسه الشح والأثَرَة والإخلاد والتواكل والسفاسف والدون؛ قبل أن يهزم في ديار المسلمين الفرقة والشتات، والبدع والفساد، والكفر والضلال. وإن معركته الكبرى التي خاضها في أعماق نفسه هي التي مهّدت له السبيل إلى الفوز في المعارك الكبرى التي خاضها بغية توحيد ديار المسلمين وطرد الصليبيين المعتدين.

*****

الزنكيَّان والأيوبيُّ والحروب الصليبية

الزنكيَّان والأيوبيُّ والحروب الصليبية

     كان دخول الصليبيين ديارَ الإسلام، وإقامتهم أربع دول فيها نكبة كبرى أصيب بها العالم الإسلامي. فقد قامت حكومات هؤلاء الغزاة في قلب ديار الإسلام، أما المسجد الأقصى فقد حُوِّلَ إلى كنيسة، وأما القتل فقد كان صعباً مرعباً. وحسبك أن تعلم أنَّ الغزاة حين اقتحموا القدس، وتوجَّهوا إلى الأقصى ذبحوا فيه سبعين ألفاً، حتى علت دماء الشهداء؛ فإذا بخيول الغزاة تخوض فيها حتى رُكَبِها كما جاء في رسالة بعث بها بعض المنتصرين إلى أوربا يصفون فيها ما كان من أمرهم في يوم الاقتحام الدامي المشهور.

     حدث هذا كله، وكان بلا ريب نكبة عظمة، وكارثة كبرى، لكن المسلمين أفاقوا من روعة الذبح المستمر، والغفلة والفرقة، وعادوا إلى مصدر قوتهم، وسر انتصارهم، ومفتاح شخصيتهم، عادوا إلى الإسلام فصححوا أخطاءهم، وأقاموا طريقهم على هدي كريم، من هدي الإسلام، فإذا بالحال يختلف، وإذا بموجة امتداد الأعداء وانحسار المسلمين تتوقف، وإذا الأمر ينعكس، فيبدأ المسلمون في الامتداد، ويأخذ الصليبيون بالانحسار، ويحدث في التاريخ ما سمي بحركة الاسترداد، أي استرجاع المسلمين لبلادهم وتطهيرها من رجس الغزاة.

     فمنذ أن ظهر الزنكيان العظيمان، عماد الدين زنكي الذي استعاد الرُّها من الصليبيين، وابنه نور الدين زنكي، الذي أكمل جهاد والده، بل ومن قبل ذلك ببعض الوقت بدأ المد الإسلامي ونشطت حركة الاسترداد، أي أن ذلك تمَّ منذ أن قررت الأمة الإسلامية أن تجاهد، وتركت الراحة الكسلى، والقعود الكئيب، والحلول الاستسلامية الانهزامية، وقررت أن تكون على مستوى إسلامها، فتنهض بالجهاد وأعبائه خير نهوض، وتلتمس في ذلك معين القوة الذي يتدفق فيها فيمدها بالعزيمة والهمة والحركة، وتكتشف خلال ذلك كله حقيقة نفسها ومفتاح شخصيتها، إذ تعود للإسلام وتحرص على الاستمساك به، وعندها يكون لديها من البديهي المقرر أن تجاهد لتطهر أرضها من الغزاة الظالمين.

     ويشهد التاريخ أن الأمة المسلمة منذ أن قررت القتال لم تسترح، وبذلت الكثير من التضحيات، لكنَّ كل ما بذلته كان أقل مما خسرته يوم هانت وتنكبت سبيل الجهاد، وصدق مَنْ قال: ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، هذه واحدة.

     أما الثانية فهي أنها حين قررت أن تجاهد، ارتفعت إلى مسؤولية إسلامها، وهذا فوز عظيم لها عند ربٍّ كريم، وهذا يؤكد ما نقوله دائماً من أن الإسلام سبيلُ سعادتنا في الدين والدنيا معاً، فها هم المسلمون إذ طفقوا يجاهدون الصليبيين، أثبتوا جدارتهم بإسلامهم من ناحية، فإذا بهم يغلبون العدو، ويكون لهم النصر المظفر في دنياهم، فضلاً عن أمل الفوز في أخراهم عند رب العالمين من ناحية ثانية.

     وتنقلت راية الجهاد الإسلامي من الزنكي الأب عماد الدين، إلى الزنكي الابن نور الدين، ثم انتقلت من نور الدين إلى صلاح الدين الأيوبي، الذي شاء الله تعالى أن يكتب على يديه أعظم فصول مرحلة الاسترداد، وهو معركة حطين وفتح بيت المقدس. لم يرهبْ صلاحُ الدين خطورةَ المعركة قط، ولم يخشَ أن أوربا كلَّها وراءَ عدوِّه اللدود، بل اعتصم بالله تعالى، واستمدّ منه العون، ثم أخذ يبذل كل جهوده، ويحشد كل ما يقدر عليه من وسائل وإمكانات وأسباب، ولجأ إلى الإسلام سرِّ قوة المسلمين ومفتاحِ شخصيتهم، ورفعَ رايةَ "وا إسلاماه"!.. فامتصَّ الهزائم، وانتقل من نصر إلى نصر، وزحف عام 583هـ= 1187م إلى حطين، حيث قصم ظهر العدو هناك، وفي العام نفسه فتح بيت المقدس.

     عادت القدس إلى المسلمين من جديد، وعاد المسجد الأقصى إلى ما كان عليه من قبل، ودوّى الأذان من جديد، وعبقتِ الأرض ريّا الساجدين، وضاعَ في الجو عِطْرُ الجُمَعِ الحسان، بعد انقطاعٍ دام حوالي قرن من الزمن.

     وبعد صلاح الدين واصل مَنْ خَلَفَهُ من الأيوبيين والمماليك تطهير ما بقي من ديار الإسلام بأيدي الصليبيين، حتى استرجع قلاوون في آخر الأمر عكّا، ولم يبقَ للعدو في البلاد شيء قط.

     ترى أثمةَ شكٌّ في أنَّ هذه الانتصارات العظيمة إنما تعود إلى الإسلام، دين الله الخالد المحفوظ، سبيلِ سعادتنا، وموئلِ فخارنا، وسرِّ قوتنا، ومفتاحِ شخصيتنا!؟

*****

الخميس، 30 يونيو 2022

ألب أرسلان وملحمة ملاذكرد

ألب أرسلان وملحمة ملاذكرد

     هو السلطان المجاهد الشجاع ألب أرسلان السلجوقي رحمه الله، نلتقي به في مطلع النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، شاباً في العقد الرابع من عمره، متقد الآمال، جياش المُنى، قوي النفس والعزيمة، يحكم دولة واسعة عظيمة، تمتد من تركستان إلى ضفاف دجلة. كان له ولع بالجهاد، فخاض كثيراً من المعارك الطاحنة، وصارع الدولة البيزنطية التي كانت يومذاك من أشد خصوم الإسلام في العالم، وخاض معها سلسلة من المعارك، كان أعظمها على الإطلاق معركة "ملاذكرد".

     ففي عام 463هـ= 1071م سارع الإمبراطور البيزنطي رومانوس إلى حشد جيش ضخم لهّام بلغ عدده في رواية 100,000 مقاتل، وفي أخرى 200,000 مقاتل، وسار به لمحاربة دولة السلاجقة الذين كانوا يمثلون في تلك الأيام وثبة قوية شابة من وثبات الإسلام الكبرى.

     ولما سمع ألب أرسلان بهذا، سارع من فوره لملاقاة رومانوس بجيش يبلغ عدده في رواية 40,000 فارس، وفي أخرى 15,000 فارس فقط. وفكّر السلطان المسلم حين رأى التفوق الهائل لصالح جيش العدو أن يعقد هدنة مع رومانوس فبعث إليه بذلك، لكن رومانوس رأى في طلبه دليل ضعف وإحجام فرفض الهدنة، وردّ على ألب أرسلان ردّاً خشناً جافياً، فكان لهذا الرد عند السلطان المسلم موقف ضخم عملاق، كتب للإسلام والمسلمين صفحة فخار وبطولة، شامخة باذخة متفوقة.

     اختار السلطان المسلم يوم الجمعة موعداً للاشتباك مع الروم البيزنطيين، وصلّى بجنده، وبكى خشوعاً وتأثّراً، وبكى الناس معه، ثم امتطى فرسه وقد لبس البياض وتحنّط استعداداً للموت، وعزم على أن يكون في طليعة المجاهدين، وأعلن لجنوده أنه إذا استشهد فإن ساحة الحرب مأواه الأخير.

     كان ألب أرسلان يؤمل أن تُغْنِيَ شجاعة القلة المؤمنة، وحسن ثقتها بالله عزّ وجل عن العدد الكبير والعتاد العظيم، ولم لا!؟ أليست له في تاريخ الإسلام شواهد كثيرة على ذلك؟ أما انتصر المسلمون وهُم قلة، على خصوم لهم، هم أكثر عدداً وعدة في بدر والأحزاب، وحُنين، والقادسية، واليرموك، ونهاوند،.. وغير ذلك من المعارك!؟

     لقد اتضح للمسلمين أنّ لهم قانوناً مع النصر والهزيمة لا يتخلف ولا يحيد. إنّ لهم النصر والفوز والغلبة، ما أخلصوا لله النية، وترفعوا عن حطام الدنيا، واتخذوا ما بوسعهم من الأسباب، ولو كانوا أقل وأضعف في العدد والعدة.

     أما إذا ضلّت منهم النية أو شابتها الشوائب، فتعلقوا بالمتاع الزائل، وانحرفوا عن هدفهم الرباني الكبير، فإن مآلهم إلى الهزيمة والخسران وإن كانوا أكثر عدداً وعدة. وإذن فليتعامل السلطان المجاهد مع هذا القانون بما يكفل له النصر، ويحقق له الفوز والغلبة، فليأت بمقدمات النصر كما يحددها ذلك القانون وليرقب ثماره وعطاياه.

     والتزم ألب أرسلان مقدمات النصر والفوز خير التزام، ومضى ومَنْ معه على خير ما يكون المُضيُّ المؤمن الملتزم، إخلاصاً لله عز وجل، وترفعاً عن حطام الدنيا، واتخاذاً للأسباب المتاحة الممكنة.

     ودارت المعركة عنيفة ضارية، واستبسل فيها الجانبان، وثبتا في الميدان، وأبدى المسلمون منتهى البراعة والصبر، والجَلَد والثبات، والاستماتة والبطولة، وأبدى الرومان مثل ذلك، لكنّ النصر تنزّل على القلة المسلمة، فما حلّ المساء حتى أحدث المسلمون في جيش العدو ثغرة أخذت تتسع، حتى وقعت بالرومان الهزيمة الفادحة المنكرة، وظفر المسلمون بنصر عملاق متفوق، ووقع الإمبراطور نفسه أسيراً بيد السلطان المسلم.

     لقد كانت معركة ملاذكرد، مصداقاً للقولة الخالدة الذكية، قولة الصدّيق أبي بكر رضي الله عنه: "اطلُبِ الموتَ تُوهَبْ لكَ الحَياة"، وكانت إكليل غار وفخار يتوّج هامة السلطان البطل، ويؤكّد صدق القاعدة الخالدة المؤمنة التي يتعامل المسلمون مع قانونها الباقي حيال النصر والهزيمة.

*****

محمود الغزنوي وصنم الهنود الأكبر

محمود الغزنوي وصنم الهنود الأكبر

     ولِد السلطان العظيم المجاهد محمود الغزنوي عام 361هـ، وتولّى الإمارة عام 389م، وكان دأبه غزو الهند الوثنية كل عام حتى فتح الله عز وجل على يديه بلاداً شاسعة، وعُرِفَ في التاريخ بلقب محطم أصنام الهند. وكان لتحطيمه قصة وعبرة يسوقهما ابن كثير في حوادث سنة 418هـ، أي قبل وفاة السلطان بنحو ثلاثة أعوام.

     وكان الناس يَفِدون إلى ذلك الصنم الأكبر كما يروي ابن كثير من كل فج عميق، كما يفدُ المسلمون إلى البيت العتيق بمكة المكرمة، وينفقون لديه الأموال الهائلة التي لا تُعَد، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية ومدينة مشهورة، وقد امتلأت خزائنه أموالاً، وكان عنده ألف رجل يخدمونه، وثلاثمئة رجل يحلقون رؤوس حجيجه، وثلاثمئة رجل يغنّون ويرقصون على بابه، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وكان البعيد من الهنود يتمنّى لو وصل إلى هذا الصنم بأي سبيل.

     ولما سمع السلطان محمود بخبر هذا الصنم وكثرة عُبّاده، وكثرة الهنود في طريقه، والمفاوز المهلكة والأرض الخطرة، استخار الله تعالى في تجشّم مشاق الجهاد والسفر إليه، وندب جيشه لذلك فانتدب معه ثلاثون ألفاً من المقاتلة سوى المتطوّعين.

     ووصل الجيش المجاهد سالماً إلى حيث الوثن، وغَلبَ أنصارَه، وامتلك زمام الموقف، وحلّت الهزيمة المنكرة بالهنود الذين بذلوا للسلطان محمود أموالاً جزيلة ليترك لهم الصنم الأكبر.

     وأشار بعضهم على السلطان أن يوافق فيأخذ الأموال ويترك الصنم فقال لهم السلطان: حتى أستخير الله عز وجل. فلما أصبح قال: إني فكرت في الأمر الذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديتُ يوم القيامة: "أين محمود الذي كسر الصنم؟" أحبُّ إليّ من أن يُقال: الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا.

     ثم عزم رحمه الله فكسر الصنم، فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلئ والذهب والأحجار النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة.

     لقد انتصر الرجل مرتين، مرةً حين خاض بجيشه غمار معركة دونها أهوالٌ ومفاوزُ وصعابٌ، ومرةً حين آثرَ ما عند الله على المال الكثير، فإذا به يحوز أكثر من المال الذي عُرِضَ عليه، فجمع بذلك إن شاء الله الثواب الجزيل، والثناء الجميل، والإيثار النبيل، والمال الضخم الكثير، فقد آثر الآخرة فكانت له الآخرة والدنيا معاً.

*****

الفتوحات الإسلامية والمنجِّمون

الفتوحات الإسلامية والمنجِّمون

     لقد عانى قادة المسلمين في جهادهم كثيراً من صنوف التثبيط الذي هو وسيلة من وسائل الهزيمة النفسية، لكنهم حين ارتفعوا بالإسلام، وامتلكوا إرادة الجهاد نجوا مما عانوا وكابدوا، وكان لهم النصر بفضل الله عز وجل.

     ودور المنجمين في التاريخ الإسلامي -وهو دخيل على المجتمع المسلم غريب عن تصوره النقي- يمثل في حينه أسلوباً من أساليب الهزيمة النفسية التي يحاول دعاتها تثبيط همم المجاهدين. فمِن المعروف مثلاً أن المعتصم قبيل معركة عمورية حذره المنجمون من المعركة وأرادوا له أن يتأخر في قتاله العدو بحجة أن عمورية لا تفتح إلا بعد نضج التين والعنب!.. ولم يكن أوان ذلك قد حلّ يوم عزم المعتصم على الجهاد.

     لكن المعتصم رفض أكاذيب المنجمين وضرب بدعاواهم عرض الحائط، وصمم على الجهاد، وكان له النصر المبين وفتح عمورية في الوقت الذي أخبره عنه المنجمون أنها لن تفتح فيه. وخلّد ذلك أبو تمّام تخليداً ساخراً حين وصف قتلى الروم فقال:

تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت     جـــلودهم قبل نضج التين والعنب

     ويروى أن بعض المنجمين حذر صلاح الدين الأيوبي بفقد إحدى عينيه إن هو حاول فتح القدس، فأجابهم بهذا الجواب الرائع: "إني لأوثر أن أفقد بصري كله إذا كان من وراء ذلك فتح بيت المقدس". وأتمّ الله نعمته على صلاح الدين، فكان الفتح ولم يصب بسوء، وكذب المنجمون ودعاة الهزيمة والتخاذل.

     وفي عصرنا الحاضر نجد كثيراً من دعاة الهزيمة النفسية الذين يقومون بما كان يقوم به المنجمون من قبل، ولكن بأسلوب عصري. فدعاة الهزيمة النفسية اليوم يثبطون الهمم عن القتال، ويحاولون تصوير الأعداء بأنهم على جانب ضخم جداً من القوة والتماسك، وأنهم يستندون إلى أقوى دول الأرض، وأن الانتصار عليهم انتصاراً نهائياً ضرب من الجنون وما إلى ذلك من الأباطيل والخزعبلات.

     وكما سخر المسلمون قديماً من المنجّمين وجاهدوا؛ علينا الآن أن نسخر من هؤلاء المثبطين ودعاة الهزيمة والاستسلام ونجاهد حق الجهاد، وسيكون لنا النصر إن شاء الله حين نرفع شعار: "وا إسلاماه!".. وننهض بجميع شروطه ولوازمه، ونعيد دعاة الهزيمة النفسية والمتخاذلين والمستسلمين للعدو إلى أمكنتهم في الجحور.

     ومن أهم ما ينبغي علينا أن نصنعه للنجاة من الهزيمة النفسية وقطع الطريق على مضاعفاتها الخطيرة المتوقعة أن تكون قيادات المسلمين بمنأى عن الهزيمة النفسية تماماً، وألّا يتبوّأ أحد من الناس مكاناً في هذه القيادات إلا إذا كان مستعلياً بالإيمان، بريئاً من كل أنواع الجبن والخور، واثقاً أنّ المستقبل لهذا الدين، واثقاً أنّ النصر له مهما اشتدت الظلمات وكثرت الخطوب.

*****

المنجّمون ومعركة عمورية

المنجّمون ومعركة عمورية

     في قصة المعركة العظيمة، معركة عمورية، يُروى أن المنجّمين حذّروا الخليفة العظيم الشجاع المعتصم بن هارون الرشيد من غزو عمورية حين عزم على فتحها، وزعموا له أنه لا يمكن له الوصول إليها والظفر بها إلّا في الصيف حين ينضج التين والعنب.

     لكن الخليفة الشجاع رفض ما قالوا وسارع إلى عمورية، وانتصر نصراً مؤزّراً خلّده الشاعر العظيم أبو تمّام بقصيدته البائية الشهيرة التي سَخِر فيها بالمنجّمين، وذكر عدد قتلى الروم الذين أدركتهم المنيّة بهزيمة المعتصم إياهم قبل أن يحين أوان نضج التين والعنب:

تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت     جلودهم قبل نضج التيـــن والعنبِ

     بعد ذلك بقرون عزم صلاح الدين الأيوبي على تتويج سلسلة جهاده العظيم بفتح بيت المقدس التي رسفت في ظل الأسر الصليبي قرابة قرن من الزمان.

     هنا تكررت حادثة المنجّمين ثانية، إذ يُروى أن المنجّمين حذّروا صلاح الدين مما هو قادم عليه وزعموا له أن سيفقد إحدى عينيه إن أنفذ عزمه، ويُروى أن السلطان المجاهد قال لهم: إني لأوثر أن أفقد بصري كله إذا كان من وراء ذلك فتح بيت المقدس.

     ترى ألا يبدو دور المنجّمين الدخلاء على المجتمع الإسلامي النظيف في تلك الأيام مشابهاً لدور المثبّطين في أيامنا، الذين يثبّطون الهمم، ويجسّمون المخاوف، ويبالغون في خطر قوة الأعداء، ويزعمون أن الانتصار عليهم أمر مستحيل، وأن على الأمة أن ترضى بالاستسلام الذي يسمّونه سلاماً، وبالعار الذي يسمّونه صلحاً، وبالخيانة التي يسمّونها معاهدة؟

ترى أما يجدر بالأمة المسلمة أن تستعلي على باطل هؤلاء وأكاذيبهم، وتركب مركب التضحية والجهاد وإن كان وعراً، لتفوز بإذن الله بالنصر المؤزر كما فعل المعتصم وصلاح الدين؟

*****

الأكثر مشاهدة