الخميس، 30 يونيو 2022

المسلمون في الأندلس.. بين جورج الثاني وهشام الثالث

المسلمون في الأندلس.. بين جورج الثاني وهشام الثالث

     حين منح المسلمون في الأندلس، صادق ولائهم لدينهم المحفوظ الخالد، وأحسنوا تمثيله والتعبير عنه، منحهم هذا الدين الإيجابي العملي، أثمن الفرص من أجل أن ينالوا ذرى الكرامة والمجد، ويرتقوا القمم السامقة الشمّاء، في مسالك العظمة والقوة، ومدارج التفوق والإبداع. ولقد كان هذا هو ديدن الإسلام مع ذويه، ما منحوه شيئاً إلّا منحهم أشياء، وما قدموا له الطاعة إلا قدم لهم الخير، وما وهبوه كامل الولاء إلا وهبهم أسخى العطاء.

     وانظر إلى صفحة الحضارة المسلمة في الأندلس لتجد مصداق ذلك. إنه حين أحسن المسلمون الصلة بدينهم فهماً وصدقاً وسلوكاً، تقدموا وتفوقوا.. وشادوا وعمّروا، وصنعوا لأنفسهم الخير العميم في دينهم ودنياهم. لذلك لا عجب أن كانت حضارتهم قمة سامقة في مختلف الميادين، وفي ميدان العلوم والفنون والصناعات على وجه الخصوص.

     وقد احتل مسلمو الأندلس في ميدان المعارف بأنواعها مكانة عالية، وكانت لهم في أوربا شهرة واسعة في هذا المضمار، يصاحبها إعجاب شديد، لهذا لم يكن غريباً أن يكثر الطلبة الأوربيون الذين يطلبون العلم في المعاهد الأندلسية المختلفة، وأن يكونوا من شتى البلدان الأوربية، وأن يكون منهم الرجل والمرأة، والحاكم والأمير، والراهب والراهبة، وأن يكون في مسلك هؤلاء الطلبة ما يدل على الإعجاب الشديد بالأندلس المسلمة، حتى إننا لنرى بعضهم وبعضهن، يعتنق الإسلام، ويرفض العودة إلى بلده، ويتزوج ويقضي بقية عمره في الأندلس واحداً من أبنائها المسلمين، بل كان ممن يفعل ذلك راهبة وأميرة.

     وكان لبعثة فيليب ملك باڤاريا إلى الأندلس سمعة خاصة فيما يبدو، فقد كانت ثمة مكاتبات بين فيليب هذا وبين هشام الأول خليفة المسلمين الأندلسي، وكانت هناك عناية خاصة بالبعثة الوافدة، من حيث ضخامة العدد، ومن حيث تنوع المعلومات والمعارف التي جاء طلبة البعثة للحصول عليها، ومن حيث إن بعض عناصرها كُنَّ أميرات، وكان رئيس البعثة هو الوزير الأول عند فيليب.

     والدليل على أن هذه البعثة كان لها شهرة واسعة في أوربا، أن ملوكاً وأمراء أوربيين آخرين ساروا على المنوال ذاته، فأرسلوا إلى حكام الأندلس المسلمين يخبرونهم بما يريدون، وجعلوا من بين الطلبة الوافدين عدداً من أبناء وبنات الأشراف والأعيان، وأرسلوا على رأس المجموعة المبتعثة شخصاً مهماً من الوزراء أو النبلاء.

     وتحتل البعثة التي أوفدها جورج ملك ويلز، أهمية خاصة هي الأخرى. كانت هذه البعثة برئاسة ابنة أخيه، وكانت تضم ثماني عشرة فتاة، من بنات الأشراف والأعيان. وقد توجّهت البعثة إلى إشبيلية، ورافقهن في سفرهن "النبيل سفيلك" رئيس موظفي القصر في ويلز، وكان النبيل سفيلك هذا يحمل رسالة من الملك جورج إلى الخليفة هشام الثالث، تعد مفخرة من مفاخر المجد الإسلامي، وصفحة من أروع صفحات الحضارة الإسلامية الزاهرة في الأندلس المسلمة. وقد نشر المؤرخ الإنكليزي "جون داون يورث" نصّها في كتابه الخطير: العرب عنصر السيادة في القرون الوسطى.

     تقول الرسالة:

     "من جورج الثاني ملك إنكلترا والغال والسويد والنرويج إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام:

     بعد التعظيم والتوقير، فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يسودها الجهل من أربعة أركان.

     ولقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة دوبان على رأس بعثة من بنات أشراف الإنكليز لتتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف، لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وحماية الحاشية الكريمة، وحدب من اللواتي سيتوفرن على تعليمهن. ولقد أرفقتُ مع الأميرة الصغيرة هدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص.

     التوقيع: من خادمكم المطيع جورج م.أ."

----------

     وقد رد الخليفة هشام الثالث بهذه الرسالة:

     "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيّه سيّد المرسلين وبعد:

     إلى ملك إنكلترا وإيكوسيا وإسكندنافيا الأجل:

     لقد اطلعتُ على التماسكم فوافقتُ بعد استشارة من يعنيهم الأمر، على طلبكم، وعليه فإننا نعلمكم بأنه سيتم الإنفاق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين، تأكيداً على مودتنا لشخصكم الملكي. أما هديتكم فقد تلقيتها بسرور زائد، وبالمقابلة أبعث إليكم بغالي الطنافس الأندلسية، وهي من صنع أبنائنا هدية لحضرتكم، وفيها المغزى الكافي للتدليل على اتفاقنا ومحبتنا والسلام.

     التوقيع: خليفة رسول الله على ديار الأندلس هشام".

***

     ترى أثمة شك في أنها واحدة من أنصع وأروع أيادينا البيضاء على الحضارة البشرية؟ إنها الأمة الأندلسية المسلمة يوم أن قدّمت لإسلامها الطاعة والانقياد فقدم لها العزة والأمجاد، ومنحته من نفسها البطولة والفضيلة، فمنحها من فيضه الإباء والرجولة، ووهبته كامل الوفاء والولاء فوهبها شامخ النوال والعطاء.

*****

طارق بن زياد وفتح الأندلس

طارق بن زياد وفتح الأندلس

     كان يوماً مشهوداً في التاريخ، شامخاً منيفاً عملاقاً ذلك الذي سارَ فيه الشابُّ القائدُ الشجاع طارقُ بنُ زياد بقلّةٍ مؤمنة من جندِه الكُماةِ الميامين، وعبَر فيه البحرَ من المغربِ إلى الأندلس، ونزلَ أولَ ما نزل على جبلٍ هناك لا يزال حتى اليوم يحملُ اسمَه الخالد.

     كان يوماً مشهوداً في تاريخ الإنسان لأنه بدايةُ مسيرةٍ طويلةٍ مُظفَّرةٍ لرايةِ القرآن، أرقَلت بها الكتائبُ المؤمنة الشجاعة من المغرب المؤمنِ الشجاع، إلى الجزيرةِ الخضراء المعطاء، أرضِ السحرِ والعطرِ والجمال، أرضِ الحضارةِ والسموِّ والعمران، أرضِ البطولةِ والتضحيةِ والملاحم، أرضِ الأندلس، التي كان لها دورٌ مشهود في رِفعةِ الحضارة، دورٌ ضخمٌ عملاق، بدأ فجرُه الساطعُ المنير في ذلك اليوم الذي عبرَ فيه طارقُ بنُ زياد مع جُندِه الأطهار الكرام ليُقيمَ للإسلامِ دولةً شامخة باذخة في تلك الديار النائية.

     إن المسيرةَ التي بدأت بعبورِ طارق، رفعت أعلامَ الهدى، وأوقدتْ مشاعلَ الحضارة ودفعتْ مواكبَ النورِ صَوْبَ الفتحِ المظفّرِ المنصور، فاجتاحت موجتُها المؤمنةُ المتدفقة السدودَ والقيودَ والجبالَ والأنهار، وانصبّت فيما بعد في أرضِ فرنسا، حيث قامت معركةُ بلاطِ الشهداء على بعد 100 ميل فقط من باريس، فعطّرت دماءُ الشهداء تلك الرُبى والآكام، وهاتيكَ السهولَ والمروج، وأصاخت مسامعُ الكونِ آذانَها تسمعُ الأذانَ العاطر يَصْدَحُ في تلك الديار النائية عن موطنِ الإسلام الأول.

     كان طارقٌ وجندُه الأبرار من أولئك الرجال العماليق الذين لهم هممٌ متقدة، وعزائمُ جيّاشة، وطموحٌ ضخمٌ ممتد، وأمانٍ شاسعةٌ واسعة، لم يكونوا من الذين يُكْثِرون من التفكير حتى يَصِلَ بهم ذلك حدَّ الشللِ والقعودِ والإحجام، بل كان لهم منه ما يكفي لينأى بهم عن غياهبِ الجهلِ والسفاهةِ والإقدامِ الأرعنِ الأحمق. أمّا ما بعدَ ذلك فهو إحساسٌ حارٌّ جيّاش بضرورةِ حَمْلِ هذا الدين وإبلاغِ رسالتِه للعالمين مهما تكنِ الصعابُ والتحدّيات، في إصرارٍ عنيد، واندفاعٍ موصول ما سارت الشمس، وما طلعَ القمر، وما تعاقبَ الجديدان.

     لو أنّ طارقاً ومَنْ معه أكثروا من حساباتِ الموقف جَمْعاً للمعلومات والأرقام، وتحديداً للقوى المادية المتصارعة، وانقطعوا عن النظرِ إلى ضخامةِ القوةِ المعنوية حينَ تنفجر لَما كان لهم أن يتوغّلوا في الأندلس، بل لَما كان لهم أن يعبروا البحرَ بادئَ ذي بدء، فهم قلةٌ مغامِرة تُلْقي بنفسِها في بحرٍ لجبٍ عميق!..

     لكنَّ طارقاً ومَنْ معه كان لهم موقفٌ آخر!.. موقفُ الإيمان إذ يندفعُ فيتّخذُ من الأسبابِ المادية ما يَقْدِرُ على اتخاذِه، ثم يمضي مُسرعاً دونَ خوفٍ أو وجل، ذلك أن المسلمين ما كانوا يقاتلون بعددٍ أو عُدَّةٍ، وإنما بهذا الدينِ الذي أكرمَهم اللهُ به.

     نزلَ القائدُ المؤمنُ الشجاعُ بجيشهِ المؤمن الصغير على أرضِ إسبانيا.. وأمرَ بإحراقِ السفن ليقطعَ على المسلمين أسبابَ الرجوعِ، وليستطيعَ أن يخاطبَهم بقولِه الخالد:

     "أينَ المفر؟ البحرُ من ورائِكم، والعدوُّ من أمامِكم، وليسَ لكم واللهِ إلّا الصدقُ والصبر!.."، فيثير فيهم القوةَ الكامنة، والبطولةَ الأصيلة، والنخوةَ والحميّة، فيعتمدون من بعدِ الله عز وجل على سواعدِهم وسيوفهم.

     صَفَّ طارقٌ جيشَه أمامَ العدو واستعرضَه، فرأى أنه لا يكافئُ الجيشَ الإسبانيَّ في العددِ والعُدَّة، ووصولِ الميرةِ والمدد، والغوثِ والنجدة، فالعدوُّ في مركزِه وأرضِه بينما جيشُ طارقٍ غريبٌ منقطعٌ عن مركزِه وبلاده، لا يَأْمُلُ أن يكْسَبَ زاداً أو يُصيبَ عُدَّة، إلا ما ينتزعُه من أيدي عدوِّه انتزاعاً ويتغلّبُ عليه.

     وإنَّ طارقاً لَيَعرفُ -وهو الفطنُ الذكي- أنّ جيشَه لو حدثَ به حادِثٌ، أو دارت عليه دائرةٌ؛ فإنه سوف يصبحُ خبراً من الأخبار في خَلَدِ الزمان، وطُعْمَةً للسّباعِ والنسور في أرضِ الميدان. وهذا ما أثارَ في طارقٍ التفكيرَ والاهتمامَ بحثاً عن قوةٍ يَدْعَمُ بها جيشَه المغامر.

     ولمْ يَرَ بعدَ إطالةِ التأمل إلّا أن يَضُمَّ لهذا الجيش قوةً لا تُهْزَم وإرادةً لا تُغْلَب، إنها القوةُ الإيمانيةً العظيمةُ التي تتصلُ بقوةِ اللهِ عز وجل وحَبْلِه المتين. وفرح طارقٌ بذلك أيَّ فرح، وتطلّقَ وجهُه واستبشر، فقد كان من أمرِه على يقين. أليسَ جيشُه الصغيرُ جندَ الله؟ أما جاءَ به ليخرج الناسَ من الظلماتِ إلى النور، ومن عبادةِ الناسِ إلى عبادةِ ربِّ الناس، ومن ضيقِ الدنيا إلى سعتِها ومن جَوْرِ الأديان إلى عدلِ الإسلام؟

     أمَا قال الله عز وجل: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 173]؟

     هنالك وقفَ القائدُ المؤمن يناجي ربَّه، ويطلبُ النصرَ والغلبةَ والتمكين، وكان في ذلك مُتأسِّياً بِهَدْي الرسول ﷺ، إذ وقفَ يومَ بدرٍ يدعو ربَّه عزّ وجل. تأسّى طارقٌ بهذا الموقفِ فكان منه دعاء، وكانَ منه رجاء، وكانت همّةٌ من بعدِ الدهاءِ والرجاء أعقبَهما النصرُ المبين.

     إن هؤلاء الفتيانَ الذين خرجوا مع طارق مجاهدين فاتحين، قومٌ منحَهم اللهُ عز وجل طموحاً وعلوَّ همّة، فهم لا يَرْضَوْنَ إلا أن يكونوا سادةَ العالم يحكمون الدنيا كُلَّها بحكمِ الله، وينفذون فيها أمرَه، لا يعلوهم سواه، ولا يخافون إلّاه.

     أبطالٌ غطاريفُ ميامين تنفلق بهيبتِهم البحار، وتنطوي لسطوتِهم الجبال، لقد ذاقوا لذّةَ الحبِّ والإيمان فاستعلَوْا بذلك على العالم والمادة. هانت عليهم الدنيا وشهواتُها، زخارفُها وزينتُها، لمعانُها وبريقُها، وذلك شأنُ الإيمان إذا خالطت بشاشتُه القلوب. ما خرجوا أَشَراً ولا بَطَراً، ولا رياءً ولا سُمعة، ولا طلباً لنفوذٍ أو مغنم، بل أخرجَهم الحنينُ إلى الشهادةِ التي هي أَمَلُ كلِّ مؤمنٍ صادق، والرغبةُ في إعلاءِ كلمةِ الله جلّ جلاله.

     القارّةُ التي وقفَ طارقٌ على شفيرِها جنوبَ الأندلس واقفةٌ على شفا حفرةٍ من النار، ولا يمكنُ أن يمنعَها من التردّي فيها إلا أن يبذلَ طارقٌ ومَنْ معه دماءَهم وأنفسَهم بشجاعةٍ وسخاء، ذلك أنّ أملَهم الكبير وطموحَهم الضخم لا ينهضُ به إلا دمٌ مؤمنٌ طاهر كدمِ طارقٍ ومَنْ معه.

     إنّ أزهار الخيرِ جافّةٌ ذابلة، وهي بحاجةٍ إلى دمٍ قانٍ طاهر لِتَرْفُلَ في حلّتهِ وتزهو، وتبدو ناضرة حيّة، وإنّ طارقاً ومَنْ معه هم هذا الدم العزيز الذي لا يتوانى أن يسيلَ على الأرض ما دام في ذلك تعزيزٌ لركبِ الخير وزحفِ الإيمان.

     إنّ طارقاً ومَنْ معه قَدِموا ليُريقوا دماءهم في بستان الجهاد الإسلامي، لتخضرَّ الأرض، وتُزهِرَ الأشجار، ويذوبَ الصقيع، وتَعْمُرَ البلاد، ويسود الأمن والعافية والرخاء، لتخصب شبه جزيرة إيبيريا بعد جفافٍ طويل، وجدبٍ متّصل، وسنواتٍ عجاف، ليحلّ الربيع بعد شتاءٍ قاسٍ ممتد ملأته الرياح الهوج، والعواصف المدمرة، والبرد الشديد القارس، لتستحيل شبه جزيرة إيبيريا شيئاً جديداً آخر اسمه الأندلس، ولتُطوى الصفحة الإسبانية منها، وتحلّ بدلاً منها الصفحة الأندلسية التي كانت أعطر أيام شبه الجزيرة تلك، وأجملها وأزهاها على الإطلاق، وأحفلها بالمبادئ القويمة، والأهداف النبيلة، وأعظمها دَوراً في خدمة الحضارة الإنسانية وإثرائها بكل نافعٍ مفيد.

     إنّها لَحقيقةٌ من حقائق التاريخ الكبرى أنْ تقول: إنَّ دور الأندلس المسلمة في الحضارة البشرية هو صفحةٌ مشرقة من أعظم صفحات هذه الحضارة وأنبلها على الإطلاق، وهي صفحةٌ كُتِبَ السطر الأول منها بموقف طارق الذي كان وسيظلُّ من نوادر مواقف الرجال في تاريخ البشر.

     وسجّل التاريخُ أنّ الله عز وجل أنزل نصره المؤزّرَ يومذاك على طارق ومن معه، فاقتحمَ المسلمون الأندلس وحكموها ثمانية قرون، ومنحوها بذلك أجمل أيام عمرها وأبهاها على الإطلاق، ونشروا فيها الهدى الإيماني الكريم، فإذا بالقرآن يُتلى، وإذا بالأذان يعلو، وإذا بالأندلس جزء من دار الإسلام.

*****

أقوال حكيمة

أقوال حكيمة

· أرجى آية في كتاب الله تعالى:

- قال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه: تلوتُ القرآنَ كله، فما رأيتُ آية أرجى من قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ﴾ [الإسراء:84]، لأن شاكلة العبد المعصية، وشاكلة الرب الرحمة.

- وقال عمر الفاروق رضي الله عنه: قرأت كتاب الله كله، فلم أجد أرجى من قوله تعالى: ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ [غافر:3].

- وقال عثمان ذو النورين رضي الله عنه: قرأت القرآن كله فلم أجد أرجى من قوله تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الحجر:49].

- وقال عليٌّ أبو الحسنين رضي الله عنه: لم أجد في القرآن الكريم أرجى من قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر:53].

· من كلام الفضيل بن عياض رحمه الله قوله:

- لم يدرك عندنا من أدرك بكثرة صيام ولا صلاة، وإنما أدرك بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة.

- لم يتزين الناس بشيء أفضل من الصدق وطلب الحلال.

- وسئل عن التواضع فقال: أن تخضع للحق وتنقاد له، وتقبل الحق من كل من تسمعه منه.

- من أظهر لأخيه الود والصفاء بلسانه، وأضمر له العداوة والبغضاء لعنه الله، فأصمه وأعمى بصيرة قلبه.

· ومن كلام ذي النون المصري رحمه الله قوله:

- إياك أن تكون بالمعرفة مدعياً، أو تكون بالزهد محترفاً، أو تكون بالعبارة متعلقاً.

- وسئل عن المحبة، فقال: أن تحب ما أحب الله، وتبغض ما أبغض الله، وتفعل الخير كله، وترفض كل ما يشغل عن الله، وألّا تخاف في الله لومة لائم... مع العطف للمؤمنين، والغلظة على الكافرين، واتباع رسول الله ﷺ في الدين.

· ومن كلام بشر الحافي رحمه الله قوله:

- الدعاء ترك الذنوب.

- إن لم تطع فلا تعص.

- الحلال لا يحتمل السرف.

· ومن كلام شقيق البلخي رحمه الله قوله:

- اتق الأغنياء: فإنك متى عقدت قلبك معهم وطمعت فيهم، فقد اتخذتهم أرباباً من دون الله عز وجل.

- الزاهد الذي يقيم زهده بفعله، والمتزهد الذي يقيم زهده بلسانه.

- جعل الله أهل طاعته أحياء في مماتهم، وأهل المعاصي أمواتاً في حياتهم.

- ليس شيء أحب إليّ من الضعيف، لأن رزقه ومؤونته على الله، ولي أجره.

*****

صاحب النقب

صاحب النقب

     كان جمعٌ من المجاهدين الغزاة يحيطُ بحصنٍ منيعٍ من حصون الروم، وكان الجمعُ على أهبةٍ حسنة، وعدّةٍ طيبة، وكان كذلك على همّةٍ عالية وإيمانٍ مكين، وصدقٍ في البلاء وثباتٍ عند اللقاء.

     لكنّ الحصن استعصى عليهم بالرغم من كل ذلك؛ فقد كان معقلاً أَشِباً حصيناً يشقُّ اقتحامُه على الغزاة، وكان الروم المدافعون عنه فرساناً شجعاناً قد عرفوا الحروب وخبروها، فاجتمع لهم من ذلك دُرْبَةٌ وخبرة، إلى شجاعة وإقدام. من أجل ذلك طالَ الحصارُ دونَ أنْ يُوَفَّقَ المجاهدون إلى اقتحام الحصن الرومي وهزيمةِ مَنْ فيه. ولولا أنّ أولئك الغزاةَ المحاصِرينَ للحصن كانت لهم همّةٌ كبيرة، وعزمٌ صادق، ويقينٌ راسخ، لتَداعَوْا إلى الانسحاب، ورجعوا راضين من الغنيمةِ بالإياب.

     طال الحصار وكثرت اللقاءات بينَ المحاصَرين والمحاصِرين دونَ نتيجةٍ حاسمة، فما استطاع أهلُ الحصن فكَّ الحصار وإرجاعَ الغزاة، وما استطاع المجاهدون أن يقتحموا الأسوارَ المنيعةَ العالية.

     وكان مَسْلَمَةُ بنُ عبد الملك القائد الشجاع الباسل، يمتطي صهوةَ جواده الذي أَلِفَ الحروب، يتفقد جندَه الشجعان، ويتدبَّرُ أمورَهم، ويرعى شؤونَهم ويدفع عنهم الأذى، وكان كذلك يُطِيفُ بالحصنِ من هنا وهناك، ينظر إليه ويتأمله، ويفحص جدرانَه الضخمة، وأسوارَه الباذخة، ونقطَ الحراسةِ والأبواب، لعله يوفَّقُ إلى مكان مناسب يقتحمه منه لينتهيَ هذا الحصار الذي طال، لكنه كان يعودُ من بعد تَطْوافِه دونَ أنْ يحظى بما يؤمّل، فما يجد أمامَه إلا المزيدَ من الصبرِ وتشديدِ طَوْقِ الحصار.

     وربّما كانت نفسُ مسلمةَ تضيقُ في بعضِ الأحايين، ذلك أنه -وهو القائدُ الجسورُ الشجاع الذي خَبِرَ الحروب وعرَفها- وقفَ عاجزاً أمامَ هذه المعقل العنيد، ترى أينسحبُ عنه معترفاُ بعجزِه عن اقتحامه!؟ أيظلُّ هكذا محاصِراً له إلى أمدٍ لا يعلمه إلا الله!؟

     وأرخى الليل سدولَه، وحلّ الظلام، وهدأتِ الحركة عند الرومِ وعند المسلمين، وساد صمتٌ مطبق لا تقطعه إلا أصواتُ الحراس من الفريقين. لكن مسلمةَ نأى عنه النوم فظلّ في خيمتِه مُتْعَباً حيران حتى استأذن عليه بعضٌ من قادته يفكرون معه في أمر الحصن، ويعرضون عليه ما هداهم إليه تفكيرُهم من حلول.

     أشارَ عليه أحدهم بأن يَنْدُبَ من فرسانه مَنْ يبيعُ نفسَه لله بثواب الشهادة والجنة، فإذا اجتمعَ من ذلك عددٌ طيب مَضَوْا صوبَ الحصن ليُحدثوا فيه نَقْباً يدخل منه الجيش، فيكونُ النصرُ المرتقب. وكانت الفكرة جميلةً طيبة.. وكان الاقتراح حميداً فعّالاً وإن كان سوف يكلِّف الكثيرَ من الشهداء، ذلك أن الروم سوف يُصْلون أولئك القادمين لإحداثِ النَقْبِ؛ ناراً حامية!.. لكنْ أَثمَّةَ نصرٌ يأتي دونَ ضحايا ودماء؟

     واجتمع الرجالُ الذين ندبوا أنفسَهم لإحداثِ النقب واقتحامِ السور، وتقدّموا صوبَ الموت، وهانت عليهم أرواحُهم، وهانت عليهم الدنيا كلُّها، فقد وصلوا أسبابَهم باللهِ العليّ القدير.

     وشهدَ الليلُ إصراراً عنيداً منهم، وشهد كذلك ثباتاً كبيراً من الروم. يتقدمُ الغازي صوبَ السور فما يلبث أن يُسْتَشْهَدَ بما ينهالُ عليه من سلاحِ العدو... لكنَّ غازياً آخر يكون قد تقدم خطوةً أبعدَ من خطوة الغازي الأول. ثم يُسْتَشْهَدُ الثاني والثالث والرابع، ويكثر الشهداء لكنَّ كلَّ واحدٍ منهم كان يهيّئُ الفرصة لِمَنْ بعده ليتقدمَ خطوةً أبعد.

     كان هؤلاء الرجال يتجهّزون صوبَ غايتهم دونَ وجل، وكانوا يتناقصون كلّما تقدموا أكثر، حتى تمكّنوا أخيراً من إحداثِ النَقْبِ المطلوب في السور، وتقدّمَ واحدٌ منهم مسرعاً مبادِراً فألقى بنفسِه في النقب، ثم مضى صَوْبَ الباب يقاتلُ مَنْ عليه، حتى إذا لم يَبْقَ أحدٌ فتحه وهو يهلِّلُ ويكبّر، عندها تقدمَ الجيشُ وهجمَ هجمةً واحدة فإذا بالحصن يقعُ بينَ أيدي المسلمين.

     وأُعْجِبَ مسلمةُ بالرجل المغامر الشجاع، وفرح لبطولته وشجاعته، وآلى على نفسه أن يرفعَ أمرَه إلى الخليفة في دمشق لينالَ منه الحُظْوةَ والقرب، وعزم على أن يكرمَه خير إكرام لتكونَ منه قدوةٌ يتشبّه بها بقيةُ الجند حين يجاهدون، لذا ما كاد ينتهي من أمرِ الحصن حتى طفقَ يبحثُ عن المغامرِ المقدام، صاحبِ النقب.

     وأرسلَ مسلمةُ مَنْ يسأل عنه القادة، فما عرفه أحد!.. وأرسل من يسأل عنه الجنود فما عرفه أحد!.. فأمر مناديَهُ أن يناديَ في الجيش صباح مساء: "أَلَا مَنْ كان منكم صاحبَ النقب فليتقدمْ إلى قائدِ الجند ليصلَه بما يُعْلِي قَدْرَه، وليوصيَ به عندَ أميرِ المؤمنين".

     وتردّدَ النداءُ في المعسكر مرةً بعد مرة، ويوماً بعدَ يوم دونَ أن يستجيبَ أحدٌ له، حتى كأن صاحبَ النقب طيفٌ جاءَ من حيثُ لا يعلمُ الناس، ومضى إلى حيثُ لا يعلمُ الناس.

     وكانت رغبةُ مسلمةَ في التعرف إليه رغبةً مُلِحَّةً حارّة، وكان يتوقُ إلى لُقياه بشوقٍ ولهفة!.. وذاتَ ليلة بعدَ أن انصرفَ القادةُ من خيمته، وأخذَ يتأهب للنوم، استأذن عليه رجلٌ يضعُ على وجهِه اللثام دونَ أن يصرّحَ باسمٍ أو كنية أو لقب، وحينَ مَثُلَ بين يديه قال له:

- أفلا أحدّثك عن صاحبِ النقب!؟

     وبدا الاهتمام على وجه مسلمة، وظهر الجِد والاحتفال، فما أسرعَ أن قال:

- بلى والله حدِّثني عنه.

- قال الرجل: وإنَّ له عليك لثلاثة شروط.

- قال مسلمة: وما شروطه؟

- قال الرجل: أن لا تسألَ عن اسمه، ولا تكشفَ عن وجهه، ولا تأمر له بعطاء!..

     فقَبِل مسلمةُ مسرعاً، ذلك أنّه خالَ أن هذا الرجلَ عابرُ سبيلٍ تطوّعَ للكشفِ عن صاحبِ النقب، لذا سارعَ يقول:

- له ذلك فأخبرني مَنْ صاحبُ النقب؟

- قال الرجل أنا هو!.. قالها في هدوء بالغ، ثم سكت، وساد المكان وجوم مهيب!.

     وعقدت الدهشةُ لسانَ مسلمة، وشَعَرَ بعظمةِ هذا الرجل، ونُبْلِ الموقفِ الذي هو فيه، وسادَ المكانَ سكونٌ جليلٌ رائع ما لبثَ أن قطعَه مسلمة وهو يقول للرجل:

- فما حَمَلَكَ على الكتمان؟

- فقال الرجل: أيها الأمير!.. إنّما صنعتُ ما صنعتُ في النقب تقرّباً إلى الله وزُلْفى إليه، وإنّي أطمع أن ينالَني رضوانُه، فما لكَ تفسدُ عليَّ ثوابَ الله بثوابِك؟ ناشدتُكَ اللهَ إلا ما تركتني. ثمّ مضى وانصرف.

     وظلَّ مسلمةُ مشدوهاً معجباً، مُكْبِراً لهذا الرجل الذي جاء من خلالِ الظلام، وانصرفَ خلالَ الظلام، فهو رجلٌ ينأى عن الشهرة، ويكرهُ أن يشوبَ عملَه شيءٌ من الرياء، إنّه يريد الرضوانَ من اللهِ تعالى فحسب.. وأَكْرِمْ به من رضوان!.. وأَنْعِمْ بطالبِهِ من رجل!..

     ولقد ظلَّ إعجابُ مسلمةَ بهذا الرجل مُستكِنّاً في أعماقِ فؤاده، يدلُّ على ذلك هذا الدعاءُ العظيم الذي كان يقولُه عندَ كل صلاة: "اللهمَّ اجعلْني معَ صاحبِ النقبِ بينَ يدي رحمتك".

رَحِمَكَ اللهُ يا صاحبَ النقب، وأكرمَ منزلتَك، وحَشَرَنا الله تعالى وإياكَ مع السعداءِ الناخبينَ يومَ الدين.

ضياؤكَ مُشْـــــرِقٌ في كلِّ أرضٍ     لأنــكَ غيــرُ محـــدودِ المكـــــانِ
بَغَتْ أمَمُ الـتتـــــارِ فأدركتـــــــها     من الإيمــــــانِ عاقبــــةُ الأمــانِ
وأصبــــحَ عابدُو الأصنامِ قِــدْماً     حُمـــاةَ الحِجْرِ والركنِ اليمـــاني
فــلا تجزعْ فهذا العصــرُ ليـــــلٌ     وأنتَ الفجـــرُ يشـــرِقُ كــــلَّ آنِ
ولا تخشَ العواصفَ فيه وانهضْ     بشـــعلتِكَ المضيئةِ في الزمــــانِ

*****

بين مسلمة بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز

بين مسلمة بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز

     دخل مَسْلَمَةُ بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في المَرْضَةِ التي ماتَ فيها عليه رحمةُ الله، فقال: يا أمير المؤمنين إنك فطمتَ أفواهَ ولدك عن هذا المال وتركتهم عالة، ولا بد لهم من شيء يُصْلحهم، فلو أوصيتَ بهم إليّ أو إلى نظرائك من أهل بيتك لكفيتُكَ مؤونتهم إن شاء الله.

     فقال عمر: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: الحمد لله، أبالله تخوّفني يا مسلمة!؟ أمّا ما ذكرتَ أني فطمتُ أفواهَ ولدي عن هذا المال وتركتهم عالة، فإني لم أمنَعْهم حقاً هو لهم، ولم أعطِهم حقاً هو لغيرهم.

     وأمّا ما سألتَ من الوصاة إليك أو إلى نظرائك من أهل بيتي فإن وصيّتي بهم إلى الله الذي نزّل الكتاب، وهو يتولى الصالحين.

     وإنما بنو عمر أحدُ رجلين: رجلٌ اتقى الله فجعل الله له من أمره يُسراً، ورزقه من حيث لا يحتسب، ورجلٌ غيَّر وفَجَر فلا يكونُ عمرُ أولَ من أعانه على ارتكابِ الآثام، ادعوا لي بَنِيَّ، فدعَوْهم وهم يومئذ اثنا عشر غلاماً.

     فجعل يُصَعِّدُ بصرَه فيهم ويخفضه حتى اغرورقت عيناه بالدمع، ثم قال:

     بنفسي فتية تركتُهم ولا مالَ لهم، يا بَنِيَّ إني قد تركتكم من الله بخير، إنكم لا تمرّون على مسلمٍ ولا مُعاهَد إلّا ولكم عليه حق واجب إن شاء الله.

     يا بني إني قد أدرتُ رأيي بين أن تفتقروا في الدنيا، وبينَ أن يدخل أبوكم النار، فكان أن تفتقروا إلى آخر الأبد خيراً من دخولكم وأبيكم يوماً واحداً في النار، قوموا يا بني عصمكم الله ورزقكم!.

     وانتقل عمر بن عبد العزيز إلى رحمة الله، بعد أن تبوّأ بعظيم ما فعل مكانةً عملاقة في تاريخ الإسلام، باتَ معها سادسَ[1] الخلفاء الراشدين، والمُجَدِّدَ الأولَ لهذا الدين، ونموذجاً من أعظم نماذجه.

     أمّا فتيته الذين خلّفهم صغاراً؛ فقد روى التاريخ أنه لم يَحْتَجْ أحدٌ منهم ولم يفتقرْ. لقد أغناهم الخالق عن الحاجة للمخلوق، وحفظ فيهم ولهم صلاح أبيهم المؤمن العملاق الذي كان مسلكه وهو على حافة الموت، صورة مشرّفة لما يستطيع هذا الدين أن يصنعه بالرجال، سموّاً ورفعةً وانتصاراً على النفس.

     اللهم أطلِعْ علينا فجراً جديداً، وضيئاً صادقاً يقودنا فيه رجال كعمر بن عبد العزيز حتى ننجو بإذنك مما نحن فيه من تيه وضياع، وعجز وذلك وهوان.

----------------
[1] خامس الخلفاء الراشدين هو الحسن بن علي رضي الله عنه، تولى الخلافة بعد أبيه، لستة أشهر، وأصلح به الله بين فئتين عظيمتين من المسلمين.

"فرتونة" وعمر بن عبد العزيز

"فرتونة" وعمر بن عبد العزيز

     في عام (100هـ) شكت جارية سوداء تسمى "فرتونة" إلى أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز بأن لها حائطاً قصيراً يُقْتَحَمُ منه عليها فيُسْرَقُ دجاجُها، فأرسل عمر فوراً يخبرها أنه أرسل إلى والي مصر يطلب إليه أن يصلحَ لها حائطها، ويحصّنَ لها بيتها، وكتب إلى واليه على مصر، أيوبَ بنِ شُرَحْبيل: "إن (فرتونة) قد كتبت إليّ تذكر قِصَرَ حائطها، وأنه يُسْرَقُ منه دجاجُها، وتسألُ تحصينَه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فاركبْ أنت بنفسك إليه حتى تحصنَه لها".

     فلما وصله الكتاب ركب بنفسه إلى الجيزة ليسألَ عن فرتونة حتى عثر على محلها فإذا هي مسكينة، فأعلمها بما كتب به أمير المؤمنين، وحصّن لها بيتها.

     هذا مَثَلٌ فذ مما فعلته حضارتنا الربانية المعطاء قبل ثلاثة عشر قرناً من الزمان، وفي هذا المثل الفريد، ما لا يخفى من المستوى الرفيع الذي حققه الإسلام لأبنائه حين التزموه بصدق، فسَما بهم وحلّق، وزكا وارتفع، وجعلهم في درجةٍ كريمة رائعة من التفوق النبيل، حكّاماً ومحكومين.

     لا يَغِبْ عنا صنيعُ "فرتونة"، التي أوقدَ الإسلامُ في نفسها العزةَ والكرامة، فإذا بها تستشعر كرامتها وقيمتها، وإذا بها تدرك منزلتها مخلوقاً بشرياً محترماً له حقٌّ يعرفه عن بصيرة، ثم يطالب به عن إدراك.

     و"فرتونة" هذه، الجارية المسكينة البائسة؛ كان لها من الإحساس الكريم بالواجبات والحقوق بين الحاكم والمحكوم، ما حملها على أن تطالبَ أميرَ المؤمنين نفسَه، من خلال رسالة تبعث بها إليه أن يصلح لها أمرها، ويُعْنى بقضيتها التي تعيش معها، وهي أن يُبْنى لها حائطٌ مرتفع ليكون دجاجها في مأمن من عاديات اللصوص.

    ولا يَغِبْ عنا ذلك، ولا يَغِبْ عنا أيضاً ما في استجابة الخليفة وواليه من خُلقٍ كريمٍ نبيل، وإحساسٍ بالمسؤولية قويٍّ حادٍ رهيف.

     وربما خطر لنا أن موضوعَ هذه الشكوى موضوع صغير هيّن، وأنه لا يَصْلُحُ نموذجاً للاستشهاد به على سمو حضارتنا وتألقها، فالحضارات إنما يُنْظَرُ إليها من خلال إنجازاتها الكبرى فحسب!.. ربما يخطر لنا ذلك، وربما يبدو أنه الحق فعلاً، ولكنْ لا نَعْجَلْ، صحيح أن الحضارات يُنْظَرُ إليها من إنجازاتها الكبرى وأصولِها الضخمة وقواعدها الأساسية، ولكن ربّما دل الصغير على الكبير، وربما قاد الهيّن إلى الخطير الجليل، وإن في هذه الحادثة من الدلالات البينة ما يشير إلى ذلك بوضوح وجلاء.

     حقاً إن طلب "فرتونة"، من حيث هو قيمةٌ مادية فحسب، طلبٌ هيّنٌ صغير، ولكن دلالة هذا الطلب على شعورها بحقها، وإحساسها لواجبات الحاكم دلالةٌ ضخمة كبيرة، ومعنى هذا أن الموجةَ التحررية التي أطلقها الإسلام لتحريرِ أرواح البشر ونفوسهم، قد امتدت حقاً، ومارست دورها حقاً، فإذا بها تشمل القريب والبعيد، وإذا بها تضرب عميقاً في الجذور، وإذا بها تجعل واحدةً مثل "فرتونة" تعرف ما الذي لها، وما الذي عليها، ولا ترى شيئاً يمنعها، وقد حرر الإسلامُ روحَها، من الكتابةِ إلى أمير المؤمنين نفسِه، وبينهما ما بين الخليفة والجارية من حيثُ المكانة، وما بين مصر ودمشق من حيثُ المكان.

     ومن أجل هذا نستطيع أن نقرر استناداً إلى حادثة "فرتونة" ومثيلاتٍ لها كثيرات كأمرِ عبد الملك بن مروان مع عطاءِ بن أبي رباح، وكأمرِ المقوقس مع عُبادة بن الصامت.

     إن الحضارة الإسلامية إنْ من حيثُ المبادئُ النظرية، وإنْ من حيثُ التطبيقُ العملي كانت شديدةَ التفوق، عظيمة الغِنى بالمعاني الإنسانية الكريمة التي تُعْلي قَدْرَ الإنسان من حيث هو إنسان، والتي ترتفع على كل الحواجز الصناعية الكاذبة، التي توزع الناس، إلى أقسامٍ شتّى، بسبب لونٍ أو لغة، أو جنسٍ أو إقليم، يُكْرَمُ قسمٌ ويُهان آخر، لا لسببٍ وجيه، ولكن بسبب واحد من هاتيك الاعتبارات الضالة المتخلفة.

     وإن معنى التخلف يكاد ينصرف اليوم إلى التأخر في جوانب الماديات من صناعة وطب، وزراعة وعلوم، وطرقات وأدوات، فحسب، لكنه في الحقيقة يتسع ويتعاظم ليشملَ هذا الذي ذكرناه، وليشمل كذلك المعاني الفكرية، والأسس العقائدية، والقواعد والمنطلقات، والقيم والمُثُل، والغايات والأهداف، والموازين والمقاييس، وكل الذي يمكن أن يُسمّى بالمعنويات.

     وربما كانت حضارةٌ ما تتقدم في جانب من هذين وتتأخر في آخر، وما شأن الحضارة الغربية المعاصرة عنا ببعيد، فهي بمقدار ما تتقدم في الماديات تتأخر في المعنويات.

     أما الحضارة الإسلامية فقد كان تفوقها في المعنويات رائعاً جداً، يشهد بذلك ما سقناه من هذا الخبر، بحيث لم تظهرْ حضارةٌ أخرى قط تساويها في هذا الجانب فضلاً عن أن تسبقَها، أما جانب الماديات فقد كان لها فيه بالقياس إلى فترتِها الزمنية، ومكانِها في دورةِ الحضارة البشرية عامة، مكانٌ هو الآخر، ضخمٌ كبير.

*****

سمرقند بطولة القوة والعدالة

سمرقند بطولة القوة والعدالة

     يمكن لنا أن نلمس في قضية سمرقند نموذجاً يكاد يكون متكاملاً للبطولة المسلمة كيف تكون!؟ ففيها بطولة عسكرية بارعة، وفيها بطولة في العدالة ما عرف لها التاريخ مثيلاً قط، وفيها بطولة نفسية في التواضع والخضوع للحق.

     وقضية سمرقند من حيث هي خبر تاريخي وقصة وجيزة، لكنها على إيجازها حافلة بالمعاني الكبار، والمواقف المشرّفة، والدلالة البالغة على عمق التغيير الذي أحدثه الإسلام في العرب، وفي غير المسلمين، ممن عاشوا في ظل الدولة الإسلامية المباركة.

     لقد استطاع القائد المسلم الكبير، قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله، أن يفتح مدينة سمرقند، ويدخلها بجيوشه لتكون جزءاً من الدولة الإسلامية، وعَلِمَ أهل المدينة المغلوبة أن قتيبة كان مطلوباً منه بحكم الإسلام، أن يخيِّرهم بين ثلاثة: الإسلام أو الجزية أو القتال، فإنْ أبوا الإسلام والجزية كان لا بد من القتال، وكان قتيبة قد بادأهم بالحرب دون أن يفعل ذلك.

     عندها قرروا أن يتقدموا ضده بشكوى إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله في دمشق. وتقدّم القوم بشكواهم فعلاً، فحوّل الخليفة الأمر إلى أحد القضاة، فحكم القاضي بأن قتيبة قد أخطأ، وأنَّ عليه أن ينسحب من المدينة، وانصاع قتيبة لحكم القاضي، فانسحب وجيشه من سمرقند، التي شُدِهَ أهلها، ووقفوا مبهورين معجبين بالقاضي وبقتيبة، فما كان منهم إلّا أن أسلموا بمحض إرادتهم.

     هذه هي قصة سمرقند التي يمكن لك أن تجد فيها جوانب شتّى من البطولة الإسلامية:

     أما البطولة العسكرية فإن أمرها على غاية الوضوح والجلاء، تراه في قتيبة، ذلك القائد العسكري العملاق، الذي كانت له جولات في الحروب في غاية المهارة والذكاء والشجاعة، ومنها اقتحامه مدينة سمرقند بالشكل الذي جرى عليه الحديث، لكنَّ هناك جوانب أخرى من البطولة لا يخطئ أن يلمسها المرء وهو يدرس هذه الحادثة التاريخية النادرة.

     قبل كل شيء يجب أن نتوقف عند الذي فعله أهل سمرقند، إنهم شكوا القائد المظفّر الغالب إلى الخليفة، أي إلى رئيسه الذي عيّنه وأرسله ليكون واحداً من قادة الفتح الإسلامي في الجبهة الشرقية يومذاك.

     وهذا معناه أن أهل سمرقند كانوا يشعرون بحقوقهم في الدولة المسلمة وإن كانوا مغلوبين، وكانوا يمارسون هذه الحقوق بشكل عملي، بلغ بهم أن تقدموا بشكواهم إلى أكبر رأس في الدولة وهو الخليفة، ضد قائد من قواده الظافرين.

     وما من ريب في أنهم لو لم يكونوا واثقين من عدل المسلمين، وجدّيتهم في التمسك بمبادئهم، وصدقهم في الذي يقولون لما تقدموا بهذه الشكوى. وإن شكواهم بحد ذاتها، تنهض شاهد صدق ضخماً ساطعاً، على عمق الموجة التحررية التي أطلقها الإسلام، لا في المسلمين وحدهم بل في غير المسلمين أيضاً، ممن عاشوا في ظل دولة الإسلام. وهذا مكسب عظيم للناس مسلمين وغير مسلمين، يدل على عظمة هذا الدين وجديته ومبادئه، وسمو النزعة الإنسانية فيه، وإكرامه للكائن البشري، وتقديره له، وحرصه على حريته الفكرية في المعتقد، مما ينهض خير دليل، على أن الإسلام دين الحق والعدل للناس جميعاً، مسلمين وغير مسلمين، لذلك فسيادته على جميع الناس تحقيق للعدل معهم جميعاً، وهو بهذه الميزة ينفرد على كل الأديان والمذاهب والدعوات، لذلك يستحق وحده أن يكون السيد والملاذ والحكم، والمظلة الحانية التي تؤوي جميع الناس.

     لون آخر من ألوان البطولة نلمحه في موقف الخليفة العظيم عمر بن عبد العزيز رحمه الله، حين قبل شكوى المغلوبين المهزومين الضعفاء ضد قائده المنتصر. إنه هيأ لهم فرصة المحاكمة العادلة، ولم يحمله المنصب أو الغرور أو النصر على ردّها، ولم يخدعه الكسب المادي الذي بين يديه، وهو مدينة سمرقند، عن العدل الذي هو أهم من الكسب، ولم يقُلْ منطلقاً من حسابات مادّية قصيرة النظر: نصرٌ حققناه فلِمَ نضيعه؟ ومدينة فتحناها فلماذا نتخلى عنها؛ لتكلفنا أموالاً وحصاراً وشهداء من جديد؟ ذلك أنه يعلم أن النصر الحقيقي وإن بدا بعيداً في بعض الأحيان، هو في التقيد بالإسلام، ويعلم كذلك أن هذا الدين العظيم لا يحقق أهدافه الكريمة إلّا بوسائل كريمة.

     وبطولة عمر بن عبد العزيز هذه، تشبه بالضبط بطولة القاضي العادل، الذي أمره الخليفة بالنظر في الشكوى فحَكَمَ لصالح أهل سمرقند. إنها بطولة نفسية إيمانية رائعة، تجلّت في أنْ حُكِمَ بالحق المُرِّ على جيشه المسلم وقائده العظيم قتيبة بن مسلم الباهلي.

     وكما أثبت قتيبة أنه بطل عسكري متفوق، كشف معدنه النبيل المؤمن عن بطولة نفسية إيمانية أيضاً تشبه ما كان عليه الخليفة العظيم والقاضي العادل. وتتجلى بطولة قتيبة النفسية في موقفين: موقفه إذ رضي بالتقاضي مع المغلوبين وهو الفائز الظافر، وموقفه إذ نفّذ الحكم فخرج بجيشه من المدينة المغلوبة، ليسلمها إلى أهلها، وينذرها من جديد، ثم يدخل معها في الحرب مرة ثانية.

     وإذا كانت بطولةُ المسلمين العسكرية، وبطولةُ قتيبةَ القتالية في الذروة منها، هي التي فَتَحَتْ لهم أبوابَ سمرقند اقتحاماً وغلبة، فإن بطولتَهم النفسية الإيمانية، وبطولةُ قتيبةَ في الذروةِ منها أيضاً، هي التي فتحت لهم أبواب سمرقند مرةً أخرى بعد إذ جَلَوْا عنها حُبّاً وأخوّة. ذلك أن أهالي سمرقند أسلموا بعد أن أعجبتهم البطولة العسكرية أوَّلَ الأمر، ثم أعجبتهم البطولةُ الإيمانية في نهايته، فصاروا إخوة للجيش المسلم الذي دخل سمرقند في المرة الثانية دخول الأخ الزائر لأخيه المتفقد لأحواله المطمئن عليه.

     وهكذا تظهر البطولةُ الإسلامية في قضية سمرقند في أروع حالاتها، بطولةً في القتال، وبطولةً في الإيمان، وبطولةً في الإنصاف، وبطولةً في العدل والقضاء، وبطولةً في الخضوع للحق، وأخيراً بطولةً في الهدايةِ واعتناقِ الإسلام بعد أن اكتشفَ السمرقنديون صدقَه وصدقَ دعاته فامتلكوا شجاعة التخلي عن تراثهم العزيز والإيمانَ بالنور الجديد.

     ألوانٌ من الشجاعة والبطولة الرائعة المتكاملة لم يكن لها نظير قط، ليت الأدباء ينصرفون إلى العناية بها وبأمثالها من المواقف العظام.

*****

جهاد سعيد بن المسيب

جهاد سعيد بن المسيب

     إن كل جهد يبذله المسلم، مادياً كان أم أدبياً، بدنياً كان أم نفسياً، في سبيل الله عز وجل، وابتغاء رضوانه، هو محفوظ له مضبوط، محسوب مقيد في دفتر حسناته عند الله تعالى مهما كان حجمه ضئيلاً، لا تضيع منه مثقال ذرة قط، حتى الخطوة يمشيها، حتى الشوكة يشاكها، حتى الدرهم ينفقه، حتى الإحساس بالجوع والعطش والتعب. يقول جل جلاله: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [التوبة:121]. وإذن فلا عجب قط أن نرى ديننا الإسلامي العظيم يقدم لنا نماذج رائعة مشرقة للتضحية والبذل، والجهاد والكفاح، وبأعداد كبيرة، تقدِّمُ ما تمتلك من نفس ومال في سبيل الله عز وجل وهي قريرة العين، طيبة النفس، سعيدة هانئة.

     إن كل الذي يصيب المسلم، في المال والنفس، في البدن والأهل، في كل شيء، هو في ميزانه عند الله عز وجل إن خلصت منه النية وصحّت، والله عز وجل سيجزيه عن ذلك خير الجزاء ويعوّضه أحسن العوض، قال جل شأنه: ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 272]، وحين يبلغ الجود نهايته الأخيرة، ويصل مآله الختامي فيكون في أعظم صوره بذلاً وتفانياً، نصل إلى مرحلة الجود بالنفس في سبيل الله عز وجل، حيث يجزل الله تعالى العطاء للشهداء ويمنحهم من فضله العظيم، خيراً مما يتنافس الناس عليه ويجمعونه، قال عزّ من قائل: ﴿ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [آل عمران:157]، وقال جل شأنه: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ* وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ [محمد: 4-6]، وقال تعالى ينهانا عن النظر إلى الشهداء على أنهم أموات: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 169-170]، إنهم أحياء عند الله عز وجل، يمارسون نوعاً من الحياة الكريمة، الله تعالى يعلمها وحده، فيها الفرح والاستبشار، وفيها الرحمة والمغفرة، وفيها حُسن القبول، عند ربٍّ عظيمٍ عظيم، كريمٍ كريم.

     وفي الجماعة الإسلامية الأولى، تلك التي أتقن تربيتها رسول الله ﷺ، كان بحسب المرء أن يقرأ آية من كتاب الله عز وجل تدعوه إلى الإنفاق والجهاد، فإذا هو يسارع إلى تنفيذها، ولا يبخل بشيء قط، بل يقدم النفس والنفيس ابتغاء رضوان الله جل شأنه.

     قرأ أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه سورة براءة حتى بلغ هذه الآية: ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 41]، فقال: خفافاً وثقالاً، شباناً وكهولاً، ما سمع الله عذر أحد، وقال لبنيه: يا بَنِيَّ جهزوني جهزوني، يعني للجهاد، فقال بنوه: يرحمك الله، قد غزوتَ مع النبي ﷺ حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، قال: لا.. جهزوني، فجهزوه بجهاز الحرب، فغزا في البحر، فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها رضي الله عنه.

     وخرج سعيد بن المسيب إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل، فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثّرت السواد، وحفظت المتاع.

     ورأى بعضهم في غزوات الشام رجلاً وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له: يا عم إن الله قد عذرك، فقال: يا ابن أخي قد أُمِرنا بالنفير خفافاً وثقالاً.

     ولقد رُوِيَ أنه في بعض الغزوات كان الأب والابن يتسابقان إلى الجهاد فيقترعان فيما بينهما، فتكون القرعة للولد، فيقول له الوالد: آثرني يا بني، أنا أبوك، فيقول الولد: إنها الجنة يا أبتِ، ولو كان شيء غيرها لآثرتك والله.

     وقصة عمرو بن الجموح يوم أحُد معروفة مشهورة، كان إصراره شديداً، وخرج على الرغم من عرجه الشديد ومعارضة بنيه له، ففاز بالشهادة، فقال ﷺ: «إنّ منكم يا معشر الأنصار مَنْ لو أقسم على الله لأبره، ومنهم عمرو بن الجموح».

     إن الحسّ الإسلامي الصادق يظل جياشاً متحركاً، يتفجر في فؤاد المسلم بأنبل معاني الإيثار والتفاني، والجود والسخاء، والشجاعة والإقدام، فيجعله دائم البحث عن رضوان الله تعالى عن طريق مال ينفقه، أو جهاد يسارع إليه، مثله كمثل شرطة النجدة، أو رجل المطافئ، يقف على الاستعداد التام للمسارعة العجلى صوب أي تحرك يرى فيه رضوان الله جل جلاله.

****

لا يفتي الناسَ إلا عطاءُ

لا يفتي الناسَ إلا عطاءُ

     كان الخليفة الأموي العظيم، عبد الملك بن مروان يأمر المنادي في موسم الحج أن لا يفتي الناسَ إلا عطاءُ بن أبي رباح، إمام مكة، وعالمها وفقيهها، ترى كيف كان عطاء هذا؟

     كان هذا الرجل قد جعلته حضارة الإسلام، ذاتُ القِيَم والمبادئ المشرقة السامية المتفوقة؛ إماماً يرجعُ إليه الناس في الفتوى، ومدرسةً يتخرج منها الآلاف من طلابه، وهو عندهم محل الإكبار والحب والتقدير، والولاء العميق الصادق، الصادرِ عن حسٍّ رهيف، وذوقٍ سامٍ مُحلِّق، وإيمانٍ مكينٍ بمبادئ الإسلام وقيمه، وتصوراته وموازينه.

     هذه الحادثة التاريخية النادرة قد مرّت بي من قبل، منذ زمن لا أضبطه، فما هي بجديدة عليّ، لكني الآن، إذ أحاول التوقفَ عندها، يمتلكني شعورٌ هائلٌ بالإعجاب والإكبار، وإحساسٌ بضخامة العبر والدلالات في هذه الحادثة العجيبة، التي ما أحسب أن لها مثيلاً قط، في حضارات الآخرين.

     تأمّلْ هذه الحادثة، وأَتِحْ لنفسك بعض الوقت للغوص في معانيها وكنوز دلالاتها فسوف تخرج بعطاءٍ ثَرٍّ خصيب. فأميرُ المؤمنين نفسُه الذي كان يحكم رقعةً شاسعة من الأرض ما بين حدود الصين شرقاً، وحدود فرنسا غرباً من جهة الأندلس، يأمر أن تكون الفتوى عند رجل واحد فقط، هو عطاء بن أبي رباح.

     وإنه في مقاييس الحضارات الجاهلية، التي تنأى عن هدي الإيمان، لا يمكن لمثل عطاء أن يتقدم قط، فإن صفةً واحدةً فحسب من صفاته الجسدية كفيلة بإسقاطه في هاتيك المقاييس الضالة المتخلّفة؛ فكيف بعدد من الصفات الجسدية مما تهزأ به هاتيك المقاييس وتسخر، يجتمعُ كلُّه في شخص الرجل؟!

     إن لون عطاء في غير الحضارة الإسلامية كفيل بأن يحط من شأنه مهما كان نبوغُه وذكاؤُه، وجدُّه واجتهاده، وتفانيه وإخلاصه، فقد كان الرجل أسود؛ وغيرُ خافٍ على المرء ما يسبِّبُه سواد اللون للإنسان في الحضارات الجاهلية، المتخلِّفة في تقدير الإنسان ورعايته. وهذا الذي قلناه عن لون عطاء؛ يُقال كذلك عن صفاته الأخرى التي وجدناها كما حدّثنا التاريخ قد اجتمعت فيه لتصنعَ منه شخصيةً غريبة من حيث المظهرُ بحق.

     لكأنّ اجتماع هذه الصفات في هذا الرجل العظيم سرٌّ إلهي كبير، يريد أن يجلو لنا حقيقةً من أكبر حقائق هذا الدين، حقيقةَ ميزان التقوى والعمل الصالح مقياساً للتفاضل، ومعياراً للتمايز، لذلك جاءت شخصية عطاء تعبيراً فريداً عن هذا السر العجيب، ومظهراً رائعاً لهاتيك الحقيقة الكبرى، فقد كان عظيمَ التفوق، شديدَ السبق، رائعَ التقدم في ميدان الحضارة الإسلامية ومعاييرها، فارتفع إلى فوق، وصعد القمة، واحتل مكانه في الذروة العالية، على الرغم من كل صفاته الجسدية الأخرى.

     إن الفارق الشاسع الواسع الممتد الرحيب، بين المكان الذي منحه الإسلام لعطاء، مرجعاً وحيداً للفتيا في موسم الحج حيث مؤتمرُ المسلمين السنوي الكبير، وأستاذاً لآلاف الطلبة الذين يحيطونه بالحب والمودة والإعزاز، ويجلسون منه مجلسَ التابع من المتبوع، والتلميذ من الأستاذ، ومتربعاً على أعلى أمكنة التشريف والتقدير، وبين المكان الذي يحتله لو فرض أنه كان في ظلِّ حضارة غير الحضارة الإسلامية.

     إن الفارق بين مكان عطاء في الإسلام ومكانه في سواه، هو الفارقُ بين الإسلام الذي يعلو ويطيب، ويزكو ويسمو، ويشرق ويتلألأ، ويكرم الإنسان لأنه إنسان فيه نفخةٌ كريمةٌ من ربٍّ كريم، وبينَ الجاهلية –وهي كل ما سوى الإسلام– التي تتخبطُ وتظلم، وتعتسفُ وتجور، وتنحطُّ وتتخلف.

     إنه فارقٌ هائلٌ كبير، ولا بدعَ في ذلك، فإنه الفارقُ بين ما يصنعه الله عز وجل، وبين ما يصنعه البشر. وإنه لفارقٌ جِدُّ كبير، فيه من الضخامة، ما في المسافة بينَ الخالق والمخلوق من بونٍ ضخم، عجيبٍ رهيب.

*****

عروة بن الزبير الفقيه الصابر

عروة بن الزبير الفقيه الصابر

     في حياة التابعي الفقيه العظيم عروة بن الزبير رضي الله عنهما، نموذج حي متفرّد لمقدرة الإيمان الهائلة على الارتفاع بالرجال، وصياغتهم صياغة متفرّدة متفوقة ليس لها نظير قط، حيث يرتفع الإيمان بهم ويسمو، ويمنحهم من البطولة والرجولة والعظمة، ومن الإيجابية العملية، والواقعية البنّاءة، زاداً في غاية العظمة والغنى، والعمق والقوة.

     إنك لا تخطئ أن تلمس في عروة نموذج ذلك، بحيث يبدو أسوة صالحة، وقدوة محلّقة، ومثلاً كريماً للعبد المؤمن، الشاكر الراضي، الصابر المحتسب، المقدّر لنعم الله عز وجل، المبصر من الحياة جميع جوانبها.

     رووا أن الداء استفحل في رجله، فقرر الأطباء أن تُقطع حتى لا يسري إلى ساقه كلها ثم إلى فخذه، فطابت نفسه بقطعها، وعرضوا عليه أن يشرب شيئاً قبل العملية ليغيب عنه عقله، فيكون هذا الشراب بمثابة المخدّر، فما يشعر بالألم، فقال المؤمن الصابر العظيم: ما ظننت أن أحداً يؤمن بالله، يشرب شيئاً يغيّب عقله حتى لا يعرف ربه عز وجل، ولكنْ هلموا فاقطعوها!.. فنُشِرَت ساقه بالمنشار وهو ساكت صامت لا يُعرَف عنه أنه أَنَّ أو اشتكى، فلما فرغوا من ذلك صبّوا عليها الزيت فتعاظم الألم عليه وغاب عن وعيه.

     ويشاء الله عز وجل، أن يزيد من ابتلاء هذا العبد الصالح، وإنما يُبتلى المؤمن على قدر إيمانه، ففي الليلة التي قُطِعت فيها رجله سقط ولد له، وكان أحبَّ أولاده إليه، من السطح فمات، فدخلوا على عروة يعزّونه فيه، فقال: اللهم لك الحمد كانوا سبعة فأخذتَ واحداً وأبقيْتَ ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذتَ واحداً وأبقيْتَ ثلاثة، فإن كنتَ قد أخذت فلقد أعطيت، ولئن كنت قد ابتَليْتَ فلقد عافيت!.

     وهكذا كان الرجل عظيماً بحق، إذ قُطِعت ساقه فما اشتكى ولا أنَّ ولا توجّع، وإذ مات في الليلة نفسها أحبُّ أبنائه إليه فإذا بلسانه يلهج بالشكر والثناء، لا البكاء والشكوى، ولا التضجّر والتذمّر.

     إن التابعي العظيم قد ارتفع به إيمانه وسما، فطهّر روحه، وزكّى سريرته، وأزال الغشاوة عن بصيرته، وجعل تقديره سليماً قويماً، وإدراكه للصورة والموقف أتمَّ وأكمل، فإذا به يرى في الساق التي قُطِعت نعماً كبيرة إلى جوارها، هي ثلاثة أطراف بقيت سليمة، فلئن كان قد خسر الربع فقد فاز بالأرباع الثلاثة، وإذا به يرى في الولد الذي سقط فمات نعماً أخرى كبيرة إلى جواره، تتمثل في ستة من الإخوة ظلوا بين يديه سالمين، فلئن كان قد خسر واحداً فقد فاز بستة آخرين.

     إنه الأفق السامي الكريم، المنير المشرّف، الذي يرفع الإيمان أتباعه إليه، فما يعودون جماعة تذمرٍ وتشكٍّ، وتشاؤم وسوداوية، لا يبصرون من الحياة إلا جانباً واحداً هو جانبها الأسود. لا، فهم يرون في الحياة جانبيها معاً، الأسود والأبيض، فضلاً عن أنهم يتلمّسون في الأسود حكمةً ربما كانت خفيّة، وثواباً هم به موقنون.

     إنه الإيمان يحررهم من السلبية، وينقذهم من التشاؤم والسوداوية، وينقلهم بعد ذلك نقلة واسعة، إذ يمنحهم قوة ضخمة، قوة معنوية كبيرة، فإذا بهم يرون من الحياة جوانب كثيرة من النعم والخير لم تسلب منهم، إلى جوار ما نُكِبوا به، وإذا بهم يحتسبون ما نُكِبوا به عند خالقهم عز وجل، ويصبرون ويحتملون، فيكسبون في دنياهم بذلك راحة النفس، وهدوء البال، وطمأنينة الأعصاب والجوارح والحنايا، فضلاً عن أملٍ لهم، واسعٍ كريم في ثواب الله عز وجل، يؤملون الفوز به يوم القيامة.

     وهذا كله، من شأنه أن يجعل المؤمن ثابتاً إزاء الشدائد التي تعرض للناس في حياتهم، فلا يضطرب ولا يجزع، ولا يستبد به القلق واليأس والقنوط إن أصابه شيء منها، فهي إرادة الله تعالى، الغالبة النافذة، وهي امتحان وابتلاء واختبار.

     إن المصيبة في الدنيا ينبغي أن تهون ما دام دين المرء سليماً من كل ما ينتقص منه، ثم إن البلاء يتفاوت، وما من مصيبة إلا هناك ما هو أعظم منها، وقديماً قالوا: بعض الشر أهون من بعض، وبلاء أخفّ من بلاء، ومن نظر إلى بلوى غيره هانت عليه بلواه.

     وينظر المؤمن بعين بصيرته فيحمد الله تعالى على أن مصيبته دفعت ما كان يمكن أن يحدث من بلاء أكبر، ويحمده كذلك على ما بقي بين يديه من خير كبير، ونعم وافرة، فهو ينظر إلى البلاء المتوقع إلى جانب نظرته إلى البلاء النازل، وهو ينظر إلى النعمة الموجودة إلى جانب نظرته إلى النعمة المفقودة، وهذا كله يُدخِلُ على نفسه كثيراً من الارتياح والرضا، فالبلاء المتوقع كثير وقد صُرف عنه، والنعم الموجودة كثيرة وقد بقيت بين يديه.

     وهكذا يعيش المؤمن في بستان إيمانه الوارف، في خير كبير، وعطاء متجدد، لا يخطئ أن يلمسه، ويسعد به في كل حين، وعلى مختلف الظروف.

*****

الأكثر مشاهدة