الأربعاء، 29 يونيو 2022

العقيدة الإسلامية جدية وإيجابية

العقيدة الإسلامية جدية وإيجابية

     حين يبلغ من عمق الإيمان في النفس، ما يصل به الإنسان إلى أن تستولي عليه عقيدته استيلاءً تاماً، تجد أن الجدية والإيجابية في تحركه، تلازمان مواقفه بشتى حالاتها وأنواعها ملازمة دائمة، وتجعلانه يصوغها بقوة وحزم، ودأب وإصرار. لذلك ليس غريباً أن نجد المؤمن، الصادق في إيمانه، العميق في يقينه، الجاد فيما يفعل، الواعي حقاً لشروط إيمانه ولوازمه ومقتضياته، يتصرف بدافع من عقيدته المستعلية المكافحة تصرف الإباء والمقاومة، والتحدي والثبات، سواءً كان في حالة أمن وكثرة وقوة، أو حالة خوف وقلة وضعف.

     فهو في حالته الأولى التي يكون فيها قوياً، يزداد بعقيدته قوة إلى قوة، وعزماً إلى عزم، فيكون أقدر على الثبات والاستمرار والفاعلية، وهو في حالته الثانية التي يكون فيها مستضعفاً، يلجأ إلى عقيدته، يستمد منها القوة التي تعينه على المصابرة والمجاهدة والثبات. وبذلك يكون في الحالين في موقف حميد.

     وهذا بلا شك من عطاء العقيدة الإسلامية المكافحة التي تملأ صدور أبنائها بالثقة واليقين والاستعلاء، فتجعلهم في الحال الكريمة اللائقة بهم أياً كانت الظروف الخارجية التي يواجهونها، فإن كانت هذه الظروف مواتية فهو طيب وحميد، وإلّا صبروا وثبتوا ولم يعطوا الدنية في دينهم، واستمروا بدينهم مستمسكين مجاهدين محاولين أن يحولوا الظروف الصعبة الشاقة إلى فرص تهيئ لهم النصر والظهور. وحين يُوفَّقون إلى هذه الفرص يكون ذلك من سعادتهم، وإن لم يُوفَّقوا؛ يكونوا على الأقل، قد أعذروا إلى ربهم، واتخذوا الموقف اللائق بهم.

     وفي قصة أبي جندل وأبي بصير رضي الله عنهما مثال حي، ونموذج كريم لهذا الذي نقول. فحين عقد رسول الله ﷺ صلح الحديبية مع مشركي مكة، وكان من شروطه أن يردّ من يأتيه مسلماً من أهل مكة المكرمة، ولا يطلب من لجأ إلى قريش مرتداً من أتباعه، جاءه أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وهو يرسف في قيوده. فقد كان أبو جندل من مسلمي مكة المكرمة الذين تحجزهم قريش، وتمنعهم من اللحاق برسول الله ﷺ، وكان مجيئه بعد أن فرغ الرسول ﷺ من اتفاق الحديبية مع رئيس وفد قريش سهيل بن عمرو الذي هو والد أبي جندل؛ المسلمِ المسجون الفار بدينه من طغيان قريش.

     واحترم الرسول الكريم ﷺ شروط الاتفاق، وترك أبا جندل يمسكه أبوه من تلابيبه وهو يصرخ: يا معشر المسلمين أَأُرَدُّ إلى المشركين يفتنوني في ديني!؟ والرسول الكريم ﷺ يدعوه للصبر عسى أن يجعل الله تعالى له مخرجاً مما هو فيه. وعاد المسلمون إلى المدينة المنورة، وعادت قريش إلى مكة المكرمة، ومعها المسلم السجين أبو جندل سهيل بن عمرو.

     وذات يوم قدم إلى المدينة المنورة رجل من أهل مكة أسلم وهرب بدينه أن يُفتَن هو أبو بصير عبيد بن أسيد، فبعثت قريش رجلين في طلبه استناداً لصلح الحديبية فردّه الرسول الكريم ﷺ معهما. وفي طريق العودة احتال أبو بصير على المشركين اللذين معه؛ فقتل أحدهما وفرَّ الآخر، وعاد أبو بصير إلى المدينة المنورة. فأعجب الرسول الكريم ﷺ بشجاعته وقال: «ويل أمه!.. مسعّر حرب لو كان معه رجال»، لكنه مع هذا لم يسمح له بالبقاء بالمدينة المنورة وفاءً بشروط الحديبية. أين يذهب أبو بصير؟ ها هم المسلمون يردّونه، وهو هاربٌ من مكة المكرمة، وقاتلٌ أحد مبعوثَيْها؟ إنه بدون شك في موقف صعب، لكنه لم يلن ولم يستسلم، وطفق يبحث عن مخرج لما هو فيه، فاتجه إلى ساحل البحر الأحمر، ورابطَ عند مكان اسمه العيص معلناً الحرب على مشركي مكة المكرمة، مهاجماً قوافلها من الشام وإليها.

     وتسامع المسلمون المضطهدون بمكة المكرمة بأمر أبي بصير، فلحقوا به ومعهم أبو جندل، ورجال آخرون من مكة المكرمة أسلموا، وتكاثر العدد حتى صاروا سبعين مجاهداً يقطعون الطريق على قوافل قريش، ويقتلون من يلقونه من مشركيها، ويغنمون ما معه، حتى بلغ بهم الأمر أن صادروا ذات مرة إحدى قوافل قريش.

     واستمرت عمليات أبي بصير وأبي جندل ومن معهما بشجاعة واستمرار حتى أربكت قريشاً وضيّقت عليها الخناق، فبعثت إلى رسول الله ﷺ تلغي شرط الحديبية ذاك، وتطلب إليه أن يقبل هؤلاء المسلمين عنده ولا يردهم.

     لا ريب أن ختام موقف أبي بصير وأبي جندل ومَنْ معهما يدل على قيمة العقيدة المكافحة التي تحركت في ظروف صعبة غير مواتية، لكنها بصدقها وإيمانها واستمرارها، شقت طريقها حتى فازت فوزاً عظيماً.

     لقد حركت العقيدة الإسلامية المكافحة هؤلاء القوم وجعلتهم يبحثون عن مخرج كريم للموقف الصعب الذي هم فيه، فلم يقعدوا يجترّون آلامهم ومتاعبهم، ولم يستسلموا للظروف القاسية التي هم فيها، بل كافحوا وجاهدوا، محوّلين الموقف الشاق إلى مبادرات جادة إيجابية، فأعذروا إلى الله عز وجل من ناحية، واتخذوا الموقف اللائق بهم من ناحية أخرى، حتى كانت لهم الغلبة والفوز والظهور.
*****

البطولات في تاريخنا أكثر وأسمى

البطولات في تاريخنا أكثر وأسمى

     يحفل تاريخ الإسلام ببطولات كثيرة نادرة كانت ولا تزال مثار الإعجاب والدهشة والإكبار. ونحن لا نزعم أن تاريخ الأمم الأخرى يخلو من البطولات، ولكننا نؤكد أن البطولة في تاريخنا أكثر عدداً من ناحية، وتنوعاً من ناحية أخرى، كما أنها ذات هدف مختلف من ناحية ثالثة.

     فالبطولات في الإسلام كثيرة كثرة هائلة، وأخبار الرجال والتاريخ خير شاهد على ذلك، وهي متنوعة أيضاً ما بين بطولة جسدية وفكرية وروحية، مما يجعلها في غاية الخصوبة والثراء، ثم إنها، وهذا أهم ما فيها، ذات هدف جليل، يختلف عن بطولات الآخرين، وهو ابتغاء رضوان الله تعالى ومثوبته.

     ولقد استمدّ المسلمون مفهومهم للبطولة، ودوافعهم لها من توجيهات الإسلام وغاياته وأخلاقه، فكانت البطولة الإسلامية ابتغاء وجه الله عز وجل، وفي الوقت نفسه جعلت مهمتها في الدنيا، تحقيقَ غايةٍ كبرى، هي رفعة الإنسانية بالهدى والخير والعدالة، وإقامة بناء الأمة المسلمة، الوصية على الناس، المبلّغة لرسالة الله جل شأنه، المجاهدة لنشر نورها، الساهرة عليها، الحامية لها أن يطفئها الحاقدون والضالّون، الآمرة بالمعروف، الناهية عن المنكر.

     فالبطولة في الإسلام إذن، بطولة رسالة جليلة، وهدف كبير، وغاية شريفة، من أجل إعلاء كلمة الله عز وجل، دون التماس لشهرة أو مجد أو مطمع في الحياة الدنيا.

     والبطولة الإسلامية لم تكن مقصورةً على طبقة خاصة من القادة والشجعان، بل كانت في الكثرة الكاثرة من الأمة، رجالاً ونساءً، شيباً وشبّاناً، مشهورين ومغمورين، ومن يدرس التاريخ الإسلامي تستوقفه هذه الحقيقة بقوتها وجلائها، وكثرة الشواهد عليها.

     قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: بتنا وباتوا، وللمسلمين دويٌّ بالقرآن، كدويّ النحل، وبات المشركون في خمورهم وملاعبهم. وهو قول يكشف عن البطولة العبادية السامية في الليل، لتنطلق قوةً قتاليةً رائعةً في النهار، والمسلم يجاهد حين يعبد، ويعبد حين يجاهد، لا فرق بين الحالين، كما أنه يكشف عن معنى الكثرة في البطولة، حيث المسلمون جميعاً عبّادٌ في الليل، فرسانٌ بالنهار.

     ومن أبرز مزايا البطولة الإسلامية، إخفاء البطولة، وهي ميزة تنطلق من هدف البطل المسلم، الذي يريد رضوان الله تعالى ومثوبته، ولا يبالي في قليل أو كثير، بالذي يقوله الناس.

     وفي تاريخ الإسلام صور كثيرة، ونماذج متعددة، من أشهرها قصة ذلك المجاهد الشجاع، الذي فتح للمسلمين نقباً في حصن العدو، كان لهم سبباً في النصر المبين، فعل ذلك مستخفياً حتى لا يعلم به أحد، فسُرَّ به الناس، وبحث عنه القائد دون جدوى، وأعجب به أيما إعجاب حتى كان من دعائه: اللهم احشرني مع صاحب النقب.

     ولقد عُرِف عن العالم الكبير، المحدِّث الزاهد، والتاجر النشيط، عبد الله بن المبارك أنه كان يخرج إلى ثغور الروم للجهاد، ويبارز بعض شجعان العدو، وهو مستخفٍ ملثم، حريص على ألّا يعلم بموقفه أحد من المسلمين.

     لقد فهم المسلمون، المثل الأعلى للبطولة فهماً مختلفاً عن المثل الأعلى لها في الأمم والحضارات الأخرى، وجمع هذا المثل في أخلادهم بين الحق والعدل، والقوة والرحمة، والصبر والإيمان، ذلك أن العمل كله في الإسلام، والبطولة جزء منه، يستهدف رضوان الله تعالى.

     ومن هنا اختلف المثل الأعلى الإسلامي، عن المثل الأعلى لبطولات اليونان والرومان وعرب الجاهلية وغيرهم؛ إذ إن البطولات الأخرى قامت وتقوم على المطامع والاستعلاء، والسيطرة والشهرة، والإغراق في المتع واللذات، والمبالغة في البطش والقسوة وسفك الدماء دون أي ضابط تشريعي، أو مانع من عقيدة، أو توجيه من أخلاق.

     ومن أهم مزايا البطولة الإسلامية أنه لا انفصال فيها بين الوسيلة والغاية، فإذا كان البطل الآخر يتذرع من أجل النصر بأي وسيلة مهما كانت خسيسة، كالفسوق والفجور، والغدر وغير ذلك، فإن البطل المسلم لا يتذرع إلى النصر إلا بالوسائل النظيفة، فهو شريف في خصومته في الحرب والسلم، مقيّد بأوامر الإسلام وضوابطه في كل ما يفعل ويدع، ولذلك يرى في النصر الذي يتم بوسيلة خسيسة، هزيمةً حقيقية، فالإسلام لا يعترف ولا يقر ذلك المبدأ الظالم المتخلّف الذي سبّب للبشرية كثيراً من البلاء والشرور والفتن والكوارث وهو ما عُرف ونُسِب إلى السياسي المشهور مكياڤيلِّي: "الغاية تبرّر الوسيلة". فالغاية والوسيلة في الإسلام مترابطتان متوحدتان، ولا بد من نقائهما وصحتهما معاً ليكون العمل إسلامياً حقاً.

     ولقد كان لتوجيهات الإسلام هذه أثر بالغ عملي ذو فائدة واسعة عميقة جداً، ويكفي أن نذكر ها هنا قصة سمرقند التي فتحها قتيبة بن مسلم الباهلي دون إنذار أهلها، فشكاه هؤلاء إلى عمر بن عبد العزيز الذي حكم قاضيه بإخلاء المدينة، فأخليت، فأسلم أهلها. إنها مثلٌ فذٌّ للبطولة الإسلامية على عدد من المستويات، كما أنها نموذج رائع للطهر المطلوب من المسلم، في غاياته وأساليبه على السواء.

*****

الثلاثاء، 28 يونيو 2022

أعظم التحديات تطبيق المبادئ والأفكار

أعظم التحديات تطبيق المبادئ والأفكار

     يلاقي أصحاب الدعوات الخيّرة منها والشريرة كثيراً من التحديات والصعاب المتنوعة قبل نجاحهم وبعد نجاحهم. لكنَّ أعظم هذ التحديات وأصعبها على الإطلاق هي قدرتهم على تطبيق أفكارهم ومبادئهم، بعد أن يحققوا النجاح في الوصول إلى السلطة، فهم إذ ذاك سيواجهون الامتحان الجاد لتنفيذ ما كانوا يقولون.

     وهذا التنفيذ ليس أمراً سهلاً، فهو يحتاج إلى درجة بالغة من الوعي والفهم فيهم، ويحتاج إلى أن تكون فكرتهم نفسها قابلة فعلاً للتطبيق، ويحتاج إلى أن يكون دعاتها –وقد آلت إليهم الأمور– أهلاً لإنفاذ ما كانوا يقولون، بحيث يسارعون إلى إنفاذه الفعلي، دون أن تصرفهم عن ذلك شهوة السلطة والغلبة ولذتها، وما يشبهها من صوارف.

     وحين ندرس التاريخ الإسلامي، نرى أن المسلمين الأوائل، واجهوا هذا التحدي الكبير، بعد إذ مكّنهم الله عزَّ وجل في الأرض، واجتازوه بنجاح باهر ليس له مثيل. إنهم حين أسّسوا دولتهم نفذوا فعلاً ما كانوا يدعون إليه، وشادوه على منهاج دينهم وأساس عقيدتهم، وبذلك خرج الناس بهم فعلاً، من عبادة العباد، إلى عبادة خالق العباد وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. وتلكم الثلاث هي الغايات الأساسية من الفتح الإسلامي كما وضّح ذلك رِبْعِيُّ بنُ عامر رضي الله عنه لرستم قبيل القادسية.

     لقد شاد المسلمون الأوائل دولتهم، فلم تكن للبغي أو الجور، ولا للظلم أو الطغيان، ولا لتتحكمَ طائفة من الناس في رقاب العباد قهراً وتسلطاً وإذلالاً أياً كانت هذه الطائفة، بل كان الأمر في دولتهم الراشدة، وكان النهي لله عز وجل من خلال تطبيقهم شَرْعَ اللهِ وإنفاذه في جميع أمورهم.

     فها هو الخليفة العظيم أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه يقول في خطبته التي ألقاها عقب اختياره خليفةً على المسلمين، وهي بمثابة بيان وزاري كما نقول بلغة اليوم: "أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم". وهي كلمة شديدة الإيجاز، شديدة الغنى بالرائع الصادق من كريم المعاني، ونبيل المبادئ والقيم والموازين.

     وهذا هو عمر بن الخطاب يقول لعمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقد عدا ولده على غلام قبطي فضربه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!؟". إن الخليفة العظيم يحاسب أحد قادته العظام بسبب جريرة لولده، لأنه يعلم أن الولد فعل ما فعل استناداً إلى سلطان أبيه. وربما كان كافياً أن يحل العقاب بابن عمرو، دونَ أنْ يُحاسَبَ أبوه. لكنّ عمر العظيم يريد أن يُقر في الأرض موازين الإسلام العادلة الراشدة، فكان أن حاسب الابن والأب معاً، وفي هذا من السمو والرفعة، وتحري العدل بغاية الدقة، ما يشكل نموذجاً هادياً راشداً من أعلى طراز وهذه واحدة.

     أما الثانية فهي أن الخليفة كان يحاسب عمرواً، وهو رجل ضخم في الدولة الإسلامية، وحسبك أنه فاتح مصر، وأنه قبل ذلك أحد قادة الفتوح في الشام، لكنَّ هذا كله لم يجعله بمنجاة من الحساب والعقاب، وأنّى له النجاة!؟

     إن موازين الإسلام في الأرض هي موازينه في السماء، وهي من الطهر والاستقامة، والشدة والصرامة، والحزم والعدالة، بحيث لا تحابي أحداً من البشر كائناً مَنْ كان، خاصة أن عمر العظيم هو المسؤول عن تطبيقها وإنفاذها.

     وأما الثالثة فهي أن عمر كان يحاسب واحداً من أكبر ولاته، فابن العاص حاكم مصر كلها، ومصر بلد عظيم ربما تغري مَنْ يحكمها بالتمرد والخروج، لكن ذلك لم يجعل ابن الخطاب ينثني عن عزمه أو يلين في محاسبة فاتح مصر وحاكمها في وقت واحد.

     أما الرابعة فهي أن الشاكي غلام من البلد الذي غُلِبَ وانقاد لأمر الفاتحين وخضع لدولتهم، ومع ذلك فهو يبادر إلى الشكوى على الرغم من أنه ظلّ على دينه الأول ولم يتبع الإسلام دين الفاتحين. أضف إلى ذلك عِظَمَ المسافة بين مصر والمدينة المنورة حيث محل الشاكي ومحل الخليفة، وأضف إليه أيضاً قدرة الغلام القبطي على الوصول بشكواه إلى سلطة الخليفة، وهي أعلى سلطة في الدولة الإسلامية، وأضف إليه أيضاً أن الغلام كان يشكو أكبر سلطة في بلده ممثّلةً في عمرو بن العاص.

     وقد تبدو هذه الأمور عادية، لكنها في الحقيقة ضخمة جداً تتقطع دونها كثير من الأعناق، وتبيد كثير من الحقوق، وتموت كثير من النفوس في غير الإسلام الذي يسمو بدولته ويعلو بها، ويرفعها إلى آفاق كريمة شمّاء.

     وحين يتمثل المرء هذا جيداً ويسبر أغواره، تنكشف له ضخامة النُقْلَة التي أحدثها الإسلام، لا في نفوس المسلمين فحسب، بل في نفوس غيرهم من رعايا الدولة الإسلامية أيضاً، حتى بات بوسع أحدهم أن يصل إلى قمة الدولة ليشكو إليها قمة المسؤولين في بلده من أجل ضربة صغيرة، يقوم أي شرطي في العالم في كل يوم بفضِّ النزاع في مثيلات لها بل فيما هو أكبر بكثير.

     إن في الذي فعله الغلام القبطي لدليلاً ضخماً لا يُدفع أن رعايا الدولة المسلمة من غير المسلمين كانوا واثقين من جدية المبادئ الإسلامية وصدق القائمين عليها.

     وها قد استطاعت جولةٌ صغيرة لقلمٍ متواضع أن تستخلص أمثال هذه المعاني والدلالات من قصة عَمْرو وعُمَر، ترى كيف لو انبرى لها قلم آخر أعمق وأذكى وأقدر على الإبانة والإعراب!؟

     إن المرء على يقين كبير في أن كلمة عُمَر لعَمْرٍو: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!؟" لو كانت لغيرنا لأكثروا فيها الكلام، ولجعلوها مُفتتح عصر جديد في حقوق الإنسان والعدالة والمساوة في تاريخ البشرية.

     وأخيراً فإن في قصة عَمْرو وعُمَر دليلاً عملاقاً على أن المسلمين الأوائل جازوا بنجاح أعظم التحديات التي واجهتهم، وهي قدرتهم على تطبيق أفكارهم عملياً في عالم الواقع بعد أن تؤول إليهم الأمور.
*****

أهمية المعنويّات

أهمية المعنويّات

     على النقيض من الشعور بالنقص؛ تقف الثقة، وعلى النقيض من الإحساس باليأس؛ يقف الأمل، وعلى النقيض من الضعة والهوان، والتبعية والخمول، والذيليّة والتقليد؛ يقف الاعتزاز والإباء، والقيادة والطموح، والريادة والابتكار.

     وإذا كانت الهزيمة الفكرية والنفسية سبباً في الهزيمة العسكرية المادية وصدمة تفضي إليها؛ فإن القوةَ المعنوية، والشجاعة الروحية، والاعتداد واليقين، والعزم والرجاء، والامتلاء والاستعلاء، والحماسة والشموخ سبب النصر والغلبة، ومقدمة تفضي إلى الفوز والظهور. وفي شواهد التاريخ، وتجارب الأيام، حيث المحك العملي لصدق الدعوات والأفكار، والمبادئ والمذاهب، وما فيها من صحة وإيجابية يكمنُ الدليل.

     يروي ابن كثير أن قيصر الروم حين كان في أنطاكية، وجاءته جيوشه مهزومة، سأل قومه قائلاً: ويلكم!.. أخبروني عن هؤلاء الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا: بلى. قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل موطن. قال: فما بالكم تنهزمون؟

     فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنّا نفعل المعاصي، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغضب ونظلم، ونأمر بالسخط، وننهى عمّا يرضي الله، ونفسد في الأرض.

     وقد يتساءل متسائل فيقول: وما صلة هذا بالمعنويات التي هي مقدمة للظفر حين تحسن وتطيب وتزكو، وهي مقدمة للخسران حين تَخْبُثُ وتفسد وتسوء؟ والجواب: أن في كل مجتمع مناخاً تغلب عليه الطيبات، أو تسود فيه الخبائث، أو تتوزعه معاً بنِسَبٍ شتى.

     فالمناخ المسلم الذي وصفه العظيم الرومي من قيام الليل، وصوم النهار، والوفاء بالعهد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتناصح بين أفراده، يؤهل لكل المعنويات الممتازة، فليس ثمة أحقاد ولا صراع، ولا رِيَبٌ ولا شكوك، ولا غدر ولا مظالم، وليس هناك ما يشد طاقة المقاتل إلى الخلف، أو يجعله يخشى غدرةً من ورائه، بل كل ما فيه يدفعه للأمام، ومثل هذا المناخ يستخرج أقصى إمكانات الإنسان، وطاقاته وإيجابياته، في طريق النفع، والدفع دائماً صوب الظفر فتكون المعنويات الممتازة الطيبة، التي هي أحد أسباب النصر والظهور.

     أما المناخ الفاسد كذلك الذي وصفه الرومي العظيم نفسه، وعَدّ مجتمعه نموذجاً له حيث تنتشر المفاسد، وتفشو الرذائل، وتعمّ الأحقاد، وتكثر المظالم، فإنه يؤهل لكل المعنويات المهزومة، فالصراع قائم، والسخائم تستعر، وكلٌّ يخاف غدرةَ صاحبه، وهذا كله يشد طاقة المقاتل إلى الوراء، ويشلّ ما فيه من قوى مذخورة، وإيجابيات يمكن أن تصوغ النصر، فإذا بالأمور كلها تتجمع دائماً صوب الخذلان والهزيمة بسبب من المعنويات المتردية السيئة التي هي أحد أسباب الخسارة والاندحار.

     فصِلة المعنويات بالنصر حين تطيب، وبالهزيمة حين تخبث حقيقة أكيدة مقررة، تسندها شواهد لا حصر لها من التاريخ خلال مسيرته الطويلة. ولقد كانت هذه الحقيقة، وما زالت، وسوف تظل في وعي الناس الذين يملكون حداً كافياً من الفهم والوعي، وحسن التأمل والإدراك، والاستفادة من عبرة الأيام، وتعاقب الجديدين.

     ولقد وصف المسلمينَ رجلٌ من الروم لواحد من أمرائهم فقال: جئتك من عند رجال دقاق، يركبون جياداً عتاقاً، أما الليل فرهبان، وأما النهار ففرسان، يريشون النبل ويَبْرونها، ويثقّفون القنا، لو حدّثك جليسك حديثاً ما فهمه عنك للذي علا من أصواتهم بالقرآن والذكر.

     فلما سمع الأمير الرومي من الراوي هذا التقرير الوجيز، الذكي المكثف، ولما أدرك جوانبه المحيطة، إذ لاحظ المسلمين يُعْنَونَ بجانب الإعداد المادي أحسن الإعداد في بري النبل، وتثقيف القنا، ويعنون بالمعنويات الممتازة أحسن العناية من قرآن كريم، وذكر طيب؛ أدرك حقيقة هؤلاء القادمين، فقال لأصحابه: لقد أتاكم مَنْ لا قِبَلَ لكم به.

     وغير خافٍ أن المعنويات ليست بديلاً عن الإعداد المادي، فما يقول بذلك عاقل لبيب، فضلاً عن أن يقوله مسلم يفهم إسلامه، وقد لاحظنا في تقرير الرجل الرومي لأميره عناية المسلمين بالجانبين معاً المادي والمعنوي، فذلك ما يطالبنا به ديننا العظيم الذي أتمه الله عز وجل وأكمله.

     فلنأخُذْ من الماديات أقصاها، ومن المعنويات أسماها، ولنعتمِدْ على الله عز وجل، وَلْنُقْدِمْ بعد ذلك، يكُنْ لنا بإذن الله النصرُ المبين، والفوزُ والظهور.

*****

الخنساء بين فَقْدِ أخيها وأبنائها الأربعة

الخنساء بين فَقْدِ أخيها وأبنائها الأربعة

     كانت الخنساء رضي الله عنها أبرز شواعر العرب في الجاهلية، وكانت تحضر أسواق العرب الأدبية كسوق عكاظ، وتناطح الشعراء الفحول، وكانت ثقتها بنفسها كبيرة، واعتزازها بشعرها بالغاً، إلا أن وفاة أخيها صخر قتيلاً فجّرت فيها نهراً دفّاقاً من الأحزان جعلها تبكيه وترثيه دون أن تقدر على نسيانه، ومن رائع شعرها فيه قولها:

يذكّرني طلوعُ الشمسِ صخراً     وأذكـــرُه لكلِّ غروبِ شــمسِ
ولولا كثرةُ البـــــــاكينَ حولي     على إخوانهم لقتــــــلتُ نفسي
وما يبكين مثـــــل أخي، ولكنْ     أسلّي النفسَ عنــهُ بالتـــــأسّي

     وظلّت متشحةً بالسواد حتى بعد أن دخلت الإسلام، وظلّت مسحة الحزن العميق تلف حياتها، ولقيت الرسول الكريم ﷺ وأنشدته بعض شعرها فرَقَّ لها وقَدَّرَ عواطفها.

     وظلّت تتنقل بها السنون حتى ذهبت بشبابها، وجاءت معركة القادسية في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان بنوها الأربعة قد دخلوا الإسلام وخرجوا إلى تلك المعركة الضروس، فجمعتهم وقالت لهم:

     "يا بَنِيَّ إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خُنتُ أباكم ولا فضحتُ خالكم، ولا هجنتُ حسبكم، ولا غيّرتُ نسبكم، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب العظيم في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية. يقول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:200]، فإذا أصبحتم غداً فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائكم مستنصرين".

     ولما جاء الصباح دارت المعركة، واستشهد أبناؤها الأربعة دفعة واحدة، فما زادت على أن قالت: الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.

     موقف ضخم رائع يكشف عن حجم النُقْلة العملاقة التي أحدثها الإسلام في هذه المرأة، وعُمق التغيير الذي أعاد صياغة حياتها كلها من جديد، صياغة قوية شامخة.

*****

عبادة بن الصامت والمقوقس

عبادة بن الصامت والمقوقس

     لما جاء المسلمون لفتح مصر وتوغلوا فيها حتى وقفوا أمام حصن "باب ليون"؛ أي باب الأسد!.. الذي كان يومذاك مفتاح البلد، رغب المقوقس حاكم مصر القبطي عن الرومان أن يتفاوض مع المسلمين، فأرسل إليهم وفداً يعلمهم بذلك، ثم طلب منهم أن يرسلوا إليه وفداً، فأرسل إليه عمرو بن العاص، قائد الجيش المسلم عشرة رجال فيهم عبادة بن الصامت، وكان عبادة شديد السواد، طويل القامة جداً، وأمره عمرو بن العاص أن يكون هو الذي يتولى الكلام.

     فلما دخل الوفد على المقوقس، تقدمه عبادة بن الصامت فهابه المقوقس لسواده وضخامة جسمه، وقال:

     نحُّوا عني هذا الأسود وقدموا غيره ليكلمني!..

     فقال رجال الوفد جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره، وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله.

     فقال المقوقس: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغي أن يكون دونكم؟

     فقال رجال الوفد: إنه وإن كان أسود كما ترى، فإنه من أفضلنا موضعاً، وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأياً، وليس يُنكر السواد فينا.

     فقال المقوقس لعبادة وقد أدرك أنه في محل الصدارة من الوفد، وأن جماعته لا يعدلون به شيئاً: تقدم يا أسود وكلمني برفق، فإني أهاب سوادك، وإن اشتد كلامك علي، ازددت لك هيبة.

     فقال عبادة؛ وقد رأى فزع المقوقس من السواد: إن في جيشنا ألف أسود، هم أشد سواداً مني!..

     إن في هذه الحادثة التاريخية لأكثر من عبرة، وأكثر من عظة، وأكثر من دلالة، فيها بادئ ذي بدء، ارتفاع الإسلام إلى الآفاق الكريمة التي تكرم الإنسان، وتعلي قدره، من حيث هو إنسان، فيه نفخة من روح الله عز وجل، فهو يستحق التقدير بهذا الاعتبار، قبل أي اعتبار آخر.

     وفيها كذلك أن الحضارة الإسلامية أسقَطت بالفعل، لا بمجرد الأقوال والادعاءات فحسب، كل الحواجز الكاذبة التي يقيمها الفكر الجاهلي المنحرف بين البشر فيوزّعهم إلى فرق شتى بناء على معايير خاطئة، ومقاييس شاذة ضالة.

     وفيها كذلك تخلف الحضارة الأخرى التي كانت في مصر يومذاك، يظهر ذلك بوضوح بالغ في طلب المقوقس من الوفد المسلم، تنحية عُبادة وتقديم آخر يتكلم مكانه.

*****

عمر وفتح بيت المقدس

عمر وفتح بيت المقدس

     في شهر محرم عام 17هـ الموافق لشهر يناير (كانون الثاني) عام 637م؛ دخل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بيت المقدس، فانتهى بذلك عهد الرومان وما فيه من مظالم، ليبدأ عهد الإسلام العادل في مدينة الأنبياء، مدينة السلام.

     وكان عمر رضي الله عنه قد واعد قادة المسلمين بعد فتح بلاد الشام أن يلقاهم في الجابية، جنوب دمشق حيث استقبله من قادة الفتح أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد، كما استقبل وفد بطريرك بيت المقدس الذي جاء يطلب السلام ويدعوه لتسلّم المدينة.

     وكتب الخليفة عهد السلام وسلّمه لأهل المدينة، وفيه يعطي الأمان لأهل "إيلياء" أي بيت المقدس، الأمان لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، وفيه أيضاً ألّا يسكن بإيلياء مع النصارى أحد من اليهود، ومما يجدر التذكير به ها هنا أن هذا الشرط الأخير كان بطلب من النصارى أنفسهم.

     ودار الزمان وسقطت القدس في أيدي الصليبيين الذين حكموها قرابة قرن من الزمان، لكنَّ الأمة المسلمة ما لبثت أن تغلّبت على عوامل الضعف في بنائها، واستأنفت مسيرة الجهاد، فاستطاعت أن تستعيد القدس من جديد على يد البطل العبقري صلاح الدين الأيوبي عام 583هـ=1187م.

يا قدس، يا قدس الإسلام والمسلمين!..

     لقد جاءك عمر فأنقذكِ من جور الرومان وعسفهم، وأدخلكِ حظيرة الإيمان، فطاب لكِ المقام في ظلال القرآن، وترجيع الأذان.

     ثم جاءك صلاح الدين فأنقذكِ من جور الصليبيين وقسوتهم، وطهّركِ من النواقيس والصلبان، فعُدْتِ إلى عطر الإيمان، وجمال القرآن، وسحر الأذان.

     ثم ها أنتِ اليوم أسيرة بأيدي اليهود، قَتَلة الأنبياء، ومحترفي الربا، وتجار الحروب، ومروّجي المفاسد والدعارة، ومثيري الفتن والأكاذيب، أشدِّ الناس عداوة للذين آمنوا، وأعدى أعداء البشرية، وأكثر الناس إضراراً بالناس، ترى من الرجل الثالث يا قدس، من الرجل الثالث الذي ينقذكِ من رجس اليهود وخسّتهم ويعيدكِ إلى أهلكِ وذويك، إلى المؤمنين من أبناء الإسلام!؟
*****

حوار قادة المسلمين والفرس في القادسية

حوار قادة المسلمين والفرس في القادسية

     في الحوار الذي كان يجري بين عدد من قادة المسلمين، وبين عدد من قادة الفرس والروم قبيل المعارك المشهورة أيام الفتوح الإسلامية كالقادسية واليرموك، كان يظهر جلياً التحول الهائل الذي أصاب العرب بعد إذ أكرمهم الله تعالى بالرسالة، يظهر ذلك في الجانبين، المسلم وغير المسلم.

     وفي الروايات التاريخية الموثوقة عن أخبار الفتوح ما يؤكد سَعَةَ النُقْلة التي أحدثها الإيمان في عالم الواقع، وفي نفوس العرب، وفي نفوس من كانوا يحاربون العرب من فرس وروم.

     والشواهد على ذلك كثيرة جداً، وحسبك أن العرب الذين كانوا لا يجرؤون على التصدي لدورية ضئيلة من دوريات الفرس والروم، عمدوا إلى حرب هاتين الإمبراطوريتين في وقت واحد حرباً ضروساً جعلت هرقل يقول عنهم: إن هؤلاء لو استقبلوا الجبال لأزالوها، وما من ريب أن ذلك كله يعود إلى الإيمان الذي صاغ هؤلاء الرجال صياغة نادرة عجيبة.
***

     فقبيل أن تنشب معركة القادسية، كانت المفاوضات تجري بين المسلمين ورستم، وكان رستم يُطيل أمد المفاوضات، لأنه دخل الحرب كارهاً، فكان يأمل أن يصل مع المسلمين إلى اتفاق أو يحدث أمر من الأمور فتكون النتيجة أن تمتنع الحرب التي أكرهه يزدجرد على قيادة الفرس فيها، والتي كان منها على وجل عظيم. وخلال هذه المفاوضات كانت الوفود المسلمة تذهب إلى معسكر رستم تحدّثه حديثاً عجباً، لا عهد له به، ولا عهد للحروب والتواريخ به من قبل. وذات مرة كان رَبْعي بن عامر رضي الله عنه بطل واحدة من هذه المفاوضات المؤمنة حين انتُدِبَ لذلك.

     قال ربعي بن عامر لرستم حين سأله هذا عن سر خروجهم من بلادهم للحرب والجهاد: إن الله ابتعثنا لنخرج مَنْ شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

     إنها عبارة وجيزة جداً، هذه التي قالها ربعي، لكنها مع ذلك شديدة الغنى، شديدة التركيز، تدل على درجة من العمق والسهولة والسلامة بالغة جداً، تمكّن فيها الفهم السليم في ذلك الجيل الرباني القرآني الفريد وتأصّل، بحيث بات بوسعه أن يحدد غايته في الحياة، ووظيفة الإسلام كرسالة، ودور الفتوح كحركة تحرير كبرى، في كلمات قلائل تغني عن مجلدات كبار، حدد فيها ربعي مهمته ومهمة مَنْ معه، والغاية البعيدة العميقة الخطيرة من حركة الفتوح، والوظيفة الكبرى للإسلام في الحياة بثلاثة أهداف أساسية ضخام.

     الهدف الأول: إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وهو أمر، غاية في الخطورة والأهمية والجلال. وربما تساءل أحدهم: وهل كان الناس يعبدُ بعضهم بعضاً؟ والجواب في إيجاز بالغ: أن الناس في ذلك العصر، وفي عصرنا هذا، وفي كل عصر، يعبد بعضهم بعضاً حين لا يعبدون الله حقاً، فمن ارتضى أن يكون تابعاً لأحد من الناس كائناً من كان، يشرّع له وينظّم، ويصرفه عن منهج الله بمنهج من عنده، وعن هداية الله بطاغوت من لديه، يكون قد صار عبداً له ما دام قد رضي لنفسه هذا المآل المحزن الوخيم. ولن ينجو الإنسان بحق من عبوديته للعباد إلّا إذا أبى شرعهم ورفض مناهجهم، وانصاع لأمر الله عز وجل وحده، وشرعه ومنهجه، وهذا هو معنى الإسلام؛ أي التسليم التام المطلق لله جل جلاله.

     الهدف الثاني: هو إخراج الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها، والحقيقة أن الدنيا هي الدنيا من حيث إنها زمان معيشة الناس ومكانها، فبهذا المعنى لا تتسع ولا تضيق، وإنما هي تضيق وتتسع بحسب أهدافنا فيها، وآمالنا وتصوراتنا، وموازيننا وقيمنا، وأخلاقنا ومُثلنا. فإن كان هذا كله محصوراً في اللباس والطعام، والبيت والعمل، والنزهة واللذائذ، والمتاع والملهِيات، وما إلى ذلك من مطامح مادية خابية، فإن الدنيا ها هنا تكون ضيقة كثيراً، وسوف تثقل على الإنسان، ذلك أن للإنسان فطرة تتحرك، وأشواقاً ورغائب، وحنيناً ونوازع، تتخطى حدود المطالب المادية، وسجنها الضيّق الكئيب. فإذا ظل الناس ضمن هاتيك الحدود الضيقة والأسوار الخانقة؛ فإن الدنيا ضيّقة جداً، وتلك هي حالتهم حين ينصرفون عن منهج الله إلى مناهج البشر.

     أما إذا كان الناس ينظرون إلى هذه الدنيا على أنها رحلة وتمضي، أيام وتنقضي، وأنها يجب أن توظف لخدمة الآخرة من خلال الالتزام بشرع الله، وأن الآخرة أبقى وأطيب، وأحسن وأنظف، وأنه ينبغي أن تنصرف الهمة إليها، والعمل من أجل الفوز فيها، وأن هذا من لوازمه أن ينجو المرء من إسار المادة، ورقّ المطالب الدنيوية التافهة، وأن ينطلق في الحياة على هدى ونور، وصدق وإيمان، ومودة وحنان، ونبل وإيثار، واستقامة ومروءة وما إلى ذلك، فثمة الحياة التي تتسع وتطيب، ويحلو العيش فيها ويزكو، وتسمو الأهداف فيها وتعلو. ومثل هذه الحياة لا تكون إلّا في الإسلام الذي يحرص على أن يكون أتباعه أهلاً لمثل هذه التصورات الكبرى والمستوى الرائع تهذيباً وتربية، وسموّاً ورفعة، وامتلاكاً للأسباب التي تجعل الواحد منهم بحق خليفةً لله على الأرض.

     الهدف الثالث: هو إخراج الناس من جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام. لقد شهد التاريخ كثيراً من صور الجور والعدوان والاضطهاد باسم الدين قبل عصر ربعي وخلاله وبعده، تنصبُّ على رؤوس المخالفين.

     أما الإسلام فقد جاء يعلن أن الناس أحرار فيما يعتقدون: ﴿لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي﴾ [البقرة:256]، أعلن الإسلام ذلك، ثم انطلقت مواكبه إلى الدنيا لتحكمها بالإسلام، وتسقط الأنظمة الجاهلية الجائرة التي تحول بين الناس وبين اتّباع ما يعتقدون. وبعد ذلك، فَمَنْ دخل الإسلام، فما أعظم فرحة المسلمين به!.. وهو أخوهم العزيز، له ما لهم، وعليه ما عليهم.

     ومن اختار سوى ذلك؛ فله ما اختار، وهو آمنٌ على نفسه وأهله، وماله ومعتقده في ظل الدولة المسلمة التي تؤمن أنه كافر، وأنها وحدها على الحق. ومع ذلك تَبْسُطُ عليه حمايتها ورعايتها، وهي توقن أنه من حطب النار. وإذن فلم تكن هناك أي مبالغة في أن يهتف ربعي بن عامر بأن حركة الفتوح كانت تهدف من جملة ما تهدف إليه إلى إخراج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام.

     وبعد؛ فما أعظم ما قاله ربعي بن عامر!.. وما أغنى وأجمل الوقوف عنده!.. إن له كثيراً من الدلالات يقف في طليعتها عظمة المستوى الإيماني الذي كان عليه ذلك الجيل الرباني القرآني الفريد؛ فكرياً ونفسياً.

*****

أبو بصير.. مِسْعَر حرب!

أبو بصير.. مِسْعَر حرب!

     يحرص الإسلام على أن يكون أبناؤه ممن يحفظون العهود ويرعون المواثيق، ويجتنبون الغدر، ويحرصون على الوفاء حرصاً كبيراً. والمواقف التي تشهد بصحة ذلك كثيرة جداً.

     بعد أن عقد رسول الله ﷺ صلح الحديبية مع مشركي مكة المكرمة نشأ إشكال كبير يعترض طريق هذا الصلح، ذلك أنه كان من مواد الصلح: من جاء إلى المشركين من قِبَلِ المسلمين مرتداً عنهم يقبله المشركون، ومن جاء إلى المسلمين من قِبَلِ المشركين مؤمناً معتنقاً للإسلام يُرَد. وقد اعترض بعض المسلمين على هذا بشدة، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكن رسول الله ﷺ أصرَّ على إمضاء الصلح.

     ذات يوم وفَدَ أبو بصير عتبة بن أسيد من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة مسلماً، فبعثت قريش إثر ذلك كتاباً إلى الرسول الكريم ﷺ تطلب ردَّه، وحمل الكتاب رجلان أرسلَتْهُما قريش لإيصال الخطاب واستعادة أبي بصير.

     قال الرسول ﷺ لأبي بصير: "يا أبا بصير!.. إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصحُّ في ديننا الغدر، وإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلق إلى قومك". قال أبو بصير: "يا رسول الله أتردّني إلى المشركين يفتنوني في ديني؟"، فكرر عليه الرسول الكريم ﷺ قوله الأول.

     وانطلق أبو بصير مع الرجلين حتى إذا كان بذي الحُليفة سأل أحدهما أن يُريَهُ سيفه، وما أن استقر في يده حتى علا به الرجلَ فقتله، فعاد الثاني هارباً مسرعاً نحو المدينة حتى أتى النبي ﷺ فقال: "قتل صاحبي"، ثم طلع أبو بصير فقال: "يا رسول الله وَفَتْ ذمّتك وأدّى الله عنك. أسلمْتني للقوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث بي". ولم يُخْفِ الرسول الكريم ﷺ إعجابه به وتمنّيه لو يكون مثله معه، فقال: " وَيْلُ أمِّه، مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحد!.."، [رواه البخاري].

     وأدرك أبو بصير ألّا مُقام له في المدينة المنورة، ولا مأمنَ له في مكة فانطلق إلى ساحل البحر الأحمر، وأخذ يهاجم قوافل قريش التجارية. وسمع المسلمون المحبوسون بمكة المكرمة خبره وسمعوا قول الرسول الكريم ﷺ "ويلَ أمِّه مِسْعَرَ حرب لو كان معه أحد!.."، فهرعوا إليه وما زالوا يتكاثرون حتى صاروا سبعين رجلاً أعجزوا قريشاً ودوّخوها حتى بعثت إلى الرسول الكريم ﷺ تناشده وترجوه أن يقبل هؤلاء، وأسقطت شرطها الذي توهّمته نصراً لها بنفسها، ففعل.

*****

البراء بن مالك.. البطل الشهيد

البراء بن مالك.. البطل الشهيد

     هو الصحابي العظيم، المجاهد البطل الشهيد البراء بن مالك رضي الله عنه، وإنه ليشق عليك أن تحيط بحياته المضيئة في وقت محدد ما لم تستشرف الآفاق المتفوّقة المؤمنة التي كان يعيش فيها ذلك الجيل الرباني الفريد. فمنذ دخل الإيمان قلبه وهب حياته لهذا الدين العظيم، فكانت سِفراً من أسفار البطولة والتضحية والإيمان، ولا غرابة في ذلك فقد كان واحداً من التلاميذ النجباء الأوفياء لمدرسة محمد ﷺ.

     وإنه ليكفيك منه موقف فحسب!.. يجعل بمقدورك أن تتخيل الصورة كلها، وإنْ غابت عنك التفاصيل، هذا الموقف هو ما فعله البراء يوم اليمامة.

     لقد وقف البراء رضي الله عنه في مكانه من الجيش المسلم الذي كان يقوده الصحابي القائد العظيم خالد بن الوليد رضي الله عنه ليقتلعَ شرور الرِّدَّة التي كان يتزعمها مسيلمة الكذاب عليه لعنة الله. وقف البراء وعيناه الثاقبتان تجوبان أرض المعركة في سرعة ونفاذ، وقد بدا فيهما عزم عجيب، وإرادة هائلة، ونزوع عميق جياش إلى شهادة كريمة في ذلك اليوم المشهود.

     كانت عيناه تجوبان الميدان كله، كأنهما تبحثان عن أشدّ الأماكن خطورةَ وبأساً ليسارع إليه البطل، بحثاً عن ختام هانئ سعيد لحياة حافلة بالمكرمات، وأي ختام أهنأ وأسعد من الشهادة في سبيل الله!؟

     وإذ بدأ القتال انطلق البراء كالسهم صوب غايته، وقد أحسّ أن رائحة الجنة في أنفه، فاستثار ذلك فيه كل القوة والحركة، وكل السرعة والنشاط، وكل البطولة والحميّة، فإذا بقوته تتضاعف، وإذا بنشاطه يزداد، وإذا به كالسيل الأتيِّ الدفّاق، فكان أن مضى يفتك بعصبة السوء، ويبلي في جهاده أعظم البلاء.

     وحين اشتدت المعركة حدث خلل في صفوف المسلمين، وسرى فيهم شيء من الارتباك، وطفق قادة المسلمين وفرسانهم يجوبون الميدان يحثون على الصبر واحتمال العناء حتى النصر المأمول، وكان البراء رضي الله عنه ذا صوتٍ عالٍ جميل، فهتف به خالد بن الوليد: تكلَّمْ يا براء!.. وتكلمَ البراء، وتدفق صوته الجياش بكلمات قلائل، لكنها ذروة في الأداء والبيان، والبلاغة والإيجاز. لقد علا صوته يقول: "يا أهل المدينة!.. لا مدينة لكم اليوم، إنما هو الله والجنة".

     إنه يُهيب بأهل المدينة المنورة أن ينسوا مدينتهم، ففي مثل هذا المشهد الصعب ينبغي ألا يشغل المجاهدون أنفسهم بشيء سوى انتزاع النصر، عليهم أن ينسوا الديار التي خرجوا منها، والأهل الذين ودّعوهم. حتى المدينة المنورة، عاصمة الإسلام، ومأرز الإيمان، ومثوى رسول الله ﷺ عليهم أن ينسوها الآن.

     وسَرَتْ كلمات البراء كالتيار في أرواح المجاهدين، وعادت الصفوف المسلمة تتقدم من جديد، والمرتدون يتراجعون حتى دخلوا حديقة كبيرة، فلاذوا بها وأغلقوها عليهم.

     وهنا يعلو صوت البراء من جديد يهتف: يا معشر المسلمين، احملوني وألقوني عليهم في الحديقة!.. ولم ينتظر البطل، فالوقت ثمين، والمعركة في أخطر مراحلها، والنصر قاب قوسين، وإنما هو ينتظر بعض المبادرات الشجاعة ليكون بإذن الله إلى جانب المسلمين.

     واعتلى البراء الجدار، وألقى بنفسه داخل الحديقة، حيث جيش الردة، وفتح الباب، فدخل الجيش المسلم يستأصل عصبة الشر، وقُتِل مسيلمة، وهُزِمَ المرتدون.

     عمل رائع من البراء أدّى إلى أحسن النتائج، لكنّ شيئاً واحداً فات البراء، إنه لم يُرزق الشهادة على الرغم من هذه المغامرة الجريئة، واستبان الناس صدق كلمة الصدِّيق رضي الله عنه: "اُطْلُبِ الموتَ تُوهَبْ لكَ الحياة".

     لقد نال البراء في مغامرته تلك بضعاً وثمانين وساماً هي مجموع الكلوم والجراحات التي أصابته، أما الشهادة فقد ادخرت له ليفوز بها في يوم آخر، عظيم مشهود من أيام الإسلام الخالدة.

*****

الأكثر مشاهدة