الأحد، 26 يونيو 2022

مصعب بن عمير

مصعب بن عمير

     هو نموذج من نماذج التضحية بالراحة والثروة، والارتفاع فوق مغريات الحياة الرخيّة الناعمة، وإيثار الحرمان والمشقة والبلاء والأذى في سبيل الله عز وجل. إنه الصحابي الشهيد مصعب بن عمير رضي الله عنه.

     نشأ مصعب في الغنى، ورُبِّيَ في أحضان الرفاه والنعمة، بين أبوين يحبانه أعظم الحب، ويكسوانه أحسن اللباس، ويغذوانه أطيب الطعام، وينشران عليه أجنحة العطف والرعاية والحنان.

     لكنّ الفتى المؤمن هجر هذا كله إلى حياة الخشونة والشدة والغربة والهجرة والجوع والتعب، رضي بمفارقة الأهل والوطن، ورغب عن الجاه والثروة، وفرّ بدينه مهاجراً إلى الحبشة، ثم إلى المدينة المنورة حتى مات في دار الهجرة شهيداً في غزوة أحد، فما وجد المسلمون له ثوباً يكفيه كفناً، وكل الذي وجدوه ثوب قصير، إذا غُطِّي رأسه بدت رجلاه، وإذا غُطِّيَت رجلاه ظهر رأسه.

     روى ابن سعد عن أحد أقرباء مصعب قوله: كان مصعب فتى مكة شباباً وجمالاً ونسباً، وكان أبواه يحبّانه، وكانت أمه كثيرة المال، وكان أعطر أهل مكة، دخل على رسول الله ﷺ، دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة المكرمة فأسلم، فأخذه قومه فحبسوه، فلم يزل محبوساً حتى هاجر إلى الحبشة، ثم عاد مع المسلمين فإذا به قد تغيّرت حاله، وإذا به قد خشن وتبدّل.

     وفي يوم أحُد ثبت مصعب رضي الله عنه ثبات الأبطال، وكان يحمل الراية بيده، وظل يصول ويجول، وظلت سيوف المشركين ورماحهم تنوشه من هنا وهناك حتى قُطِعت يده اليمنى، فخشي على اللواء أن يسقط، فسارع يحمله بيده اليسرى، فلما قُطِعت اليسرى كذلك، حنا عليها وأمسكها بعضديه حتى استشهد، وحين أراد المسلمون دفنه لم يجدوا ثوباً يكفيه فجعلوه مما يلي رأسه، وجعلوا على رجليه من نبات الإذخر.

     ووقف رسول الله ﷺ على الفتى الشهيد فقال: «لقد رأيتك... بمكة وما بها أحدٌ أرَقّ حلة ولا أحسن لمَّة منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة».. وقرأ قول الله عز وجل: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾. [الأحزاب:23].

     رحم الله الشهيد العظيم، وأجزل له الثواب والعطاء، وجمعنا به في مستقر رحمته.

*****

حاجتي ليست كحاجتهم

حاجتي ليست كحاجتهم

     قدم وفد "تَجِيبُ" من اليمن إلى المدينة المنورة، فسُرَّ بهم رسول الله ﷺ وأكرم منزلتهم، وأمر بلالاً رضي الله عنه أن يحسن ضيافتهم، وجعلوا يسألون النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ويتعلمون منه، وحين جاؤوا إلى الرسول الكريم ﷺ يودعونه أجزل لهم في العطاء، ثم سألهم: هل بقي منكم أحد؟ قالوا: نعم غلام خلّفناه على رحلنا هو أحدثنا سناً، قال: أرسلوه إلينا. فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله ﷺ وطلب منه أن يقضي له حاجته، كما قضى حوائج إخوانه الآخرين في الوفد. فقال له رسول الله ﷺ: وما حاجتك؟ قال الغلام: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا قد قدموا راغبين في الإسلام، وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإني والله ما أقدمني من بلادي إلّا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي. فقال رسول الله ﷺ: اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه. ثم أمر له بمثل ما أمر به الرجل من أصحابه، فانطلق الوفد عائداً نحو اليمن.

     وفي السنة العاشرة من الهجرة وافى الوفد ثانيةً رسول الله ﷺ وهو في منى، فسألهم رسول الله ﷺ عن الغلام الذي تخلف عنهم هذه المرة فقال: ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟ قالوا: يا رسول الله، ما رأينا مثله قط، وما حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها، ولا التفت إليها.

     فقال الرسول الكريم ﷺ: الحمد لله، إني لأرجو أن يموت جميعاً. فقال رجل من الوفد: أوَ ليس يموت الرجل جميعاً يا رسول الله؟ فقال ﷺ مبيّناً أن مِن الناس مَن يموت مشتتاً موزعاً، تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا: فلعل أجله أنْ يدركه في بعض تلك الأودية فلا يبالي الله عز وجل في أيّها هلك. قالوا: فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال، وأزهده في الدنيا وأقنعه بما رزق الله.

     فلما توفي رسول الله ﷺ ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام في قومه فذكرهم الله والإسلام فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه يذكره ويسأل عنه حتى بلغه حاله، وما قام به فكتب يوصي به.

     هذه قصة نادرة لشاب كريم، عَمَر الإيمان قلبه، فلم يجعل همّه ما يشغل كثيراً من الناس، فيظلّون يعدون وراءه ويقطعون في ذلك زهرة أعمالهم، بل تعلقت همته بما عند الله عز وجل مما هو خير وأبقى، حين طلب حاجته من رسول الله ﷺ، كانت حاجته التي طلبها غير حوائج إخوانه الآخرين، بل غير حوائج أكثر الناس، كانت حاجة دينه قبل دنياه، وروحه قبل جسده، ونفسه قبل مادته، ومعناه قبل هيكله، وحقيقته قبل صورته، كانت حاجته أن يسأل رسولُ الله ﷺ له ربَّه عز وجل أن يغفر له ويرحمه، وأن يجعل غناه في قلبه.

     إنها حاجة كبيرة كريمة قرّت بها عينا رسول الله ﷺ، وأدرك عظمة هذا الغلام وسمو نفسه، وسارع يدعو له، وحين دارت الأيام وغاب الغلام، ولم يعد مرة ثانية مع الوفد لم ينسه رسول الله ﷺ بالرغم من نأي الدار وتطاول الزمن، لذلك سأل عنه سؤال الخبير العارف، فلما أجيب بما يُدخل السرور على القلب، قال عليه الصلاة والسلام: إني لأرجو أن يموت جميعاً.

     والناس يموتون على ما عاشوا عليه، فمن عاش جميعاً أي موحد العزيمة، مجتمع الغاية، ثابت الهدف، واضح الرؤية، غير مشتت ولا متوزع، مات كما عاش. ومن عاش مشتتاً موزعاً، متفرق الغاية، متعدد الهدف، كثير الهموم والأماني، مشتتاً إلى مزق كثيرة، وأوزاع متناثرة، وأجزاء شتى مات كما عاش. وشتان بين ميتة هذا وذاك، وشتان بين حياة هذا وذاك في الدنيا هذه قبل الموت.

     وما من ريب أنه نادر جداً بين الناس ذلك الذي يعيش لغاية واحدة كما عاش ذلك الغلام، ويجمع همومه في همٍّ واحد يحيا له، ويموت عليه، ويكدّ من أجله، وإنما يفعل ذلك المؤمن العميق الإيمان، النافذ البصيرة، الذي تطهّرت روحه وزَكَت وسمت، فجعل غايته رضوان الله عز وجل، حدد لنفسه هذا الهدف العظيم عن إدراك عميق لا عن نزوة عابرة، أو حالة عارضة، ثم طفق يتخذ وسائل تحقيق هذا الهدف، ويعمل على تطبيقها بقوة وعزم ومضاء، وقد هان عليه كل شيء في الحياة وهو يرنو إلى هدفه العظيم الجليل، ويقرأ قوله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لَا شَرِيكَ لَهُۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام:162-163]، وهذا هو الرجل الذي يعيش جميعاً ويموت جميعاً.

     هو الرجل الذي تعمقت فيه القناعة الإسلامية الراشدة، فحمته من الشره والطمع، واستروح نسمات الحياة الطيبة في الدنيا نفسها، وهي جزاء المؤمنين العاملين قبل أن ينتقلوا إلى الدار الآخرة. قال عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةًۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل:97]، وقد فسّر الإمام علي رضي الله عنه الحياة الطيبة بالقناعة، وما من ريب أن بين الحياة الطيبة وبين القناعة صلة وثقى، كل منهما تقود إلى الأخرى إن لم تكن هي هي بعينها بالتمام والكمال.

*****

اتساع الرحمة عند المؤمن

اتساع الرحمة عند المؤمن

     تعظُم الرحمة عند المؤمن وتتسع، وتكبر دائرتها وتمتد، حتى لتشمل في عطائها الخيّر المبارك، ونتاجها الثرّ الكريم الناس جميعاً، ثم تتعداهم فإذا بها قد وصلت إلى الحيوان، فهذا الحيوان الأعجم الذي ليس له حول ولا طول، يرحمه المؤمن، ويتقي الله تعالى فيه، ويعلم أنه مسؤول عنه بين يدي خالقه، وقد ذكر الرسول الكريم ﷺ لصحابته الكرام أن امرأة سيئة لقيت كلباً استبدَّ به العطش، فدلَّت خُفها في البئر وسقته حتى ارتوى فغفر الله لها. وفي مقابل ذلك ذكر لهم أيضاً أن امرأة أخرى حبست هرة حتى ماتت، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فاستحقت بذلك العذاب.

     وقد قال رجل للرسول الكريم ﷺ: إني لأرحم الشاة، فقال له: إنْ رحمتها رحمك الله. ورأى عمر رضي الله عنه رجلاً يسحب شاة برجلها ليذبحها فقال له: ويلك!.. قدها إلى الموت قوداً جميلاً.

     ويروي المؤرخون أن عمرو بن العاص رضي الله عنه في فتح مصر، نزلت حمامة بفسطاطه أي خيمته، فاتخذت من أعلاه عشّاً، وحين أراد الرحيل رآها، فلم يشأ أن يهيجها بتقويضه، فتركه، وتكاثر العمران من حوله فكانت مدينة الفسطاط تلك التي نشأت في مكانها إكراماً ورحمة لحمامة حلّت ضيفة في فسطاط رجل كريم من تلاميذ مدرسة النبوة المطهرة.

     ويروي ابن الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه نهى عن ركض الفرس إلّا لحاجة، وأنه كتب ينهى عن إلجام الدواب بلجام ثقيل، وينهى أن تنخس بمقرعة في أسفلها حديدة، وكتب إلى واليه بمصر: إنه بلغني أن بمصر إبلاً نقالات يحمل على البعير منها ألف رطل، فإذا أتاك كتابي هذا فلا أعرفن أنه يحمل على البعير أكثر من ستمئة رطل.

     إنها رحمة عظيمة دافقة، هي أثر من آثار الإيمان بالله عز وجل، والدار الآخرة، ذلك الإيمان الذي يهذب النفوس، ويرقق القلوب، ويلين الأفئدة القاسية الجافية، هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان في الجاهلية معروفاً بالقسوة والشدة، يفجّر الإسلام في فؤاده أعظم ينابيع الرحمة والخير، فيرى نفسه بعد أن صار أميراً للمؤمنين مسؤولاً أمام الله عز وجل عن بغلة تعثر بشط الفرات، لِمَاذا لَمْ يُسَوِّ لها الطريق؟

     ولقد كان من جملة الأوقاف الإسلامية؛ وقف خاص يُنفَق من ريعه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب، استنقاذاً لها من عذاب الجوع، حتى تستريح بالموت أو الاقتناء.

     وكان هناك وقف خاص لتطبيب الحيوانات المريضة، وآخر لرعي الحيوانات المسنة العاجزة، وكان في دمشق وقف للقطط تأكل فيه وتنام، فكان الناس يرون فيه مئات القطط السمينة التي يُقدم لها طعامها ولا تتحرك إلّا للرياضة والنزهة واللعب.

     وكان من وظيفة المحتسب -وهي من أكرم الوظائف وأعظمها وأكثرها إشراقاً في حضارة الإسلام- أن يمنع الناس من تحميل الدواب فوق ما تطيق، أو تعذيبها وضربها في أثناء السير، فمن رآه يفعل ذلك أدّبه وعاقبه. وكان ينهى الناس أن يسوقوا دوابهم سوقاً شديداً تحت الأحمال، وينهاهم أن يضربوها ضرباً شديداً، وأن يوقفوها في الساحات العامة وعلى ظهورها أحمالها، وكان يراقبهم في علف الدابة وعليقها، ويطلب أن يكون موفوراً يحصل به الشبع ولا يكون منجوساً ولا نزراً. إن هذا كله يدل على ما في الأمة المسلمة من خلق للرحمة عظيم، هو بعض من غراس الإيمان.

     ومن أطرف الأمثلة من ناحية، وأعمقها دلالة وإيحاء، ما نجده عند الصحابي العظيم أبي الدرداء إذ يقول لبعيره عند الموت: يا أيها البعير لا تخاصمني إلى ربك، فإني لم أكن أحملك فوق طاقتك، وما نجده عند صحابي آخر هو عدي بن حاتم الطائي الذي كان يفت الخبز للنمل، ويقول: إنهنّ جارات لنا ولهنّ علينا حق.

     ومرة كان الإمام أبو إسحاق الشيرازي يمشي في طريق ومعه بعض أصحابه فعرض له كلب فزجره صاحبه، فنهاه الشيخ وقال له: أمَا علمت أن الطريق مشترك بيننا وبينه؟

     إنها رحمة عظيمة تعلمتها الأمة المسلمة من رسولها الكريم ﷺ الذي كانت له مواقف في الرحمة عجيبة، منها أنه سمع مرة امرأة من الأنصار تلعن ناقة لها وهي تركبها فأنكر عليها ذلك وقال: خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة، وأُخِذ ما على الناقة، وتركت تمشي في الناس لا يعرض لها أحد.

     إنها رحمة الإسلام تبلغ مدى واسعاً جداً، ولا عجب!.. فمطلوب من الأمة المسلمة أن تتفوق في كل شيء وتسبق، لتكون جديرة بقيادة العالم كله، والبشرية جمعاء، إلى دروب السعادة والخير في دنياها وأخراها.

*****

أيهما أجود!؟

أيهما أجود!؟

     حين تحدثنا عن بعض المظاهر العملية للجود الإسلامي، والإنفاق في سبيل الله عز وجل، عرضنا في عجالة سريعة لأبي الدحداح وهو يجود ببستانه في سبيل الله عز وجل، ومثّلنا به للمستوى النفسي الرفيع، والتفوق الروحي الضخم الذي كان الجيل الإسلامي الأول عليه. على أن الإعجاب الحقيقي، والإكبار الضخم نلتقي بهما في موقف أم الدحداح كذلك، فإذا كان أبو الدحداح رجلاً كريماً جواداً فذلك كثير بين الرجال، ولكن أن يبلغ الجود بأم الدحداح أن تبارك عمل زوجها وتشجعه فهو ما لم نعتده بين النساء اللواتي يمتلكهن الخوف على مستقبلهن ومستقبل أولادهن، بسبب قلوبهن الرقيقة الضعيفة، الواجفة الوجلة المشفقة.

     إن أبا الدحداح جادَ ببستانيه اللذين لا يملك سواهما، لكن الرسول الكريم ﷺ طلب منه أن يحتفظ بواحد منهما، فاختار الأحسن وجاد به، واحتفظ بالأدنى لنفسه وعياله، وعاد مسرعاً إلى حيث أم الدحداح وصغارها فوجدهم في أحسن البستانَين، أي الذي تبرع به فأخذ يقول مخاطباً زوجته:

هداكِ ربي سبــــل الرشـــاد     إلى سبيل الخيـــر والســـداد
بِيـــني من الحــــائط بالوداد     فقد مضى قرضاً إلى التنــاد
أقرضته الله على اعتـــمادي     بالطوع لا منّ ولا ارتــــداد
إلا رجاء الضِّعف في المعاد     فـارتحـــلي بالنفس والأولاد
والبِرُّ لا شــــك فخيــــر زاد     قــــدمه المرء إلى المعـــــاد

     ترى أَبَكَتْ أم الدحداح إذ علمت أن زوجها جاد بواحد من بستانيه في سبيل الله؟ أتذمّرتْ لأنه جاد بالأحسن واحتفظ بالأدنى؟ أطَفِقَتْ تسأله عن الصغار ومستقبلهم وتخوّفه ما قد يلاقون من عنت ومشقة؟

     إن هذه المرأة المسلمة حقاً، لم تفعل شيئاً من ذلك قط، بل سارعت تقول لزوجها: ربح بيعك، بارك الله لك فيما اشتريت!.. وأنشأتْ تقول:

بشّــــرك الله بخيــــرٍ وفــــرَحْ     مثـــلك أدّى ما لديه ونصَـــحْ
قد متّــــع الله عيــــــالي ومنح     بالعجوة السوداء والزهو البلح
والعبـــد يسـعى وله ما قد كدح    طول الليالي وعليه ما اجترح


     ما أروع جوابكِ يا أم الدحداح!، وما أكرم ما قابلتِ به زوجك الجواد! ألا بارك الله في الذي فعلتِ وجزاكِ خير الجزاء.

     إن أم الدحداح لم تكتفِ بما فعلت، بل أقبلت على صبيانها تُخرِجُ ما في أفواههم من تمر وتنفض ما في أكمامهم، ذلك أنها شعرت أن البستان ما عاد لزوجها، فلا يحل لها أن تأكل منه، لا هي ولا أولادها، ثم مضت بهم نحو البستان الآخر.

     موقف الرجل عظيم، وموقف المرأة أعظم، وما أجمل الجزاء متمثلاً بقول الرسول الكريم ﷺ: «كم من عذق رداح، ودار فياح، لأبي الدحداح»! أي في الجنة. والحديث صحيح على شرط مسلم، أخرجه أحمد (3/146).

     إن صورة أم الدحداح هي صورة المرأة المسلمة حقاً، التي تغلغل فيها الإيمان حتى أعماقها، فعرفت معنى الحياة، وعرفت وظيفة المال، وأدركت أن الهدف الأكبر للمسلم هو رضوان الله عز وجل. وهي صورة مشرقة وضّاءة، منيرة لألاءة، كثيراً ما نلتقي بمثيلات لها كريمات، مثل تلك المرأة المسلمة التي قيل لها: إن زوجها الذي يعولها قد استشهد فهتفت بهذه القولة النادرة التي تنتظر بيان قلم مؤمن بارع ليبدع فيها ويجود، قالت: "لقد عرفتُه أكّالاً، ولم أعرفه رزّاقاً، ولئن ذهب الأكّال لقد بقي الرزاق"، أيّ كلمة هذه الكلمة؟ أيّ دلالات تحمل؟ بأيّ معان نبيلة، وأحاسيسه ضخمة، ومشاعر متفوقة تجيش وتمتلئ؟

     إنها حقاً لأكبر من التعليق، خاصة في مثل هذا المجال القصير، وإني لأقدمها هدية لأدباء العربية نموذجاً لما يمكن استلهامه من كنوز التراث، بدل أن يولّوا وجوههم قِبَلَ الشرق أو الغرب، مستلهمين أساطير اليونان القدماء، التي هي غريبة عن حسّنا من ناحية، والتي هي ضلالات وخرافات وأكاذيب من ناحية أخرى، كأسطورة بروميثيوس، أو سيزيف، أو أوديب، أو هرقل مثلاً. ولا تقلّ رموز أخرى كالصلب والفداء والخطيئة وما إلى ذلك غرابةً عن حسّنا من ناحية، وبُعداً عن الصواب والحق والصدق من ناحية أخرى، عن رموز اليونان القدماء، ومع ذلك لا تخطئ أن تجدها لدى هذا وذاك من المتأدبين والأدباء الذين يتوهمون أنهم بذلك يُضفون على أنفسهم طابع الجِدة والابتكار، ناسين أن كل أدب ليست فيه أصالة، وليست فيه اهتمامات كبيرة مصيره إلى الفناء العاجل وإن طُبِعَ على ورق أنيق، وحرف جميل، وغلاف جذاب فإن القانون الذي يحكمه يجعله يمضي بسرعة بالغة من المكتبة إلى التلف، ومن المطبعة إلى المقبرة.

*****

الدعوة إلى البذل في الإسلام

الدعوة إلى البذل في الإسلام

     ينادي الإسلام بالدعوة إلى الخير والجود، والصدقة والإنفاق، نداءً قوياً تنهزم معه في النفس الإنسانية بواعث الشح والبخل، والأثرة والحذر، ووسوسة الشيطان في التخويف من الفقر، فالصدقة كما جاء في الحديث الشريف لا تنقص مالاً قط، والإنفاق في سبيل الله تعالى له ثواب يتضاعف ويزداد، فإذا بالدرهم الواحد، وقد آتى أكله سبعمئة درهم أو أكثر حين ينفق في سبيل الله بصدق وإخلاص، يقول عز وجل: ﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:261].

     ويقول جل شأنه في الحث على الثقة بجود الله وكرمه، والحذر من الشيطان ووسوسته وتخويفه بالفقر: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًاۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:268]. ويعمّمُ الإسلام الدعوة إلى الخير، ويوسّع ميدانها فلا يقصرها على المال فحسب، بل يحث عليها كل مسلم فقيراً كان أم غنياً، أما الغني فيفعل الخير بماله وبمكانته، وأما الفقير فيفعل الخير بيده وقلبه، ولسانه وعمله، ولن تجد في الإسلام من لا يستطيع أن يجود في ميادين البر والخير أياً كانت مكانته ورزقه.

     إن الإسلام يحرر وجدان المسلم من خوف الفقر، ويعتق روحه من كثرة التفكير فيه، حين يطلب إليه أن يَكِلَ أموره إلى الله العلي القدير الذي لا حدَّ لغِناه العظيم، وجوده الواسع، وما من ريبٍ أن المرء الذي يظل يحيا في خوف من الفقر يظل فقيراً مهما امتلك، ولذلك فالغنى الحقيقي هو غنى النفس، وما أجمل قول الشاعر:

ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقرٍ فالذي فعل الفقرُ

     وترافق علمية التحرير الروحي من أشباح الفقر، وأوهام الفاقة، ووسوسة الشيطان، عملية شحنٍ لا حدَّ لها بالثقة واليقين، والأمل والرجاء، مما يبعث على الجود والتسابق في الخير.

     لمّا نزل قول الله تعالى: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةًۚ﴾ [البقرة:245]، قال صحابي هو أبو الدحداح: أوَ يستقرض الله من عبد يا رسول الله؟ فقال ﷺ: نعم. فقال أبو الدحداح: امدد يا رسول الله يدك، فأشهَده أنه تصدق ببستانه الذي لا يملك غيره، وكان فيه سبعمئة نخلة مثمرة، ثم عاد إلى زوجه، وكانت تقيم مع أولادها في هذا البستان فأخبرها بما صنع، فغادرت هي وأولادها البستان وهي تقول: ربح بيعك يا أبا الدحداح.

     ولقد كان مما شكاه الفقراء إلى النبي ﷺ أن الأغنياء يسبقونهم في فعل الخير إذ يتصدقون بأموالهم، ولا يجد هؤلاء الفقراء ما يتصدقون به، فبيّن لهم رسول الله ﷺ أن فعل الخير ليست وسيلته المال فحسب، بل كل نفع للناس فهو من عمل الخير فقال: «إن لكم بكل تسبيحةٍ صدقة، وأمرٍ بمعروفٍ صدقة، ونهيٍ عن المنكر صدقة، وفي إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وأن تصلح بين اثنين صدقة، وأن تُعين الرجل على دابته فتحمله عليها صدقة». (رواه البخاري ومسلم).

     وهكذا يفتح الإسلام أبواب الخير للناس جميعاً حتى لَيستطيع أن يفعله العامل والتاجر، والفلاح والجندي، والتلميذ والأستاذ، والرجل والمرأة، والشاب والعجوز، وجميع الناس، دون أن تحول ظروفهم الصحية أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، عن المساهمة في إشاعة البر، وبذل الخير، وصنع المعروف، ومساعدة الآخرين، وهكذا يسمو الإسلام بالناس سموّاً بالغاً ويرفعهم إلى آفاق كريمة من النزعة الإنسانية الكاملة، إذ يجعل البر لجميع الناس أياً كانوا وذلك كما يقول الرسول الكريم ﷺ: «الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله» (حديث ضعيف، رواه البيهقي)، وبذلك يُحدِث الإسلام لدى أتباعه نقلة واسعة ضخمة في البر ومفهومه وميادينه، تماماً كما أحدثها في شتى الميادين الأخرى وعلى جميع الأصعدة والمستويات.

     ولمّا كان الإنسان يحب نفسه قبل كل شيء بفطرته وطبيعته، خاطب الإسلام النفس الإنسانية بما يحبب إليها البر والخير عن طريق النفع الذاتي للنفس الخيّرة المعطية، إنه يخاطب كل إنسان بأن فعل الخير يعود نفعه على مَنْ يفعله قبل كل شيء، يقول الله عز وجل: ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْۚ﴾ [البقرة:272]، ويقول: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾ [فصلت:46]. ولا ريب أن لهذا الأسلوب أثره الملحوظ في النفس الإنسانية فيتحرر البخيل من شحِّه، ويزداد الكريم كرماً ويسخو الجواد، مما يعود بأحسن الثمار وأكرم النتائج.
****

منافق في حلقة سلمان وصهيب وبلال

منافق في حلقة سلمان وصهيب وبلال

     جاء أحد المنافقين إلى حلقة فيها سلمانُ الفارسي، وصهيبٌ الرومي، وبلالُ الحبشي، فقال: الأوسُ والخزرج قاموا بنصرة هذا الرجل يعني محمداً ﷺ، فما بال هؤلاء؟ يعني بلالاً وصهيباً وسلمان. فقام إليه الصحابي الأنصاري الكريم معاذُ بن جبل فأخذ بتلابيبه، ثم أتى النبيَّ ﷺ فأخبره بمقالته. فقام رسول الله ﷺ مُغْضَباً يجرُّ رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي أَنِ الصلاة جامعة، وهو تعبير يُقْصَدُ به الاجتماع العام، فخطب في الناس فقال: «يا أيها الناس إن الربَّ واحد، والأبَ واحد، وإنَّ الدينَ واحد، ليست العربية بأحدكم من أبٍ ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلّم بالعربية فهو عربي»[1].

     إن المرء ليكادُ يلمحُ في هذه الحادثة سِرّاً كريماً جعل ثلاثة من الصحابة في حلقة مجتمعين ليسوا من العرب، ليمرَّ بهم منافق، فيقولَ ما يقول، ويكونَ المآل أن يخطبَ رسول الله ﷺ، ليقررَ في خطابه ذاك، أصلاً كبيراً من أصول الإسلام، وقاعدةً راسخةً من قواعده الأصيلة.

     الصحابة الذين قال عنهم المنافق ما قال هُزْءاً بهم وسخرية، هم بلالٌ وصهيبٌ وسلمان، فهم جميعاً من غير العرب، وهم يظهرون في المجتمع الإسلامي الأول، كما لو كانوا ممثلين لأممهم الأصلية التي جاؤوا منها، فبلال يمثل الأمة الحبشية، وصهيب يمثل الرومان، وسلمان يمثل الفرس. وإنّ في هذا التمثيل إشارةً كبرى إلى عالمية الدعوة الإسلامية، وإنسانية مبادئها، وتخطّيها لحدود الأعراق والأصقاع، والأجناس والبلدان، واللغات والألوان. هذا معنى كريم، يمكن لنا أن نلمسَه في هذه الحادثة التاريخية التي سقناها في مطلع هذا الحديث.

     ويمكن لنا أن نلمس معنى كريماً آخر، وذلك في أن يتصدى للرد على المنافق والأخذ بتلابيبه أي القبضِ على ثيابه من جهةِ نَحْره، صحابيٌّ آخر من غير هؤلاء الثلاثة وهو معاذ بن جبل الذي قد يتراءى للإنسان أنَّ ما قاله المنافقُ لا يمسه شخصياً، فهو عربي أنصاري من أهل المدينة المنورة، لكن الأمر ليس كذلك، فالقضية ليست قضية اعتداء على شخص فحسب، بل هي أخطر من ذلك، إنها اعتداء على مبدأٍ آمن به معاذ، كما آمنَ به الصحابة الثلاثة، لذلك هو مسؤول عن الدفاع عن حَوْزته، بنفس الدرجة التي نرى الصحابة الثلاثة مسؤولين عنها، سواءً بسواء، فما تزيدُ مسؤوليةُ سلمانَ وصهيب وبلال، وإن كانت الإساءةُ الشخصية قد وُجِّهت إليهم في الأساس، عن مسؤولية معاذ وغير معاذ، فالجميع مسلمون، والجميع مسؤولون عن إسلامهم بدرجةٍ واحدة من المسؤولية، بقطع النظر عن أصلٍ أو بلد، كان إليه الانتماءُ الأول.

     ومن أجل ذلك تحرَّك معاذ ليرد على المنافق قولتَه السيئة، وسكت كلٌّ من سلمانَ وصهيبٍ وبلال. وإني لأرى التحرك على هذه الصورة أبلغَ مما لو كان العكس، فربما ظنَّ ظانٌّ لو تحرك أولئك الثلاثة أو واحد منهم وسكت الآخرون ممن لم يُوَجَّه إليهم الحديث أن الأمرَ حميّةٌ لكرامةٍ شخصية اعتدي عليها فحسب، لكنَّ تصرفَ معاذ أبطلَ أمثال هاتيك الظنون والتأويلات بحيث يمكن للمرء أن يجزمَ مع تصرفِه الكريم الراشد، أنَّ ما فعله، إنما كان دفاعاً عن العقيدةِ وحراسةً لها، وحمايةً لمعانيها الخالدة، أن يعكرَ صفوها خبيث ماكر، أو منافق لئيم.

     وما يغيبُ عن المرءِ صنيعُ رسول الله ﷺ، وما فيه من دلالاتٍ غنية جداً بالعبر والدروس، فهو قد دعا المسلمين إلى اجتماعٍ عام، ليعلنَ في هذا الاجتماع ما يُحْبِطُ مكيدةَ المنافقِ اللئيم من ناحية، وهذا هو الأمر القريب الذي يُطفئُ الشرَّ ساعةَ اتقاده، وليُرسِيَ كذلك أصلاً كريماً من أصول الإسلام من ناحية أخرى، وهو الأمر الهام البعيد الذي يتجاوزُ حدودَ المشكلة الوقتية التي أثارها المنافق اللئيم، بحيث يثبتُ ويتعمق، ويقوى ويترسّخ، مبدأً كريماً من مبادئ الإسلام، وقاعدةً راشدة من قواعده الكبرى، تبقى على توالي الأيام، وتعاقب السنين حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها، وهو ما قاله ﷺ: «يا أيها الناس إن الربَّ واحد، والأبَ واحد، وإنَّ الدينَ واحد، ليست العربية بأحدكم من أبٍ ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلّم بالعربية فهو عربي».

     هي كلمة وجيزة لكنها واحدة من جوامعِ كَلِمِهِ ﷺ، يعلنُ فيها توحيدَ الله عز وجل بادئَ ذي بدء، ويقررُ بالتالي وحدةَ الدين الواحد الذي أكرمنا به الربُّ الواحد، ووحدةَ الأصلِ الذي خَلَقَنا عليه من أبٍ واحد. ثم يعلنُ حقيقةَ اللغة العربية في الإسلام، فهي مفتاحُ الانتماءِ إلى العرب من كل مسلم ينطق بها، فيتمُّ الانتماء بقطع النظر عن الأب والأم، وهو مفتاحٌ راشدٌ كريم ميزتُه الكبرى أنه يمنحُ الفرصةَ للجميع، ويُلغي كلَّ احتكار خاص يحاول بعضُ المتعصّبين أن يجعلوا منه جداراً يسمح بدخول بعض الناس، ويمنع آخرين.

     ومن العبر التي ينبغي ألّا تغيب عنا في هذه الحادثة استشعارُ معاذ بن جبل لخطورة ما قال المنافق، وتصرفه السريع، ثم تصرفُ رسول الله ﷺ، الحاسمُ القاطع، فهو قد دعا إلى الاجتماع العام تنبيهاً لنا على خطورة القضية، وأنها لا تحتمل أيَّ تأجيل لأنها تتصل بأسس الإسلام، وأهدافه الكبرى في الحياة التي يمكنُ تلخيصُها بأنها إسعادُ الإنسان في دينه ودنياه بتحريرِه من كلِّ العبوديات التي تؤذيه، وذلك بأنْ يُخْلِصَ عبوديتَه لله عز وجل وحدَه، فينجو من كلِّ عبوديةٍ لسواه، فتتمُّ سعادتُه في دينه ودنياه على شتّى المستويات، ابتداءً من الفردِ، ومروراً بالأسرةِ والجماعة، وانتهاءً بالحضارة.

-------------
[1] حديث ضعيف جداً، الألباني، السلسلة الضعيفة، الرقم: 926.

خلفاء العدل والرشد

خلفاء العدل والرشد

     حين بويع أبو بكر الصديق رضي الله عنه خليفةً على المسلمين بعد وفاة رسول الله ﷺ بدأ عهدَه الراشد المبارك بقوله للناس: "لقد وُلِّيتُ عليكم، ولست بخيركم، إن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسولَه، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".

     وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال يعلِّمُ الناس حقوقهم تجاه حاكميهم: "يا أيها الناس إني والله ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشارَكم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فُعِلَ به شيءٌ من ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لأقصَّنَّه منه. فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين أرأيتَكَ إنْ كان رجلٌ من أمراء المسلمين على رعيته فأدَّبَ بعضَ رعيته، إنك لتقصُّ منه؟ قال عمر: إي والذي نفس عمر بيده إذاً لأقصَّنَّه منه، وكيف لا أقصُّ منه وقد رأيت رسول الله ﷺ يُقِصُّ من نفسه، ألا لا تضربوا الناس فتذلوهم، ولا تجمِّروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفّروهم".

     وكتب عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى جميع الأمصار: "إني آخذ عمّالي بموافاتي كل موسم، وقد سلَّطتُ الأمةَ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يُرْفَعُ عليَّ شيءٌ ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته. وقد رَفَعَ إليَّ أهلُ المدينة أن أقواماً يشتمون ويضربون، فمن ادّعى شيئاً من ذلك فليوافِ الموسم يأخذ حقه حيث كان؛ مني أو من عمالي".

     هذه شواهد ثلاثة من العصر الراشدي الزاهر، يمكن لك أن تتخذَ منها وثائقَ ناطقة على عظمة النظرة التي كان الإنسان يُعامَلُ على هديها، بحيث تُصانُ كرامته وتُحْفَظ، فلا يكون محلَّ أيِّ سوء أو احتقار، أو أذى أو مهانة.

     إن هذه الشواهد أشبهُ شيءٍ بالبيانات الوزارية التي تذيعها الحكومات عما تنوي أن تفعله وتقوم به، فالأمر هنا أمرُ اتجاه عملي، وصيغةٍ تطبيقية، وسلوكٍ تنفيذي، أما الأسس والمنطلقات فهي ما جاء في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله الكريم ﷺ مما مرَّ بنا الحديثُ عنها من قبل.

     ولقد شهدتْ حياةُ الناس، الواقعية اليومية تطبيقَ هذه المبادئ بشكل عملي ملموس في السلوك اليومي في المدينة المنورة، عاصمة الإسلام ومَأْرِزِه، وفي بقية الديار التي كان يحكمها المسلمون. وإن الأمثلة على صحة هذا التطبيق وصِدقه لكثيرةٌ حقاً، كلها تشهد بصدق هذا التطبيق وجديته.

     فقصة الغلام القبطي الذي يشكو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لطمة من ابن فاتح مصر وحاكمها عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ معروفة مشهورة متداولة.

     وقصةُ جَبَلَة بن الأيهم مع الرجل الفزاري معروفة هي الأخرى، وقل مثلَ ذلك عن مئات القصص الأخرى بل آلافِها. وحسبك أن الخليفةَ الراشد الرابع عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان يختصمُ إلى قاضيه مع رجل ذِمِّي حولَ درعٍ فقدها، فيجلس مع الذِّمّي عند القاضي الذي يحكمُ بالدرع للذِّمّي لأن الخليفة ليست لديه بيّنةٌ تثبت أن الدرع له.

     إننا لا نخطئ أن نلمس مدّاً تحررياً عميقاً أطلقه الإسلام في أرواح الناس وضمائرهم، فإذا بهم يستشعرون كرامتهم بإباء، وإنسانيتهم باعتزاز، وإذا بهم -حاكمين ومحكومين، مسلمين وغيرَ مسلمين- أقوى الأدلة على أصالة المنهج الإسلامي وجدّيته في التطبيق، بحيث جعل إحساس الجميع بكرامتهم الآدمية من أولى وأهم البديهيات في حياتهم.

     فلعل الفتى القبطي صاحبَ الشكوى المشهورة كان لا يزال يحمل على ظهره آثار سياطِ الرومان، لكنَّ موجةَ التحرر النفسي والروحي، التي أطلقها الإسلام أنستهُ هاتيك السياط، وأطلقتهُ إنساناً حراً كريماً، فإذا به يَفِدُ من مصر إلى المدينة المنورة للشكوى من لطمة فحسب؛ لدى الخليفة العظيم الذي عَلَّمَ شعبَ مصر الكرامة بعد أن فقدها تحت سياط الرومان، ولا عجب في ذلك فإن الإسلام قد غيّر حياة الناس ورفعها إلى الأعلى حتى مَنْ كان منهم غيرَ مسلم.

     صحيحٌ أن هذا المستوى الرفيع لم ترتفع إليه الإنسانية، ولكنْ صحيحٌ كذلك أن الخط الكبير الذي خطّهُ الإسلام في كرامة الإنسان وحريته وحقوقه قد استقر في الوجدان البشري، وترك فيه آثاراً عميقة لا تزال تمارس دورها حتى بعد توقف المد الإسلامي، فإذا به يعلن مثلاً في عصرنا الحاضر ما سُمِّيَ "حقوق الإنسان".

     صحيحٌ أن حقوق الإنسان في عالمنا اليوم تُنْتَهَكُ كثيراً على مستوى الأفراد والشعوب في شتى القارات، ولكن صحيحٌ كذلك أن الإحساس بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان قد تأصل في الوجدان البشري ورسخ، وأن هذا الإحساس عونٌ للإسلامِ كبير، يساعدُه على التقدم والزحف حين تنطلق أمواجُه في امتدادٍ جديد إن شاء الله، لينقذَ الإنسانيةَ الضائعة كما أنقذَها من قبل.

*****

الشهداء.. الأموات الأحياء

الشهداء.. الأموات الأحياء

     لمّا كان لموت الشهيد في سبيل الله عز وجل، دورٌ إيجابي بالغ يتجاوز حدودَ سعادته الشخصية، إذ يفوز بجنة الله تعالى ورضوانه العظيم، ليتصل بحياة المسلمين القائمة في هذه الدنيا، فيسهمَ في تصحيح وجهتها، وجلاء أهدافها، ودفع موكب الخير فيها إلى الأمام، جاء التوجيهُ القرآني الكريم يكشف لنا عن حقيقة كبيرة قد ننساها ونحن نقيس الأمور إلى ظواهرها المادية فحسب، هذه الحقيقة هي أن الشهيد حيٌّ، حيٌّ وإن بدا أنه مات، حيٌّ وإن خمدت منه الأنفاس، حيٌّ على صورة من الصور، اللهُ عز وجل أدرى بها وأعرف. يقول جل شأنه: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًاۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169-171]، إنه نهي كريم من ربٍّ كريم أن نَصِفَ مَن استشهد في سبيل الله بالموت، فهم أحياء بشهادة الله تعالى، وهو خالق الموت والحياة.

     هم قُتِلوا وماتوا، تلكم صورةُ الأمرِ الظاهريةُ فحسب، ولكنهم في حقيقة الأمر ما زالوا يخدمون الفكرة التي استشهدوا من أجلها، فهي ترتوي بدمائهم وتمتد، وتزحف وتتحرك، وهذا عمل من أعمال الحياة. إن فاعليتهم في نصرة الحق الذي قُتِلوا من أجله فاعلية مثمرة مؤثرة تتسع وتكبر، وهذه الفاعلية التي يمارسونها بعد موتهم عملٌ من أعمال الحياة لا ريب في ذلك.

     ثم إن الناس بعد استشهادهم يتأثرون بهؤلاء الشهداء، ويقتبسون من بطولتهم، وتأثُّرهم هذا يقوى ويمتد، واقتباسهم هذا يتعاظم ويستمر، فالشهداء إذَنْ عنصرٌ فعّال، دافعٌ مؤثر، يسهم في تكييفِ الحياة وصياغتها، وهذا عملٌ من أعمال الحياة لا يجادل في ذلك إلّا مكابر.

     الذين يموتون من غيرِ الشهداء يكونون في خمودٍ وتوقف وانقطاع وذلكم هو الموت، لكن الشهداء يكونون في فاعلية ونمو، وامتداد وتحرك، يظهرُ ذلك فيما تستفيده حركةُ الإيمان في الأرض من بعدهم بالذي قدّموه رخيصاً في سبيل الله عز وجل، وتلك هي الحياة.

     الشهداء أحياءٌ إذَنْ ولكنْ لا نشعر نحن بذلك، لأن سرَّ هذه الحياة فوق إدراكنا البشري المحدود القاصر، وما أروع ما قاله الشهيدُ العظيم سيد قطب رحمه الله عنهم: "أحياء، ومن ثَمَّ لا يُغَسَّلون كما يغسل الموتى، ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها، فالغسلُ تطهيرٌ للجسد الميت وهم أطهارٌ بما فيهم من حياة، وثيابُهم في الأرض ثيابُهم في القبر لأنهم بعدُ أحياء، أحياء فلا يَشُقُّ قتلُهم على الأهل والأحباء والأصدقاء، أحياء يشاركون في حياةِ الأهل والأحباء والأصدقاء، أحياء فلا يَصْعُبُ فراقهم على القلوب الباقية خلفَهم، ولا يتعاظَمُها الأمر، ولا يَهُولُها عِظَمُ الفداء، ثم هم بعد كونهم أحياء، مُكْرمون عند الله، مأجورون أكرمَ الأجر وأوفاه. ولكن مَنْ هم هؤلاء الشهداء الأحياء؟ إنهم أولئك الذين يُقْتَلون في سبيل الله، في سبيل الله وحده، دونَ شركةٍ في شارةٍ ولا هدفٍ ولا غايةٍ إلا الله، في سبيل هذا الحق الذي أنزله، في سبيل هذا المنهج الذي شرعه، في سبيل هذا الدين الذي اختاره، في هذا السبيل وحده لا في أي سبيلٍ آخر، ولا تحت أي شعار آخر، ولا شركةٍ مع هدفٍ أو شعار. وفي هذا شدّدَ القرآن، وشدّدَ الحديث، حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر غير الله، وهذا هو الجهاد، وفيه وحده تكون الشهادة، وتكون الحياة للشهداء".

     لقد كان استقرار هذه المعاني العظيمة في خَلَدِ المسلمين قوياً جداً، راسخاً أعظمَ ما يكون الرسوخ، فكان أعظمُ أملٍ شخصيٍّ للواحدِ منهم أن يقضيَ شهيداً في سبيل الله عز وجل. لمّا كان يومُ أحُد رفعَ رسولُ الله ﷺ النساءَ والصبيان والعجزة إلى آطامِ المدينة المنورة تحسّباً لما قد يحدث، وأخذاً بالحيطة والحذر. وفي واحد من هذه الآطام كان عجوزان مسلمان طاعنان في السن هما اليَمانُ بن جابر، وثابتُ بن وَقْش، كانا معذورين عن الخروج للجهاد، لكنَّ في كلٍّ منهما نفساً كريمة عيوفَاً، فإذا بهذه النفس تحمل صاحبَها على الخروج من الأطم، واللحاق بالمجاهدين عند أحُد، قال أحدهما لصاحبه: "لا أبا لك، ما ننتظر؟! فوالله ما بقي لواحد منا من عمرِه إلا ظِمْءُ حِمار، إنما نحن هامةٌ اليومَ أو غداً، ألا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله ﷺ؟".

     وانطلق العجوزان من الحصن، ودخلا حومة الوغى، جسماهما واهنان عاجزان، لكنَّ روحيهما فتيّتان ناضرتان، وما هي إلا جولةٌ وأخرى، حتى فاء الشيخان الكريمان إلى حيثُ المقيلُ الأخير هانئين سعيدين فقد فازا بالشهادة، وسارعا إلى الموت، ولم ينتظرا قدومَه المرتقب حيث لا مفر ولا مهرب.

     ذلكم مَثَلٌ كريم من حرص المسلمين على الشهادة في سبيل الله عز وجل، ذلك أنها سبب للفوز برضوان الله تعالى وجنته من ناحية، ثم هي دفعٌ لعجلة الحياة نحو الأمام حيثُ موكب الخير والهداية والإيمان من ناحية أخرى. لا، ليس القتلُ في سبيل الله عز وجل، وارتفاعُ المسلمِ على الدنيا وإيثارُه الآخرةَ، عملاً سلبياً، وهروباً من تكاليف الحياة وأعبائها لأنه ارتفاعٌ إلى أشرفِ الآفاق، واحتمالٌ لأكبر المسؤوليات، وقيامٌ بحق الأمانة، ثم هو بعد ذلك كلِّه حياة، حياةٌ بكل ما في كلمة الحياة من معانٍ ودلالات، حياةٌ يُكْرَمُ بها الشهيدُ بعد مغادرته الدنيا، وحياةٌ تستمدُّ منها قافلةُ الحياةِ المسلمة وقوداً جديداً، ونماءً وفاعلية، وقدرةً على استئنافِ الجهاد.

*****

حب الشهادة عند المسلمين

حب الشهادة عند المسلمين

     لقد كان حُب الموت في سبيل الله، وسلوكُ السبيلِ المؤدية إلى ذلك سبباً ضخماً من أسباب نصرِ الزحوف الإسلامية في مسيرتها الكبرى من حدود الصين إلى جبال الأندلس، وعاملاً نفسياً ذا أثرٍ مادي ملموس، بحيث تحتلُّ قيمتُه مكانةً كبيرة ليست لكثير من العوامل الظاهرة الأخرى من عددٍ وعُدَّة، وموقعٍ ورجال.

     إنها صنعةٌ برَّزَ فيها المسلمون وسبقوا، وتألّقوا وارتفعوا، فإذا بهم في السماء كرامٌ مقبولون، بررة أتقياء، وإذا هم في الأرض سادةٌ غالبون، ظاهرون حاكمون.

     ولا تخطئُ أن تجدَ في التاريخ الإسلامي صوراً في غاية العجبِ والدهشة، هي في حقيقتها مظاهرُ كريمةٌ لحبِّ الموت والتعلق به، وإتقانِ صناعته واكتسابِ مهارته. ولعله من أجل ذلك بوسعنا أن نلمسَ في التاريخ الإسلامي وحدَه هوايةً تتصلُ بهذا المضمار ليس لها مثيل، وحقاً إنها لَموضعُ غرابةٍ بالغة جداً، لولا أنها موصولةُ العرى، وثيقة الوشائج بالذي نتحدث عنه من حبِّ الموتِ وإتقانِ فنِّه.

     هذه الهواية، هي هوايةُ جمعِ غبارِ المعارك، وهي أن يعمدَ الرجلُ إلى نَفْضِ ثيابه بعدَ عودتهِ من المعركة وجَمْعِ ما يكون فيها من غبار، وحِفْظِه في مكانٍ أمين، حتى يضيف إليه ما يجمعُه من غبارِ معركةٍ أخرى وهكذا.

     نلتقي بهذه الهواية العجيبة عند سيف الدولة الحمداني الذي اجتمع من غبارِ معاركه ما يكفي لصناعة لَبِنَةٍ صغيرة أوصى أن توضعَ تحتَ رأسه في قبره لتكون شاهداً له عند ربّه عز وجل. ونلتقي بها عند البطل الأندلسي المشهور المنصور بن أبي عامر الذي خاض أكثر من خمسين معركة لم تنكسرْ له فيها رايةٌ قط.

     شوقٌ نفسي عجيب للموت، على أن يكونَ شهادةً في سبيل الله عز وجل كان يمتلك المسلمين الذين تعمّق الإيمانُ وجدانَهم، فترى الواحدَ منهم يحذرُ ميتةَ الفراش أشدَّ الحذر، ويشجعُ نفسَه على الموت ويصبِّرها عليه إذا لحقها الخوف، فهذا قَطَرِيُّ بن الفُجاءة يخاطب نفسه التي طارت شعاعاً، ويُهِيبُ بها أن تثبت:

أقـــولُ لها وقد طارتْ شعــــاعاً     من الأبطـــالِ ويحَكِ لنْ تُراعي
فإنــــكِ لو ســألتِ بقـــــــاءَ يومٍ     على الأجلِ الذي لكِ لنْ تُطاعي
فصبراً في مجـال الموت صبراً     فما نَيْـــــلُ الخلودِ بمســـــتطاعِ
سبيلُ الموتِ غــــــــايةُ كلِّ حيٍّ     فداعيــــــه لأهلِ الأرض داعي

     وهذا هو أبو دُجانةَ يحملُ سيفَ رسول الله ﷺ يوم أحُد ليقاتلَ به قتالاً يليق بما قطعه على نفسه من عهد حين سارع يأخذه بحقه، فلما سئل عن حقه قال: أضربُ به حتى ينحني، ومضى قد عصبَ رأسَه بعصابة حمراء، يقاتل قتالاً أشدَّ ما يكون القتال وأضرى، وهو القائل يوم أحُد، ولقد صدق فيما قال:

أنا الذي عاهَـــــــدني خليلي      ونحن بالسَّــفْحِ لـدى النخيلِ
ألّا أقــــوم الدهرَ في الكَيول     أضربْ بسيفِ اللهِ والرسولِ

     إن صناعة فنِّ الموت حظٌّ وافر، ونصيبٌ كبير، وهي سبيلُ الأمة إلى ما تؤمّل من نهوضٍ كريم، وغدٍ مشرقٍ لائق، وها هو ذا شوقي يقول:

بـــلادٌ ماتَ فتيتُـــــها لتحيــــــا     وزالوا دونَ قومِهــــــمُ ليَـــبْقوا
ومَنْ يْسقي ويشربُ بالمنـــــايا     إذا الأحرارُ لم يُسْقَوا ويَسقُوا؟!
ولا يَبْني الممالكَ كالضحـــــايا     ولا يُدْني الحقــــــوقَ ولا يُحِقُّ
ففي القتــــلى لأجيــــــالٍ حياةٌ     وفي الأســرى فدىً لهمُ وعِتْقُ
وللحريةِ الحــــمراءِ بــــــــابٌ     بــكلِّ يـــدٍ مضـــــرَّجةٍ يُــــدَقُّ

     إننا اليوم، أمة مبتلاة، تنوشها ذئاب الغدر والحقد من كل ناحية، وإذا كان هذا يلزمنا بأن نكون على أعلى حالات الوعي والحذر والترقب، ويهيب بنا أن نستخرج أقصى طاقاتنا لمواجهة الموقف الصعب والتغلب عليه، فإن في طليعة ذلك كله أن نعي ونلتزم بدقة القانون الرباني في الهزيمة والنصر الذي لا يحيد ولا يتخلف.

*****

الشهادة والشهداء

الشهادة والشهداء

     لا يخطئ المرء أن يلمح في ثنايا تراثنا الإسلامي، إنْ على مستوى النصوص والمبادئ النظرية، وإن على مستوى التطبيق العملي ما كان لإتقانِ صناعة الموتِ والبراعة فيها من حفزٍ إيجابي كريم للغلَبةِ والظهور، والمجدِ والسلطان في الدنيا، فضلاً عن أملِ الفوز بجنة الله عز وجل ونعيمها الخالد في الآخرة.

     فالجيل الرباني الفريد الذي ربّاه رسول الله ﷺ، والذي كان الترجمةَ العمليةَ لمبادئ الإسلام، قد حقق انتصاراتٍ مذهلة، وأمجاداً ضخمة، وصنع تاريخاً في غاية العظمة والتفوق، ما يزال يحارُ في تعليله كل مَنْ لا يرجع به إلى حقيقة الإيمان الكبيرة.

     إنَّ هذا الجيل كان عظيمَ التفوق في فنِّ الموت، بارعاً في هذه الصناعة الفريدة الغريبة، وإن هذا التفوقَ والبراعة كانا وراءَ حركتِه الضخمة الكبيرة في الأرض، دفعاً وحفزاً وقيادة. وإنك حين تمضي تتبعُ أخبارَه في هذا الصدد يُعجِزك جمعُها، فهي من الكثرة والانتشار والاتساع بحيث تؤودُ طاقةَ المرء على متابعتها، مما يدلُّ على أنَّ حوافزَها الكريمة التي كانت تقفُ وراءَها عظيمةُ الرسوخ، شديدةُ التمكن في ذلك الجيلِ الكريم.

     هذا هو عميرُ بن الحمام رضي الله عنه يقف في الصف المسلم يوم بدر يسمع تشجيع رسول الله ﷺ لكتيبةِ الإسلام الأولى، ويبشرها بالجنة جزاءَ كلِّ مخلصٍ يستشهدُ محتسباً صابراً، مقبلاً غير مدبر، فتظهرُ براعتُه في صناعة الموت، ويُلقي بتمراتٍ كان يأكلها وهو يقول: إنها لحياة طويلة أن أصبرَ حتى آكلَ هذه التمرات، أفَما بيني وبين الجنة إلّا أن يقتلَني هؤلاء؟! ويشيرُ إلى المشركين، ثم يشتدُّ نحو المعركة يصولُ فيها ويجول وهو ينشد:

ركضـــاً إلى الله بغيـــرِ زادِ
 إلّا التــقى وعملِ المعـــــادِ
والصبرِ في الله على الجهادِ
 وكلُّ زادٍ عُرْضَةُ النفــــــادِ
سوى التقى والبرِّ والرشــادِ

     ويظل في صِيالِه حتى يستشهد ويفوز.

     وهذا عمير بن أبي وقاص، أخو البطل المشهور سعد بن أبي وقاص، يحاول الاختفاء وراء أخيه قبيل معركة بدر حين أخذ الرسول ﷺ يستعرضُ جيشَه، خوفاً من أن يُرَدَّ ويُمْنَعَ من الخروج نظراً لصغرِ سنه، وبالفعل رآه الرسول الكريم ﷺ ومنعه فبكى. يا للروعة! بكى.. لا لأنه أُخْرِجَ قَسْراً إلى الجهاد، بل لأنه مُنِعَ من ذلك، ثم استحال بكاؤهُ إلى فرحٍ عميق حين جاءه السماحُ من الرسول ﷺ بالخروجِ مع الجيش، لقد خرجَ يستبقُ إلى الموت ويشتدُّ نحوَه، وكان من الصِغَرِ بحيث عَقَدَ له أخوه سعد حمائلَ سيفه، لكنه كان من عظيمِ إدراكه لحقيقة الموت، وتفوقه في فنّه بحيث اختاره الله عز وجل شهيدَ فداءٍ وتضحيةٍ وبطولة، يعطِّرها القرآن الكريم، ويطيِّبها الإسلامُ الخالد.

     وما نبأُ الغلامين الصغيرين، رافعٍ وسَمُرَة عنا ببعيد يوم أحُد، لقد أُعِيدا من مكانهما في الجيشِ لصغرِ سِنّهما، فأثبتَ أحدهما مقدرتَه على الرمي بالسهام فسُمِحَ له، وعندها سارع الثاني يعلن أنه قادرٌ على مصارعةِ صاحبه والتفوقِ عليه، وحين ثبت هذا بالدليل، كان السماحُ لهما معاً من الرسول الكريم ﷺ.

     أَلَا إنه الجيلُ الفذ الذي ما شهدت الشمسُ أشرفَ وأكرم منه، الذي تَعَلَّمَ أن الموتَ قدرٌ غالبٌ نافذ ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ [النساء:78]، وتعلَّم كذلك أن المِيتةَ في سبيل الله تختلفُ عن كلِّ ميتةٍ أخرى ﴿ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ* وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: 157-158]. إن الآية الكريمة ميَّزت بينَ النوعين من الموت، بحيث تظل آمال المسلم الحق مشدودةً أبداً إلى النوعِ الأعلى الأكرم، موتِ الشهادة في سبيل الله عز وجل.

     وإن الإعجاب لَيَشُدُّكَ شداً مُحكماً، ويستأثر بانتباهك كلِّه ويستفرغُه ويستبدُّ به، وأنت ترنو ببصرك إلى ما كان يفعلُه المسلمون في الواقع العملي بصددِ النظرة إلى الموت ومعايشتِه.

     هذا عَمْرُو بن الجموح يوم أحُد، وقد كان في ساقه عَرَجٌ شديد يحاولُ أبناؤه ثَنْيَهُ عن القتال فيأبى، ويذهب إلى رسول الله ﷺ قائلاً: يا رسول الله، إن بَنِيَّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك إلى الجهاد، ووالله إني لأرجو أن أَخْطِرَ بعرجتي هذه في الجنة! وحين يأذن له النبي الكريم ﷺ بالخروج تمتلكه فرحةٌ عميقة، ويدعو بصدق وحرارة: اللهم ارزقني الشهادة ولا تَرُدَّني إلى أهلي، ثم يفوز بما يؤمل.

     وهذا عبد الله بن جحش رضي الله عنه يخرج في يوم أحُد وليس في أمانيه سوى رجاءٍ كبير أن يرويَ بدمِه الطهور ثرى الجبلِ الكريم، ويثوي عند سفحه شهيدَ صدقٍ ومَضاءٍ وتضحية، وكان رجاؤه يتعاظم، فإذا به يؤملُ أن يُمَثَّلَ به بعدَ استشهاده؛ أن يُجْدَعَ أنفُه، وتُقْطَعَ أذنُه، وتَعْبَثَ بوجهه الكريم أيدي الحاقدين الكافرين، ليزداد أجره وثوابه، وتعلو درجتُه عند الله عز وجل.

     لقد دعا قبلَ المعركة فقال: اللهم ارزقْني غداً رجلاً شديداً بأسُه، فيقتلُني، ثم يأخذني فيجدعُ أنفي وأذني، فإذا لقيتكَ قلتَ: يا عبد الله فيمَ جُدِعَ أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت! وحين دارت المعركة تحقق أمله العظيم فاستشهد على يد أبي الحكم بن الأخنس، ومَثَّلَ به المشركون.

     إن هذا الجيلَ العظيم ما كان يفعل ذلك هرباً من الحياة، وفراراً منها، بل حملاً لأمانة الإسلام، ونهوضاً بمستلزمات الرسالة، وقياماً بواجبات المسؤولية، وتَوْقاً إلى جنة الله عز وجل وعظيم رضاه. ومن أجل ذلك كان يستبق إلى الموت ولا يخافه ولا يهابه، وكيف يخافه ويهابه وهو يؤملُ أنْ يكونَ سببَ الانتقال إلى دار السعادة الخالدة الأبدية؟!

     إن فهمَ الجيلِ الرباني للموت بشكلٍ صحيح من خلالِ التصور الإسلامي الكريم، كان سبباً في تقدمِ الحياة، واكتسابِ الخيرِ مواقعَه فيها، فكان كلُّ مَنْ يجودُ بدمِه إنما يصنعُ الحياةَ بما يفعل، فهو إذ يودعُها ويخرجُ منها بلا رجعة، يهيئُ السبيلَ لأمتِه أن تفوزَ في كلِّ الميادين الأخرى كما فازت في فنِّ الموت.

     واليوم ونحن نطالبُ أمتَنا بالتقدمِ في كل الميادين لا ننسى قط أن نطالبَها بالتقدم في فن الموت والسَّبْقِ فيه، لأن ذلك سياجُها الذي يحوطُ إنجازاتِها الأخرى في الحياة أن تضيعَ أو يسطوَ عليها الآخرون، ولأنه من قبل ذلك سبيلٌ لرضوان الله عز وجل حينَ يتمُّ وفقَ شروط الإيمان، ورضى الله تعالى أكبرُ غايةٍ للمسلم في الحياة.

*****

الأكثر مشاهدة