الأحد، 2 يناير 2022

عميدان وفيان

عميدان وفيان

     هما طالبان وصديقان وفيان من دير الزور، درستهما عام «1386هـ/ 1966م»، وكانا طالبين في المرحلة الثانوية، في ثانوية أُمَيَّة، الأول منهما هو زهير، والثاني هو عزام.

     ودار الزمان دورة طويلة جداً حتى لقيتهما بعد أكثر من أربعين عاماً، أما زهير التويجري فقد لقيته في الرياض في شهر ذي الحجة «1428هـ/ ديسمبر 2007م»، فقد جاء لزيارة ذويه فيها، ثم التوجه إلى الحج، كان قد دخل الجيش في سورية، وتقاعد عن رتبة عميد، وحين لقيته بعد هذا الزمن الطويل عرفته وعرفني، وقلت له مازحاً: لماذا شاب شعرك وأنت لم تغب عني سوى أربعين عاماً!؟ شكرت له وفاءه وكرم نفسه، والتقينا عدة مرات وتسامرنا، وتعاونّا على نبش الذكريات.

     أما عزام دلّو، فقد دخل الجيش في سورية مثله مثل زهير، لكنه بعد عدة سنوات ضاق بتسلط النصيريين على الجيش وغير الجيش في سورية وظلمهم الآخرين عامة، ولأهل السنة وهم الأكثرية خاصة، فهرب إلى العراق الذي أكرمه، وأدخله الجيش، ومنحه الجنسية العراقية، حتى تقاعد عن رتبة عميد.

     وأكرمه اللَّه تعالى بالحج عام 1428هـ، وحين وصل جدة طفق يتصل بي يريد رؤيتي، وكان مستعداً لزيارتي في الرياض لكن تأشيرته لا تسمح له بذلك، وحاولت أن أحج معه، وهو ما يتيح لي رؤيته فلم أحصل على التصريح المطلوب لأني تأخرت في طلبه.

     وضاق صدره كثيراً، وأكثر من مهاتفتي، فوعدته أن أزور المدينة في فترة الحج، فإذا فرغ من نسكه التقينا فيها، وقد يسّر اللَّه تعالى ذلك، فتم اللقاء في الحرم النبوي الشريف على منوِّره أفضل الصلاة والسلام.

     عرف كلٌّ منا الآخر؛ مع أن الزمن فعل بنا ما فعل، فقلت له كما قلت لزهير: لماذا شاب شعرك وأنا لم أغب عنك سوى أربعين عاماً؟ كان يضحك ويبكي من السرور، وقبَّل يدي وأنا كاره، وحين لمته قال لي: لقد كنت تعاملنا معاملة طيبة، شكرت له كرمه ووفاءه ونبله.

     قلت له: سبق أن أرسلت لي علبة من المنِّ، فقال: وهذه علبة أخرى منه هدية لك أيضاً، تمنيت أن يكون اللقاء أربعين دقيقة، أي بمعدل دقيقة واحدة عن كل سنة!! لكنَّ العميد الوفي استأذن بعد دقائق، فلما استغربت أخبرني أن القافلة تكاد تنطلق عائدة إلى العراق، وفيها زوجته، فودعته، وأنا أعجب من تصاريف القدر، وسرعة الزمان، وخلوت بنفسي متأملاً معتبراً، ورأيت فيما رأيت أن السنوات الأربعين إغماضة عين، أو إغفاءة مجهود.

هل رأيته فعلاً؟

هل رأيته فعلاً؟

     منذ صباي وأنا أحلم أن أرى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في المنام، خاصة بعد أن مر بي الحديث الشريف الذي يقول: (من رآني فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي) (رواه البخاري ومسلم).

     وكان - ولا يزال - يرافق هذه الأمنية شعور بأن هذه الرؤية المأمولة فيها بشارة بالخير في الدنيا، والفوز في الآخرة.

     وأحياناً كنت آوي إلى الفراش متوضئاً، وأدعو اللَّه تعالى أن يكرمني بهذه الرؤيا، وربما ظللت أكرر الصلاة على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، حتى يغلبني النوم رجاء الفوز بما أود.

     وفي الليلة الفائتة، رأيت في المنام ما أود أو قريباً مما أود، رأيتني أخرج من إحدى الدور مسرعاً، لألتحق بمجموعة من الناس سبقتني إلى التجمع، بهدف الجهاد في سبيل اللَّه تحت قيادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم شخصياً.

     لم أر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولكن كل شيء في المنام كان يؤكد أنه سيقود المجموعة المجاهدة شخصياً، وكانت المجموعة قد سبقتني إلى التجمع لكنني كنت مسرعاً للالتحاق بها بهمة ونشاط.

     وعلى كل حال وجدت المنام بشرى سارة، وأولتها أني مسبوق إلى الخير، وأن رحمة اللَّه عون لي على اللحاق، وأولتها أيضاً أني بحاجة إلى المزيد من تصفية نيتي، وشحذ عزيمتي، ومغالبة أهوائي وأخطائي، وعساي أكون أقرب إلى رضوان اللَّه تعالى.

     ولعلي في منام آخر أرى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم رؤيا تامة، وأقبل يده الطاهرة، وأطلب منه الدعاء، ومن فرحتي بهذا المنام، سارعت إلى تأريخه فوراً، خوفاً من النسيان، فكتبت: «جدة - الأحد 9/ 2/ 1415هـ، 17/7/1994م».

لقاء ودود بعد أربعة عقود

لقاء ودود بعد أربعة عقود

     كان لي مجموعة من الزملاء الهنود أيام المرحلة الجامعية، وكان أحدهم من كيرالا في جنوب الهند، واسمه سيد محمد علي شهاب، وكانت تلوح عليه أمارات النبل والجاه والثراء، كان نحيفاً هادئاً مؤدباً أنيقاً، وكانت صلتي به جيدة جداً، وكنت أساعده في بعض أمور الدراسة التي يحتاج إليها، وأذكر أنني أهديته كتاب العقاد «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» فسرّ به، ثم جاء عام «1383هـ/ 1963م»، حين تخرجنا وذهب كل منا في سبيله.

     ودار الزمن دورة قصيرة مداها خمس سنوات، فشاء اللّه تعالى أن ألقاه، كنت في المدينة المنورة، وكنت في حرمها الشريف، صليت مع الإمام، ثم خرجت أمشي وأستروح وأنتظر الصلاة التالية، فإذا بنا وجهاً لوجه، كان قادماً من الهند بقصد الحج وزيارة المدينة المنورة، وحرمها الطاهر، وساكنها الأعظم محمد e، وشاء اللَّه تعالى الذي لا حد لقدرته؛ أن نلتقي رغم شدة الزحام، وتدافع الناس، وكثرة الوجوه، فرحنا وتمشينا وتعشينا، واستعدنا الذكريات السابقة، وحمدنا اللَّه تعالى على نعمة الأخوة، وافترقنا.

     ودار الزمن دورة طويلة جداً، فإذا به يهاتفني ويخبرني أنه في الرياض، فقد علم أني فيها، واستطاع من خلال زميل هندي آخر اسمه شعيب النجرامي يعمل في الدمام أن يحصل على رقم هاتفي فبادرني بالاتصال.

     في ضحى يوم الجمعة «12/ 4/ 1429هـ، 18/ 4/ 2008م» ذهبت إلى فندق قصر الرياض الذي أخبرني أنه فيه، ومن الجناح الذي يقيم فيه، والحاشية التي تحف به علمت أنه غني كبير، تقابلنا بعد هذه السنوات الطويلة فعرف بعضنا بعضاً؛ مع أن الشيب غيّر فينا ما غيّر، وبادرني بالسؤال: وكيف دير الزور؟ فابتسمت وقلت: ألا تزال تذكر؟

     وجلسنا معاً ننبش الذكريات، ونتحدث عن الأساتذة والزملاء، ويلخص كل منا للآخر في وقت قصير أمور حياته التي طالت وامتدت، سألني عن أولادي فأجبته، وأخبرني أنه أب لولدين وثلاث بنات، وأنه أبو «منوّر»، فقلت له: وأنا «أبو معاذ».

     كان من العسير بسبب وقته الضيق، وبرنامجه المزدحم، أن أحظى به في لقاء خاص يطول ويمتد، لقد جاء إلى الرياض بالأمس قادماً من الحجاز حيث أدى العمرة، وهو مسافر في الغد إلى الكويت، فدبي، فالهند، لذلك ودعته وفي النفس أشياء وأشياء.

     كانت الزيارة ودية، عابقة بالوفاء، أهديته بعض كتبي، فشكرني ودعاني لزيارته في كالكوت، في كيرالا.

     وصفه لي الأخ شعيب وهو هندي، كان زميلي وزميله في الجامعة بأنه بليونير لا مليونير، وأنه رجل مهم في ولايته، وقال عنه: إنه فيها صانع الرؤساء والحكام، فرجوت من اللَّه عزو جل أن يهيئ لي فرصة لزيارته لعلي من خلاله أضع نفسي - في حدود ما أقدر عليه - في خدمة المسلمين في كالكوت.

     في هذا الأخ الكريم أمارات نبل حقيقي، وسجايا فضل وكرم، وسلوك يدل على شرف المحتد، وطبيعة المروءة، ونقاء الطباع، تشعر أن ما حباه اللَّه تعالى به، من جاه وثراء لم يبطره، ولم يدفعه إلى الغرور، بل هو يتصرف به ومنه تصرف الشريف الأصيل، والسري النبيل، بدون مشقة أو تكلف، وكأنه الوردة الشذية تهب بفطرتها رائحتها الجميلة للآخرين.

     أكبرت فيه أنه ذهب إلى «تريم» في حضرموت لزيارتها، وما ذلك إلا لأنها بلد أجداده الذين هاجروا منها إلى الهند قبل قرون، والوفاء سمة الكرام، ومثل هذه الزيارة وفاء خالص، إن هذا الزميل الكريم منسوب إلى الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، فهو بذلك شريف من حيث النسب، كما أنه بسلوكه شريف من حيث التعامل.

     شكرت للأخ الكريم وفاءه، وعجبت من سرعة الزمان، وبعد أن عدت إلى البيت لأكتب هذه السطور، وجدتني أردد قول المتنبي:

كثيـــرُ حياةِ المرءِ مثلُ قليـلِها     يزولُ وباقي عيشِه مثلُ ذاهبِ

مناقشة الدكتوراه

مناقشة الدكتوراه

     ظلَلْتُ زمناً طويلاً أحلم بالدكتوراه، وذلك منذ حسمت اختياري وأنا لا أزال طالباً في نهاية المرحلة الثانوية في دير الزور، وهو أني سوف أدرس الأدب العربي في مصر، بدءاً بالبكالوريوس، وانتهاء بالدكتوراه والماجستير بينهما، وكانت نيتي أن أستمر فوراً في متابعة الدراسة العليا ودون انقطاع، وحين حصلت على البكالوريوس من قسم اللغة العربية في كلية الآداب، جامعة القاهرة عام  «1383هـ/ 1963م»، سجّلت على الفور مع سواي من الطلبة المتقدمين للحصول على الماجستير، وكان ذلك يستدعي منهم اجتياز سنة دراسية تسمى «السنة التمهيدية»، فاجتزتها في العام التالي «1384هـ/ 1964م»، وسجلت موضوعاً للماجستير، ثم إني تأخرت عن ذلك وقتاً طويلاً لظروف متنوعة، بعضها أنا مسؤول عنه، وبعضها لا قبل لي به.

     لكنني بعد الماجستير أخذت العبرة مما مرَّ بي، فتقدمت فوراً للدكتوراه، وبذلت جهدي أن أحصل عليها في أقصر وقت ممكن، وكأنني أحذر نفسي من تكرار خطئي السابق، وهذا ما تم بفضل اللَّه.

     كان الموضوع هو «عمر أبو ريشة، دراسة فنية» وبذلت جهدي في إعداد الرسالة، وحاولت أن أجعل شعر الشاعر هو مرجعي الأول، لتكون الدراسة أكثر أصالة، ولتكون «دراسة نصيّة» بالدرجة الأولى، وقد أعانني على ذلك معرفتي القديمة بالشاعر وشعره، وإدماني النظر فيه، ولا أزال أذكر كيف كنت أقرأ في ديوان الشاعر، هذا النص أو ذاك مرة بعد مرة، وأدوِّن الملاحظات التي أستخرجها منه، ثم أصنِّفها وأنسِّقها، وأجعلها العمدة فيما أكتب، وهو ما جعل للرسالة صفة الأصالة والتميز.

     وفي مساء يوم الأربعاء «7/ 12/ 1414هـ، 18/ 5/ 1994م» نوقشت الرسالة في قسم اللغة العربية، في كلية الآداب، جامعة عين شمس، وكانت لجنة المناقشة مكونة من الدكاترة يحيى عبد الدائم، وهو مَنْ أشرف على الرسالة، وإبراهيم عبد الرحمن، وأحمد مرسي، وقد منحتني اللجنة درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الثانية، وللَّه الحمد والشكر.

     كان الدكتور يحيى متعاطفاً معي لأنه عرف البحث وتابعه خطوة خطوة، وكان الدكتور أحمد متعاطفاً أيضاً لأنه كان زميلي في مرحلة الليسانس فعرفني بذلك معرفة وثقى، أما الدكتور إبراهيم فكان قاسياً عنيفاً، وقد قابلت قسوته وعنفه بالصبر والأناة، وكنت أحياناً أستأذنه في الرد على نقده لي فيسمح بذلك، ولكنه في أحيان أخرى لم يكن يسمح لي بالرد، لذلك كنت ألوذ بالصمت خوفاً من غضبه، ومع ذلك وجدت أن من واجبي أن أشكره بعد انتهاء المناقشة ومنحي الدكتوراه، فشكرته شكراً جزيلاً ووعدته أن أستفيد من ملاحظاته، كما شكرت الدكتورين الآخرين.

     لقد أكرمني اللَّه تعالى بالحصول على الدكتوراه مع أني تأخرت في ذلك كثيراً، لكنّ فرحي بها كان غامراً، وأن تصل إلى مطلوبك متأخراً خير من أنْ لا تصل، ثم إن عكوفي على إعداد الماجستير والدكتوراه، أيقظ فيَّ همة الشباب على البحث الذي انقطعت عنه بعذر، أو دون عذر.

     بعد انتهاء المناقشة، وإعلان النتيجة، شكرت اللجنة المناقشة على كرمها، وفرحت إذ وجدت حولي عدداً من الفقراء العاملين في الكلية من حرس وفراشين، يهنئونني ويطالبون بحقهم في «الإكرامية» المعتادة، فشكرتهم وفعلت.

     عدت إلى الفندق الذي سكنته، في مصر الجديدة، وشكرت اللَّه تعالى شكراً عميقاً، ثم أسرعت بتدوين أخبار هذا اليوم السعيد في أوراقي الخاصة خوفاً عليها من النسيان.

     جاءتني عدة تهنئات من مصر وغيرها، أما التهنئة المميزة فقد جاءتني من الشيخ علي الطنطاوي، فقد اتصل بي من بيته في جدة إلى بيتي في الرياض، يوم السبت «18/ 12/ 1414هـ، 28/ 5/ 1994م» بالهاتف، ليقول لي: «أنا لا أهنئك بالدكتوراه، ولكني أهنئ الدكتوراه بك»، إنها تهنئة الأب لابنه، والأستاذ لتلميذه، وقد زاد من قدرها أنه قالها لي وهو في خريف العمر، قد اعتزل الدنيا كلها، وعاش يرتقب نهايته، حريصاً على رضوان اللَّه عز وجل، وغير حريص على رضا هذا أو خائف من غضب ذاك، وقد وفقني اللَّه عز وجل يومها بإجابة مسددة إذ قلت له: إن كلامك هذا عندي أهم من قرار اللجنة التي منحتني الدكتوراه.

مناقشة الماجستير

مناقشة الماجستير

     في يوم الخميس، الساعة العاشرة والنصف صباحاً «20/ 12/ 1410هـ، 12/ 7/ 1990م» نوقشت رسالة الماجستير التي تقدمت بها إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب، جامعة القاهرة، في المدرج العريق الذي يحمل رقم 78، وكان موضوع الرسالة «الرثاء في شعر البارودي وحافظ وشوقي» وكانت بإشراف الدكتور طه وادي.

     وقد شارك في المناقشة مع الدكتور المشرف الأستاذان الكبيران، الدكتور شوقي ضيف، والدكتور أحمد هيكل، وقد رأيت في تشكيل لجنة المناقشة على هذا المستوى الرفيع شرفاً كبيراً لي ووساماً أعتز به، وقلت ذلك خلال تلخيص للرسالة، وقد انتهت المناقشة بمنحي درجة الماجستير بتقدير «امتياز»، والحمد للّه على كرمه.

     وقد اعترض الدكتور شوقي ضيف، أستاذي وأستاذ الأجيال، خلال مناقشته لي، على ما قررته من أن أحمد شوقي كان من حيث العقيدة والعاطفة عميق التدين، محباً للإسلام، منافحاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأن ما يؤخذ عليه هو معاصيه السلوكية، لذلك وصفت معصيته بأنها «معصية سلوك» لا «معصية معتقد»، وهذا أمر واقع من ناحية، وفيه إنصاف للشاعر وللبحث العلمي من ناحية، وأصر الدكتور شوقي ضيف على اعتراضه ودافعت عن وجهة نظري فلم يقبل، وما ذلك إلا لاعتزازه بهذا الشاعر الكبير وإعجابه الطويل العريض به.

     أما الدكتور هيكل، فقد طلب مني أن أقرأ صفحة كاملة من الرسالة؛ قال: إنها ساقطة من النسخة التي بين يديه، فقرأتها كما أراد، ثم انتظرت أن يسألني فلم يفعل، ثم إني خلوت بنفسي وأعدت النظر في الصفحة المقروءة، فاستبان لي الأمر، كان في الصفحة شعر ونثر، وكلام لي ولغيري، فأراد أن يتأكد أني كاتب الرسالة، وتأكد له ذلك، حين قرأتها قراءة فصيحة دقيقة منضبطة لغة ونحواً وصرفاً ووزناً وفي ثقة تامة، ذلك لو أن أحداً كتب الرسالة نيابة عني لفضحتني هذه القراءة تماماً، وللأستاذ الجليل عذره المنطقي لأن بعض الطلبة من أصحاب العزائم الخائرة، والنيات الدنيئة صاروا يستأجرون آخرين يكتبون عنهم رسائلهم، أما الدكتور شوقي ضيف فلم يلجأ معي إلى هذا اللون من الاختبار لمعرفته بي منذ أيام البكالوريوس، وهي معرفة وثقى.

مركز الملك سلمان الاجتماعي

مركز الملك سلمان الاجتماعي

     حين تقاعدت من العمل الوظيفي، وكان «المجلس الأعلى للإعلام» آخر محطاتي فيه عام «1424هـ/ 2003م»، لم أشك من الفراغ الذي يشكو منه أكثر المتقاعدين، ذلك أني مولع بالقراءة طوال عمري، وأحب الخلوة القصيرة والطويلة بين الحين والآخر، وفي القراءة والخلوة ما يشغل المرء بنفسه.

     وكنت أرى وأسمع الكثير من عجائب بعض من يتقاعد عن العمل الوظيفي، إذ يشعر أنه قد فقد قيمته، وأصبح عالة على مَنْ حوله، وأن عليه أن يعيش محزوناً محسوراً ينتظر موته، وتزداد حالة هذا المتقاعد سوءاً إذا كانت له منزلة في وظيفته السابقة، يأمر من خلالها وينهى، فلم يعد يجد من يأمره وينهاه، أو كانت له مكانة رفيعة يأتيه الناس بسببها لقضاء مصالحهم فزالت المكانة فانفض الناس عنه، وكان الناس - ولا يزالون - يتندرون على هذا الصنف من المتقاعدين، ويروون عنهم طرائف كثيرة، منها أنهم يطيلون المكث في منازلهم يحاسبون الزوجة والشغالة، على كأس قد انكسر، وحذاء قد اتسخ، وملعقة وقعت على الأرض، وما إلى ذلك، فيضيق بهم أهل البيت ويضيقون هم بأنفسهم.

     ومن أطرف ما سمعته في هذا المجال قصة جميلة دلالتها صحيحة، سواء كانت حقيقية أم مصنوعة، وهي أن ضابطاً في الجيش العثماني، أحيل إلى التقاعد بعد أن بلغ رتبة عالية، وكان نشيطاً دقيقاً محباً لعمله متقناً له، ينفذ أوامر رؤسائه بدقة، ويحمل مرؤوسيه على أن يفعلوا مثله، واعتاد الرجل على أن يؤمر فيطيع، وأن يأمر فيطاع، حتى أخذت حياته هذا القالب، والجيش العثماني معروف بالحزم والضبط والربط فلا غرابة أن صار حازماً ومحزوماً، ضابطاً ومضبوطاً، رابطاً ومربوطاً، وحين تقاعد كان قد تحول إلى شيخ لا يجيد إلا ذلك.

     ضاقت الدنيا بالرجل، وضاق هو بنفسه، وضاق بيته به، وظل كذلك حتى هداه أحد رفاقه إلى حل سارع إلى تنفيذه.

     كان هذا الضابط يعيش في طرف مدينته، وفي منطقة تحتاج إلى ماء لعابري السبيل، وكان الحل هو أن وضع هذا الضابط مائدة طويلة يصف عليها كوباً أحمر، وآخر أخضر، وآخر أبيض، ويملأ هذه الأكواب بماء عذب يقدمه مجاناً للعابرين ابتغاء ثواب اللَّه تعالى، فإذا جاءه عابر ومد يده إلى الكوب الأحمر نهاه عن ذلك وقدم له الأخضر، ويفعل مثل ذلك مع الكوبين الآخرين.

     وهكذا وجد الضابط ما يشغل نفسه به، وجد أنه لا يزال قادراً على أن يأمر، وأن أمره لا يزال ينفذ، وأنه حاز ثواب اللَّه تعالى في سمائه، وثناء جيرانه في أرضه، فاستراح وأراح، وذهب عنه وعن ذويه الضيق.

     على كل حال، لم يشكل لي التقاعد مشكلة نفسية أو بيتية، بسبب حبي للقراءة والكتابة، وحضور الديوانيات الجميلة في الرياض، فضلاً عن اشتراكي في مركز الملك سلمان الاجتماعي الذي أعدته الدولة للمتقاعدين، وكان من فضل اللَّه U عليّ - وأفضاله كثيرة - أن البيت الذي أسكنه قريب جداً من المركز، وهو ما سهّل علي كثرة الذهاب إليه، حتى إنني في بعض الأحيان أذهب إليه مرتين في اليوم الواحد.

     كان هذا المركز نعمة كبرى علي، كان واحة غنية بمعنى الكلمة، فيها غَناء العقل والجسم والروح.

     وللواحة في وجدان العربي معنى جميل، وظلال وارفة، وذكريات حسان، ذلك أنها تعني ما يلقاه المسافر في الصحراء، بعد التعب والظمأ والحر والجوع والخوف، من راحة وري وظل وشبع وأمن، ومن هنا يستدعي اسم الواحة لدى العربي سلسلة محببة من المعاني والمشاعر والخواطر، ولا غرابة فالواحة هي المكان الذي يصل إليه المسافر في الصحراء، ليجد فيه الماء والظل والنخل والكرم والأمان، فيسعد بذلك من ناحية وينسى كل ما عاناه من ناحية.

     ولكننا إذا امتددنا بمفهوم الواحة ووسعناه، نجد أنه قد يكون صديقاً عزيزاً تأنس إليه، تجد فيه الصدق والوفاء والعون، أو كتاباً رائعاً تجد فيه العلم الغزير والبيان الصافي فتخلو به وأنت سعيد، وقد تكون ملتقى دورياً مع عدد من أهل العلم والفضل والسماحة يسمّى ديوانية أو أمسية أو ندوة، يعبق بالود الصادق والرأي الحصيف والخبرة المتبادلة، يذهب إليه الإنسان فيسعد به، ويضيف إلى خبرته الجديد النافع، وينصرف عنه وهو متشوف للعودة إليه.

     وقد رأيت في مركز الملك سلمان الاجتماعي واحة حسناء، بل عدداً من الواحات، فأنت تجد في هذا النادي البديع الخضرة الجميلة ترعاها يد صناع ماهرة، وتجد فيه مضماراً بديعاً للمشي تحيط به الأشجار الباسقة من الجانبين، وتجد فيه الماء الحار والبارد، وتجد المقهى اللطيف، وتجد الديوانية الواسعة الرحبة تقرأ فيها الصحف، وتسمع الأخبار، وتلاقي الأخيار، كما تجد الطبيب إذا كنت محتاجاً، والتدليك الطبي إذا رغبت، والمسبح إذا أردت السباحة، وصالات الرياضة الملأى بالأجهزة الرياضية المناسبة لمختلف الأعمار والرغبات، وقبل كل ذلك ترى كوكبة من أهل الفضل تقوم على إدارة هذا النادي بود واقتدار.

     وإذا أردت الاستزادة من المعرفة فهناك مكتبة تدعوك وترحب بك، وإذا أردت أن تتذكر البادية فهناك خيمة واسعة تقول لك: أهلاً وسهلاً، أما الصلاة - والصلاة كتاب موقوت - فإن صوتاً جميلاً مسجلاً يناديك إليها حين يصدح بالأذان فتهرع إلى مسجد هو غاية في الأناقة.

     أليس لي أن أقول - دون أن يتهمني أحد بالمبالغة: إن نادي الملك سلمان الاجتماعي، هو واحة غنية جميلة، بل عدد من الواحات؟!

إنني أرجو أن يكون لهذا المركز النافع عدد من الفروع في أطراف الرياض الممتدة الواسعة، بل في كل مدن المملكة حماها اللَّه عز وجل.

في المجلس الأعلى للإعلام

في المجلس الأعلى للإعلام

     عملت في المجلس الأعلى للإعلام في الرياض مدة جميلة امتدت إلى أكثر من عشر سنوات، مرت وكأنها حلم بهيج في ليلة بهيجة، ومرد ذلك إلى عدة أمور.

     أولهاً: طبيعة عمل المجلس، ذلك أنه جهة استشارية تقدم رأيها في عدد من الموضوعات الإعلامية أو القريبة من الإعلام، لذلك لم تكن له صلة بالجمهور والمراجعين إلا فيما ندر، وهذا الأمر أضفى على المجلس قدراً حميداً من الهدوء والأناة والتأمل، والقراء وأصحاب الأقلام يحتاجون إلى ذلك كثيراً.

     ثانيها: أن عدد العاملين في المجلس كان قليلاً، فكانوا يعرف بعضهم بعضاً معرفة جيدة، ويتزاورون، وكانت روح الأخوة والزمالة هي السائدة بينهم، والمودة هي الشائعة، والبسمة هي الغالبة، وهذا فضل من اللَّه تعالى عظيم، لأن العادة أن يتنافس الزملاء وأن يتحاسدوا.

     ثالثها: شخصية الأمين العام للمجلس الذي كان المسؤول فيه، وهو الأستاذ الفاضل عبد الرحمن العبدان، وهو من أبناء القصيم، درس الشريعة في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، وتدرج في العمل الوظيفي، وانتزع إعجاب الناس وحبهم حيث كان.

     وهنا أذكر بالخير والثناء موقف أخي النبيل الوفي الأستاذ عبد الرحمن الأنصاري، الذي سبقني إلى العمل في المجلس حين جئته أستشيره، لقد نصحني أن ألتحق بالمجلس، وحدثني عن طبيعته حديثاً مشجعاً، ثم أكد لي أني سأجد في أمينه العام شخصاً نادراً جداً، من سعادة الإنسان أن يعمل بإمرته.

     والتحقت بالمجلس فوجدت أمينه العام كما سمعت وخيراً مما سمعت، إنه آية من آيات اللَّه في الحلم والنبل والأدب الجم، ولو أن سائلاً سألني عن النموذج الكريم الذي يجسّد حسن الخلق فيمن عرفت من الناس لقلت بلا تردد: إنه الأستاذ العبدان.

     وانعقدت المودة بيننا في سرعة، كان عزيزاً علي، وكنت مقرباً منه، وقد أعجبه سَمْتي الديني، وأعجب كثيراً بأفكاري ومقترحاتي التي كنت أطرحها عليه، وكان يرى أن بعضها خيالي غير قابل للتطبيق مع أنه جيد وصحيح.

     ولقد انعكس خلقه العالي على العاملين بإمرته، فتحول العمل - مع أنه واجب رسمي - إلى أداء محبب إلى النفس، ينشط إليه الإنسان برغبة وفاعلية، وصار المجلس بفضله واحة إخاء ومودة، كان محباً للإحسان بفطرته، وكنت واحداً ممن أحسن إليهم، ولذلك فهو في قلبي ما حييت، وأنا أدعو له كل يوم.

     وكان يجمع الإخوة المستشارين العاملين في المجلس ضحى كل ثلاثاء، ويدوم اللقاء قرابة ساعتين، ولو أن إنساناً ساذجاً رأى هذا اللقاء وسمع ما يدور فيه لظنّه إضاعة للوقت، لكن الأستاذ العبدان كان من خلال هذا اللقاء يجدد للمستشارين معلوماتهم، ويزيد من خبرتهم، ويعرف نقاط القوة والضعف فيهم.

     وكان المجلس ينتقل إلى جدة في الصيف، مع من ينتقل من أجهزة الدولة، وكان الانتقال يدوم أشهراً طويلة، وقد استفدت فائدة جليلة من هذا الانتقال حيث كنت أترك العائلة في الرياض، وأخلو بنفسي، فأقرأ كثيراً، وأكتب كثيراً، وأغتنم قربي من مكة المكرمة بين الحين والآخر فأسارع إلى الحرم الشريف معتمراً أو زائراً، وأذكر أني عكفت على ديواني المتنبي وبدوي الجبل، فقرأتهما مراتٍ لا أحصيها.

     وحين تقاعدت عن العمل قلت للأستاذ العبدان: لقد جنيتَ علي يا أستاذ، قال لي: كيف؟ قلت: حين أفكر في الالتحاق بعمل جديد الآن، أجزم أني لن أجد رئيساً بفضلك فأحجم، ولعل في هذا الإحجام خيراً كثيراً، ذلك أن لدي ما أشعر أنه مفيد شعراً ونثراً، فأنا الآن بفضل اللَّه تعالى أحاول كتابة هذا المفيد، والتفرغ عون كبير عليه.

في ضيافة المدينة المنورة

في ضيافة المدينة المنورة

     من أفضال اللَّه تعالى عليَّ، وأفضالُه لا تعد ولا تحصى، أنه شرَّفني بالإقامة في المدينة المنورة، على منوِّرها أفضل الصلاة والسلام، عامين مباركين، مدرساً في المعهد العلمي فيها «1387 - 1389هـ، 1967 - 1969م».

     كان هذان العامان عامين مباركين حافلين، فقد كان المعهد العلمي واحة خير ومودة وعلم، وكان مديره الشيخ علي الدخيل أخاً فاضلاً حازماً، وكان نائبه الشيخ حميد المالكي أخاً فاضلاً ليناً، وكان أحدهما يكمل الآخر.

     وبسرعة بالغة انعقدت صلة طيبة جداً، بيني وبين مَنْ في المعهد من إدارة وأساتذة وطلاب، أعانني على ذلك أني كنت شاباً نشيطاً مندفعاً يحب إقامة الجسور وبناء العلاقات، وأني كنت أنظر إلى التدريس أنه رسالة لا مهنة، وأنّ مَنْ في المعهد جميعاً عاملوني بنبل ومودة وأخوة.

     هذا عن المعهد الذي أكرمني اللَّه تعالى به، أما الحرم النبوي الشريف، ومنوِّره النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فهما فوق الوصف والبيان، إن الفرحة تملأ قلب المسلم حين يتاح له أن يقيم في المدينة المنورة أسبوعاً أو أسبوعين يصلي في مسجدها الطاهر، ويسلّم على سيده وسيد الخلق أجمعين، فكيف إذا كانت الإقامة عامين؟

     وقفت أمام المواجهة الشريفة مسلِّماً على الرسول الكريم وصاحبيه العظيمين مرات لا أحصيها، وظفرت بمثل ذلك في الصلاة في الحرم الشريف، وفي الروضة المطهرة، وفي زيارة مسجد قباء، ومثوى الشهداء في أُحُد، ومكان معركة الخندق، وما إلى ذلك من معالم طيبة الطيبة.

     وسمعت دروساً تلقى في الحرم الشريف، ومحاضرات عامة في الجامعة الإسلامية، والمعهد العلمي، وثانوية طيبة، ورأيت عدداً من الأعلام واستمعت لهم بإصغاء، أبرزهم المرحومان الصالحان الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ أبو الحسن الندوي، وخرجت في رحلات لطيفة خارج طيبة الطاهرة مع أساتذة المعهد، وطلبته، وغيرهم، وحضرت عدداً من المرات ندوة «الوادي المبارك» التي كان يقيمها الأستاذ عبد العزيز الربيع ؒ، وكان يومها مدير التعليم في المدينة المنورة.

     ولما كان عمري قريباً من أعمار معظم الطلبة في المعهد، ولما قابلوا ودي بود أكرم، وتحيتي بأحسن منها؛ تحول معظمهم إلى أصدقاء وزملاء، كنت أشجعهم على العلم، وأحثهم على التفوق، وأسمِّي لهم عدداً من المؤلفين والمؤلَّفات وأوصيهم بها، وأروي لهم النادرة الطريفة، والقصة الشيقة، فكانوا يسعدون بي وكنت بهم أسعد.

     واليوم حين أكتب هذه السطور بعد زمان طويل، أراني في منتهى السعادة حين أجد كوكبة من فضلاء الطلبة ونجبائهم، شقوا طريقهم في الحياة وتألقوا، ونالوا مكانة عليا عن جدارة واستحقاق، أجدني سعيداً لأن المسلم يحب الخير للآخرين، وأجدني سعيداً لأنني كنت أحثهم على الخير وأدعوهم إلى التفوق.

     من هذه الكوكبة المباركة أتذكر كلاً من: عايض الردادي، عوض الردادي، سليمان الرحيلي، عبد اللَّه الرحيلي، محمد العوفي، معيض العوفي، فيحان المطيري، محمد أيوب، عبد الرحمن الحميدي، حسام خاشقجي، حمادي التونسي، منصور العمرو، سليمان النملة.

     وإنني إذ أزجي لهؤلاء التحية الخالصة، أزجي تحية أفضل منها للكرام الآخرين الذين غابت أسماؤهم عن ذاكرتي، والكريم مَنْ عذر.

     ومن طرائف تلك المرحلة أني كنت في رحلة مع أسرة المعهد، وهناك أعطاني بعضهم بندقية صيد، فأطلقت الرصاص على بعض الطيور فأصبته فعدوني رامياً، وفي رحلة أخرى كنت نائماً فجاء أحدهم بضبّ، ووضعه عليّ ثم أيقظني ليرى ردّ فعلي، فقمت بهدوء فرأيت الضب فنفضته عني بهدوء، فعدوني شجاعاً.

     ومن أجمل ذكرياتي عن المدينة المنورة، على منوِّرها أفضل الصلاة والسلام، أنني حرصت على أن أصلي في مسجدها الطاهر أربعين صلاة لا تفوتني منها صلاة، وفعلت ذلك أكثر من مرة، طمعاً بالعطاء العظيم الذي وعد به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من يفعله، وحين كنت أصلي الصلاة الأربعين أشعر أن كل ذرة فيَّ تشكر اللَّه تعالى، والسعادة فيها تمتد وتمتد وكأنها بحر لا ساحل له، ولا عجب فآلاء اللَّه تعالى لا تحصى.

     كانت المدينة المنورة يومها قليلة السكان، صغيرة المساحة، وكنا شباباً صغاراً، قليلي المسؤوليات، وهذا ما جعل وقتنا متسعاً، لذلك كثرت لقاءاتنا وطابت؛ في الحرم الشريف وفي العقيق وفي العاقول، وكنا ثلاثة لا نكاد نفترق، صبري مرزا، وخالد قرفان، وأنا.

     لقد أكرمني اللَّه تعالى بالسفر إلى كثير من البلدان، الغني منها والفقير، المتقدم والمتخلف، المسلم وغير المسلم، وتعرفت من خلالها إلى عدد من الأعلام، وفي بعضها كانت لي ضيافة متميزة مشكورة، ولكني لم أجد مثل اللذة الروحية التي غمرتني ولا تزال تغمرني كلما كنت في المدينة المنورة إذ أشعر فيها أن نفسي أصفى، وروحي أنقى، وأعصابي أهدأ، وجسمي أنشط، ووقتي أوسع، ومطالبي أقل، وعقلي أذكى، وأن السكينة تملأ كل ذرة في كياني، وأن رجائي يربو، وأن مخاوفي تتضاءل، وأشعر أحياناً أنني أتنفس النور، وأحثو السعادة بيدي حثواً، وربما ابتسمت من الفرح والشكر، وربما بكيت.

     وقد كتبت في المدينة المنورة ومنوّرها صلى الله عليه وسلم طائفة من قصائدي، أعتز بها غاية الاعتزاز، آخرها قصيدة مطولة اسمها «طبت داراً» أرسلتها إلى النادي الأدبي في المدينة المنورة مشاركة مني في مسابقة شعرية أعلن عنها.

     وصلى اللَّه عليك يا سيدي يا رسول اللَّه، أنت هاجرت إلى يثرب، وأقمت فيها أول دولة للإسلام، ولقيت فيها ربك، فحوى ترابها جسدك الطاهر، أنت نوّرتها فكانت المنورة، وأنت طيّبتها فكانت الطيبة، فآلاؤها هبة منك لها، ومن هذه الآلاء نقتبس، وفيها نرفل، وبها نسعد، وإليها نحنّ، ويحن إليها المسلمون؛ حيث نكون ويكونون.

عهود قطعتها

عهود قطعتها

     قطعت على نفسي مجموعة من العهود، واجتهدت أن ألتزمها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وعساي نجحت.

· أول هذه العهود أن أتحرى الصدق وألتزمه، وقد أعانني على ذلك أنني بفطرتي أكره الكذب والكاذبين جداً، وأعانني أيضاً ما تعلمناه من أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، بحكمته العميقة، ومعرفته بالضعف البشري الذي لا يخلو منه أحد أخبرنا أن المسلم قد يقع في خطيئة السرقة، أو خطيئة الزنا، أو غيرهما لكنه لا يكذب قط، والسبب واضح، وهو أن المسلم الذي يقع في هذه الخطيئة أو تلك يتوب منها، أما إذا اعتاد الكذب، فلا هو يدري ولا مَنْ حوله يدري، أأقلع عنه أم لا؟ وتزداد الأمور سوءاً حين يصبح الكذب فيه عادة جارية، لا خطيئة عارضة.

     ثم إن الحديث الشريف الذي أشاد بفضيلة الصدق، يحبه المرء ويجعله عادته وديدنه حتى يكتب عند اللَّه صديقاً ملأني بالأمل والرجاء، ذلك أنني حين أقرأ سير العبّاد والزهّاد والصالحين والمجاهدين؛ أجد المسافة بيني وبينهم كبيرة، فأقول لنفسي: هيهات أن أكون مثل هؤلاء في قليل أو كثير، وأنّى لي أن أكون وهم من السابقين في الخيرات وأنا من أهل الاقتصاد والرخصة؟! لقد رأيت في هذا الحديث الشريف رحمة اللَّه الواسعة، قد فتحت لأمثالي من غير السابقين باب رضوانه، فعزمت على التحلي بالصدق وتحرّيه، وجعلته ثابتاً من ثوابت حياتي، واعتدت قبيل النوم في كل ليلة أن أراجع نفسي مخافة أن أكون قد وقعت في إثم الكذب، أو شبهة الكذب، أو عدم الدقة التامة في نقل رواية أو حديث.

     وللصدق فرحة وكرامة واحترام، فالصادق يرى الناس يجلُّونه فيفرح لذلك، لأن الإنسان بحاجة إلى أن يشعر أنه مقدّر ومحترم من الناس، ولا يمكن للناس أن يحترموه إلا إذا احترم نفسه، ولا يكون ذلك إلا بالصدق يحبه الإنسان، ويلتزمه، ويتحراه، وعساي - وأنا الضعيف المترخص - أبلغ منزلة «الصِّدِّيقيَّة» التي بشّر الرسول الكريم e بها الصادقين، وإني أحمد اللَّه حمداً كثيراً على أن أهل بيتي - وهم أدرى الناس بي- وخاصةَ أصدقائي، والمنصفين من أعدائي؛ يشهدون لي بأني من الصادقين، وكان أخي أبو العلاء ؒ يقول لي مهنئاً ومبشراً: إنك ستدخل الجنة - بإذن اللَّه - ببركة الصدق، وإني إذ أشكره على ذلك؛ أشكره أيضاً لأنه وصفني بأني «قليل الفضول»، وهو أدرى خلق اللَّه بي مدى أربعين عاماً، وقلة الفضول أمارة على أن صاحبها واثق من نفسه، مشغول باهتماماته، ولذلك لا يبالي بمتابعة ما يقوله الآخرون عنه وعن غيره.

· وقطعت على نفسي عهداً بأن أكتم سرَّ أي إنسان أخبرني به وطلب مني كتمانه، وكتمان السرِّ من الشجاعة النفسية، والكتوم للسرِّ إنما يحترم نفسه قبل أن يحترم الإنسان الذي استكتمه.

· وقطعت عليها عهداً آخر هو أن أخلص النصيحة لكل من يطلبها مني أحببته أم كرهته، وقد تعلمنا أن الدِّينَ النصيحةُ، فهي واجب، ومن طلب نصيحتك فقد وثق بك ورفعك إلى منزلة عالية، فينبغي أن تكون على مستواها، وحين يكون المنصوح مهماً أو خليلاً كنت أدقق في نصحه، وأشتد في مصارحته والقسوة عليه، دون أن أجرحه، أو أستعمل في حقه كلمة نابية، أو أفضح له سراً، وهذا يجعل كلامي له - في الجملة - يقع منه موقعاً حميداً، لأنه يرى فيّ روح الصدق، وحب الخير، ودقة الملاحظة.

· وعهد آخر قطعته على نفسي، وهو ألا أقابل الإساءة بمثلها، وقد آذاني هذا العهد كثيراً، لأنه أطمع فيّ الأدنياء والسفهاء واللؤماء، ولقد دفعت من مالي ووقتي وجهدي وأعصابي ثمناً كبيراً بسبب هذا العهد، والمشتكى إلى اللَّه تعالى، لذلك راجعت نفسي، وأنا ممن يراجعون أنفسهم كثيراً، فوجدت أن عليَّ الاستمرار في هذا العهد، ولكن مع الاتعاظ بما مرّ بي، واجتناب من لا يستحقون هذا السلوك النبيل بادئ ذي بدء.

· وعهد آخر ألزمته نفسي، وهو أن أمتلك شجاعة الاعتذار لمن أخطئ عليه، فقيراً كان أم غنياً، ضعيفاً كان أم قوياً، والاعتذار شجاعة عقلية ونفسية، والذي يمارسها يكون واثقاً من نفسه، خلافاً للمكابر والمعاند والمغرور، وأذكر أن أحد الزملاء الكرام، وكنا في مجلس عام، استاء من كلمة قلتها في حقّه فسكت، ولكن بدا الغضب على وجهه، فقلت له، وكنت قد أخطأت في حقه فعلاً: هل ساءك قولي؟ قال: نعم، فقلت له وقد سرتني صراحته: أعتذر منك جملة وتفصيلاً وبكل لغات الأرض، وانطوى الغضب، وسلم صدره لي، وسلم صدري له، وعدنا زميلين متعاونين، ولولا شجاعة المصارحة منه، وشجاعة الاعتذار مني لازداد الأمر سوءاً، ولكن اللَّه سلَّم.

     ولشجاعة الاعتذار أكثر من بعد، فهي لا تتوقف فقط عند الاعتذار لمن نسيء إليهم، ومن ذلك أن يعتذر الإنسان عما لا يقدر عليه مما يطلبه منه هذا الصديق أو ذاك، إن المسلمين بطبيعتهم أمة خيّرة، والمسلم الحق يفرح حين يقدم خدمة لمسلم آخر يستحقها وهو عليها قادر، وهم يعرفون جميعاً أن اللَّه تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ولذلك فهم يتعاونون ويتناصرون ويبذلون مروءاتهم وهم سعداء.

     ولكني رأيت أن عدداً من الكرام لا يردون طلباً لأحد من الناس، سواء أكان هذا الطلب مما يقدرون عليه أم مما يعجزون عنه، وسواء كان صاحب الطلب خيّراً أم لا؟ وقد وقر في خلدي أن هؤلاء الكرام مخطئون لأنهم يعدون ولا يفون، ثم إن أصحاب الحاجات يبنون على وعودهم آمالاً هي في حقيقتها أوهام، وفي هذا نوع من التغرير، ولا يشفع لأصحابه أنهم يفعلون ذلك من باب الحياء أو التوسع في الرجاء.

     ووقر في خلدي أن السلوك الصحيح أن يستمع الإنسان إلى صاحب الحاجة ملياً، فإذا تأكد له أنه قادر على قضائها، وأن صاحبها من الأخيار وعد ونفذ، وإلا اعتذر من البداية فاستراح وأراح، ذلك أن قدراً من شجاعة الاعتذار في البداية يدفع عن صاحبه أضعاف أضعافه من الحرج في النهاية، واللجوء إلى ذلك حكمة بالغة.

     وقد حاولت جهدي أن أتحلى بشجاعة الاعتذار منذ البداية، ثم إني أضفت إلى ذلك شيئاً طريفاً، وهو أني إذا وجدت نفسي قادراً على قضاء حاجة لأحد الإخوة، ووجدته مستحقاً للعون، وعدته أن أسعى له، وقلت له: إن لي شرطين: الأول: أن تدعو لي دعوة صالحة إذا نجح المسعى، وأنتظر قليلاً حتى يعدني بالدعاء، فإذا فعل قلت له: أما الشرط الثاني فهو أن تدعو لي دعوتين صالحتين إذا أخفق المسعى.

     بعد ذلك أحاول إخلاص النية للَّه تعالى، وأبدأ المسعى، وفي النهاية أتصل بصاحب الحاجة فأذكّره بالشرطين، ثم أطلب منه دعوة أو دعوتين حسب النجاح أو الإخفاق.

· ومن العهود التي ألزمتها نفسي حفظ الجميل لمن أحسن إلي، وإعلان ذلك حيث ينبغي، ومقابلة الجميل بمثله، والإكثار من الدعاء لفاعله.

· ومنها أن أكوِّن آرائي بنزاهة ودقة وأناة، وأجهر بها حيث ينبغي، وأن أبدلها إذا دعت إلى ذلك دواع كريمة، وأصدع بهذا التبديل بشجاعة واعتزاز. ومنها أن للمسلم أن يأخذ بالرخصة ولكن ليس له أن يأخذ بالدنيَّة، وأن من لم يستطع قول الحق فليس له أن يقول الباطل.

بصمات ومؤثرات

بصمات ومؤثرات

     يمر الإنسان في حياته بظروف مختلفة، أو مواتية، بعضها من صنع يديه، وبعضها خارج طوقه، ومن شأن هذه الظروف أن تترك عليه بصمات ومؤثرات، وسوف أحاول أن أقف على مجموعة الظروف التي تركت بصماتها ومؤثراتها فِيَّ، وأهمها: دير الزور، الإسلام، المرحلة الجامعية، القراءة، الأسفار، المجالس والديوانيات، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، والخلوة، وأخيراً الدعاء.

· دير الزور:

     هي المدينة التي خلقت فيها، وظللت فيها عشرين عاماً متصلة، ثم ثلاثة أعوام أخرى، بعد انقضاء المرحلة الجامعية، وقد سبق الحديث عنها فلن أكرره، ولكني أريد أن أخلص إلى أثرها فِيَّ، إن هذه المدينة، المسلمة، العربية، العشائرية، التي تتعانق فيها البادية مع الحاضرة، والعراق مع الشام، زرعت فيّ حب الإسلام، وحب العرب، كما زرعت فيّ الإعجاب - الذي ظل خطاً دائماً يلازمني حيث أكون - بأخلاق الفرسان من مروءة، ونبل، وكرم، وشجاعة، وإباء، وصدق، وما إلى ذلك من فضائل، حاولت أن أظل على مستواها؛ لأنها سكنت في أعمق أعماقي، ويغفر اللَّه تعالى لي ضعفي البشري الذي كان يهبط بي أحياناً عن مستواها الرفيع.

· الإسلام:

     هو أكبر مؤثر في حياتي على الإطلاق، لقد أخذته إرثاً واختياراً، أما الإرث فقد جاءني من أسرتي ومدينتي، وأما الاختيار فقد جاءني عن إرادة جازمة مقترنة بالحماسة والاعتزاز، وكان أول من أخذ بيدي في هذا الطريق خالي «سعيد شرف» ؒ، وكان وجيهاً بين ذويه، هيناً ليناً، ذا دعابة جميلة، وبديهة حاضرة، ومكانة متميزة، وهو - بحق - أستاذي الأول في الحياة تربوياً، وثقافياً، واجتماعياً.

     ومنذ عام 1954م، وكنت طالباً في المرحلة المتوسطة، صار ولائي للإسلام أمراً حاسماً ونهائياً، وهو أمر أفادني فوائد جمة، أهمها أنه دفعني في دروب الجدية والاستقامة، وأشعرني أنني إنسان له رسالة في الحياة يتبناها ويدافع عنها، كما أنه حماني من الوقوع في براثن الحركات المناوئة، التي كانت تتخطف الصغار عامة، والطلبة النابهين منهم خاصة، وأبرزها في تلك الأيام، حزب البعث العربي الاشتراكي، والحزب الشيوعي، وكان الأساتذة الحزبيون يبذلون جهودهم لاستمالة الطلاب إلى أحزابهم وتجنيدهم فيها، وكان لي أستاذان من أبناء دير الزور، لهما فضل علي من حيث العناية والتشجيع، وكان الأول منهما وهو «حسن...» بعثياً، وكان يدرسنا اللغة العربية، وكان يعجبه فيّ تفوقي في هذه المادة، وقد حاول أن يكسبني برفق وهدوء إلى حزبه، ولكنّ اللَّه سلَّم، وأود أن أشهد بحقه شهادة حميدة، وهي أنه لما جاء حزب البعث إلى الحكم عام 1963م، وأبصر أنّ المسافة بعيدة بين الشعارات المرفوعة والممارسة العملية؛ ترك الحزب بإباء يشكر عليه، وعفة نفس تدل على نقائه وأصالته، رحمه الله رحمة واسعة.

     أما الثاني وهو «إبراهيم...»؛ فقد كان شيوعياً، وكان مديراً لمدرستنا المتوسطة ومدرساً للتاريخ فيها، وقد أحسن إليَّ غاية الإحسان من حيث العناية والتشجيع، وطالما زرته في بيته، وفي غرفته في المدرسة التي يدير فيها شؤونها، وكأنني صديق له، أحاوره وأوافقه، وأخالفه، وقد دفع بي إلى المنبر في المدرسة أكثر من مرة فخطبت، وأعارني عدداً من كتبه، لقد كان يريد أن يكسبني - وبإلحاح وأدب - لأكون في حزبه، ولكن اللَّه تعالى سلَّم، وقد رأيته منذ عدة سنوات، وبعد أكثر من نصف قرن على محاولته معي، فأكرمته، وقدمت له هدية لطيفة، وكان عائداً من الحج، وكان يتحدث عن الإسلام باعتزاز، ويؤكد أن ما رآه في الحج دليل على أن الأمة المسلمة حية لا تموت، ففرحت له، ودعوت له، زاده اللَّه هدى وتوفيقاً.

     وقد كبرت - وأنا الآن في أول الثمانين - وشرقت وغربت، وتعددت الاتجاهات الدعوية التي تأثرت بها، وقابلت عدداً من المشاهير لم أكن أحلم بلقائهم، وحزنت وفرحت، ورأيت الخطأ ورأيت الصواب، وخاب أملي في عدد من المشاهير والقادة، وصدق في عدد قليل منهم، وقد دفعني هذا كله إلى مراجعة نفسي مراجعة عميقة في تجارب العمل الإسلامي، لا في الإسلام، لقد بقي الإسلام عندي هو الأمل، وهو الحل، وهو الصواب المطلق، وهو القضية، وهو الهوية، وهو سبيل نجاتنا في الدنيا والآخرة، أما العمل الإسلامي فهو موضع المراجعة، والنقد، والتقويم، والاقتراح.

     ولقد انتهيت إلى نتيجة استرحت إليها غاية الراحة، وهي أن الإسلام صواب مطلق، وخير مطلق، وحق مطلق، وقداسة مطلقة، لسبب بسيط هو أنه من عند اللَّه تعالى، لذلك ينبغي أن يكون ولاؤنا له تاماً ونهائياً، أما العمل الإسلامي فهو عمل بشري فيه خطأ وفيه صواب، وقد يكون الخطأ فيه هو الأكثر، وقد يكون الصواب فيه هو الأكثر، وولاؤنا له بمقدار ما يكون فيه من صواب، وما تدعو إليه من حاجة، ثم إن قداسة الإسلام لا تنسحب على العمل الإسلامي فتجعله مقدساً، وأخطاء الدعاة لا تنسحب على الإسلام فتسلبه قداسته، وإن أي وسيلة من وسائل العمل الدعوي لا يجوز اللجوء إليها إلا بشرطين: الأول: أن تكون هناك حاجة حقيقية إليها، والثاني: أن يكون صوابها أكثر من خطئها، وإلا فلا.

     ومما يجب ذكره هاهنا أن العمل الإسلامي توسع كثيراً في العقود الأخيرة، وامتد امتداداً أفقياً واسعاً يتجاوز طاقة الدعاة، وهذا أمر يبعث على الفرح، ويبعث على الخوف، أما الفرح فمرده إلى زيادة مساحة الهداية والدعوة، وأما الخوف فمرده إلى ما يكتنف هذا الامتداد من أخطاء، بعضها من عناصر مخلصة ولكنها حمقى، وبعضها من عناصر سيئة مدسوسة، وبعضها من عناصر غير مدسوسة لكنها تعمل لأهوائها، ومما يزيد من حجم المخاوف أن أكثر العاملين في الحقل الدعوي قوم سذّج، يسهل توريطهم واختراقهم، وأن العقلاء الفضلاء من الدعاة لم يقوموا بعملية التقويم اللازمة للصواب والخطأ في تجاربهم بالشكل الكافي حتى لا تكررها الأجيال اللاحقة، وهو إثم كبير عليهم أن يبرئوا ساحتهم منه.

     ولذلك فإن مهمة «الترشيد» ينبغي أن تأخذ مكانها اللائق المهم لدى العقلاء الفضلاء من الدعاة بحيث يركزون على أمر في غاية الأهمية، وهو أن يرصدوا الخطأ قبل أن يقع ويحذِّروا منه، فإذا وقع عملوا على تطويقه وتجاوزه بكل ما يقدرون.

     وليس من المبالغة في شيء أن يقرر الراصد لحالة العمل الإسلامي في العقود الأخيرة؛ أن معظم ما أصابه من نكبات مردها إلى قياداته لا إلى أعدائه.

     والعقلاء الفضلاء هم المسؤولون الوحيدون عن عملية «الترشيد» المطلوب، لأن الحمقى لا يصلحون لهذه المهمة الجليلة حتى لو كانوا مخلصين، ولأن غير الفضلاء من المتسلقين والأدعياء والمرتزقة والمشوهين ومن إليهم، هم عبء على العمل الدعوي وكارثة أصابته إصابات بالغة، وعليه فإن «الترشيد» المطلوب يدعونا إلى التخلص منهم، ويجعل من ذلك مهمة عجلى ذات أولوية خاصة.

     والحديث في هذا المجال حديث طويل، ولعلي أعود إليه في موضع آخر، ولكني أكتفي منه الآن بما سبق قوله، وأضيف إليه أن سكوت العمل الدعوي عن إعلان أخطائه على الملأ هو خطأ مضاعف متراكب يصل إلى حد الجريمة والخيانة، لأنه يضفي على تجاربه وقياداته قداسة زائفة، ولأنه يغري اللاحقين من الدعويين بتكرار هذه الأخطاء، ذلك أنهم يرون منها الجانب الجميل الخادع، ويجهلون ما وراءه، ثم إن على العمل الدعوي أن يحسن اختيار الأهداف والوسائل فيما يريد أن يتصدى له، وهي مهمة جليلة جداً ودقيقة جداً خلافاً لما يبدو منها للوهلة الأولى، وعليه أن يعنى بالتربية - بمعناها الشامل - للمدعوين، فتكون تربية فكرية وإدارية وسلوكية ومؤسسية، لا تربية وعظية فقط، وعليه أن يتحلى بالوعي السياسي، فالعمل السياسي عمل شائك معقد ملآن بالألغام، والفخاخ، والمتناقضات، وإن غياب هذا الوعي أو ضعفه أوقعه في نكبات كبيرة، وأثبت للقاصي والداني أن معظم القيادات الدعوية يعاني جهلاً فاضحاً في السياسة.

     ثم إن على الأتباع أن يحبوا قادتهم، لا أن يقدسوهم، وعلى القادة أن يتقوا اللَّه في أتباعهم، حتى لا يورطوهم في مغامرات حمقاء، ولا يعدوهم وعوداً جميلة غير قابلة للتحقيق، ولا يحاولوا البروز أمامهم بصورة الأبطال لينتزعوا منهم الثناء والإعجاب، بدغدغة عواطفهم الحالمة، والعزف على طموحاتهم الواهمة، فهذا نوع من «النفاق» الخطر الذي يقود إلى تداعيات سيئة جداً، ومنافقة الأتباع أسوأ من منافقة الطغاة، وربما كانت شجاعة الإحجام أولى وأجدى من شجاعة الإقدام.

     إن في أعماق بعض أبناء العمل الدعوي حوادث يعدونها مفاخر وإنجازات، وأنا أعدها من الأخطاء، وإعجاباً بعدد من الرموز يعدونهم أبطالاً وفرساناً ومجددين ومؤلفين، وأنا أعدهم من المسيئين والمشوهين والأدعياء والساطين على جهود غيرهم، وأفكاراً في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والدين يرونها من الثوابت، وأنا أراها خليطاً مشوشاً تمتزج فيه بعض الحقائق بكثير من الأوهام والأحلام والتعميمات الضارة والأحكام المعلبة الساذجة الجاهزة.

     لذلك قلت أكثر من مرة لبعض الصفوة من أصحابي: لو علم جهلة الدعويين والمرتزقة والأدعياء والمشوهون والمتسلقون وجهة نظري فيهم كاملة لرجموني بالحجارة، غفر اللَّه لي ولهم، وهدانا إلى صراطه المستقيم.

· المرحلة الجامعية:

     حين حصلت على الثانوية العامة عام 1959م، كنت قد حسمت اختياري فيما أريد أن أدرسه في الجامعة، وهو أن أدرس اللغة العربية في جامعة القاهرة، وكنت أقول لأصحابي: إن لي هدفين من السفر إلى مصر، الأول: أن أدرس اللغة العربية فيها، والثاني: أن أصبح أديباً كبيراً، وحين تخرجت بتفوق بفضل اللَّه U، كنت أقول لهم: لقد حققت نصف أهدافي، وهو أني درست بمصر.

     درست اللغة العربية في قسمها الشهير العتيد في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وكنت في سنوات الدراسة الأربع «1959-1963م» طالباً متفرغاً تماماً للدراسة، وكنت أدرس بروح العاشق لما يدرس، الحريص على التفوق فيه، المعجب بالأساتذة الكبار الذين كان يتعلم على أيديهم، الذي سكن حب العربية في أعمق أعماقه، فهو يراها ديناً وعرضاً وجمالاً وروعة.

     وكان أبرز الأساتذة الأجلاء في تلك المرحلة: شوقي ضيف، يوسف خليف، حسين نصار، سهير القلماوي، زكي نجيب محمود، عبد الحميد يونس، شكري عياد، جمال حمدان، محمد رشاد سالم، عبد العزيز الأهواني.

     أما أبرز زملاء المرحلة فهم: رمضان سعيد، أحمد مرسي، محمود شريف، غريب محمد غريب، عبد العزيز السالم، حسين الصباغ، إبراهيم الفيومي، حسين عطوان، عبد المجيد المحتسب، هاني العمد، عبد النعيم شمروخ، علي ذو الفقار شاكر.

     وكان محمود شريف ودوداً لطيفاً، وقد جاورته في حي «المَنْيَل» فتوثقت صلتي به، وكنت أتصعلك معه كثيراً، وكان يقول: إن من يرى إقبالك على الدراسة وشغفك بها يجزم بأنك تؤدي مهمة.

     أما عبد العزيز السالم فقد أثبت كفاءة وأمانة في عمله، فأعجب به رؤساؤه، وظل يترقى حتى تقاعد وهو الأمين العام لمجلس الوزراء برتبة وزير، وله فصل خاص شائق في هذا الكتاب عنوانه: «الأستاذ عبد العزيز السالم - صورة كلية».

     أما غريب محمد غريب فقد كان ذا موهبة شعرية بادية ومبكرة، وكان يثني عليّ فيقول لي: إن جميع الزملاء يشهدون لك بالمروءة.

     أما أحمد مرسي فقد حدد طريقه بدقة، وسار فيه بإصرار، فقد تم اختياره معيداً، وتدرج في السلّم الأكاديمي حتى وصل منتهاه، ومن الطريف أنه كان أحد من ناقش رسالتي للدكتوراه، وكانت عن الشاعر الكبير «عمر أبو ريشة» عام «1414هـ/ 1994م»، وقد غلبتني أثناء المناقشة ذكريات الزمالة فقلت له: «يا أخي»، ثم استدركت واعتذرت فوراً.

     لقد تعلمت الكثير في تلك المرحلة، وفي طليعته مناهج البحث وقواعد التحقيق، وما تستدعيه من دقة وإتقان وضوابط، وكنت فرحاً بها جداً خلافاً لأكثر الزملاء الذين كانوا يضيقون بها، وأبرز من غرسها فينا شكري عياد وحسين نصار.

     ومن أكبر ما نفعني يومذاك حضوري مناقشات الماجستير والدكتوراه، كنت أختار مكاناً قصياً، وأجلس بهدوء أسمع وأتابع وأختزن، وفيّ رغبة حادة في التعلم، وشعور يملأ نفسي بأنني في محفل علمي جاد، يقدم لي هدية ثقافية دسمة ومجانية.

     وكانت أول رسالة دكتوراه شهدت مناقشتها هي رسالة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد «النيل في الأدب المصري»، ثم حضرت مناقشة رسائل كثيرة في اللغة والنحو والأدب والفلسفة والتاريخ والجغرافية، أما آخر رسالة حضرت مناقشتها فكانت في عام 1963م، وكانت للدكتور شاكر الفحام، وكان موضوعها «الفرزدق»، ويومها شاهدت للمرة الأولى شيخ العربية الأكبر محمود محمد شاكر بين الحضور، فقد كانت تربطه بالدكتور الفحام صلة خاصة.

     ولقد لقيت التشجيع من عدد من الأساتذة في تلك المرحلة، وكان أبرز المشجعين: شوقي ضيف، يوسف خليف، حسين نصار.

تخرجت بفضل اللَّه تعالى عام 1963م، وبتفوق، وحصلت على مجموع قدره «203/240»، ووجدت نفسي وأنا في الرابعة والعشرين أحمل إجازة جامعية بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف الثانية، وفي اليوم التالي لإعلان النتائج ذهبت برفقة الزميل أحمد مرسي لزيارة الدكتور شوقي ضيف في بيته في حي «المنيل» فقال لي -رحمه الله رحمة واسعة: ابق معي خمس سنوات أمنحك فيها الماجستير والدكتوراه، وليتني أطعته.

     ودار الزمن فوجدتني بعد ذلك - وكنت أعمل في الندوة العالمية للشباب الإسلامي في الرياض - أعد المذكرة اللازمة لترشيح هذا العلم الكبير لجائزة الملك فيصل العالمية في مجال الأدب العربي التي نالها بجدارة تامة، وكنت في غاية السعادة لأني أشعر أنني أرد له بعض فضله علي، ودار الزمن مرة أخرى فوجدتني مع الدكتور أحمد هيكل يناقشني في رسالة الماجستير التي أشرف عليّ فيها الدكتور طه وادي، وكانت عن الرثاء عند البارودي وحافظ وشوقي، وقد كان رأي الدكاترة الثلاثة فيّ حسناً من حيث الرسالة، ومن حيث المناقشة، فمنحوني الماجستير بتقدير امتياز، وكان ذلك عام «1410هـ/1990م».

     وكما كان لي شرف ترشيح الدكتور شوقي ضيف لجائزة الملك فيصل العالمية؛ كان لي شرف ترشيح آخرين في مجالات الأدب العربي والدراسات الإسلامية، وخدمة الإسلام. وقد فاز أكثر من رشحتهم يومذاك، ومن بينهم الدكتور يوسف خليف، وقد رشحته عن كتابه الجميل الشائق «ذو الرمة شاعر الحب والصحراء»، وكنت المسؤول في الندوة عن إعداد المذكرات اللازمة للترشيح، وكنت أحرص فيها على التجويد والإتقان، وأستأذن فيها الأمين العام للندوة، وأتفق معه على الشخص المرشح، وأضع ما أكتب بين يديه ليوافق عليه، ذلك أنه الشخص الذي تصدر المذكرة بتوقيعه.

· القراءة:

     أولعت بالقراءة منذ صغري، حتى صارت عادة ملازمة لي حيث أكون، لا أستطيع أن أنفك عنها، وكأنها نوع من الإدمان، وقد قرأت في كثير من المجالات كالسياسة، والدين، والأدب، والشعر، والتاريخ، والرحلات، والمذكرات، والجغرافية، والأعلام.

     ولم أصبر على القراءة في الاقتصاد، ولذلك معلوماتي فيه ضئيلة، أما الفلسفة فقد نفرت منها ابتداء لأني وجدت أن لأكثرها تهويمات وافتراضات مرجعيتها شخصية خالصة، وأي فكر لا يعتمد على ثوابت أساسية تكون مرجعية له؛ يصبح نوعاً من الأحلام والأوهام والمناقشات النظرية المحضة، ومن أجمل ما قرأته عن الفلسفة واقتنعت به تماماً أنها لم تدفع البشرية شبراً واحداً إلى الأمام، ومنه ما قاله شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود ؒ، وهو يحمل درجة الدكتوراه في الفلسفة من فرنسا فهو خبير بها، وهو أنها لا تقول شيئاً، لأنها تقول الشيء ونقيضه، ومنه ما قاله الدكتور مصطفى عبد الرازق وهو شيخ أزهري وأستاذ للفلسفة في جامعة القاهرة، وهو أن عبقرية العقل المسلم لم تظهر في الفلسفة، وإنما ظهرت في علوم الأصول: أصول الفقه، وأصول التفسير، وأصول الحديث، وفي نفسي حسرة أني لم أدرس هذه العلوم الجليلة.

     بل إن العالم الأمريكي الكبير «ول ديورانت» صاحب الموسوعة الشهيرة «قصة الحضارة» يقرر في كتابه «مباهج الفلسفة» الذي ترجمه الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، أن الفلسفة تتناقض مع نفسها باستمرار، وأن الفلاسفة جميعاً خاضعون لثورة جنون قتل الإخوة، فلا يهدأ لهم بال حتى يحطموا كل منافس.

     لقد نفعتني القراءة نفعاً كبيراً، ووسعت مداركي، وجددت معلوماتي، وجعلتني أهدأ نظراً، وأصدق حكماً على الأمور، ومنحتني الشجاعة لأغيّر وجهة نظري حين تتوافر دواعي ذلك، وأتذكر الآن أن بعض ما كان راسخاً عندي وأعده من الثوابت تخليت عنه، وربما صار عندي خطأ أو مفضولاً، وأن بعض ما كنت أراه من الممنوعات تخليت عنه، وربما صار عندي واجباً أو فاضلاً أو مباحاً.

     وأذكر بهذه المناسبة أن أحد رفاق العمر، كان يقول لي في سياق العتب واللوم: لقد تغيرت وغيرت رأيك، فقلت - ولا أزال أقول: إنني أجهر حيث تدعو الحاجة بهذا التغيير، وإن الذين يثبتون على آراء تبيّن لهم خطؤها هم جبناء، وإن الذين لا يغيِّرون آراءهم هم الأنبياء لأنهم لا يخطئون بعصمة اللَّه لهم، والأغبياء لأنهم يتوهمون أنهم لا يخطئون، والمهم أن الإنسان الذي يغير رأيه ينبغي له أن يفعل ذلك عن مراجعة واقتناع وطلب للحق، لا خوفاً ولا نفاقاً ولا طمعاً، ولا مداراة للآخرين.

     ولقد تركزت قراءاتي في السنوات الأخيرة في: الشعر، والسياسة، وقضايا الأمة عامة، والعمل الإسلامي خاصة، وقلّت فيما سواها.

· الأسفار:

     أكرمني اللَّه تعالى فهيأ لي فرصة ثمينة سافرت فيها إلى عدد من البلدان، وكان لهذه الأسفار متعة خاصة، وآثار متفاوتة الأهمية في العالم العربي، كتب لي زيارة مصر، والسودان، وتونس، والجزائر، والمغرب، والكويت، والبحرين، وقطر، والإمارات العربية المتحدة، وعمان والأردن، وفي إفريقية كتب لي زيارة كينيا، وتنزانيا، وسيراليون، وجنوب إفريقية، وفي آسيا كتب لي زيارة الهند، والباكستان، وبنغلادش، وسريلانكا، ونيبال، والمالديف، وماليزيا، وفي أوربا كتب لي زيارة بريطانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، كما كتب لي زيارة قبرص، وتركيا، وأستراليا، ولا بد من وقفة قصيرة مع كل من مصر، والمغرب، وإسبانيا.

     أما مصر فالأمر فيها لم يكن مجرد زيارة، ذلك أني أقمت فيها أربع سنوات هي المرحلة الجامعية «1959-1963م»، ثم ظللت أعود إليها بين الحين والآخر زائراً أو طالباً، ومنها حصلت على الماجستير عام «1410هـ/ 1990م»، وعلى الدكتوراه عام «1414هـ/ 1994م»، ولي فيها صداقات وذكريات، وأساتذة وزملاء، وحين أكون فيها أجد راحة واسعة، بسبب الدين، واللغة، وطيبة أهلها، ورخص أسعارها، واعتدال مناخها، فضلاً عن معرفتي الجيدة بها، وهو ما يسهل علي الإقامة والتنقل فيها.

     وأما المغرب فقد زرته عام 1979م الزيارة الأولى، ثم توالت زياراتي له، فقد أعجبت بطيبة أهله، وتنوع أقاليمه، ورخص أسعاره، وقبل ذلك الدين واللغة، وصداقة عميقة مع أخ نبيل فاضل في تطوان التي تقع في أقصى شمال المغرب، هو الأستاذ محمد المكي الوزاني الحسني، وقطعت في هذه الزيارات تخوم المغرب من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، حتى قال لي أخي محمد: لقد رأيت المغرب يا أبا معاذ أكثر مما رآه معظم المغاربة، كنت أتجول في هذا البلد العريق الأصيل، وأتذكر دوره التاريخي في خدمة الإسلام والمسلمين، وأتذكر المرابطين والموحدين وطارق بن زياد ويوسف بن تاشفين وعبد الكريم الخطابي، وغيرهم من أبطاله وفرسانه، وقد كتبت فيه بعض أشعاري، وكان بعضها خاصاً به، ولي عنه قصيدة تقول بدايتها:

المغــــرب حلو مزيانُ     في سفر المجد له شانُ
الأرضُ الجنـــة باهرةٌ     والناس كرام مذ كانوا

     وللمغاربة مثل جميل يقول عمَّن سافر في الأرض: الذي جال يعرف أكثر من الذي عمَّر.

     أما إسبانيا فقد تعلقت بها قبل أن أزورها، وذلك منذ درسنا تاريخها وأدبها، وزادنا تعلقاً بها ما قرأناه عن جمالها وتنوعها، والنهاية الحزينة التي انتهى إليها أمرنا بعد أن سدناها عدة قرون.

     زرتها للمرة الأولى عام 1979م، ثم توالت زياراتي لها وكثرت، وكان آخرها عام «1416هـ/1996م»، وكنت أتجول فيها بروح العاشق الذي تمتزج في وجدانه منازع شتى من الدين، والتاريخ، والإعزاز، والأحزان، والسياحة، والشعر عامة والموشحات خاصة، وأولها الموشح الذائع الصيت:

جادك الغيث إذا الغيث همى     يا زمان الوصــــل بالأندلس

     وكان يرافق هذا كله حبور عميق مرده إلى رؤيتي البدايات الأولى لإسلام بعض الإسبان، وهو أمر كان محظوراً لعدة قرون.

     كنت أشارك في بعض الأنشطة الإسلامية الطلابية، التي كان يقوم بها بعض الطلبة المسلمين، فإذا انتهى أمد هذا النشاط أو ذاك، عمدت إلى استئجار سيارة أتجول فيها، ومعي خرائط وكتابان يلازمانني هناك دائماً، الأول منهما: «رحلة الأندلس» لحسين مؤنس، والثاني «الآثار الأندلسية الباقية في إسبانيا والبرتغال» لمحمد عبد اللَّه عنان، وقد انتفعت منهما جداً، وقد تجولت في معظم إسبانيا شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، لكنني عنيت بشكل خاص بغرناطة وقرطبة وإشبيلية لأن الآثار الإسلامية فيها أعظم وأخلد، فكانت زياراتي لها أطول وقراءاتي عنها أكثر، أما مدريد فهي العاصمة منها تبدأ الرحلة وفيها تنتهي، لذلك أقمت فيها طويلاً، وتجولت فيها كثيراً.

     وإلى جانب هذه المدن الأربع مررت وتلبَّثت - قليلاً أو كثيراً - في قادش، وطليطلة، والإسكوريال، والجزيرة، وبلنسية، وشاطبة، وجيان، وبلد الوليد، وسمورة، ومالقة، وماربيا، وجبل طارق، ورندة، وسرقسطة، وشقوبية، وسلمنكة، وطريف، وقرمونة، ولوشا، ومرسية، والمنكّب، وسهيل، وبرغش، وسانتياجو، وليون، وكوفادنجا، وبرشلونة.

     لم أكن أطوف طواف المستعجل الذي يريد أن يسارع إلى الرحيل، بل كنت أطوف طواف المتأني المتأمل، أتذكر، وأحزن، وأفرح، وأنشد الشعر، وأصلّي، وقد أبكي، وأسرح مع الخيالات والأمنيات، وأقرأ في الكتابين اللذين يلازمانني عن المكان الذي أنا فيه، وأذكر أنني أذنت في مئذنة المسجد العظيم في قرطبة، وصليت في محرابه الأنيق الجميل الذي ظل على روعته وجلاله حتى اليوم، وكان خادم المسجد قد فرغ من تنظيفه للتو، وكانت صلاتي مثاراً لاستغراب السياح الأجانب الذين أخذتهم الدهشة لما يقوم به هذا الكهل العربي الأسمر، وأخذوا يلتقطون لي الصور.

     وفي برشلونة حرصت على زيارة القرية الجبلية الرائعة التي تطل عليها، واسمها ﭬالـﭬديرا، لأنها المكان الذي اختاره شوقي لإقامته حين نفي إلى إسبانيا، وهي قرية وادعة جميلة صغيرة، حاولت أن أتخيل كيف كان شوقي يقضي يومه فيها، وفي لوشا ترحمت على ابنها الألمعي النجيب لسان الدين بن الخطيب، وفي جيان دعوت لابن مالك صاحب الألفية الشهيرة في النحو، وفي المنكّب تذكرت عبقرية عبد الرحمن الداخل «صقر قريش» وهمته البعيدة، وحزمه وعزمه، لأن المنكب هي المدينة الساحلية الصغيرة التي دخل منها إسبانيا فكان منه ما كان، وفي رندة رددت القصيدة الرائعة الذائعة لأبي البقاء الرندي التي يرثي فيها الأندلس، ومطلعها:

لكل شيء إذا ما تم نقصــانُ     فلا يُغَرَّ بطيب العيش إنسانُ

     وفي شاطبة تذكرت الإمام الأكبر الشاطبي صاحب «الموافقات»، و«الاعتصام»، أما جبل طارق فإنه يذكرك باسم الفاتح العظيم طارق بن زياد، وجزيرة طريف تذكرك باسم طريف بن مالك قائد الحملة الاستكشافية التي بعث بها موسى بن نصير إلى الشاطئ الإسباني لاستطلاع الموقف قبل عبور الجيش، وقد وقفت محزوناً جداً على تل صغير في ظاهر غرناطة يسمى حتى اليوم «حسرة العربي» وهو بالإسبانية «Suspiro del Moro» الذي يروي التاريخ أن أبا عبد اللَّه الصغير آخر ملوك بني الأحمر، وقف عليه، وألقى منه نظرة الوداع على مدينة غرناطة، وعلى حمرائها الجميلة، فبكى، فقالت له أمه عائشة: «ابك كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال». وفي أحد متاحف مدريد رأيت وثيقة الاستسلام التي وقعها هذا الملك البائس.

     وفي جبال سيرا نيفادا منطقة يسميها العرب: «البشرات»، وتقع بين غرناطة والمرية، وفيها تقع أعلى قمة في إسبانيا كلها، تذكرت أن هذه المنطقة كانت ميداناً لآخر ثورة قام بها المسلمون الأندلسيون بعد سقوط غرناطة عام 1492م، احتجاجاً على قوانين التنصير ومحاكم التفتيش، وكانت ثورة عارمة، استيقظت فيها الحمية الإسلامية لدى المغلوبين الأندلسيين الذين رأوا المنتصر الإسباني يخون شروط التسليم واحداً واحداً، ويخالف كل ما وقعه معهم، وهم يفاوضونه، مؤملين أن يحصلوا على حياة كريمة تحفظ لهم هويتهم الدينية واللغوية والاجتماعية، لقد كرهوا الظلم الذي وقع عليهم، وقاموا بثورة عنيفة، قدموا فيها كثيراً من التضحيات، وحصلوا في البداية على انتصارات جزئية، لكنهم في النهاية هزموا تماماً، وظلت الأمور بينهم وبين الحكومة الإسبانية التي كان للكنيسة عليها تأثير كبير، بين مد وجزر، ولين وشدة، حتى خيّرتهم الحكومة بين التنصُّر أو الرحيل، فتنصَّر من تنصَّر، ورحل من رحل، وللَّه عاقبة الأمور، والدول كالأفراد لها أحوال وآجال.

     ومن أطرف ذكريات هذه المرحلة اقتراح تقدم به ولدي معاذ، وكان يومها صغيراً لم يبلغ الحلم بعد، ويريد من هذا الاقتراح أن يستعيد المسلمون هذا الفردوس المفقود، كما جرت عادة الكتاب والأدباء على تسميته، كنت أحرص على اصطحابه واصطحاب بقية العائلة معي خلال التجوال، وكنت أحدثهم وأشرح لهم وأفصّل، وأروي لهم أخبار المعارك، وسيرة العظام من خلفاء وفاتحين وقادة، وأنشدهم شعراً لهذا وذاك، فكان يطرب جداً، ويعجبه ما أقول كثيراً، وكان يرى جمال البلد، ورقة أهله، وتنوع بيئته، فقال لي: عندي خطة لاستعادة إسبانيا لتكون لنا نحن العرب المسلمين، قلت له: كيف؟ قال: الإسبان لا يحبون الإنجاب مَثَلُهُم في ذلك مَثَلُ بقية الغربيين، خلافاً لنا حيث نحب كثرة الإنجاب، وإذاً فعلينا أن نهاجر بالتدريج إلى إسبانيا ونتزوج ونكثر من الإنجاب، ومع الزمن نتكاثر نحن، أما الإسبان فيقلون فتعود إلينا هذه الديار الجميلة.

     ومن أطرف ذكرياتها أيضاً أنني مكثت فيها فترة وعادت الأسرة إلى الرياض، فجاءني إلى مدريد أحد رفاق العمر، وهو الدكتور سعود التويجري ففرحت، فهو رفيق ممتاز في الترحال، يحب التجوال جداً، ويصبر على قيادة السيارة الساعات الطوال، وأخذنا نتجول، ومعنا خرائط وعناوين، لكنه كان يكثر من قطع المسافات ويقلل من التوقف بسبب طبيعته العملية الجادة، وهذا مخالف لما أود حيث أحب التوقف لدى أثر أو جبل أو غابة أو مطعم حتى وإن لم نكن محتاجين إلى ذلك بسبب طبيعتي الأدبية المتأمِّلة المتأنِّية، فضاق صدري، لقد أراحني من عبء قيادة السيارة، لكنه كان يرهقني من أمري عسراً، إذ إنه يطيل في السفر وربما مشى في اليوم الواحد نحو 500 كم، وهي مسافة ربما أخذت مني أياماً، يضاف إلى ذلك أنه كان يشخر بصوت عال جداً، فكان يمنعني من النوم، وأخيراً قلت له: لن أسافر معك بعد اليوم فأنت ترهقني في النهار، وترهقني في الليل، لكنني تخليت عن هذا التهديد، فسافرت معه بعد ذلك بسنوات إلى نيبال واحتملت شخيره، لأنه أخ ممتاز ورفيق رائع في الحل والترحال.

     لقد عرفت إسبانيا من خلال هذه الرحلات معرفة جيدة، أعانني على ذلك أن البلد كان رخيصاً جداً، وأن أهله يحسنون التعامل مع الغرباء، وأن لي معارف وصداقات من الطلبة المهاجرين في معظم مدنها.

     لقد كانت حصيلتي من الثقافة والمتعة والتجارب في إسبانيا حصيلة طيبة، منها عدد من القصائد والمقالات، ولدي رغبة عساها أن تتحقق، هي أن أذهب مع ولدي معاذ، وهو اليوم بفضل اللَّه طبيب يشار إليه بالبنان، إلى إسبانيا في رحلة طويلة، ذلك أنه يحب التجوال، ويصبر على قيادة السيارة، والخطة المأمولة أن يكون لدينا «ﭬان» صغير، لأن فرصة الراحة فيه أكبر، نستعمله في زيارة ما لم نزره في إسبانيا، ونجدد الزيارة لما سبقت زيارته.

     وقد قلّت أسفاري في السنوات الأخيرة جداً، بسبب السن، وبسبب الغلاء الكبير في نفقات السفر، ثم إني في حاجة إلى المكوث الطويل مع كتبي وأوراقي لتكون لي عوناً فيما أجدني مدفوعاً لكتابته قبل أن أرحل.

     على أن لي رغبة أن أزور ثلاثة بلدان قريبة، وهي اليمن، والعراق، وإيران، ذلك أن لهذه البلدان موقعها المهم في تاريخ العرب والمسلمين وثقافتهم، وفي زيارتها متعة وثقافة وفوائد جمة.

· المجالس والديوانيات

     تنعقد في بيوت بعض الأدباء والوجهاء والعلماء جلسات دورية، تكون أسبوعية، أو نصف شهرية، أو شهرية، تسمى مجلساً أو ديوانية أو ندوة، وقد تضاف إلى صاحبها فيقال: مجلس فلان، أو إلى اليوم الذي تنعقد فيه فيقال: ندوة السبت..، وهكذا.

     وقد حرصت كثيراً على حضور هذه المجالس والديوانيات، واستفدت من ذلك فوائد جمة، حضرت في مصر ندوة الأستاذ العقاد ؒ، وكنت في غاية الفرح أني أسمعه وأجلس في بيته مع الجالسين، وحضرت ندوة علَّامة العربية الأكبر محمود محمد شاكر، ومرة اصطحبني أستاذي شوقي ضيف إلى دار الدكتور محمد يوسف موسى فلقيت عدداً من الأعلام، وفي المدينة المنورة حضرت ندوة الأستاذ عبد العزيز الربيع وكان مدير التعليم فيها، أما الرياض حماها اللَّه، فحدث عن الندوات فيها وأطل الحديث ولا حرج.

     لقد كثرت الندوات فيها وتنوعت، حتى إنك في اليوم الواحد تجد ندوتين فتحتار أين تذهب؟ كانت ندوة الأستاذ عبد العزيز الرفاعي؛ تنعقد في داره العامرة كل خميس ليلاً، ومنذ العام «1389هـ/ 1969م» حرصت حرصاً شديداً على المشاركة فيها وظللت على ذلك حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى، ولهذه الندوة تميز خاص وفضل خاص، ذلك أن صاحبها كان يديرها بغاية الدماثة والرفق، ثم إنها أطول الندوات عمراً في حياتي، وفيها تشجعت على إلقاء بعض قصائدي، وعلى التعليق عما يقوله هذا الضيف أو ذاك مؤيداً أو معترضاً أو موضحاً.

     أما ندوة الدكتور راشد المبارك؛ فقد كانت تنعقد كل أحد ليلاً، وشاركت فيها كثيراً مؤيداً، أو معترضاً أو مداخلاً أو محاضراً، ومن خصائص هذه الندوة أن لها جدولاً يحدد المحاضرات التي تلقى فيها، ومديراً يدير الحوار فيها، ويعطى المحاضر ساعة من الزمن تقل أو تكثر، ثم يأتي الوقت المخصص للمعلقين والسائلين، وربما بدا الأمر وكأنه مناقشة لرسالة علمية، ولذلك أتذكر أن أول محاضرة لي فيها ألقيتها بناء على اقتراح الدكتور راشد، طلبت منه أن تكون بعد شهرين حتى أعدها إعداداً جيداً.

     وفي الرياض أحدية أخرى لفاضل من آل مبارك هو الأستاذ إبراهيم، وكانت هناك ندوة الدكتور أنور عشقي، وأخرى للأستاذ عثمان الصالح ؒ، وأخرى للأستاذ المشوح، وأخرى للأستاذ معتوق شلبي، وأخرى للشيخ أحمد باجنيد، وقد سماها من نبله وتواضعه «خميسية الوفاء» لأنه جعلها امتداداً لخميسية الأستاذ الرفاعي التي توقفت بوفاته..، وهناك الكثير.

     وبطبيعة الحال يتفاوت حظ هذه الندوات من الجودة بحسب المحاضر والحضور والموضوع، والمداومة على حضور هذه الندوات جميعاً أمر مستحيل، لذلك يغيب المرء مرة، ويحضر مرة، تبعاً لوقته وظروفه، وتبعاً للمحاضر، وتبعاً لموضوع المحاضرة.

     ولبعض هذه المحاضرات برنامج دقيقٌ معدٌّ ومعلنٌ من قبل، وبعضها دردشة يتنقل فيها الحديث من شخص إلى آخر، ومن موضوع إلى موضوع.

     ولقد استفدت من هذه الندوات فوائد جمة، فقد قابلت فيها أناساً من الأعلام من داخل المملكة وخارجها لم يكن لي أن أقابلهم وأسمعهم لولاها، وفيها تشجعت على الكلام، وفيها تعلمت أدب الحوار، فقد رأيت من يضيق الحضور بحديثه لأنه أطال، أو خرج عن الموضوع، أو تعالم على الحاضرين، أو تحدث دون استئذان، ورأيت من يعجب الحضور به لأنه أجاد وأحسن الأدب، ورأيت المحاضر الذي يعد محاضرته إعداداً جيداً فيحترم نفسه ويحترم الآخرين ويحترمه الآخرون، ورأيت عكس ذلك، ولهذا وضعت لنفسي قواعد صارمة وهي ألا أتحدث دون استئذان، وأن ألتزم الوقت المحدد وربما اختصرته، وأن أعد المحاضرة المطلوبة أو المداخلة المطلوبة إعداداً دقيقاً، ولذلك غلب عليّ الصمت في هذه الندوات، حتى إن مدير هذه الندوة أو تلك كان يدعوني إلى الحديث فأعتذر، وربما قلت له: ليس عندي ما أضيف، أو لقد كان لدي ما أود قوله ولكن أحد الحضور قاله فأغناني عن الكلام.

     وقد زادت هذه الندوات من معلوماتي، ووسعت من علاقاتي، وعدّلت كثيراً من أحكامي وآرائي، وشجعتني كثيراً على مراجعة نفسي، إنها بحق مدرسة لي كان فضلها عليَّ كبيراً.

· الندوة العالمية للشباب الإسلامي:

     التحقت بهذه المؤسسة الدعوية المباركة عام «1379هـ/ 1977م» في أيام أمينها الأول الدكتور عبد الحميد أبو سليمان، وعملت فيها أكثر من عشر سنوات، والطريف أنني ظللت أتردد إليها أكثر من عام دون الالتحاق بها، ذلك أن أمينها العام كان يدعوني للعمل فيها في مجال تحرير الخطابات والإجابة على المراسلات، وكنت أضيق ذرعاً بهذا، ثم إني اقترحت عليه تأليف كتاب جامع يعرِّف بالكتب التي تحتاج إليها الأسرة المسلمة فسُرَّ بذلك وسررت وبدأت العمل معه، وقد صدر الكتاب بعد عدة سنوات بخطته وإشرافه، أما من شارك في تأليفه فهم عدد من الأشخاص أنا واحد من بينهم، ويحمل الكتاب اسم: «دليل مكتبة الأسرة المسلمة» وقد صدرت له طبعة ثانية خير من الأولى، وطبعة ثالثة خير من أختيها السابقتين.

     وفكرة الكتاب ثمينة جداً، والتطبيق العملي لها لا يخلو من أخطاء، والكتاب بحاجة إلى تجديد مستمر، فيه تقويم وتحديث وإضافة وحذف وملاحق حتى يكون أمد الانتفاع به أكبر ومساحته أوسع، مثله مثل المقررات المدرسية التي تعيد وزارات التربية والتعليم النظر فيها باستمرار.

     ويحسن بقارئ الكتاب أن ينظر قبل كل شيء في مقدماته فهي مكتوبة بدقة وعناية، وقراءتها هي المدخل الطبيعي للاستفادة المثلى منه.

     وبطبيعة الحال سيطوي الزمن بعض مواد الدليل، لظهور بدائل جديدة أحسن منها تغني عنها، وهو أمر محمود ومطلوب، ولكنه سيظل بروحه العامة، وهدفه الواضح، ورؤيته الشاملة، وتوزيعه الجيد، ووعوده الطامحة، واستشرافه المستقبلي، ومقدماته المحكمة، إضافة نوعية جديدة وجريئة، ومحكمة للعمل الدعوي حين ظهوره، يشهد له بذلك ما لقيه من ثناء كبير مستطاب من نخبة من أعلام الدعاة والمفكرين، والمتابعين لأمور الدعوة والدعاة، وعسى أن تأتي محاولات جديدة تقفو خطاه، وتتفوق عليه[1].

     لقد عملت في الندوة أكثر من عشر سنوات، كانت طويلة من حيث العدد، لكنها كانت أطول من حيث الخبرة، لقد وسعت دائرة معارفي من حيث المعلومات والصداقات والعلاقات في معظم العالم، فهناك مناطق كثيرة زرتها من خلال الندوة، ومناطق أخرى لم أزرها لكني عرفتها من خلال ممثليها وما قرأته وما سمعته عنها فكأني قد زرتها.

     وللقارئ الكريم – حتى لا يتهمني بالمبالغة – أن يتذكر أن مهمة الندوة كانت خدمة المنظمات الشبابية في العالم، وأنني واحد من العاملين فيها، الذين ظلوا هذه السنوات الطوال يشاهدون هذه الوفود، ويسمعون، ويقرؤون لها وعنها، فضلاً عن المشاركة في عدد من المؤتمرات والمخيمات، والاستماع لعدد من المحاضرات.

     وفي هذه السنوات الطيبة رأيت الكثير، من عرب وغير عرب، ومسلمين وغير مسلمين، ومن قادمين من شتى البلدان والألوان واللغات والانتماءات، ورأيت المسلم الدعوي الحزبي، والمسلم الدعوي غير الحزبي، ورأيت السلفي والصوفي، ورأيت الدعاة كما رأيت الأدعياء، ورأيت المخلصين العقلاء كما رأيت المخلصين الحمقى، ورأيت الأبرار ورأيت الفجار، ورأيت من يكون نعمة حيث حل، ورأيت من يكون فتنة حيث حل، ورأيت من يعمل بروح صاحب الرسالة المخلص المتفاني، ومن يعمل بروح الموظف فقط، ومن يعمل بروح الانتهازي المنتفع فقط.

     كما أني رأيت فيها جمعية من الجمعيات يأتي وفد عنها وأعضاؤه يد واحدة، ثم يعودون فنرى الانقسام بينهم، وأحياناً نرى العداوة والبغضاء والاتهام.

     لقد خرجت من الندوة بفوائد جمة، بعضها انفردت به الندوة، وبعضها شارك فيه سواها بدرجة أو أخرى وهي بإيجاز شديد: التفرقة بين الإسلام والعمل الإسلامي، والضوابط اللازمة لإنشاء أي عمل دعوي والتعامل معه، وضرورة التقويم وإعلان الأخطاء حتى لا تكررها الأجيال اللاحقة، ومخاطر الامتداد العشوائي للعمل الدعوي، وجناية الحمقى والمرتزقة والأدعياء عليه، والأهمية الكبرى لتحديد الأهداف والوسائل، وسذاجة أكثر العاملين في الحقل الدعوي وغفلتهم، والجهل بالسياسة الذي يعيش فيه أكثرهم من قادة وجنود، وهناك الكثير.

     وقد أشرت إلى شيء من ذلك خلال حديثي عن المؤثر الثاني من فصل «بصمات ومؤثرات» وهو «الإسلام»، وعذراً للتكرار، ولديّ مزيد من الحديث والتفصيل، أرجو اللَّه تعالى أن يعينني على إخراجه تاماً كاملاً صريحاً لعلي أبرئ به ذمتي قبل أن ألقى اللَّه تعالى.

     لقد كانت الندوة العالمية للشباب الإسلامي مدرسة لي بحق، تعلمت منها الكثير، ذكرت بعضها فيما سبق وأضيف إليه الآن أني تعلمت منها: الاعتدال والوسطية والواقعية والإنصاف، كما تعلمت شجاعة التجدد والاعتذار.

     سقى اللَّه تعالى أيام الندوة، وخاصة الفترة الأولى منها أيام أمينها الأول الدكتور الفاضل عبد الحميد أبو سليمان، حيث كنا نعمل فيها – ومعاذ اللَّه أن نزكي أنفسنا، وأن نبرئها من الخطأ – بروح العاشق المعتز صاحب الرسالة، أعاننا على ذلك أننا وجدناها نافذة من الخير جديرة أن تخدم، وتجانس العاملين فيها بشكل عام، ومرونة المسؤولين فيها وسعة آفاقهم، وروح الفريق التي كانت تسود الجميع، يضاف إلى ذلك أن الندوة كانت شابة تعمل بحماسة الشباب، وكنا مثلها شباناً مندفعين نعمل بحماسة الشباب فتلاقت الحماستان فكان منهما خير كثير، ثم دار الزمن فاختلفتْ واختلفنا، ودخلتْ ودخلنا في أحوال جديدة.

     قلت من قبل وأعود فأقول: لقد كانت الندوة مدرسة لي بحق، وأضيف إلى ذلك تكملة تقول: لقد كان فضلها عليَّ أكبر من فضلي عليها، وأذكر أني حين خرجت منها دعوت فقلت: اللهم هيئ لها خيراً مني، وهيئ لي خيراً منها، وهو دعاء مبارك شريف أكرمني اللَّه تعالى به وألهمني إياه.

· الخلوة:

     كنت في شبابي الأول واسع العلاقات متعدد الصلات، منفتحاً بأكثر مما ينبغي مع من يستحق ومن لا يستحق، لكنني مع الزمن، ومع المراجعة والإحباط، ومع الخسائر المادية والمعنوية، ومع التركيز على أمور بعينها والتخلص من كثير مما بدا لي أنه إضاعة للوقت والجهد والمال صرت أكثر اعتدالاً في علاقاتي وصلاتي، وأكثر حذفاً لما لا ينبغي، وأكثر عناية بما ينبغي.

     وقد أعانني على ذلك حبي للخلوة، والخلوة حين تكون معتدلة وإيجابية يقوم بها الإنسان عن وعي واختيار وضبط دقيق مفيدة جداً، خلافاً لخلوة العجزة والبائسين والهاربين من أنفسهم ومن الناس من قريب وبعيد.

     لقد استفدت من هذه الخلوة التي أحببتها فوائد جمة، وابتداءً أنا لا أضيق بالخلوة لأن فيَّ شيئاً من طبع البدوي، وشيئاً من طبع الأديب الشاعر، وشيئاً من طبع المفكر المتأمل، بل إنني أجد فيها متعة بالغة إلى جانب الفوائد المتأتية منها، ولي مع نفسي خلوتان يوميتان أحرص عليهما كثيراً، فضلاً عما سواهما من الخلوات.

     الأولى: أنني أحب أن أمشي وحدي في مكان هادئ حيث أحس بفوائد المشي، وحيث أقرأ شيئاً من الآيات الكريمة والأدعية الشريفة، فتلتقي حركة الجسد مع بركة القراءة، وهدوء المكان مع صفاء النفس فيكون منهما خير كثير، وحين أكون غاضباً أو محزوناً أهرع إلى ذلك، وفي بداية المشي يكون ما أعانيه من أذى في ذروته والفوائد المرجوة في بدايتها، ثم تنعكس المعادلة بالتدريج، فتزداد الفوائد وتقل المعاناة، حتى إذا انتهيت تماماً وجدتني مغسولاً نفسياً وبدنياً، ووجدت نفسي أطيب، وجسدي أنشط، وعقلي أرحب، وكأنني دخلت حمام «ساونا» نفضني نفضاً، وكأنني كنت في صلاة خاشعة ملأتني بالسعادة.

     أما الثانية: فهي أنني أحاسب نفسي قبل النوم قرابة عشر دقائق، أطبق فيها نصيحة أحد المربين الأذكياء، وفي هذه الدقائق أستعرض ما مرّ بي في يومي، فما كان من خير حمدت اللَّه تعالى عليه وعزمت على الاحتفاظ به، والاستكثار منه، وما كان من خطأ لمت نفسي عليه لوماً شديداً، وعزمت على النجاة منه، وسألت اللَّه تعالى العون، وطالما سألت نفسي في هذه المحاسبة، وربما وبَّختها وقسوت عليها قسوة شديدة، ولي مقال عن هذه المحاسبة فصّلت فيه، وهو في كتابي «صلاة في الحمراء» عنوانه: «لون من المحاسبة».

     إلى جانب هاتين الخلوتين، لي خلوة أسبوعية، وأخرى شهرية، وأخرى سنوية، وهناك خلوات تأتي بحسب الدواعي والنوازل.

     كنت في هذه الخلوات أراجع نفسي كثيراً، وأحاول اكتشاف الخطأ والصواب، وأنظر في الأولويات، وأعيد النظر في جدول الأصدقاء والإخوان حذفاً وإضافة وتقديماً وتأخيراً، وأطوي صفحة وأفتح أخرى، وأجتهد في التخلص من أحزان آذتني بحيث تبقى العبرة وتزول الحسرة، وأطيل النظر فيما منَّ اللَّه U به علي من نعم جليلة، لأن العادة الغالبة عليَّ وعلى أكثر الناس أنهم يفكرون بما ذهب منهم، وما لم يأت إليهم مما كانوا يؤملون، وينسون النعم الكثيرة التي فيها يرفلون، وهذا نوع من الجحود، وفيه سوء أدب مع اللَّه U، وبوسع الإنسان المسلم أن يستريح كثيراً إذا تذكر دائماً أن الأمر كله للَّه تعالى منعاً وعطاء، وأن القدر قد يأخذ منه أكثر مما أخذ، ويعطيه أقل مما أعطى، وأن الحياة الدنيا - مهما طالت - غمضة عين بالقياس للحياة الأخرى التي ينبغي للعاقل أن يعمل لها باستمرار.

     إن أفضال هذه الخلوات عليَّ عظيمة، لأنها تعينني على مكاشفة نفسي، واكتشاف سبلي في الحياة، وعلى وضع الأخطاء والإخفاقات في حجمها ووزنها، وعلى استشراف المستقبل، وفيها أشعر بسعادة غامرة، وعزيمة قوية، والتماع في العقل، وصفاء في النفس، وإرادة في الانتفاع من أخطائي ليكون ما أستقبله من أمري خيراً مما أستدبره، وليكون يومي خيراً من أمسي، وغدي خيراً من يومي، وفيها أغلِّب جانب التفاؤل، وفيها أقول لنفسي: إن بوسعي أن أعمل جديداً نافعاً، وأحاول تحديد هذا الجديد.

     ومما يجدر ذكره هاهنا أن الخلوة المعتدلة الإيجابية، تعين صاحبها على النجاة من أخطاء «العقل الجمعي» الذي يقع فيه الكثيرون، من حيث يعلمون أو لا يعلمون، وأهمها أن الإنسان يفكر كما يفكر الآخرون، ويعمل كما يعملون، دون أن يمعن النظر في خطأ ذلك وصوابه، فكأنه رهن عقله لعقولهم، وإرادته لإرادتهم، وهو ما يسميه بعضهم «عقلية القطيع» حيث تمشي الأغنام مشياً غريزياً أعمى وراء أوّلها الذي يقوده الراعي، ومن هنا دعانا اللَّه U إلى أن نخلو بين الحين والآخر بأنفسنا، مثنى أو فرادى، للتفكر والتدبر.

· الدعاء:

     أولعت بالدعاء منذ أوائل الشباب، حيث حفظت مجموعة من المأثورات الطيبة من آيات كريمة وأحاديث شريفة، وأدعية منوعة اعتدت على قراءتها مرتين في اليوم، صباحاً ومساء، يضاف إلى ذلك ما يقوله المسلم كل يوم، لدى استيقاظه ولدى نومه مروراً بكل تفاصيل حياته ومجرياتها، وأول كتاب واسع عنيت به في هذا المجال كتاب «الأذكار» للإمام النووي.

     ومع الزمن أخذت أضيف إلى ذلك، ما يطيب لي من أدعية مختلفة تمر بي، وأحفظها وأضعها في مكانها من نفسي، وبين أوراقي، وصار الوقت الذي تستغرقه إذا قرأتها كاملة أكثر من ساعة، أجد فيها سعادة بالغة جداً، وأجدني مشدوداً بقوة إلى وقتها المحدد، وإذا فاتتني - وقلّ أن تفوتني - أشعر بضيق شديد، وألوم نفسي لوماً شديداً.

     وبطبيعة الأحوال كنت ولا أزال أعطي الدعاء عناية خاصة في الأوقات الشريفة والأمكنة الشريفة والأحوال الشريفة، وفي يوم الجمعة، وليلة القدر، وحين أكون في أحد الحرمين الشريفين يزداد حجم هذه العناية زيادة بالغة.

     وقد عرفت بين أهلي - وخاصة صحبي - بولعي بالدعاء، فأخي أبو العلاء[2] كان إذا حدثني ووجدني غير منتبه له يقول لي: إنك الآن تدعو، وأخي أبو عمر[3] يقول لي: لا أعرف بين أصدقائنا أحداً هو أحفى بالدعاء منك.

     ومن الطريف أن هناك من يتصل بي بالهاتف، من الداخل والخارج، ليطلب مني أن أدعو له ويسمّي لي حاجته، فإذا وعدته فعلت.

     وقد جمعت الكثير من كتب الدعاء فوجدت أكثرها تكراراً وإعادة، لكني حين قرأت كتاب الشيخ محمد الغزالي «فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء» وجدت شيئاً آخر، وجدت الشيخ يحلل، ويفسر، ويعقب، ويكتب بروح العالم الثبت، والمحب العاشق، والأديب الملهم، وفي لغة مشرقة، وبيان رائع، لم أجده في كل ما قرأت لغيره في كتب الدعاء.

     لقد قرأت هذا الكتاب عدة مرات، ووجدت فيه متعة بالغة، وفوائد جمة، وإشارات ذكية، وأنوي أن أعود إليه المرة بعد المرة، وأنصح مَنْ حولي به.

     وأحب أحوال الدعاء إلي هو حين أمشي منفرداً، فالوحدة تعين على التركيز، والمشي يعين على الانسجام بين حركة الجسد وأشواق الروح، وحين أحظى بهذه الحالة من الدعاء، أرى نفسي قد ظفرت باثنتين: «ساونا جسدية» مردها حركة الجسد، و«ساونا روحية» مردها أشواق الروح.

--------------------------
[1] هذا الكتاب يذكر بكتاب آخر يشابهه، ويتكامل معه، وهو «ميثاق الشرف الدعوي – د.هشام الطالب»، وهو مجموعة قواعد صيغت بدقة، وإحكام، وشمول، وعناية بالغة تراعي مصالح كثيرة، وفكرة الميثاق أنقلها كما جاءت، في بدايته، وهي «دعوة المسلمين عامة، والدعاة منهم خاصة، إلى التلاقي على مجموعة من القواعد والضوابط والمبادئ التي تشكل في مجموعها ميثاق شرف للعمل الدعوي، ودستور ثقافة للفكر والممارسة، بحيث تزداد مساحة الوفاق والصواب والفاعلية، وتقل مساحة الخلاف والخطأ والعطالة». والميثاق ممتاز جداً، ويسد ثغرة مهمة، ينبغي أن يذاع في نطاق واسع، ويعاد فيه النظر مرة بعد مرة، والدكتور هشام إنسان فاضل له سابقة محمودة في العمل الدعوي في أمريكا.
[2] عبد الرزاق ديار بكرلي.
[3] الدكتور أحمد البراء الأميري.

الأكثر مشاهدة