الخميس، 7 يوليو 2022

مجاهدو التحرير

مجاهدو التحرير

     تعاني الأمة المسلمة اليوم من حروب كثيرة متنوعة، بعضها علني مكشوف.. وبعضها مستتر خفي. بعضها مباشر واضح، وبعضها مُلْتَوٍ ملفوف. قد تختلف ضراوة هذه الحرب، وقد تتباين صورها وأشكالها، وقد تتعدد دوافعها، لكن الدافع الأكبر لها، كراهية الأعداء لهذه الأمة، بسبب انتمائها إلى الإسلام، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [البروج:8]. هذه الحقيقة يجب أن نعيها بغاية الوضوح والجلاء، ونحن ندرس مواقع أقدامنا وصراعنا مع أعدائنا.

     ومن البشريات الخيّرة في حياة الأمة المسلمة اليوم، أنها على الرغم من كل الذي حلّ بها من كوارث لا تزال في جملتها صحيحة الولاء لإسلامها، ولا يزال دينها الخالد العظيم قادراً على تفجير طاقاتها حين تتوافر شروط ذلك.

     إن الإسلام هو عقيدة هذه الأمة، ومحاولات إبعادها عنه ليست دليلاً على أن الأمة عامة قد غيّرت قِبلتها، وإنما هي محاولات قام بها الأعداء ووكلاؤهم في المنطقة. وضراوة المحاولة المعادية لفصل الأمة عن إسلامها تؤكد الانتماء ولا تنفيه، لأنها ما كانت ضارية إلا بسبب ولاء الأمة الوثيق لإسلامها.

     إن الأمة قد استقر في أعماقها أن الإسلام ليس دينها الصحيح النقي فحسب، بل هو إلى جانب ذلك، يشكل لها العاصم والملجأ والملاذ في هذه الدنيا، حين تقسو عليها الظروف، وتكثر في مواجهتها التحديات.

     وحين يقول المرء: إن الإسلام حَمى وجود الأمة وكيانها، فإنه يقرر بذلك حقيقة ضخمة كبيرة باتت في غاية الجلاء، وكثرت عليها الشواهد.

     خذ ليبيا مثلاً.. إن ليبيا لا تاريخ لها إلا الإسلام، ويوم أن وجدت نفسها تحت وطأة المستعمرين، يذلّون كرامتها، ويضطهدون خصائصها، لم تجد سوى الإسلام تلوذ به ليحميها، ولقد حماها الإسلام حقاً وحفظ وجودها حين أشعل بعقيدته روح الجهاد في نفوس أبنائها.. فقاتلوا المستعمرين قتالاً موصول الأنفاس والدمار والشهداء.

     وليست ليبيا وحدها هي التي حماها الإسلام، ووصل من خلالها، جهاده القديم في حركة الفتوح، بجهاده الحديث في حركات الاستقلال في العالم الإسلامي التي نشبت ضد الغزاة الطامعين.

     إن حركات الاستقلال في العالم الإسلامي كله، فجّرها إسلاميون مجاهدون رأوا في الوجود الاستعماري ذلاً مفروضاً على الأمة، وأيقنوا بقوة أن السكوت على هذا الاستعمار والاحتلال طعن في إيمانهم، ونقص في دينهم، واتهام لشجاعتهم وكرامتهم.

     حركة استقلال إندونيسيا قامت على أكتاف رجال مؤمنين كانوا يخططون للمعارك في المساجد، ويقاتلون باسم الإسلام وتحت رايته.

     والحركة المهدية في السودان نسجها الإسلام، وجمع المجاهدين حولها، وهي حركة كانت لها أهداف واسعة، فلقد كانت تعتزم تحرير العالم الإسلامي كله من الاستعمار، ولم تجعل غايتها سودانية فحسب.

     وفي مصر كانت أفواج المقاومة الشعبية وقودها الدين، فأيامَ الحملة الفرنسية كان الأزهر خليّة الجهاد، وأيامَ الإنكليز كانت الأفواج الشعبية المؤمنة تخرج من الأزهر الشريف ومن جامعة القاهرة التي ظهرت فيها هي الأخرى طلائع مؤمنة في غاية الشجاعة والرجولة، وكانت هذه الأفواج تقوم بنفسها بالجهاد وتحرّض الجماهير عليه.

     وفي غينيا كان الشيخ توري ومَنْ سبقه من العلماء يَصِلون ليلهم بنهارهم ضد الاستعمار.

     وفي الجزائر بدأت حركة الجهاد من الكهوف التي عكف فيها العلماء على تحفيظ الأجيال الجزائرية، القرآن الكريم، من خلال جمعية العلماء التي أسسها عبد الحميد بن باديس، وخلفه محمد البشير الإبراهيمي رحمهما الله. ولقد ظلّت حركات الجهاد الجزائرية من عبد القادر الجزائري إلى آخرها التي انتهت بالاستقلال، وقودها ودافعها الإسلام، ومن الريف الجزائري المسلم تَشَكّل الجيش الذي قدّم مليوناً من الشهداء.

     في الريف المغربي كان الأمير عبد الكريم الخطّابي ورجاله الشجعان يخوضون حرباً دينية جهادية خاصة ضد الإسبان.

     وفي الأفغان كانت قبائل الباتان تقاتل بروح جهادية مؤمنة، وفي الهند كان أحمد عرفان الشهيد وأضرابه من المجاهدين يقومون بالذي يقومون به من قتال ضد الإنكليز، ودوافعهم في ذلك إيمانية جهادية خالصة تشهد بذلك أقوالهم ومواقفهم وسيرهم المدوّنة المعروفة.

     وفي فلسطين شعر الشيخ عز الدين القسام رحمه الله بالحياء لأنه يدرّس لطلابه في المسجد، الجهاد وأحكامه وآدابه، وهو عنه قاعد، فترك مداد العلماء وكتبهم، واختار دماء الشهداء وأسلحتهم، وقاتل بمن معه حتى استشهد رحمه الله.

     وبعد دخول الإنكليز إلى العراق، كان العراقيون يقاتلون المستعمرين بدوافع دينية، وكانت فتاوى العلماء ومواقفهم خير مفجّر لحركة الجهاد، وثورة عام 1920م؛ في العراق خير دليل على ذلك.

     وفي سوريا كان حسن الخرّاط وأمثاله، من عامة الناس يقاتلون بروح دينية جهادية، أما العلماء والمشايخ فإن أمرهم في ذلك أوضح وأبْيَن وأشهر.

     وحين اقتحم الغزاة من يونانيين وغيرهم تركيا بعد الحرب العالمية الأولى كان الشعب التركي، بجنده وعلمائه وعامته يخوض حرباً دينية جهادية في غاية الصراحة والوضوح، كانت الحرب عنده، حرباً بين الهلال والصليب، بين المسلمين والكفار. فالإسلام، هو دين هذه الأمة، وطريقها إلى الهداية والفلاح والفوز في الآخرة.

     وهو كذلك سبيل سعادتها الدنيوية، إنه حصنها وملاذها وملجؤها أيام الصعاب، ووقود الجهاد والتحرير فيها. وقوتها الدافعة الضخمة الجبارة إلى النجاة من الغزاة والمعتدين فحسب، وإلى اقتحام مواقع المجد والعزة، وتسنُّم ذرى الكرامة والغلبة.

*****

سليمان الحلبي طالب العلم المجاهد

سليمان الحلبي طالب العلم المجاهد

     لقد كان حرصُ المسلمين على دينهم، وتمسكهم به، ويقينهم الراسخ بصحة ما فيه، واستعلاؤهم على الآخرين بالحق الذي يملكون، وتحويلُهم الإيمانَ من قناعةٍ عقلية وجدانية إلى ممارسة عملية تطبيقية، السببَ الذي يقف وراء انتصاراتهم الكبرى أيامَ الامتداد والزحف والتقدم، وكان أيضاً السببَ الذي يقفُ وراءَ تماسكِ مجتمعهم أيامَ التوقف والانحسار، وكان كذلك عِلَّةَ جهادهم الضخم الواسع، ومقاومتهم الفذة الشجاعة، أيامَ أنْ اقتحم العدوُّ دارَهم، ووطئ بخيله ورَجِلِه بلادهم، وسلب خيراتها، واستباح حرماتها، وبغى فيها وظلم، وعدا واستأسد.

     تلك حقيقة تكاد تحتل مكانةَ البداهةِ لمن درسَ التاريخ الإسلامي ووعى عبره ودروسه، واستقرأ أخبارَ معاركه، ومتى كان النصرُ ومتى كانت الهزيمةْ، والظروفَ والملابساتِ التي أحاطت بذلك.

     وانظرْ إلى أي مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي يَأْتِكَ نبأُ هذه الحقيقةِ الكبيرة أوضحَ من الشمس وأبين. خُذْ مثالاً على ذلك ما جرى لدى هجوم نابليون بونابرت على مصر، أي في المرحلة التي اقتحم الأعداء فيها ديار الإسلام، وحكموا فيها معظم العالم الإسلامي الذي سقط في أسر الغزاة، ففي مصر كان الإسلامُ وقودَ الجهاد ضد بونابرت، فكان الهتاف العظيم: "وا إسلاماه!.." جذوةَ القتال، وكان الشعار الرباني الكريم: "الله أكبر!.." قبسَ الصراع في الليل المظلم، وشعلة الفداء والإيمان، وحافزَ الناس نحو الاستشهاد.

     بهذا كان المصريون يكافحون ويستبسلون، بالإسلام العظيم، عقيدة الحق والبطولة، والإباء والشموخ، والرفعة والبذل، لذلك لم يكن عجيباً أن ينجحَ المسلمون في قهر نابليون وهو القائد الذي أذلَّ معظم أوربا، نعم قهروه وأذلوه، حتى تظاهرَ المسكينُ بأنه مسلم، وأنه حامي حمى الإسلام، محاولاً بذلك خديعةَ الناس وغِشَّهم، ومضى في مزاعمه فقال: إنه سيعمل على إعادةِ حكم الإسلام، وإقامةِ نظامٍ على مبادئ القرآن، بل إن مينو القائدَ الثالث في الحملة الفرنسية على مصر أعلنَ إسلامه على رؤوس الأشهاد.

     أما القائد الثاني الذي جاء بعد نابليون وقبل مينو، وهو كليبر فقد قُتِل على يد شاب أزهري، جاء من حلب ليدرس الإسلام في الأزهر الشريف، وهو سليمان الحلبي الذي فاز بالشهادة بعد أن حكم عليه الفرنسيون بالإعدام لقتله كليبر.

     كان المصريون إذن يقاتلون نابليون ومَنْ بعده بالإسلام الذي يبثُّ فيهم البطولة والقوة، وكان الصراع واضحاً جلياً في نفوسهم، وهو أنه جهاد في سبيل الله جل جلاله، وبهذا الجهاد الصادق المشرِّف أخفقت الحملة الفرنسية مصر، وهي الحملة الصليبية الأولى في العصر الحديث التي اقتحمت ديار العالم الإسلامي. أخفقت هذه الحملة ببقيةٍ من روح "وا إسلاماه!.." التي كانت تتدفق في صدور أبناء مصر، وجاهدَ المماليكُ إلى جانبِ المصريين ضد أولئك الذين جاؤوا يستترون وراءَ شعاراتِ الحرية والإخاء والمساواة، كما استتروا قبل ذلك وبعده وراء شعارات مضلِّلة كثيرة.

     "وا إسلاماه!.." إذن هي الطريق، هي الطريق الوحيد لاستثارةِ مكنوناتِ الأمة المسلمة، واستجاشةِ قدراتها المبدعة الكبيرة في حركةٍ إيجابية بنّاءة، وهي الطريق لنغلب اليهود العادين الذين يجثمون في قلب ديار الإسلام، ويَأْسِرونَ المسجدَ الأقصى الطهور منذ سنوات شداد عجاف، هي الطريق لتدميرِ معنويات اليهود المتغطرسة، وتحويل الحرب معهم إلى حرب دينية مقدّسة شاملة، وهذا أشدُّ ما يخشاه اليهود.

     إنهم يخشون انتفاضةَ الأمةِ المسلمة ودويَّ "وا إسلاماه!.." في جنباتها لأنهم يعلمون أن ذلك هو نهايتُهم التي لا ريب فيها، لأن الأمة المسلمة بهذه الانتفاضة، وذلك الدوي ستتحرك فيها إيجابياتٌ لا عدَّ لها. سيقف فيها تراثُ حضارةٍ شريفة هي حضارة الإسلام خلالَ أربعةَ عشرَ قرناً، وأكثر من مليار مسلم هم الرصيد البشري لأمة الإسلام، ضد عشرين مليوناً من عبيد المال، وتجّار الأعراض، ومدمّري الحضارات، وصانعي الفتن والحروب والمفاسد، وناكثي العهود، وأعداء الفضائل والأخلاق.

     سيقف تراث الإسلام وحضارته البانية المباركة، ضدَّ تراثِ اليهود وحضارتهم الفاسدة المدمرة. وكما انتصرت حضارةُ الإسلام ضد التتار والصليبيين تحتَ راية "وا إسلاماه"، ستنتصرُ ضد اليهودِ تحت الرايةِ نفسها التي ما رفعتها الأمة المسلمة إلّا عادتْ عليها بأطيبِ الثمار.

*****

من ثمرات الأقلام

من ثمرات الأقلام

     كتب الدكتور عماد الدين خليل، الباحث الجاد المبدع يقول في خاطرة له تحت عنوان "أنت قدر الله":

     جئت اليوم يا أخي لأحدثك حديث الأعماق المؤمنة إلى الأعماق المؤمنة، فالذين تحرقهم نار العقيدة لا يستطيعون السكوت على ظلام الجاهلية وزيفها وخداعها، والذين تغلغلت في دمهم وأعصابهم فكرة الإسلام العظيم لا يستطيعون القعود والانتظار، وقوى الطاغوت تأخذ بزمام البشرية، وتسير بها في طرقات الشيطان فتعذبها وتسحقها وتشقيها.

     واليوم ترتفع صرخات كبار مفكري العالم تنذر بالويل من المصير الأسود الذي ستؤول إليه المسيرة المعاصرة وتطالب بالإنقاذ... إنقاذاً يتطلب من طلائع البشرية أن تسير على طريق جديد، متوحد مستقيم، تظلله القيم الروحية والأخلاقية، ويحكمه التوازن بين المادة والروح، ويوجهه الله الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى.

     لقد تكلم "برناردشو" و"اشبنجلر" و"توينبي" و"كولن ولسون" و"برغسون" و"ياسبرز" و"ماسنیون" و"ديورانت" وغيرهم كثيرون، كلهم أعلنوا عن مأساة الإنسان المعاصر، وعن اليوم الذي ستنهار فيه حضارة المادة التي لا توائم الإنسان ولكنهم كلهم لم يعرفوا الطريق.. لأن الطريق بأيدينا نحن المسلمين، فما دامت البشرية تشقى بنُظُمِها وتجاربها الوضعية، وما دامت شعوب الأرض في كل مكان تعيش أقسى تجربة عرفها التاريخ، فإن البديل لن يكون إلا المبدأ الذي رسمه الله طريقاً حقاً لمسيرة الإنسان نحو الغاية التي خُلِق من أجلها، لن يكون إلا الإسلام "ذلك الدين القيم".

     فهل عرفت ضخامة المسؤولية الملقاة على عاتقنا، أن نحمل عقيدتنا الإسلامية إلى شعوب الأرض، أن نقدم للنداءات الشقية المرتفعة من هنا وهناك، التجربة التي تحدد لهم معالم الطريق، وأن نتسلم زمام حضارة جديدة لا تهددها بالدمار قنابل واشنطن وموسكو، ولا تمزق أعصاب أبنائها مبادئ الوضعيين الذين اتخذوا من الشعوب والأمم حقولاً لتجاربهم.

     فويل للذين يقفون في وجه القوى الإسلامية المكافحة في كل مكان من العالم الإسلامي، إنهم إذ تأسرهم شهوة الحكم، أو تحركهم قوى الاستعمار، أو تدفعهم شهوة الطغيان لصب حقدهم الأسود على رؤوس المجاهدين، إنهم إذ يفعلون ذلك يعتقدون أنهم سيقفون إلى الأبد أمام سنة الله التي لن تجد أية قوة في الارض لها تبديلاً أو تحويلاً... السنة التي تقرر أن الأرض الله يورثها من يشاء من عباده الصالحين الذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً، وما مأساة الحضارة المعاصرة ونُظمها الوضعية سوى في تعالي الطاغوت وإفساده في الأرض في كل مساحات الحياة: عقيدة وتصوراً وسلوكاً.

*****

شكراً أيها القاضي!

شكراً أيها القاضي!..

     يُحكى أنه في عام 1934م قرأ عبد القيوم خان الأفغاني المسلم في كتاب هندوكي بذيء، مطاعن كاذبة توجه إلى صفوة الخلق محمد ﷺ، فامتلكه الغضب لكنه مضى في القراءة، فإذا بالكتاب يزدحم بأكاذيب وافتراءات مشينة كثيرة.

     وانعقدت محاكمة مَثُلَ أمامها الكاتب الهندوكي المفتري، فحرص عبد القيوم خان على أن يشهدها ليرى بنفسه أي حكم سيَصْدُر على المتهم الكذوب.

     وفي المحكمة استمع إلى المناقشة بين القاضي والمتهم، وكم كانت دهشته بالغة عندما علم أن الحكم يقضي بسجن المتهم أياماً أو شهوراً فقط، فغلى الدم في عروقه، وقرر أن يعاقبه بنفسه، وأن يكون هو القاضي الذي يُصدِر الحكم، والشرطي الذي ينفّذه، فما كان منه إلا أن استلَّ خنجره الرهيف، وصرخ صرخة مدوّية، وقفز إلى الجاني فقتله وسط الذهول الذي سيطر على القضاة والحضور وهو يهتف: خذها طعنة قاتلة جزاء افترائك على الرسول سيدي محمد ﷺ، لقد ثأرتُ لك، وما أعذب الموت في سبيلك!.

     وسيق الفدائي إلى السجن، وجرت محاكمته، ولم تكن ثمة حاجة إلى شهود وبيّنات فهو مُقِرٌّ بفعلته، بل مفتخر بها. وقال القاضي في نص الحكم: إن المتهم عبد القيوم خان لم يقتل المؤلف الهندوكي لعداوة سالفة أو إحنة سابقة، وإنما قتله دفاعاً عن رسوله، وانتصاراً لنبيّه، ولكن القانون لا يبيح هذا القتل المتعمّد المقصود، وعليه فقد تقرر إعدامه، وليرحمه الله.

     وهنا وقف عبد القيوم وقد ارتسم الفرح والبِشرُ على وجهه، وارتفعت هامته اعتزازاً، وهتف بصوت جهوري: "شكراً أيها القاضي! إن سيدنا محمداً ﷺ هو رسولنا وهادينا إلى الصراط المستقيم، ولو قُدِّرَ لي أن أحيا ألف مرة، وأن أموت ألف مرة في سبيله لَما وفّيتُه بعض حقه على الإنسانية، ولكنها ميتة واحدة مع الأسف، وإني لفخور بهذا الحُكم. شكراً أيها القاضي لأنك مهّدتَ لي طريق الاستشهاد من أجل محمد ﷺ. اللهم تقبّل شهادتي في سبيل شرف رسولك، وأَلْحِقني بأصحابه، الله أكبر".

*****

خطبة جمعة على ظهر سفينة

خطبة جمعة على ظهر سفينة

     أثر القرآن الكريم في النفوس حقيقة مقررة، وفِعله في القلوب غريب وعجيب، ولكن الأغرب والأعجب أن يثير القرآن الكريم مشاعر امرأة غير مسلمة، لا تعرف اللغة العربية من قريب أو بعيد، ويجعل عينيها تفيضان بالدمع.. ومع ذلك نحتاط فنقول: لا عجب ولا غرابة!.. فالقرآن كلام الله، وهو موجّه للناس جميعهم.

     يحكي الشهيد العالم الأديب سيد قطب رحمه الله، قصة جميلة في هذا المجال، عاشها على ظهر سفينة تتجه به إلى أمريكا يوم سافر إليها، وقد ذكرها في تفسيره في ظلال القرآن، وذلك في آخر تفسير قوله تعالى‏: ﴿أمْ يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ (يونس:38)، فيقول:

     "أذكر حادثاً وقع لي وكان عليه معي شهود ستة، وذلك منذ نحو خمسة عشر عاماً... كنّا ستة مسلمين على‏ ظهر سفينة مصرية تمخر عباب المحيط الأطلسي إلى‏ نيويورك، من بين (120) راكباً وراكبة أجانب، ليس فيهم مسلم.. وخطر لنا يوم الجمعة أن‏ نقيم صلاة الجماعة في المحيط على‏ ظهر السفينة! واللَّه يعلم -أنّه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة لذاتها أكثر ممّا كان بنا حماسة دينية إزاء مبشِّر كان يقوم بمزاولة عمله على‏ ظهر السفينة، وحاول أن يزاول تبشيره معنا!... وقد يسَّر لنا قائد السفينة -وكان إنجليزياً- أن نقيم صلاتنا، وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمتها -وكلهم نوبيون مسلمون- أن يصلي معنا من لا يكون في (الخدمة) وقت الصلاة!. وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً، إذ كانت المرة الأولى‏ التي تقام فيها صلاة الجماعة على‏ ظهر السفينة... وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة، والركاب الأجانب معظمهم متحلقون يرقبون صلاتنا، وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على‏ نجاح (القدّاس)! فقد كان هذا أقصى‏ ما يفهمونه من صلاتنا! ولكن سيدة من هذا الحشد -عرفنا فيما بعد أنّها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم تيتو وشيوعيته!- كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع، ولا تتمالك مشاعرها.. جاءت تشد على‏ أيدينا بحرارة، وتقول -في إنجليزية ضعيفة-: إنّها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح!.. وليس هذا موضع الشاهد في القصة... ولكن ذلك كان في قولها: أي لغة هذه التي يتحدث بها (قسيسكم)!؟ فالمسكينة لا تتصور أن يقيم (الصلاة) إلّا قسيس -أو رجل دين- كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة! وقد صححنا لها هذا الفهم! وأجبناها، فقالت: إنّ اللغة التي كان يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب!.. وإن كنت لم أفهم منها حرفاً... ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول: ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه.. إنّ الموضوع الذي لفت حسي، هو أن (الإمام) كانت ترد في أثناء كلامه -بهذه اللغة الموسيقية- فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعاً.. هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث فيَّ رعشة وقشعريرة! إنّها شيء آخر! كما لو كان الإمام مملوءاً من روح القدس! حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها!. وتفكرنا قليلًا، ثم أدركنا أنّها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة! وكانت -مع ذلك- مفاجأة لنا تدعو إلى‏ الدهشة، من سيدة لا تفهم مما نقول شيئاً!".

*****

أدب الانحلال.. أدب العبيد

أدب الانحلال.. أدب العبيد

     كتب سيد قطب يقول:

     أدب الانحلال هو في الغالب أدب العبيد، عبيد الطغيان أو عبيد الشهوات، وحين تُسْتَذَلُّ النفس البشرية لطاغية من طغاة الأرض أو لشهوة من شهوات الجسد فإنها تعجز عن التحليق في جو الحرية الطليق، وتلصق بتراب الأرض، وترتكس في وحل المستنقع، مستنقع الشهوة أو مستنقع العبودية سواء.

     فأدب الانحلال على هذا هو أدب العبودية، وهو لا يَرُوج إلا حين تفرغ الشعوب من الرغبة أو من القدرة على الكفاح في سبيل مثل أعلى، مثل أرفع من شهوة الجسد، وأعلى من تملق الطغيان لتحقيق مطمع صغير أو مطمع حقير، أي عندما تصبح الدنيا "سيجارة وكاس!.."، أو تصبح الحظوة عند الطغاة أمنية المتمنين في دنيا الناس.

     عندئذٍ يظهر في الأمة كُتّاب، ويظهر في الأمة شعراء، ويظهر في الأمة فنانون يلبّون هذا الفراغ من المثل العليا، ويمثلون هذا الارتكاس في حمأة الشهوة أو حمأة العبودية، وعندئذ يستمع الناس إلى هؤلاء الكُتّاب والشعراء والفنانين لأنهم يصوّرون مشاعرهم ويصوّرون أحلامهم، ويُزيّنون لهم الراحة من الكفاح والاطمئنان إلى الدَّعَة، والإخلاد إلى حياة الفراغ والترهل والانحلال.

     إن هؤلاء الكُتّاب والشعراء والفنانين يقومون حينئذٍ بمهمة تخدير الشعوب وتنويمها، سواءً سبّحوا بحمد الطغاة أو سبّحوا بحمد الشهوات، فأمّا حين يسبّحون بحمد الطغاة فهم يزيّفون الواقع على الشعوب، ويستنفدون طاقتها في الرجس والدنس، ويدغدغون غرائزها فتظل مشغولة بهذه الدغدغة، لا تفكر في شأن عام، ولا تحسّ بظلم واقع، ولا تنتفض في وجه طاغية لتناديه: "مكانك فنحن هنا!.."، فالشعب المستغرق في ذلك الخدر اللذيذ ليس هنا وليس كذلك هناك.

     والتاريخ يشهد أن الطغيان يملي دائماً لهذا الصنف من الكُتّاب والشعراء والفنانين، ويهيّئ لهم الوسائل، ويتيح لهم الجو الذي يسمح لهم بالعمل: جو الفراغ والترف والانحلال.

*****

أفحكم الجاهلية يبغون!؟

أفحكم الجاهلية يبغون!؟

     قال الأستاذ الشهيد سيد قطب -رحمه الله- في تفسيره المشهور "في ظلال القرآن"، وهو يفسّر قول الله عز وجل: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].

     الجاهلية ليست فترة تاريخية، إنما هي حالة توجد كلما وُجِدت مقوماتها في وضع أو نظام، وهي في صميمها الرجوع بالحكم والتشريع إلى أهواء البشر لا إلى منهج الله وشريعته للحياة، ويستوي أن تكون هذه الأهواء أهواء فرد، أو أهواء جماعة، أو أهواء طبقة، أو أهواء أمة، أو أهواء جيل كامل من الناس، فكلها ما دامت لا ترجع إلى شريعة الله أهواء.

     يشرّع فرد لجماعة فإذا هي جاهلية لأن هواه هو القانون أو رأيه هو القانون، لا فرق في العبارات. وتشرّع طبقة لسائر الطبقات فإذا هي جاهلية لأن مصالح تلك الطبقة هي القانون. ويشرّع ممثلو جميع الطبقات وجميع القطاعات في الأمة لأنفسهم فإذا هي جاهلية لأن أهواء الناس الذين لا يتجردون أبداً من الأهواء، ولأن جهل الناس الذين لا يتجردون أبداً من الجهل هو القانون. وتشرّع مجموعة من الأمم للبشرية فإذا هي جاهلية لأن أهدافها هي القانون أو رأي المجامع الدولية هو القانون.

     ويشرّع خالق الأفراد وخالق الجماعات وخالق الأمم والأجيال للجميع فإذا هي شريعة الله التي لا محاباة فيها لأحد على حساب أحد، لا لفرد ولا لجماعة ولا لدولة ولا لجِيل، لأن الله ربُّ الجميع، ويعلم حقيقة الجميع ومصلحة الجميع، فلا يفوته سبحان أن يرعى مصالحهم وحاجاتهم بدون إفراط ولا تفريط. ومن هنا خطورة هذه القضية في حياة بني الإنسان وفي نظام الكون كله، وصدق الله العظيم: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون:71]، فالحكم بغير ما أنزل الله معناه الشر والفساد والخروج في النهاية عن نطاق الإيمان بنص القرآن.

*****

الأربعاء، 6 يوليو 2022

الطريق إلى الغاية النبيلة

الطريق إلى الغاية النبيلة

     قال الكاتب الكبير سيد قطب رحمه الله:

     من الصعب عليّ أن أتصور كيف يمكن أن نصل إلى غاية نبيلة باستخدام وسيلة خسيسة!. إنّ الغاية النبيلة لا تحيا إلّا في قلبٍ نبيل، فكيف يمكن لذلك القلب أن يطيق استخدام وسيلة خسيسة، بل كيف يهتدي إلى هذه الوسيلة!؟

     إننا حين نخوض إلى الشط الممرع بركة من الوحل، لا بد أن نصل إلى الشط ملوّثين. إن أوحال الطريق ستترك آثارها على أقدامنا وعلى مواضع هذه الأقدام، كذلك الحال حين نستخدم وسيلة خسيسة. إن الدنس سيَعْلَقُ بأرواحنا، وسيترك آثاره في هذه الأرواح وفي الغاية التي وصلنا إليها.

     إن الوسيلة في حساب الروح جزء من الغاية، ففي عالم الروح لا توجد هذه الفوارق والتقسيمات. الشعور الإنسانيّ وحده إذا أحسّ غاية نبيلة لن يطيق استخدام وسيلة خسيسة، بل لن يهتدي إلى استعمالها بطبيعته.

     الغاية تبرر الوسيلة، تلك هي حكمة الغرب الكبرى لأن الغرب يحيا بذهنه، وفي الذهن يمكن أن توجد التقسيمات والفوارق بين الوسائل والغايات.

*****

الإصلاح والتربية

الإصلاح والتربية

     على الرغم من فكرة الإصلاح تستهوي كثيراً من الناس، وتُعجب بها طوائف كثيرة من البشر، وتنجذب إليها عن رغبة صادقة في الخير، ورجاء حقيقي نبيل في تحقيق الإصلاح بالفعل، وعلى الرغم من ذيوع هذه الفكرة وتداولها بين الناس واستمرار الحديث عنها في صور شتى وأشكال متباينة، فإن هذه الفكرة لم تحظَ عند الكثيرين بالفهم العميق الجاد، والدراسة المتأنية البصيرة، فضلاً عن أن تستحيل لديهم من فكرة نظرية إلى خطة عملية قابلة للتطبيق في واقع الحياة العملي.

     إن إصلاح الأمم والأفراد أمر عسير حقاً لا يجيء جزافاً ولا يتحقق عفواً، ولا يتم بجهد يسير ولا يمنح قياده لكل مُطالِب به حتى لو كان هذا المُطالِب به حسن النية صادق الرغبة فيما يفعل ويقول ويدعو إليه، ذلك أنه لا بد للإصلاح كي يتم من مُصْلِحٍ مخلص بصير، ومن عمل دائب صبور، ومن جهد متكامل متوازن، بحيث يحقق المصلح من خلال ذلك تربية عميقة أصيلة تبعد السلبيات، وتزيد الإيجابيات، وتدفع بحركة الإصلاح إلى الأمام.

     والأمة -فضلاً عن الفرد- لا تنهض من كبوة، ولا تقوى من ضعف، ولا ترتقي من هبوط، ولا تنجو من عيوب، إلّا بعد تربية أصيلة متكاملة، عميقة حقة، جادة ذكية. وقد تبدو التربية أمراً سهلاً لكنَّ هذا في الواقع خطأ كبير، فالتربية الهادفة التي نطلبها هي أشقُّ عمل في هذه الحياة على الإطلاق، وشتان بين تربية النفوس وإنمائها وصقلها، وتهذيبها والسموّ بها، وتفجير طاقاتها وإمكاناتها، وإنقاذها من عيوبها، وزرع الفضائل والمكرُمات فيها، وبين أي عمل آخر مثل إنشاء المباني وإقامة الجسور وشق الطرقات وتشييد المباني، بناء السدود، فذلك كله وإن كان لازماً ونافعاً ومطلوباً أقل بكثير من تربية الناس، أفراداً وأمماً، أقل من حيث الثمرة المطلوبة، وأقل من حيث الجهد المبذول.

     وإذن فإصلاح الأمم لا يتم إلا بتربية صادقة متكاملة، متناسقة متوازنة، تُحدِثُ فيها التغيير النفسي العميق، وتغوص بعيداً في الأعماق، وتحوّل الهمود إلى حركة، والغفوة إلى صحوة، والركود إلى يقظة، والفتور إلى عزيمة، والقعود إلى طاقة فعّالة بنّاءة، وتُوَزَّعَ الاهتمامات وتشتتها وتفرقها، إلى وجهة محددة بدقة، عرفت وسائلها بدقة وحددت طرقها التي تقود إليها. تربية تحوّل الوجهة والأخلاق والميول والعادات، وتهذب الغرائز والرغبات، وتُحدِث تبديلاً عميقاً جداً في حياة الأمة يجعل إمكاناتها تتدافع في طريق الخير والحق على كافة المستويات، وبدون ذلك يكون الإصلاح كذباً ولهواً، والنهضة حبراً على ورق، وشعارات التطوير والتنمية والرقي وما إلى ذلك كلاماً أجوف يتبدد في الهواء.

     ولقد قرر القرآن الكريم سنة قائمة ثابتة من سنن الله عز وجل في هذه الحياة ... وذلك في الآية الكريمة المعجزة، الوجيزة جداً، الغنية جداً: ﴿إِنَّ اللّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، فبدء التغيير إذن يكون من داخل النفس الإنسانية قبل أي شيء آخر، ولكن هذا التغيير ليس بالأمر السهل الهيّن، إنه عبء ثقيل شاق وإنْ كان عبئاً نبيلاً، تنوء به الكواهل، وتعيا دونه الهمم، ما لم تستند إلى القوة التي لا تنفد، والمعين الذي لا ينضب، إلى الإيمان، ذلك أن الإنسان مخلوق مركّب معقّد جداً، ومن أصعب الصعب تغيير نفسه وسلوكه وقلبه، لكنه إن تم تغييره وفقاً لتعاليم الإيمان الخيّرة، جاء الإصلاح الحقيقي الجاد، والتربية المنشودة المأمولة، وتدفق منه العطاء النافع المبارك، وصحّت مسيرته، واستقامت طريقته، وعاد بالنفع على نفسه، وعلى مَنْ حوله، وعلى جماعته وبلده.

     ولا شك أن التحكم في مياه نهر كبير، أو تحويل مجراه، أو حفر الأرض، أو نسف الصخور، أو شق الطريق، أو بناء المعامل والسدود، أو أي تغيير في معالم الكون المادي أسهل بكثير من تغيير النفوس وصياغة القلوب والعقول، فبناء تلك الأشياء المادية أمر سهل حين تتوفر أدواته ووسائله، أما بناء الإنسان فهو أمر شاق حقاً.

     إن من العسير الصعب الشاق حقاً أن تبني الإنسان، الإنسان القادر على نفسه، المسيطر على رغباته ونوازعه، الموجّه لطاقاته في سبيل الخير، النائي بمحض اختياره عن الشرور، الملتزم بإرادته الحرة بالفضائل والمكرمات، المتحكم في شهواته، المحدد لغايته ووسيلته معاً، الذي يؤدي واجبَه قبل أن يطلبَ حقه، الذي يعرف الحق ويتبناه ويدافع عنه، ويعرف الخير ويحبه لنفسه، ويحبه للناس كذلك، الذي يتحمل مسؤولية في إصلاح الفاسد وتقويم المعوج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

     إن صياغة مثل هذا الإنسان أمر شاق جداً، صعب حقاً، ثقيل وعسير، لكنه بالرغم من كل ذلك أمر مطلوب وممكن:

     مطلوب لأن الفائدة المرجوة منه بعد تمامه عظيمة جداً، تعوّض كل الجهد المبذول، وتقدم محصولاً عظيم النفع للفرد وللجماعة، بل وللإنسانية كلها.

     وممكن لأنّ مفتاحه موجود، وهو الإيمان، الإيمان الذكي البصير الجاد، المترفع عن السفاسف، المتوجه إلى الله عز وجل فيما يفعل، إنه هو المفتاح القادر على ذلك، ولقد حققه بالفعل في صورة جماعة بشرية متكاملة مثالية هي صورة المجتمع الإسلامي الأول، وفي صور فردية متألقة، تظل تظهر بين الحين والآخر، لتكون شواهد صدق على مقدرة الإيمان على تربية الرجال، وإعدادهم إعداداً مشرفاً في غاية التألق والسمو، والنفع والإيجابية.

*****

العقاد وسرُّ بقاء العربية

العقاد وسرُّ بقاء العربية

     قال الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد رحمه الله وهو يتحدث عن سر بقاء اللغة العربية بينما بادت لغات كثيرة ساد ذووها حيناً من الدهر:

     لقد قيل كثيراً: إن اللغة العربية بقيت لأنها لغة القرآن الكريم، وهو قول صحيح لا ريب فيه، ولكن القرآن الكريم إنما أبقى اللغة، لأن الإسلام دين الإنسانية قاطبة، وليس بالدين المقصور على شعب أو قبيل، وقد ماتت العبرية وهي لغة دينية، أو لغة كتاب يدين به قومه، ويحسبون أنهم وحدهم المخصوصون بالخطاب من عند الله، ولم تمت العبرية إلا لأنها فقدت المرونة التي تجعلها لغة إنسانية، وتخرجها من حظيرة العصبية الضيقة، حيث وضعها أبناؤها منذ قرون.

     إن هذه الفضيلة الإنسانية التي لا تفرق بين العربي والأعجمي، ولا بين القرشي والحبشي، لهي التي أنهضت لخدمة اللغة أناساً من الأعاجم غاروا عليها من حَيْف الأعجمية، أي غاروا عليها من لغة أمهاتهم وآبائهم، لأنها "أي العربية" لغتهم على المساواة بينهم وبين جميع المؤمنين بالقرآن الكريم، كتاب الإسلام، ولو كان هذا الكتاب عصبياً لا يشرك في تراث الدين أحداً غير أبناء لغة من اللغات، لما جاءت الغيرة عليه من الأعاجم كما جاءت من أبناء قحطان وعدنان.

     ونحن معاشر المتكلمين بالعربية في عصرنا، نسير على نهج الأقدمين في خدمتها كلما حرصنا على قواعدها، وحرصنا إلى جانب القواعد على مرونتها، وعلى مزيتها الكبرى من قبول التجديد والموافقة لمطالب بني الإنسان في جميع العهود.

     وستبقى اللغة العربية ما دام لها أنصار يريدون لها البقاء، ولم ينقطع أنصارها في عصرنا الحاضر، بل نراهم بحمد الله يزدادون ويتعاونون، ويتلاقى أبناء البلاد المختلفة على خدمتها ودعمها، لأنهم مختلفون بمواقع البلاد، متفقون بمقاصد الضمائر والألسنة.

*****

الأكثر مشاهدة