الأربعاء، 6 يوليو 2022

صلاح الدين الأيوبي.. الوجه الآخر

صلاح الدين الأيوبي.. الوجه الآخر

     كلما ألمّت بالمسلمين نكبة، من النكبات العسكرية خاصة، فزعوا إلى تاريخهم يتذكرون أبطاله العظام الذين صنعوا لهم انتصارات رائعة ومذهلة، كخالد والمثنى، وسعد وأبي عبيدة، وعقبة وطارق، وقطز والظاهر، ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم.

     ولعل أكثر شخصية من هؤلاء تقفز إلى دائرة الاهتمام في الحس الإسلامي إبّان الظروف القاسية، هي شخصية القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي، ذلك أن الرجل ظهر في ظروف قاسية كانت تحيط بالمسلمين وتفتك بهم، داخلياً وخارجياً. أما العدو الصليبي فقد كان في عزّ قوته وغلبته وغطرسته ولم تلبث حال المسلمين أن انتقلت على يد صلاح الدين إلى الأفضل فالأفضل باستمرار، حتى كان مسك الختام أن حرر القدس من يد الصليبيين بعد أن امتدت سيطرتهم عليه قرابة قرن من الزمان.

     وإذن فإنه من البدهي أن تحتل شخصية صلاح الدين في نفوس المسلمين طوال عصورهم، وإبّان الفترات القاسية منها خاصة، مساحة كبيرة من الاهتمام والتعلق والتشبث لا تحتلها شخصية أخرى، وإنه من البدهي أيضاً أن يكون اهتمام مسلمي اليوم، وتعلقهم وتشبثهم بصلاح الدين، يحتل مساحة كبيرة، ويأخذ حجماً واسعاً، ذلك أن القدس التي حررها صلاح الدين، قد وقعت أسيرة بيد اليهود، وهي تنتظر بطلاً كصلاح الدين، يحررها من بغي اليهود ودنسهم ويعيدها إلى الراية المسلمة.

     أمّا بطولة صلاح الدين العسكرية، وأمّا جوده ونُبْله، وأمّا إيثاره وعلوّ نفسه؛ فهي أمور مشهورة جداً، ذائعة في الشرق والغرب على السواء، لكنّ غير الذائع هو وجهه الآخر الذي لا يكاد يعرفه الناس وهو ما نحاول جلاءه الآن.

     يقول القاضي بهاء الدين بن شداد عن صلاح الدين، وقد كان قاضي عسكره، وملازمه في حله وارتحاله، وكاتب سيرته:

     كان شديد المواظبة على الصلاة بالجماعة، حتى ذكر يوماً أن له سنين ما صلى إلّا جماعة، وكان إن مرض يستدعي الإمام وحده، ويكلف نفسه القيام ويصلي جماعة. وكان يواظب على السنن الرواتب، وكانت له ركعات يصليها إذا استيقظ بوقت في الليل، وإلّا أتى بها قبل صلاة الصبح، ولقد رأيته يصلي في مرضه الذي مات فيه، وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى. وأما صدقة النفل فإنها استنفدت جميع ما ملكه من الأموال، فإنه ملك ما ملك، ومات ولم يخلّف في خزانته إلّا سبعة وأربعين درهماً، وديناراً ذهبياً واحداً، ولم يترك داراً ولا عقاراً، فجُهِّزَ وأُخْرِجَتْ جنازته بالدَّيْن وهو ما يؤكده القاضي ابن شداد ويُقسم عليه.

     وكان يجلس للعدل كل اثنين وخميس، وكان يستقرئ من يحضره في الليل الجزأين والثلاثة والأربعة من القرآن الكريم وهو يستمع، وكان شديد الرغبة في سماع الحديث الشريف، وكان الجهاد وحبه، والشغف به، قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاءً عظيماً، بحيث ما كان له حديث إلّا فيه، ولا نظر إلّا في آلته، ولا كان له اهتمام إلا برجاله، ولا مَيْلَ إلا لمن يذكره ويحث عليه.

     وقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده، وسائر ملاذه، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تتقاذفها الرياح يمنةً ويسرة، ولقد وقعت عليه الخيمة في ليلة ذات ريح شديدة، ولا يزيده ذلك إلا رغبة ومصابرة واهتماماً. وكان الرجل إذا أراد التقرب إليه، حثّه على الجهاد، أو ذكّره بأخبار الجهاد، ما استكثر عدواً قط ولا خافه، ولا فقد أعصابه في هزيمة ولا ظفر، وكان اعتماده على الله تعالى.

     ذلكم هو الوجه الآخر لصلاح الدين، الصلاة والقرآن، والذكر والجهاد، والصدقة والثبات، والعدل والإخلاص. وإنّ هذا الوجه المشرق الذي يكاد يكون مجهولاً من أكثر الناس، هو سبب ظهور ذلك الوجه المعروف، وجه الحرب والنبل والغلبة والانتصار، والمروءة والأريحية.

     لقد انتصر صلاح الدين على نفسه؛ قبل أن ينتصر على أعدائه، لقد حرر نفسه وجيشه وأمته من الشوائب، وجعلها ملأى بالعقيدة الصحيحة والإيمان القوي؛ قبل أن يحرر القدس من النصارى الصليبيين. لقد هزم في نفسه الشح والأثَرَة والإخلاد والتواكل والسفاسف والدون؛ قبل أن يهزم في ديار المسلمين الفرقة والشتات، والبدع والفساد، والكفر والضلال. وإن معركته الكبرى التي خاضها في أعماق نفسه هي التي مهّدت له السبيل إلى الفوز في المعارك الكبرى التي خاضها بغية توحيد ديار المسلمين وطرد الصليبيين المعتدين.

*****

الزنكيَّان والأيوبيُّ والحروب الصليبية

الزنكيَّان والأيوبيُّ والحروب الصليبية

     كان دخول الصليبيين ديارَ الإسلام، وإقامتهم أربع دول فيها نكبة كبرى أصيب بها العالم الإسلامي. فقد قامت حكومات هؤلاء الغزاة في قلب ديار الإسلام، أما المسجد الأقصى فقد حُوِّلَ إلى كنيسة، وأما القتل فقد كان صعباً مرعباً. وحسبك أن تعلم أنَّ الغزاة حين اقتحموا القدس، وتوجَّهوا إلى الأقصى ذبحوا فيه سبعين ألفاً، حتى علت دماء الشهداء؛ فإذا بخيول الغزاة تخوض فيها حتى رُكَبِها كما جاء في رسالة بعث بها بعض المنتصرين إلى أوربا يصفون فيها ما كان من أمرهم في يوم الاقتحام الدامي المشهور.

     حدث هذا كله، وكان بلا ريب نكبة عظمة، وكارثة كبرى، لكن المسلمين أفاقوا من روعة الذبح المستمر، والغفلة والفرقة، وعادوا إلى مصدر قوتهم، وسر انتصارهم، ومفتاح شخصيتهم، عادوا إلى الإسلام فصححوا أخطاءهم، وأقاموا طريقهم على هدي كريم، من هدي الإسلام، فإذا بالحال يختلف، وإذا بموجة امتداد الأعداء وانحسار المسلمين تتوقف، وإذا الأمر ينعكس، فيبدأ المسلمون في الامتداد، ويأخذ الصليبيون بالانحسار، ويحدث في التاريخ ما سمي بحركة الاسترداد، أي استرجاع المسلمين لبلادهم وتطهيرها من رجس الغزاة.

     فمنذ أن ظهر الزنكيان العظيمان، عماد الدين زنكي الذي استعاد الرُّها من الصليبيين، وابنه نور الدين زنكي، الذي أكمل جهاد والده، بل ومن قبل ذلك ببعض الوقت بدأ المد الإسلامي ونشطت حركة الاسترداد، أي أن ذلك تمَّ منذ أن قررت الأمة الإسلامية أن تجاهد، وتركت الراحة الكسلى، والقعود الكئيب، والحلول الاستسلامية الانهزامية، وقررت أن تكون على مستوى إسلامها، فتنهض بالجهاد وأعبائه خير نهوض، وتلتمس في ذلك معين القوة الذي يتدفق فيها فيمدها بالعزيمة والهمة والحركة، وتكتشف خلال ذلك كله حقيقة نفسها ومفتاح شخصيتها، إذ تعود للإسلام وتحرص على الاستمساك به، وعندها يكون لديها من البديهي المقرر أن تجاهد لتطهر أرضها من الغزاة الظالمين.

     ويشهد التاريخ أن الأمة المسلمة منذ أن قررت القتال لم تسترح، وبذلت الكثير من التضحيات، لكنَّ كل ما بذلته كان أقل مما خسرته يوم هانت وتنكبت سبيل الجهاد، وصدق مَنْ قال: ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، هذه واحدة.

     أما الثانية فهي أنها حين قررت أن تجاهد، ارتفعت إلى مسؤولية إسلامها، وهذا فوز عظيم لها عند ربٍّ كريم، وهذا يؤكد ما نقوله دائماً من أن الإسلام سبيلُ سعادتنا في الدين والدنيا معاً، فها هم المسلمون إذ طفقوا يجاهدون الصليبيين، أثبتوا جدارتهم بإسلامهم من ناحية، فإذا بهم يغلبون العدو، ويكون لهم النصر المظفر في دنياهم، فضلاً عن أمل الفوز في أخراهم عند رب العالمين من ناحية ثانية.

     وتنقلت راية الجهاد الإسلامي من الزنكي الأب عماد الدين، إلى الزنكي الابن نور الدين، ثم انتقلت من نور الدين إلى صلاح الدين الأيوبي، الذي شاء الله تعالى أن يكتب على يديه أعظم فصول مرحلة الاسترداد، وهو معركة حطين وفتح بيت المقدس. لم يرهبْ صلاحُ الدين خطورةَ المعركة قط، ولم يخشَ أن أوربا كلَّها وراءَ عدوِّه اللدود، بل اعتصم بالله تعالى، واستمدّ منه العون، ثم أخذ يبذل كل جهوده، ويحشد كل ما يقدر عليه من وسائل وإمكانات وأسباب، ولجأ إلى الإسلام سرِّ قوة المسلمين ومفتاحِ شخصيتهم، ورفعَ رايةَ "وا إسلاماه"!.. فامتصَّ الهزائم، وانتقل من نصر إلى نصر، وزحف عام 583هـ= 1187م إلى حطين، حيث قصم ظهر العدو هناك، وفي العام نفسه فتح بيت المقدس.

     عادت القدس إلى المسلمين من جديد، وعاد المسجد الأقصى إلى ما كان عليه من قبل، ودوّى الأذان من جديد، وعبقتِ الأرض ريّا الساجدين، وضاعَ في الجو عِطْرُ الجُمَعِ الحسان، بعد انقطاعٍ دام حوالي قرن من الزمن.

     وبعد صلاح الدين واصل مَنْ خَلَفَهُ من الأيوبيين والمماليك تطهير ما بقي من ديار الإسلام بأيدي الصليبيين، حتى استرجع قلاوون في آخر الأمر عكّا، ولم يبقَ للعدو في البلاد شيء قط.

     ترى أثمةَ شكٌّ في أنَّ هذه الانتصارات العظيمة إنما تعود إلى الإسلام، دين الله الخالد المحفوظ، سبيلِ سعادتنا، وموئلِ فخارنا، وسرِّ قوتنا، ومفتاحِ شخصيتنا!؟

*****

الخميس، 30 يونيو 2022

ألب أرسلان وملحمة ملاذكرد

ألب أرسلان وملحمة ملاذكرد

     هو السلطان المجاهد الشجاع ألب أرسلان السلجوقي رحمه الله، نلتقي به في مطلع النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، شاباً في العقد الرابع من عمره، متقد الآمال، جياش المُنى، قوي النفس والعزيمة، يحكم دولة واسعة عظيمة، تمتد من تركستان إلى ضفاف دجلة. كان له ولع بالجهاد، فخاض كثيراً من المعارك الطاحنة، وصارع الدولة البيزنطية التي كانت يومذاك من أشد خصوم الإسلام في العالم، وخاض معها سلسلة من المعارك، كان أعظمها على الإطلاق معركة "ملاذكرد".

     ففي عام 463هـ= 1071م سارع الإمبراطور البيزنطي رومانوس إلى حشد جيش ضخم لهّام بلغ عدده في رواية 100,000 مقاتل، وفي أخرى 200,000 مقاتل، وسار به لمحاربة دولة السلاجقة الذين كانوا يمثلون في تلك الأيام وثبة قوية شابة من وثبات الإسلام الكبرى.

     ولما سمع ألب أرسلان بهذا، سارع من فوره لملاقاة رومانوس بجيش يبلغ عدده في رواية 40,000 فارس، وفي أخرى 15,000 فارس فقط. وفكّر السلطان المسلم حين رأى التفوق الهائل لصالح جيش العدو أن يعقد هدنة مع رومانوس فبعث إليه بذلك، لكن رومانوس رأى في طلبه دليل ضعف وإحجام فرفض الهدنة، وردّ على ألب أرسلان ردّاً خشناً جافياً، فكان لهذا الرد عند السلطان المسلم موقف ضخم عملاق، كتب للإسلام والمسلمين صفحة فخار وبطولة، شامخة باذخة متفوقة.

     اختار السلطان المسلم يوم الجمعة موعداً للاشتباك مع الروم البيزنطيين، وصلّى بجنده، وبكى خشوعاً وتأثّراً، وبكى الناس معه، ثم امتطى فرسه وقد لبس البياض وتحنّط استعداداً للموت، وعزم على أن يكون في طليعة المجاهدين، وأعلن لجنوده أنه إذا استشهد فإن ساحة الحرب مأواه الأخير.

     كان ألب أرسلان يؤمل أن تُغْنِيَ شجاعة القلة المؤمنة، وحسن ثقتها بالله عزّ وجل عن العدد الكبير والعتاد العظيم، ولم لا!؟ أليست له في تاريخ الإسلام شواهد كثيرة على ذلك؟ أما انتصر المسلمون وهُم قلة، على خصوم لهم، هم أكثر عدداً وعدة في بدر والأحزاب، وحُنين، والقادسية، واليرموك، ونهاوند،.. وغير ذلك من المعارك!؟

     لقد اتضح للمسلمين أنّ لهم قانوناً مع النصر والهزيمة لا يتخلف ولا يحيد. إنّ لهم النصر والفوز والغلبة، ما أخلصوا لله النية، وترفعوا عن حطام الدنيا، واتخذوا ما بوسعهم من الأسباب، ولو كانوا أقل وأضعف في العدد والعدة.

     أما إذا ضلّت منهم النية أو شابتها الشوائب، فتعلقوا بالمتاع الزائل، وانحرفوا عن هدفهم الرباني الكبير، فإن مآلهم إلى الهزيمة والخسران وإن كانوا أكثر عدداً وعدة. وإذن فليتعامل السلطان المجاهد مع هذا القانون بما يكفل له النصر، ويحقق له الفوز والغلبة، فليأت بمقدمات النصر كما يحددها ذلك القانون وليرقب ثماره وعطاياه.

     والتزم ألب أرسلان مقدمات النصر والفوز خير التزام، ومضى ومَنْ معه على خير ما يكون المُضيُّ المؤمن الملتزم، إخلاصاً لله عز وجل، وترفعاً عن حطام الدنيا، واتخاذاً للأسباب المتاحة الممكنة.

     ودارت المعركة عنيفة ضارية، واستبسل فيها الجانبان، وثبتا في الميدان، وأبدى المسلمون منتهى البراعة والصبر، والجَلَد والثبات، والاستماتة والبطولة، وأبدى الرومان مثل ذلك، لكنّ النصر تنزّل على القلة المسلمة، فما حلّ المساء حتى أحدث المسلمون في جيش العدو ثغرة أخذت تتسع، حتى وقعت بالرومان الهزيمة الفادحة المنكرة، وظفر المسلمون بنصر عملاق متفوق، ووقع الإمبراطور نفسه أسيراً بيد السلطان المسلم.

     لقد كانت معركة ملاذكرد، مصداقاً للقولة الخالدة الذكية، قولة الصدّيق أبي بكر رضي الله عنه: "اطلُبِ الموتَ تُوهَبْ لكَ الحَياة"، وكانت إكليل غار وفخار يتوّج هامة السلطان البطل، ويؤكّد صدق القاعدة الخالدة المؤمنة التي يتعامل المسلمون مع قانونها الباقي حيال النصر والهزيمة.

*****

محمود الغزنوي وصنم الهنود الأكبر

محمود الغزنوي وصنم الهنود الأكبر

     ولِد السلطان العظيم المجاهد محمود الغزنوي عام 361هـ، وتولّى الإمارة عام 389م، وكان دأبه غزو الهند الوثنية كل عام حتى فتح الله عز وجل على يديه بلاداً شاسعة، وعُرِفَ في التاريخ بلقب محطم أصنام الهند. وكان لتحطيمه قصة وعبرة يسوقهما ابن كثير في حوادث سنة 418هـ، أي قبل وفاة السلطان بنحو ثلاثة أعوام.

     وكان الناس يَفِدون إلى ذلك الصنم الأكبر كما يروي ابن كثير من كل فج عميق، كما يفدُ المسلمون إلى البيت العتيق بمكة المكرمة، وينفقون لديه الأموال الهائلة التي لا تُعَد، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية ومدينة مشهورة، وقد امتلأت خزائنه أموالاً، وكان عنده ألف رجل يخدمونه، وثلاثمئة رجل يحلقون رؤوس حجيجه، وثلاثمئة رجل يغنّون ويرقصون على بابه، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وكان البعيد من الهنود يتمنّى لو وصل إلى هذا الصنم بأي سبيل.

     ولما سمع السلطان محمود بخبر هذا الصنم وكثرة عُبّاده، وكثرة الهنود في طريقه، والمفاوز المهلكة والأرض الخطرة، استخار الله تعالى في تجشّم مشاق الجهاد والسفر إليه، وندب جيشه لذلك فانتدب معه ثلاثون ألفاً من المقاتلة سوى المتطوّعين.

     ووصل الجيش المجاهد سالماً إلى حيث الوثن، وغَلبَ أنصارَه، وامتلك زمام الموقف، وحلّت الهزيمة المنكرة بالهنود الذين بذلوا للسلطان محمود أموالاً جزيلة ليترك لهم الصنم الأكبر.

     وأشار بعضهم على السلطان أن يوافق فيأخذ الأموال ويترك الصنم فقال لهم السلطان: حتى أستخير الله عز وجل. فلما أصبح قال: إني فكرت في الأمر الذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديتُ يوم القيامة: "أين محمود الذي كسر الصنم؟" أحبُّ إليّ من أن يُقال: الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا.

     ثم عزم رحمه الله فكسر الصنم، فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلئ والذهب والأحجار النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة.

     لقد انتصر الرجل مرتين، مرةً حين خاض بجيشه غمار معركة دونها أهوالٌ ومفاوزُ وصعابٌ، ومرةً حين آثرَ ما عند الله على المال الكثير، فإذا به يحوز أكثر من المال الذي عُرِضَ عليه، فجمع بذلك إن شاء الله الثواب الجزيل، والثناء الجميل، والإيثار النبيل، والمال الضخم الكثير، فقد آثر الآخرة فكانت له الآخرة والدنيا معاً.

*****

الفتوحات الإسلامية والمنجِّمون

الفتوحات الإسلامية والمنجِّمون

     لقد عانى قادة المسلمين في جهادهم كثيراً من صنوف التثبيط الذي هو وسيلة من وسائل الهزيمة النفسية، لكنهم حين ارتفعوا بالإسلام، وامتلكوا إرادة الجهاد نجوا مما عانوا وكابدوا، وكان لهم النصر بفضل الله عز وجل.

     ودور المنجمين في التاريخ الإسلامي -وهو دخيل على المجتمع المسلم غريب عن تصوره النقي- يمثل في حينه أسلوباً من أساليب الهزيمة النفسية التي يحاول دعاتها تثبيط همم المجاهدين. فمِن المعروف مثلاً أن المعتصم قبيل معركة عمورية حذره المنجمون من المعركة وأرادوا له أن يتأخر في قتاله العدو بحجة أن عمورية لا تفتح إلا بعد نضج التين والعنب!.. ولم يكن أوان ذلك قد حلّ يوم عزم المعتصم على الجهاد.

     لكن المعتصم رفض أكاذيب المنجمين وضرب بدعاواهم عرض الحائط، وصمم على الجهاد، وكان له النصر المبين وفتح عمورية في الوقت الذي أخبره عنه المنجمون أنها لن تفتح فيه. وخلّد ذلك أبو تمّام تخليداً ساخراً حين وصف قتلى الروم فقال:

تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت     جـــلودهم قبل نضج التين والعنب

     ويروى أن بعض المنجمين حذر صلاح الدين الأيوبي بفقد إحدى عينيه إن هو حاول فتح القدس، فأجابهم بهذا الجواب الرائع: "إني لأوثر أن أفقد بصري كله إذا كان من وراء ذلك فتح بيت المقدس". وأتمّ الله نعمته على صلاح الدين، فكان الفتح ولم يصب بسوء، وكذب المنجمون ودعاة الهزيمة والتخاذل.

     وفي عصرنا الحاضر نجد كثيراً من دعاة الهزيمة النفسية الذين يقومون بما كان يقوم به المنجمون من قبل، ولكن بأسلوب عصري. فدعاة الهزيمة النفسية اليوم يثبطون الهمم عن القتال، ويحاولون تصوير الأعداء بأنهم على جانب ضخم جداً من القوة والتماسك، وأنهم يستندون إلى أقوى دول الأرض، وأن الانتصار عليهم انتصاراً نهائياً ضرب من الجنون وما إلى ذلك من الأباطيل والخزعبلات.

     وكما سخر المسلمون قديماً من المنجّمين وجاهدوا؛ علينا الآن أن نسخر من هؤلاء المثبطين ودعاة الهزيمة والاستسلام ونجاهد حق الجهاد، وسيكون لنا النصر إن شاء الله حين نرفع شعار: "وا إسلاماه!".. وننهض بجميع شروطه ولوازمه، ونعيد دعاة الهزيمة النفسية والمتخاذلين والمستسلمين للعدو إلى أمكنتهم في الجحور.

     ومن أهم ما ينبغي علينا أن نصنعه للنجاة من الهزيمة النفسية وقطع الطريق على مضاعفاتها الخطيرة المتوقعة أن تكون قيادات المسلمين بمنأى عن الهزيمة النفسية تماماً، وألّا يتبوّأ أحد من الناس مكاناً في هذه القيادات إلا إذا كان مستعلياً بالإيمان، بريئاً من كل أنواع الجبن والخور، واثقاً أنّ المستقبل لهذا الدين، واثقاً أنّ النصر له مهما اشتدت الظلمات وكثرت الخطوب.

*****

المنجّمون ومعركة عمورية

المنجّمون ومعركة عمورية

     في قصة المعركة العظيمة، معركة عمورية، يُروى أن المنجّمين حذّروا الخليفة العظيم الشجاع المعتصم بن هارون الرشيد من غزو عمورية حين عزم على فتحها، وزعموا له أنه لا يمكن له الوصول إليها والظفر بها إلّا في الصيف حين ينضج التين والعنب.

     لكن الخليفة الشجاع رفض ما قالوا وسارع إلى عمورية، وانتصر نصراً مؤزّراً خلّده الشاعر العظيم أبو تمّام بقصيدته البائية الشهيرة التي سَخِر فيها بالمنجّمين، وذكر عدد قتلى الروم الذين أدركتهم المنيّة بهزيمة المعتصم إياهم قبل أن يحين أوان نضج التين والعنب:

تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت     جلودهم قبل نضج التيـــن والعنبِ

     بعد ذلك بقرون عزم صلاح الدين الأيوبي على تتويج سلسلة جهاده العظيم بفتح بيت المقدس التي رسفت في ظل الأسر الصليبي قرابة قرن من الزمان.

     هنا تكررت حادثة المنجّمين ثانية، إذ يُروى أن المنجّمين حذّروا صلاح الدين مما هو قادم عليه وزعموا له أن سيفقد إحدى عينيه إن أنفذ عزمه، ويُروى أن السلطان المجاهد قال لهم: إني لأوثر أن أفقد بصري كله إذا كان من وراء ذلك فتح بيت المقدس.

     ترى ألا يبدو دور المنجّمين الدخلاء على المجتمع الإسلامي النظيف في تلك الأيام مشابهاً لدور المثبّطين في أيامنا، الذين يثبّطون الهمم، ويجسّمون المخاوف، ويبالغون في خطر قوة الأعداء، ويزعمون أن الانتصار عليهم أمر مستحيل، وأن على الأمة أن ترضى بالاستسلام الذي يسمّونه سلاماً، وبالعار الذي يسمّونه صلحاً، وبالخيانة التي يسمّونها معاهدة؟

ترى أما يجدر بالأمة المسلمة أن تستعلي على باطل هؤلاء وأكاذيبهم، وتركب مركب التضحية والجهاد وإن كان وعراً، لتفوز بإذن الله بالنصر المؤزر كما فعل المعتصم وصلاح الدين؟

*****

المسلمون في الأندلس.. بين جورج الثاني وهشام الثالث

المسلمون في الأندلس.. بين جورج الثاني وهشام الثالث

     حين منح المسلمون في الأندلس، صادق ولائهم لدينهم المحفوظ الخالد، وأحسنوا تمثيله والتعبير عنه، منحهم هذا الدين الإيجابي العملي، أثمن الفرص من أجل أن ينالوا ذرى الكرامة والمجد، ويرتقوا القمم السامقة الشمّاء، في مسالك العظمة والقوة، ومدارج التفوق والإبداع. ولقد كان هذا هو ديدن الإسلام مع ذويه، ما منحوه شيئاً إلّا منحهم أشياء، وما قدموا له الطاعة إلا قدم لهم الخير، وما وهبوه كامل الولاء إلا وهبهم أسخى العطاء.

     وانظر إلى صفحة الحضارة المسلمة في الأندلس لتجد مصداق ذلك. إنه حين أحسن المسلمون الصلة بدينهم فهماً وصدقاً وسلوكاً، تقدموا وتفوقوا.. وشادوا وعمّروا، وصنعوا لأنفسهم الخير العميم في دينهم ودنياهم. لذلك لا عجب أن كانت حضارتهم قمة سامقة في مختلف الميادين، وفي ميدان العلوم والفنون والصناعات على وجه الخصوص.

     وقد احتل مسلمو الأندلس في ميدان المعارف بأنواعها مكانة عالية، وكانت لهم في أوربا شهرة واسعة في هذا المضمار، يصاحبها إعجاب شديد، لهذا لم يكن غريباً أن يكثر الطلبة الأوربيون الذين يطلبون العلم في المعاهد الأندلسية المختلفة، وأن يكونوا من شتى البلدان الأوربية، وأن يكون منهم الرجل والمرأة، والحاكم والأمير، والراهب والراهبة، وأن يكون في مسلك هؤلاء الطلبة ما يدل على الإعجاب الشديد بالأندلس المسلمة، حتى إننا لنرى بعضهم وبعضهن، يعتنق الإسلام، ويرفض العودة إلى بلده، ويتزوج ويقضي بقية عمره في الأندلس واحداً من أبنائها المسلمين، بل كان ممن يفعل ذلك راهبة وأميرة.

     وكان لبعثة فيليب ملك باڤاريا إلى الأندلس سمعة خاصة فيما يبدو، فقد كانت ثمة مكاتبات بين فيليب هذا وبين هشام الأول خليفة المسلمين الأندلسي، وكانت هناك عناية خاصة بالبعثة الوافدة، من حيث ضخامة العدد، ومن حيث تنوع المعلومات والمعارف التي جاء طلبة البعثة للحصول عليها، ومن حيث إن بعض عناصرها كُنَّ أميرات، وكان رئيس البعثة هو الوزير الأول عند فيليب.

     والدليل على أن هذه البعثة كان لها شهرة واسعة في أوربا، أن ملوكاً وأمراء أوربيين آخرين ساروا على المنوال ذاته، فأرسلوا إلى حكام الأندلس المسلمين يخبرونهم بما يريدون، وجعلوا من بين الطلبة الوافدين عدداً من أبناء وبنات الأشراف والأعيان، وأرسلوا على رأس المجموعة المبتعثة شخصاً مهماً من الوزراء أو النبلاء.

     وتحتل البعثة التي أوفدها جورج ملك ويلز، أهمية خاصة هي الأخرى. كانت هذه البعثة برئاسة ابنة أخيه، وكانت تضم ثماني عشرة فتاة، من بنات الأشراف والأعيان. وقد توجّهت البعثة إلى إشبيلية، ورافقهن في سفرهن "النبيل سفيلك" رئيس موظفي القصر في ويلز، وكان النبيل سفيلك هذا يحمل رسالة من الملك جورج إلى الخليفة هشام الثالث، تعد مفخرة من مفاخر المجد الإسلامي، وصفحة من أروع صفحات الحضارة الإسلامية الزاهرة في الأندلس المسلمة. وقد نشر المؤرخ الإنكليزي "جون داون يورث" نصّها في كتابه الخطير: العرب عنصر السيادة في القرون الوسطى.

     تقول الرسالة:

     "من جورج الثاني ملك إنكلترا والغال والسويد والنرويج إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام:

     بعد التعظيم والتوقير، فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يسودها الجهل من أربعة أركان.

     ولقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة دوبان على رأس بعثة من بنات أشراف الإنكليز لتتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف، لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وحماية الحاشية الكريمة، وحدب من اللواتي سيتوفرن على تعليمهن. ولقد أرفقتُ مع الأميرة الصغيرة هدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص.

     التوقيع: من خادمكم المطيع جورج م.أ."

----------

     وقد رد الخليفة هشام الثالث بهذه الرسالة:

     "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيّه سيّد المرسلين وبعد:

     إلى ملك إنكلترا وإيكوسيا وإسكندنافيا الأجل:

     لقد اطلعتُ على التماسكم فوافقتُ بعد استشارة من يعنيهم الأمر، على طلبكم، وعليه فإننا نعلمكم بأنه سيتم الإنفاق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين، تأكيداً على مودتنا لشخصكم الملكي. أما هديتكم فقد تلقيتها بسرور زائد، وبالمقابلة أبعث إليكم بغالي الطنافس الأندلسية، وهي من صنع أبنائنا هدية لحضرتكم، وفيها المغزى الكافي للتدليل على اتفاقنا ومحبتنا والسلام.

     التوقيع: خليفة رسول الله على ديار الأندلس هشام".

***

     ترى أثمة شك في أنها واحدة من أنصع وأروع أيادينا البيضاء على الحضارة البشرية؟ إنها الأمة الأندلسية المسلمة يوم أن قدّمت لإسلامها الطاعة والانقياد فقدم لها العزة والأمجاد، ومنحته من نفسها البطولة والفضيلة، فمنحها من فيضه الإباء والرجولة، ووهبته كامل الوفاء والولاء فوهبها شامخ النوال والعطاء.

*****

طارق بن زياد وفتح الأندلس

طارق بن زياد وفتح الأندلس

     كان يوماً مشهوداً في التاريخ، شامخاً منيفاً عملاقاً ذلك الذي سارَ فيه الشابُّ القائدُ الشجاع طارقُ بنُ زياد بقلّةٍ مؤمنة من جندِه الكُماةِ الميامين، وعبَر فيه البحرَ من المغربِ إلى الأندلس، ونزلَ أولَ ما نزل على جبلٍ هناك لا يزال حتى اليوم يحملُ اسمَه الخالد.

     كان يوماً مشهوداً في تاريخ الإنسان لأنه بدايةُ مسيرةٍ طويلةٍ مُظفَّرةٍ لرايةِ القرآن، أرقَلت بها الكتائبُ المؤمنة الشجاعة من المغرب المؤمنِ الشجاع، إلى الجزيرةِ الخضراء المعطاء، أرضِ السحرِ والعطرِ والجمال، أرضِ الحضارةِ والسموِّ والعمران، أرضِ البطولةِ والتضحيةِ والملاحم، أرضِ الأندلس، التي كان لها دورٌ مشهود في رِفعةِ الحضارة، دورٌ ضخمٌ عملاق، بدأ فجرُه الساطعُ المنير في ذلك اليوم الذي عبرَ فيه طارقُ بنُ زياد مع جُندِه الأطهار الكرام ليُقيمَ للإسلامِ دولةً شامخة باذخة في تلك الديار النائية.

     إن المسيرةَ التي بدأت بعبورِ طارق، رفعت أعلامَ الهدى، وأوقدتْ مشاعلَ الحضارة ودفعتْ مواكبَ النورِ صَوْبَ الفتحِ المظفّرِ المنصور، فاجتاحت موجتُها المؤمنةُ المتدفقة السدودَ والقيودَ والجبالَ والأنهار، وانصبّت فيما بعد في أرضِ فرنسا، حيث قامت معركةُ بلاطِ الشهداء على بعد 100 ميل فقط من باريس، فعطّرت دماءُ الشهداء تلك الرُبى والآكام، وهاتيكَ السهولَ والمروج، وأصاخت مسامعُ الكونِ آذانَها تسمعُ الأذانَ العاطر يَصْدَحُ في تلك الديار النائية عن موطنِ الإسلام الأول.

     كان طارقٌ وجندُه الأبرار من أولئك الرجال العماليق الذين لهم هممٌ متقدة، وعزائمُ جيّاشة، وطموحٌ ضخمٌ ممتد، وأمانٍ شاسعةٌ واسعة، لم يكونوا من الذين يُكْثِرون من التفكير حتى يَصِلَ بهم ذلك حدَّ الشللِ والقعودِ والإحجام، بل كان لهم منه ما يكفي لينأى بهم عن غياهبِ الجهلِ والسفاهةِ والإقدامِ الأرعنِ الأحمق. أمّا ما بعدَ ذلك فهو إحساسٌ حارٌّ جيّاش بضرورةِ حَمْلِ هذا الدين وإبلاغِ رسالتِه للعالمين مهما تكنِ الصعابُ والتحدّيات، في إصرارٍ عنيد، واندفاعٍ موصول ما سارت الشمس، وما طلعَ القمر، وما تعاقبَ الجديدان.

     لو أنّ طارقاً ومَنْ معه أكثروا من حساباتِ الموقف جَمْعاً للمعلومات والأرقام، وتحديداً للقوى المادية المتصارعة، وانقطعوا عن النظرِ إلى ضخامةِ القوةِ المعنوية حينَ تنفجر لَما كان لهم أن يتوغّلوا في الأندلس، بل لَما كان لهم أن يعبروا البحرَ بادئَ ذي بدء، فهم قلةٌ مغامِرة تُلْقي بنفسِها في بحرٍ لجبٍ عميق!..

     لكنَّ طارقاً ومَنْ معه كان لهم موقفٌ آخر!.. موقفُ الإيمان إذ يندفعُ فيتّخذُ من الأسبابِ المادية ما يَقْدِرُ على اتخاذِه، ثم يمضي مُسرعاً دونَ خوفٍ أو وجل، ذلك أن المسلمين ما كانوا يقاتلون بعددٍ أو عُدَّةٍ، وإنما بهذا الدينِ الذي أكرمَهم اللهُ به.

     نزلَ القائدُ المؤمنُ الشجاعُ بجيشهِ المؤمن الصغير على أرضِ إسبانيا.. وأمرَ بإحراقِ السفن ليقطعَ على المسلمين أسبابَ الرجوعِ، وليستطيعَ أن يخاطبَهم بقولِه الخالد:

     "أينَ المفر؟ البحرُ من ورائِكم، والعدوُّ من أمامِكم، وليسَ لكم واللهِ إلّا الصدقُ والصبر!.."، فيثير فيهم القوةَ الكامنة، والبطولةَ الأصيلة، والنخوةَ والحميّة، فيعتمدون من بعدِ الله عز وجل على سواعدِهم وسيوفهم.

     صَفَّ طارقٌ جيشَه أمامَ العدو واستعرضَه، فرأى أنه لا يكافئُ الجيشَ الإسبانيَّ في العددِ والعُدَّة، ووصولِ الميرةِ والمدد، والغوثِ والنجدة، فالعدوُّ في مركزِه وأرضِه بينما جيشُ طارقٍ غريبٌ منقطعٌ عن مركزِه وبلاده، لا يَأْمُلُ أن يكْسَبَ زاداً أو يُصيبَ عُدَّة، إلا ما ينتزعُه من أيدي عدوِّه انتزاعاً ويتغلّبُ عليه.

     وإنَّ طارقاً لَيَعرفُ -وهو الفطنُ الذكي- أنّ جيشَه لو حدثَ به حادِثٌ، أو دارت عليه دائرةٌ؛ فإنه سوف يصبحُ خبراً من الأخبار في خَلَدِ الزمان، وطُعْمَةً للسّباعِ والنسور في أرضِ الميدان. وهذا ما أثارَ في طارقٍ التفكيرَ والاهتمامَ بحثاً عن قوةٍ يَدْعَمُ بها جيشَه المغامر.

     ولمْ يَرَ بعدَ إطالةِ التأمل إلّا أن يَضُمَّ لهذا الجيش قوةً لا تُهْزَم وإرادةً لا تُغْلَب، إنها القوةُ الإيمانيةً العظيمةُ التي تتصلُ بقوةِ اللهِ عز وجل وحَبْلِه المتين. وفرح طارقٌ بذلك أيَّ فرح، وتطلّقَ وجهُه واستبشر، فقد كان من أمرِه على يقين. أليسَ جيشُه الصغيرُ جندَ الله؟ أما جاءَ به ليخرج الناسَ من الظلماتِ إلى النور، ومن عبادةِ الناسِ إلى عبادةِ ربِّ الناس، ومن ضيقِ الدنيا إلى سعتِها ومن جَوْرِ الأديان إلى عدلِ الإسلام؟

     أمَا قال الله عز وجل: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 173]؟

     هنالك وقفَ القائدُ المؤمن يناجي ربَّه، ويطلبُ النصرَ والغلبةَ والتمكين، وكان في ذلك مُتأسِّياً بِهَدْي الرسول ﷺ، إذ وقفَ يومَ بدرٍ يدعو ربَّه عزّ وجل. تأسّى طارقٌ بهذا الموقفِ فكان منه دعاء، وكانَ منه رجاء، وكانت همّةٌ من بعدِ الدهاءِ والرجاء أعقبَهما النصرُ المبين.

     إن هؤلاء الفتيانَ الذين خرجوا مع طارق مجاهدين فاتحين، قومٌ منحَهم اللهُ عز وجل طموحاً وعلوَّ همّة، فهم لا يَرْضَوْنَ إلا أن يكونوا سادةَ العالم يحكمون الدنيا كُلَّها بحكمِ الله، وينفذون فيها أمرَه، لا يعلوهم سواه، ولا يخافون إلّاه.

     أبطالٌ غطاريفُ ميامين تنفلق بهيبتِهم البحار، وتنطوي لسطوتِهم الجبال، لقد ذاقوا لذّةَ الحبِّ والإيمان فاستعلَوْا بذلك على العالم والمادة. هانت عليهم الدنيا وشهواتُها، زخارفُها وزينتُها، لمعانُها وبريقُها، وذلك شأنُ الإيمان إذا خالطت بشاشتُه القلوب. ما خرجوا أَشَراً ولا بَطَراً، ولا رياءً ولا سُمعة، ولا طلباً لنفوذٍ أو مغنم، بل أخرجَهم الحنينُ إلى الشهادةِ التي هي أَمَلُ كلِّ مؤمنٍ صادق، والرغبةُ في إعلاءِ كلمةِ الله جلّ جلاله.

     القارّةُ التي وقفَ طارقٌ على شفيرِها جنوبَ الأندلس واقفةٌ على شفا حفرةٍ من النار، ولا يمكنُ أن يمنعَها من التردّي فيها إلا أن يبذلَ طارقٌ ومَنْ معه دماءَهم وأنفسَهم بشجاعةٍ وسخاء، ذلك أنّ أملَهم الكبير وطموحَهم الضخم لا ينهضُ به إلا دمٌ مؤمنٌ طاهر كدمِ طارقٍ ومَنْ معه.

     إنّ أزهار الخيرِ جافّةٌ ذابلة، وهي بحاجةٍ إلى دمٍ قانٍ طاهر لِتَرْفُلَ في حلّتهِ وتزهو، وتبدو ناضرة حيّة، وإنّ طارقاً ومَنْ معه هم هذا الدم العزيز الذي لا يتوانى أن يسيلَ على الأرض ما دام في ذلك تعزيزٌ لركبِ الخير وزحفِ الإيمان.

     إنّ طارقاً ومَنْ معه قَدِموا ليُريقوا دماءهم في بستان الجهاد الإسلامي، لتخضرَّ الأرض، وتُزهِرَ الأشجار، ويذوبَ الصقيع، وتَعْمُرَ البلاد، ويسود الأمن والعافية والرخاء، لتخصب شبه جزيرة إيبيريا بعد جفافٍ طويل، وجدبٍ متّصل، وسنواتٍ عجاف، ليحلّ الربيع بعد شتاءٍ قاسٍ ممتد ملأته الرياح الهوج، والعواصف المدمرة، والبرد الشديد القارس، لتستحيل شبه جزيرة إيبيريا شيئاً جديداً آخر اسمه الأندلس، ولتُطوى الصفحة الإسبانية منها، وتحلّ بدلاً منها الصفحة الأندلسية التي كانت أعطر أيام شبه الجزيرة تلك، وأجملها وأزهاها على الإطلاق، وأحفلها بالمبادئ القويمة، والأهداف النبيلة، وأعظمها دَوراً في خدمة الحضارة الإنسانية وإثرائها بكل نافعٍ مفيد.

     إنّها لَحقيقةٌ من حقائق التاريخ الكبرى أنْ تقول: إنَّ دور الأندلس المسلمة في الحضارة البشرية هو صفحةٌ مشرقة من أعظم صفحات هذه الحضارة وأنبلها على الإطلاق، وهي صفحةٌ كُتِبَ السطر الأول منها بموقف طارق الذي كان وسيظلُّ من نوادر مواقف الرجال في تاريخ البشر.

     وسجّل التاريخُ أنّ الله عز وجل أنزل نصره المؤزّرَ يومذاك على طارق ومن معه، فاقتحمَ المسلمون الأندلس وحكموها ثمانية قرون، ومنحوها بذلك أجمل أيام عمرها وأبهاها على الإطلاق، ونشروا فيها الهدى الإيماني الكريم، فإذا بالقرآن يُتلى، وإذا بالأذان يعلو، وإذا بالأندلس جزء من دار الإسلام.

*****

أقوال حكيمة

أقوال حكيمة

· أرجى آية في كتاب الله تعالى:

- قال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه: تلوتُ القرآنَ كله، فما رأيتُ آية أرجى من قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ﴾ [الإسراء:84]، لأن شاكلة العبد المعصية، وشاكلة الرب الرحمة.

- وقال عمر الفاروق رضي الله عنه: قرأت كتاب الله كله، فلم أجد أرجى من قوله تعالى: ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ [غافر:3].

- وقال عثمان ذو النورين رضي الله عنه: قرأت القرآن كله فلم أجد أرجى من قوله تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الحجر:49].

- وقال عليٌّ أبو الحسنين رضي الله عنه: لم أجد في القرآن الكريم أرجى من قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر:53].

· من كلام الفضيل بن عياض رحمه الله قوله:

- لم يدرك عندنا من أدرك بكثرة صيام ولا صلاة، وإنما أدرك بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة.

- لم يتزين الناس بشيء أفضل من الصدق وطلب الحلال.

- وسئل عن التواضع فقال: أن تخضع للحق وتنقاد له، وتقبل الحق من كل من تسمعه منه.

- من أظهر لأخيه الود والصفاء بلسانه، وأضمر له العداوة والبغضاء لعنه الله، فأصمه وأعمى بصيرة قلبه.

· ومن كلام ذي النون المصري رحمه الله قوله:

- إياك أن تكون بالمعرفة مدعياً، أو تكون بالزهد محترفاً، أو تكون بالعبارة متعلقاً.

- وسئل عن المحبة، فقال: أن تحب ما أحب الله، وتبغض ما أبغض الله، وتفعل الخير كله، وترفض كل ما يشغل عن الله، وألّا تخاف في الله لومة لائم... مع العطف للمؤمنين، والغلظة على الكافرين، واتباع رسول الله ﷺ في الدين.

· ومن كلام بشر الحافي رحمه الله قوله:

- الدعاء ترك الذنوب.

- إن لم تطع فلا تعص.

- الحلال لا يحتمل السرف.

· ومن كلام شقيق البلخي رحمه الله قوله:

- اتق الأغنياء: فإنك متى عقدت قلبك معهم وطمعت فيهم، فقد اتخذتهم أرباباً من دون الله عز وجل.

- الزاهد الذي يقيم زهده بفعله، والمتزهد الذي يقيم زهده بلسانه.

- جعل الله أهل طاعته أحياء في مماتهم، وأهل المعاصي أمواتاً في حياتهم.

- ليس شيء أحب إليّ من الضعيف، لأن رزقه ومؤونته على الله، ولي أجره.

*****

صاحب النقب

صاحب النقب

     كان جمعٌ من المجاهدين الغزاة يحيطُ بحصنٍ منيعٍ من حصون الروم، وكان الجمعُ على أهبةٍ حسنة، وعدّةٍ طيبة، وكان كذلك على همّةٍ عالية وإيمانٍ مكين، وصدقٍ في البلاء وثباتٍ عند اللقاء.

     لكنّ الحصن استعصى عليهم بالرغم من كل ذلك؛ فقد كان معقلاً أَشِباً حصيناً يشقُّ اقتحامُه على الغزاة، وكان الروم المدافعون عنه فرساناً شجعاناً قد عرفوا الحروب وخبروها، فاجتمع لهم من ذلك دُرْبَةٌ وخبرة، إلى شجاعة وإقدام. من أجل ذلك طالَ الحصارُ دونَ أنْ يُوَفَّقَ المجاهدون إلى اقتحام الحصن الرومي وهزيمةِ مَنْ فيه. ولولا أنّ أولئك الغزاةَ المحاصِرينَ للحصن كانت لهم همّةٌ كبيرة، وعزمٌ صادق، ويقينٌ راسخ، لتَداعَوْا إلى الانسحاب، ورجعوا راضين من الغنيمةِ بالإياب.

     طال الحصار وكثرت اللقاءات بينَ المحاصَرين والمحاصِرين دونَ نتيجةٍ حاسمة، فما استطاع أهلُ الحصن فكَّ الحصار وإرجاعَ الغزاة، وما استطاع المجاهدون أن يقتحموا الأسوارَ المنيعةَ العالية.

     وكان مَسْلَمَةُ بنُ عبد الملك القائد الشجاع الباسل، يمتطي صهوةَ جواده الذي أَلِفَ الحروب، يتفقد جندَه الشجعان، ويتدبَّرُ أمورَهم، ويرعى شؤونَهم ويدفع عنهم الأذى، وكان كذلك يُطِيفُ بالحصنِ من هنا وهناك، ينظر إليه ويتأمله، ويفحص جدرانَه الضخمة، وأسوارَه الباذخة، ونقطَ الحراسةِ والأبواب، لعله يوفَّقُ إلى مكان مناسب يقتحمه منه لينتهيَ هذا الحصار الذي طال، لكنه كان يعودُ من بعد تَطْوافِه دونَ أنْ يحظى بما يؤمّل، فما يجد أمامَه إلا المزيدَ من الصبرِ وتشديدِ طَوْقِ الحصار.

     وربّما كانت نفسُ مسلمةَ تضيقُ في بعضِ الأحايين، ذلك أنه -وهو القائدُ الجسورُ الشجاع الذي خَبِرَ الحروب وعرَفها- وقفَ عاجزاً أمامَ هذه المعقل العنيد، ترى أينسحبُ عنه معترفاُ بعجزِه عن اقتحامه!؟ أيظلُّ هكذا محاصِراً له إلى أمدٍ لا يعلمه إلا الله!؟

     وأرخى الليل سدولَه، وحلّ الظلام، وهدأتِ الحركة عند الرومِ وعند المسلمين، وساد صمتٌ مطبق لا تقطعه إلا أصواتُ الحراس من الفريقين. لكن مسلمةَ نأى عنه النوم فظلّ في خيمتِه مُتْعَباً حيران حتى استأذن عليه بعضٌ من قادته يفكرون معه في أمر الحصن، ويعرضون عليه ما هداهم إليه تفكيرُهم من حلول.

     أشارَ عليه أحدهم بأن يَنْدُبَ من فرسانه مَنْ يبيعُ نفسَه لله بثواب الشهادة والجنة، فإذا اجتمعَ من ذلك عددٌ طيب مَضَوْا صوبَ الحصن ليُحدثوا فيه نَقْباً يدخل منه الجيش، فيكونُ النصرُ المرتقب. وكانت الفكرة جميلةً طيبة.. وكان الاقتراح حميداً فعّالاً وإن كان سوف يكلِّف الكثيرَ من الشهداء، ذلك أن الروم سوف يُصْلون أولئك القادمين لإحداثِ النَقْبِ؛ ناراً حامية!.. لكنْ أَثمَّةَ نصرٌ يأتي دونَ ضحايا ودماء؟

     واجتمع الرجالُ الذين ندبوا أنفسَهم لإحداثِ النقب واقتحامِ السور، وتقدّموا صوبَ الموت، وهانت عليهم أرواحُهم، وهانت عليهم الدنيا كلُّها، فقد وصلوا أسبابَهم باللهِ العليّ القدير.

     وشهدَ الليلُ إصراراً عنيداً منهم، وشهد كذلك ثباتاً كبيراً من الروم. يتقدمُ الغازي صوبَ السور فما يلبث أن يُسْتَشْهَدَ بما ينهالُ عليه من سلاحِ العدو... لكنَّ غازياً آخر يكون قد تقدم خطوةً أبعدَ من خطوة الغازي الأول. ثم يُسْتَشْهَدُ الثاني والثالث والرابع، ويكثر الشهداء لكنَّ كلَّ واحدٍ منهم كان يهيّئُ الفرصة لِمَنْ بعده ليتقدمَ خطوةً أبعد.

     كان هؤلاء الرجال يتجهّزون صوبَ غايتهم دونَ وجل، وكانوا يتناقصون كلّما تقدموا أكثر، حتى تمكّنوا أخيراً من إحداثِ النَقْبِ المطلوب في السور، وتقدّمَ واحدٌ منهم مسرعاً مبادِراً فألقى بنفسِه في النقب، ثم مضى صَوْبَ الباب يقاتلُ مَنْ عليه، حتى إذا لم يَبْقَ أحدٌ فتحه وهو يهلِّلُ ويكبّر، عندها تقدمَ الجيشُ وهجمَ هجمةً واحدة فإذا بالحصن يقعُ بينَ أيدي المسلمين.

     وأُعْجِبَ مسلمةُ بالرجل المغامر الشجاع، وفرح لبطولته وشجاعته، وآلى على نفسه أن يرفعَ أمرَه إلى الخليفة في دمشق لينالَ منه الحُظْوةَ والقرب، وعزم على أن يكرمَه خير إكرام لتكونَ منه قدوةٌ يتشبّه بها بقيةُ الجند حين يجاهدون، لذا ما كاد ينتهي من أمرِ الحصن حتى طفقَ يبحثُ عن المغامرِ المقدام، صاحبِ النقب.

     وأرسلَ مسلمةُ مَنْ يسأل عنه القادة، فما عرفه أحد!.. وأرسل من يسأل عنه الجنود فما عرفه أحد!.. فأمر مناديَهُ أن يناديَ في الجيش صباح مساء: "أَلَا مَنْ كان منكم صاحبَ النقب فليتقدمْ إلى قائدِ الجند ليصلَه بما يُعْلِي قَدْرَه، وليوصيَ به عندَ أميرِ المؤمنين".

     وتردّدَ النداءُ في المعسكر مرةً بعد مرة، ويوماً بعدَ يوم دونَ أن يستجيبَ أحدٌ له، حتى كأن صاحبَ النقب طيفٌ جاءَ من حيثُ لا يعلمُ الناس، ومضى إلى حيثُ لا يعلمُ الناس.

     وكانت رغبةُ مسلمةَ في التعرف إليه رغبةً مُلِحَّةً حارّة، وكان يتوقُ إلى لُقياه بشوقٍ ولهفة!.. وذاتَ ليلة بعدَ أن انصرفَ القادةُ من خيمته، وأخذَ يتأهب للنوم، استأذن عليه رجلٌ يضعُ على وجهِه اللثام دونَ أن يصرّحَ باسمٍ أو كنية أو لقب، وحينَ مَثُلَ بين يديه قال له:

- أفلا أحدّثك عن صاحبِ النقب!؟

     وبدا الاهتمام على وجه مسلمة، وظهر الجِد والاحتفال، فما أسرعَ أن قال:

- بلى والله حدِّثني عنه.

- قال الرجل: وإنَّ له عليك لثلاثة شروط.

- قال مسلمة: وما شروطه؟

- قال الرجل: أن لا تسألَ عن اسمه، ولا تكشفَ عن وجهه، ولا تأمر له بعطاء!..

     فقَبِل مسلمةُ مسرعاً، ذلك أنّه خالَ أن هذا الرجلَ عابرُ سبيلٍ تطوّعَ للكشفِ عن صاحبِ النقب، لذا سارعَ يقول:

- له ذلك فأخبرني مَنْ صاحبُ النقب؟

- قال الرجل أنا هو!.. قالها في هدوء بالغ، ثم سكت، وساد المكان وجوم مهيب!.

     وعقدت الدهشةُ لسانَ مسلمة، وشَعَرَ بعظمةِ هذا الرجل، ونُبْلِ الموقفِ الذي هو فيه، وسادَ المكانَ سكونٌ جليلٌ رائع ما لبثَ أن قطعَه مسلمة وهو يقول للرجل:

- فما حَمَلَكَ على الكتمان؟

- فقال الرجل: أيها الأمير!.. إنّما صنعتُ ما صنعتُ في النقب تقرّباً إلى الله وزُلْفى إليه، وإنّي أطمع أن ينالَني رضوانُه، فما لكَ تفسدُ عليَّ ثوابَ الله بثوابِك؟ ناشدتُكَ اللهَ إلا ما تركتني. ثمّ مضى وانصرف.

     وظلَّ مسلمةُ مشدوهاً معجباً، مُكْبِراً لهذا الرجل الذي جاء من خلالِ الظلام، وانصرفَ خلالَ الظلام، فهو رجلٌ ينأى عن الشهرة، ويكرهُ أن يشوبَ عملَه شيءٌ من الرياء، إنّه يريد الرضوانَ من اللهِ تعالى فحسب.. وأَكْرِمْ به من رضوان!.. وأَنْعِمْ بطالبِهِ من رجل!..

     ولقد ظلَّ إعجابُ مسلمةَ بهذا الرجل مُستكِنّاً في أعماقِ فؤاده، يدلُّ على ذلك هذا الدعاءُ العظيم الذي كان يقولُه عندَ كل صلاة: "اللهمَّ اجعلْني معَ صاحبِ النقبِ بينَ يدي رحمتك".

رَحِمَكَ اللهُ يا صاحبَ النقب، وأكرمَ منزلتَك، وحَشَرَنا الله تعالى وإياكَ مع السعداءِ الناخبينَ يومَ الدين.

ضياؤكَ مُشْـــــرِقٌ في كلِّ أرضٍ     لأنــكَ غيــرُ محـــدودِ المكـــــانِ
بَغَتْ أمَمُ الـتتـــــارِ فأدركتـــــــها     من الإيمــــــانِ عاقبــــةُ الأمــانِ
وأصبــــحَ عابدُو الأصنامِ قِــدْماً     حُمـــاةَ الحِجْرِ والركنِ اليمـــاني
فــلا تجزعْ فهذا العصــرُ ليـــــلٌ     وأنتَ الفجـــرُ يشـــرِقُ كــــلَّ آنِ
ولا تخشَ العواصفَ فيه وانهضْ     بشـــعلتِكَ المضيئةِ في الزمــــانِ

*****

الأكثر مشاهدة