الأربعاء، 13 يوليو 2022

ملحمة بدر الكبرى

الفصل الثالث: بدر الكبرى والفتح الأعظم .. بشائر النصر ونفحات الإيمان

ملحمة بدر الكبرى

     كانت بدر ولا تزال وستظل حتى يرث الله الأرض ومن عليها ملحمةً ضخمة هائلة من معارك الإيمان وملاحمه، بل أولى هذه المعارك والملاحم، وأكثرها أهمية وأعظمها أثراً، ولا غرابة في ذلك فهي أول معركة وقعت بين كتيبة الإيمان وكتيبة الجاهلية.

     إذا حلت بالمسلمين الهزائم طفقوا يتلفتون صوب تاريخهم يبحثون فيه عمّا يشد أزرهم، ويقوّي همتهم، ويعدهم بالأمل، وحين يفعلون ذلك يجدون معركة بدر في طليعة المعارك التي تقدم لهم ذلك الزاد كله، وتهيئ لهم كل الذي يرجون من فاعلية.

     وإذا حققوا النصر، وفازوا بالغلبة، سرى منهم تاريخهم البطل مسرى الدم في العروق يملؤهم بالمجد، ويمدهم باليقين، ويحدوهم لمزيد من النصر والفوز والغلبة، وفي مقدمة تاريخهم البطل تقف معركة بدر ترسم لهم معالم الطريق، وتهتف بهم أن يحققوا مزيداً من التفوق الإيماني، وتهيب بهم أن يكونوا بالإسلام -ومن أجل الحق وحده- السادة الكرام، والقادة الأمجاد الميامين.

     لقد كانت مواقف الصحابة الكرام في بدر، وهم رأس حَرْبَةِ البطولة في التاريخ الإسلامي كله، مواقف أندى من قطرات الماء في يوم الصيف اللاهب، وأعبق من شذا الريحان والمسك والعنبر، ولا غرابة فهي موصولة الأسباب بالحق المبين، وثيقة العرى بهدي السماء.

     في بدر سال دمان مختلفان، دمٌ مؤمن يسعى للخير وينشر النور والحق، ودمٌ كافر يعمل للشر ويحالف الظلام والباطل. وإذا سال هذان الدمان جفّت جذور الجاهلية، وصوّح نبتُها، أما شجرة الإيمان فقد نمت واخضوضرت وأزهرت:

جفّت جـذورُ الجـــاهليةِ وارتــوى     هذا النباتُ النــاضرُ المستـــرشحُ
طفق الثرى من حولها لمّا ارتوى     من ذَوْبِ مهجتـــها يجفُّ ويَبْـــلَحُ
ومن الدم المســفوك رِجْسٌ موبقٌ     ومطهِّرٌ يلـــدُ الحيـــــاةَ ويلقحُ[1]

     أيتها الذكرى العظيمة الكبيرة!.. يا ذكرى بدر التي سمت وعظمت!.. ما أروع أن نستظل ببستانك الوارف الفينان!.. ونحن اليوم تنوشنا ذئاب اليهودية والصليبية والشيوعية والوثنية، ليكون لنا من ذلك غوث نفسي، ومدد روحي، وهمّة وعزيمة، وجهاد صادق لا يهدأ، حتى يكون لنا النصر بإذن الله، يصنعه قدر الله الغالب بأيدٍ مؤمنة متوضئة، لرجال كرام عظام، يصوغون مواقف كريمة عظيمة.

     إن الرجال القلائل الذين وقفوا يوم بدر جياعاً عراةً مهازيل، هم أول كتيبة من جند الإسلام بدأت بتفوقها الإيماني الكاسح تصوغ مواقف الجيل القرآني العملاق الذي أحدث أكبر تغيير للأحسن في تاريخ البشرية:

هم في حِمى الإيمانِ أولُ صخرةٍ     فَسَــلِ الصخورَ أمَا عَرَفْنَ قواهـا
حملتْ جبالَ الحقِّ في دنيا الهدى     بيضـــاً شواهقَ ما تُنــالُ ذراهــا
شهـــداءَ بــدرٍ أنتــمُ المثــلُ الذي     بـــلغ المدى بعد المدى فـتنــاهى
علّمتـــمُ الناسَ الكفـــاحَ فأقبـــلوا     ملءَ الحوادثِ يدفعونَ أذاهـا[2]

     يا أهل بدر!.. ما أكرمكم من رجال!.. وما أعظمكم من أبطال!.. وما أحرانا أن نتأسّى بكم!.. ونحن اليوم نرجو أن نجاهد كما كنتم تجاهدون، نقتبس من بطولتكم، ونستضيء بمواقفكم، عسى أن يُكتب لنا النصر المبين.

     لقد غلبتم كتيبة الجاهلية يوم غلبتم في أنفسكم دواعي القعود، واستعليتم على متاع الدنيا. هزمتم مشركي قريش يوم هزمتم في أعماقكم كل خوف وطمع وضعف:

ما أكرمَ الأبطــــــالَ حينَ تفيّـــــؤوا     ظُلَلَ المنـــايا يبتغــــــــون جنــــاها
راحوا من الدم في مطارفَ أشرقت     حُمْرُ الجراح بها فــكُنَّ حِــــــــلاها
لو أنهم نُشِــــروا رأيتَ كـــــلومَهـم     تـدمى كأنـــــــك في القتــــال تراها
هم عنــدَ ربـــكَ يُرزقونَ فحيِّــــــهم     وصِــفِ الحيــــاة لأنفــسٍ تهـــواها
اللهُ بــــاركهــا ببـــــدرٍ وقعـــــــــةً     كــلُّ الفتــــوحِ الغُـــرِّ من جــدواها
منعــتْ ذمارَ الحقِّ حيــنَ أثــــارها     وحمـــتْ لواءَ اللهِ حيـــنَ دعـــــاها

-----------
[1] للشاعر أحمد محرم في ديوانه: مجد الإسلام.
[2] للشاعر أحمد محرم، في دوانه: مجد الإسلام.

كتاب أفراح الرُّوح - الفصل 3 - ذكرى معركة بدر

الفصل الثالث: بدر الكبرى والفتح الأعظم .. بشائر النصر ونفحات الإيمان

ذكرى معركة بدر

     تظلُّ ذكرى بدر يوماً خالداً في التاريخ مهما طال الزمانُ وتباعدت الأيام، فهي أعظمُ معاركِ التاريخ على الإطلاق بنتائجِها الضخمةِ الكبيرةِ الممتدة حتى يوم الدين. إنها أكبرُ وأولُ معركةٍ فاصلة في سجلِّ الصِّدامِ بين الكفر والإسلام.

     لقد التقت يومَ بدرٍ كتيبةُ الإيمان يقودُها الرسول ﷺ بكتيبةِ الوثنية يقودها أبو جهلٍ والمخدوعون من قادةِ الضلال والفساد والطغيان، وما هي إلّا ساعةٌ من نهار حتى كانت السيوفُ المؤمنة تحصدُ المشركين حصداً، وتسوقهم إلى الموتِ الزؤام.

     ما أعظمَ أن تمرَّ بنا ذكرى هذه المعركة العظيمة!.. وأمَّتُنا تجاهدُ بصدقٍ وبلاءٍ جيشَ الفسادِ والضلالِ والبغي، جيشَ يهود، الذين سرقوا منا انتصارات وهمية. فلمّا أن بدت في الأمة المسلمة بشائرُ صحوةٍ كريمة، نبيلةٍ مظفّرة بإذن الله، كانت هذه الحربُ الشريفةُ المقدسة، تخوضها أمتُنا الوفيةُ المعطاء، لا بَغْياً ولا ظلماً، ولا علوّاً ولا فساداً، ولا كِبراً ولا بطراً، بل دفاعاً عن كرامةٍ أُهينت، وأرضٍ سُرِقت، ومساجدَ دنَّسها الأنذال، ونساءٍ فتكَ بهنَّ الغادرون، وأطفالٍ عدا عليهم اللصوصُ والجبناء.

     إننا اليوم ونحن نتفيَّأُ ظلالَ هذه الغزوة الكريمة، في هذا الشهر الكريم، ونحن نجاهدُ في سبيل الله لإنقاذِ بلادِنا وأمّتِنا، لَنَرْفَعُ إلى الله عز وجل أكُفَّ الضراعة قائلين: اللهم بدراً كبدر، وإيماناً كإيمان أهل بدر، وانتصاراً كانتصار مجاهدي بدر، ومواقفَ شجاعةً عظيمةً عملاقة كمواقفِ مسلمي بدر.

     إنَّ يومَ بدرٍ ذكرى في التاريخ، لكنها ليست ذكرى محفوظةً مسجَّلةً بين دفّاتِ الكتب، بل هي ذكرى حيّةٌ تعيش في أفئدةِ المجاهدين المؤمنين فتحملُهم على البطولةِ والتضحية، والشجاعةِ والإقدام، ولِمَ لا!؟ ولهم في مجاهدي بدر أُسْوَةٌ عظيمة مشرِّفة.

     اضربْ بعينيكَ هنا وهناك، تنقَّلْ في ذاكرتك بينَ صحائف التاريخ، انطلقْ حيثُ تشاءُ في أسفارهِ وأخباره، قَلِّبْ أوراقَه واحدةً واحدة، اقرأ كلَّ سِيَرِ البطولةِ والتضحية، وكلَّ كتبِ الشجاعةِ والفداء، وكلَّ أنباءِ الرجولةِ والإقدام، تنقَّلْ كما يحلو لك في الزمانِ والمكانِ والموضوع، ارتحلْ حيثُ تشاء، حتى إذا استوعبتَ من ذلك ما استأثرَ بلُبِّكَ، وامتلكَ فؤادكَ، وسيطرَ على اهتمامك، فتعالَ معي!.. تعالَ معي نَجُبْ معاً معركةَ بدر، نستوعبُ أخبارَها، ونستروِحُ ذكراها، ونستظِلُّ بأفيائِها، ونَعْبَقُ نَشْرَها وشَذاها، فإن فعلتَ ذلك فإني سائِلُك:

     هل وجدتَ في كل ما عرفتَ شرقاً وغرباً، حاضراً وماضياً، يوماً كيوم بدر في جلالِ قدره، وارتفاعِ خطره، وعِظَمِ نتائجه!؟ أواجدٌ أنتَ مثلَ هذا اليوم!؟ أواجدٌ يوماً قريباً منه!؟ لا يا صاحبي، إنك لن تجدَ مثلَ ذلك قط، فيومُ بدرٍ هو اليومُ الأغرُّ الضاحي في خوالدِ الأيام.

     سيظلُّ الخيرُ في العالمِ عِيالاً على المسلمين، وسيظلُّ المسلمون عِيالاً على الشهداءِ منهم، وسيظلُّ الشهداءُ منهم عِيالاً على شهداءِ بدر، فقد كانوا أولَ موكبٍ باعَ نفسَه لله عز وجل.

     فصلُ الربيعِ عطرُ الزمانِ وابتسامتُه، ومعركةُ بدرٍ في التاريخ الإسلامي هي العطرُ العاطر، والإيمانُ الواثق والبسمةُ الزاهية، والنصرُ المبين.

     إذا كان للخيرِ خُلاصةٌ في الحادثات فواقعةُ بدرٍ خُلاصتُه، وإذا كان للعدلِ فخرٌ على الأيام فبِبَدْرٍ فَخارُهُ واعتزازُه، وإذا كان للإقدامِ والجراءةِ صورةٌ مُثْلى يُؤْتَسى بها فالصورةُ هي يومُ بدر، ما كان فيه من مواقف.

     إنّ يومَ بدرٍ للمؤمن مَعينٌ يرتوي منه العزّةَ والشجاعة، والبطولةَ والجسارة، ولذةَ الاستشهادِ في سبيل الله، وهو مَعينٌ ثَرٌّ غني، عذبٌ دفّاق، سائغٌ حلوٌ فرات.

     إنّ مواقفَ العُصبةِ المؤمنةِ يومَ بدر تكشفُ عن إيمانٍ نادر، ووفاءٍ خالص، وصدقٍ وإيثار، وحبٍّ لله ورسولهِ صافٍ عميق. مواقفُ تُبِينُ عن ارتفاعٍ لا مثيلَ له على شهواتِ النفسِ والجسد، وسفاسفِ الدنيا وزينتِها وبهرجِها، وحُطامِ الحياةِ وزهرتِها ...

     ستظلُّ الإنسانيةُ تَفْغَرُ فاها من الدهشةِ والإعجاب، والإكبارِ والاستغراب، تُرى: أفي البشر مَنْ يملكُ هذه المقدرةَ الهائلةَ على الانتصارِ على ذاتِه وبيعها بيعاً خالصاً لله عز وجل لا رجعةَ فيه!؟ أفي البشر مَنْ يقتل أباه ذَبّاً عن دين الله؟ أفي الناس مَنْ يبكي لأن رسول الله ﷺ قد ردَّهُ لصغرِه!؟

     أجل.. إنّ ذلك لكائن، فالإسلام العظيم يملكُ القدرةَ دائماً على رفعِ أتباعه إلى آفاقٍ كريمةٍ سامية إذا صدقت منهم النوايا، وصحَّت منهم العزائم. وحين كانت نوايا البدريين صادقة، وعزائمُهم صحيحة، كانت لهم تلك المواقفُ التي لا نزالُ حتى اليوم نعيشُ في امتدادِها الضخمِ الهائلِ الكبير.

     وتمضي السنون إثر السنين، وبدرٌ فخارٌ باذخ، واعتزازٌ هائل، ومجدٌ في ذرى الجوزاء. لقد بقي وسيبقى مفخرةَ الدهر، ومُلهِمَ الكُتّاب، ومَعينَ البطولة والمجد والعطاء:

إيهِ يا بدرُ أنتِ مفخـــرةُ الدهــ     ــر ووحيُ الكُتّــابِ والشعراءِ
أنتِ بدرُ الزمان يسطعُ بالنُّـــو     ر ويقضي على دُجى الظلماءِ
أنتِ ألهمتِني القريضَ وكم فتْـ     تَقتِ قبـــــلي قـــرائحَ البُلغــاءِ
وأَسَلْتِ القصيـــدَ مني غنـــاءً     عبقريَّ الإيقاعِ عَـــذْبَ الأداءِ
كـلّما عــــــــادني تَذَكُّرُ بَـــدْرٍ     طاولـتْ عَزْمَتي ذرا الجوزاءِ

*****

وقفة مع غزوة بدر

الفصل الثالث: بدر الكبرى والفتح الأعظم .. بشائر النصر ونفحات الإيمان

وقفة مع غزوة بدر

على ذِكْـــرِها فــليَعــــرفِ الحقَّ جاهـــلُهْ
               ويؤمنْ بــــأنَّ الـبـــغيَ شــــتّى غوائلُــــهْ
هيَ الغزوةُ الكبرى هوى الشركُ إذْ رَمَتْ
               جحــافِلُها العُظْــــمى ووَلَّـتْ جحــــــافـلُهْ
وأصبـــــحَ ديــنُ اللهِ قد قــــــام ركنُــــــهُ
               فَأَقْصَـــرَ من أعدائِــــــــهِ مَنْ يُطـــــاولُهْ
بَنَتْهُ سيـــــوفُ اللهِ بـالـعـــــــــــزمِ إنَّــــهُ
               لَأَصْـــلَبُ من صُمِّ الجلاميـدِ ســـائلُهْ[1]

     تلكم هي غزوة بدر التي نعيشُ سعداء في ذكراها الكريمة الخالدة، وأنعمْ بها من غزوة!.. وأنعمْ بذكراها من ذكرى!.. فهي أول لقاءٍ بين الإسلام والجاهلية ارتفعت فيه كلمةُ الحق، وانطلقت بشائرُ الهدى والنور، وخسئت فيه كلمةُ الباطل وانخذلت، وعادت يُجلِّلُها الخزي والعار.

     لقد مضت السيوفُ المؤمنةُ تُطِيحُ بالرؤوسِ الكافرةِ العفنة التي لم تكتفِ أنْ حادت عن الحق، بل أسرعت، يحدوها العنادُ والكبرياء، تحاولُ صدَّ الآخرين عن المنهلِ العذب، وتسومُ مخالفيها سوءَ العذاب.

     في يوم بدر التقت القلةُ المؤمنة بالكثرةِ الباغية ليكونَ لقاءٌ ضخمٌ كبير، فتكَ بالحاقدين الأفَّاكين، وحفر مجرىً جديداً في تاريخِ الحياة، وتحوُّلاً في مسيرةِ الدنيا صَوْبَ كلِّ ما هو صادقٌ وعاطر، ونافعٌ وشريف.

     أهابَ المصطفى ﷺ بالمؤمنين أن يُقْدِموا دون خوف، وأن يجاهدوا بصدقٍ وعزيمةٍ ومضاء، فاللهُ ناصرٌ للحق، خاذلٌ للطاغوت، رافعٌ كلمتَه، مُهْلِكٌ أعداءه:

أهــــابَ رسولُ اللهِ بالجُنـــدِ أَقْدِموا
               ولا ترهبـــوا الطاغوتَ فاللهُ خاذلُهْ
أَمَا تنظـرونَ الأرضَ كيــفَ أظلَّها
               من الشركِ دِينٌ أهلكَ الناسَ باطلُهْ؟
خذوه ببــــأسٍ ما تَطِيشُ سهــــامُهُ
               فـأنتـــمْ منايــــاهُ وهذي مقــــاتلُــهْ

     ونشبَ القتالُ حاراً عنيفاً متقداً، وطفق المؤمنون يَصْدُقونَ اللهَ ما عاهدوه عليه، وارتفع دعاءُ المصطفى ﷺ، يدعو خالقَه ألّا تَهْلِكَ هذه العُصْبَةُ المؤمنة، وتنزَّلت رحمةُ الله على المسلمين، وكان لهم نصرٌ عزيز كريم:

مضى البأسُ بَدْرِيَّ المشاهدِ ترتمي
               أعاصيرُهُ نــــاراً وتغلي مراجــــلُهْ
وراحَ رســــولُ اللهِ يدعـــــو إلهَــهُ
               فيا لَكَ من جندٍ طوى الجوَّ جافِـــلُهْ
تنــزَّلَ نصرُ اللهِ تنســــابُ من عَلٍ
               شـــآبِيبُهُ نوراً ويَنْهَــــلُّ وابــــلُـــهْ
هـــوَ اللهُ يحــــــمي دينَهُ ويُعِــــزُّهُ
               فمنْ ذا ينــــــاويهِ ومَنْ ذا يصاولُهْ

     لقد صدق المؤمنون جهادَهم، وثبتوا ثباتَ الجبال الشمّ، وأحدقوا بالعدو الكافر يُصْلونه نيرانَ بأسِهم العارمِ الصارم حتى تمزقَ شرَّ ممزَّق، وانهار شرَّ انهيار:

تمزَّقَ جيشُ الكفرِ وانحلَّ عِقْدُهْ فخابتْ أمانيه وأَعْيَتْ وسائلُهْ

     إن التاريخ كلَّه عِيالٌ على الإسلام، وإن تاريخَ الإسلام كلَّه عيالٌ على بدرٍ وما كان في يوم بدرٍ من مواقفَ للشرفِ والصدق، والجهادِ والبطولة، والفداءِ والإيمان، والتفاني والإيثارْ، صاغها رجالٌ كرامٌ عظام، سادةٌ نُجُب، أوفياءُ شرفاء.

     فهذا عُمَيْرُ بن الحمام بيده تمراتٌ يأكلهن، حين سمع رسول الله ﷺ يقول: ((والذي نفسُ محمدٍ بيده، لا يقاتلهم اليومَ رجلٌ فيُقْتَلُ صابراً محتسباً، مقبلاً غيرَ مدبر إلّا أدخلهُ اللهُ الجنة))؛ عندها يقول عمير: "بَخٍ بَخٍ!.. أفما بيني وبين أن أدخلَ الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء!؟"، ثم قذف التمراتِ من يده وأخذ سيفه فقاتلَ الرومَ وهو يُنشِد:

ركضـــاً إلى اللهِ بغيـــرِ زادِ     إلّا التُقى وعمــــلِ المعــــادِ
والصبرِ في اللهِ على الجهادِ     وكلُّ زادٍ عُرْضَـــةُ النفــــادِ
غيرَ التُقى والبرِّ والرشــــاد

     وما زال كذلك حتى استشهد.

     وهذا أبو عبيدةَ بن الجراح رضي الله عنه يرى أباه في الصفِّ المشرك فينأى عنه إلى جهةٍ أخرى من المعركة، فيلحقه الأبُ مرةً بعد مرة يريد قتلَه، حتى إذا لم يكن من الصدام بُدٌّ التقى الأب الكافر، بولده المؤمن، وما مضى سوى قليلٍ من الوقت، حتى أطاحَ أبو عبيدة برأسِ والدهِ فسقط على الأرض مُجَلَّلاً بالخزيِ والعار، مَسُوقاً إلى عذاب النار.

     وهذا عُمَيْرُ بنُ أبي وقاص يختفي وراءَ أخيه سعدٍ حتى لا يراه رسولُ الله ﷺ فيمنعَه من الخروج لأنه صغير، لكنَّ الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام رآه منفرداً فردَّه، فبكى عمير، فأجازه عند ذاك، وفاز بالشهادة التي خرجَ يرجوها.

     وهذان فَتيانِ من الأنصار هما مُعاذ بن عفراء، ومُعاذ بن عَمْرو بن الجَمُوح يقفان في الصف المسلم يوم بدر يبحثان عن أبي جهل، حتى إذا عرفاه شَدَّا نحوه كالصقرين لا يباليان مَنْ كان يحيط به من فرسان قريش، وأخذا يضربانه حتى أَثْبَتَتْهُ الجراح، ثم أجهز عليه عبدالله بن مسعود.

     إنها مواقفُ رجالٍ لا كالرجال، فهم تلاميذُ أذكياءُ أوفياءُ لإسلامهم العظيم الذي آمنوا به، وهم يعلمون أن التضحيةَ بالدنيا طلباً لرضوانِ الله تعالى وجنته من الدروسِ الأساسية التي على المسلم أن يَعِيَها فهماً وإدراكاً، ويلتزم بها عملاً وسلوكاً، وكذلك كانت كتيبة الإيمانِ يومَ بدر، فقد ضمَّت أولئك الرجال:

ضَمَّت حُماةَ الحقِّ ما عرفَ امرؤٌ     عِــزاً لهم من دونِــــهِ أو جـــــاها
الطـــــالعينَ بــه على أعدائِـــــــهِ     موتــــاً إذا نشروا الجنودَ طواهــا
الخائضينَ من الخطوبِ غمارَهــا     المُصطليــــن من الحروبِ لظاها
البـــــاذلينَ لدى الفــداءِ نفوسَـــهمْ     يبغـــونَ عندَ إلهِهِــــمْ مَحْيــــــاها
ما آثـــروا في الأرضِ إلّا دينَــــهُ     دِينـــاً ولا عبـــدوا ســــــواهُ إلهــا
سلـــكوا السبيلَ مُسَدَّدينَ تُضِيـــئُهُ     آيُ المُفصَّـــلِ يَتْبَــــعون هـــداهـا
قــــومٌ همُ اتخذوا الشـهادةَ بُغْيَــــةً     لا يبتـغونَ لدى الجهادِ سواها[2]

     ودخل يومُ بدرٍ التاريخ، معركة فاصلة من كبرى معاركه، بالرغم من كل حاقدٍ أو حاسدٍ أو شانئ.

     لقد عادت قريش بعد المعركة مهزومة جريحة، وطفقت تُعِدُّ ليوم الثأر.. لكن اليوم الماجد الأغر ظلّ يواصل أنواره في دفع مسيرة الهداية نحو نصرٍ تلو نصر، وامتدادٍ تلو امتداد، ذلك أن الراية المسلمة التي رَكَزها الحق في بدرٍ لم تمتْ، وليس لها أن تموت:

قُضِيَ الأمرُ يا قريشُ فسيــــري     للحمى واندبي على الأشـــــلاءِ
واحذري الطيبَ أن يَمَسَّ غلاماً     في نَـــدِيٍّ أو غـــادةً في خبـــاءِ
وأعِدّي للثــــأرِ حُمْرَ السرايــــا     واحشــــــديها للوثبةِ الرعنــــاءِ
يومُ بدرٍ يومٌ أغـــرُّ على الأيــــْ     يَــام باقٍ إنْ شئـــتِ أو لم تشائي
رَكَــــزَ اللهُ فيــــه أسمى لــــواءٍ     وجثا الخلدُ تحت ذاك اللواءِ[3]

----------------------------
[1] الأبيات وما بعدها من القصيدة نفسها للشاعر أحمد محرم في ديوانه: مجد الإسلام.
[2] الأبيات للشاعر أحمد محرم في ديوانه: مجد الإسلام.
[3] للشاعر عمر أبو ريشة، من مقدمة ديوانه: ملحمة النبي صلى الله عليه وسلم.

إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا".. عبارة وجيزة جداً، قليلة الكلمات، لكنها حافلة بالمعاني الكبار، والمشاعر السامية، والدلالات العميقة على حقيقة قائلها، وإيمانه الراسخ الضخم، ويقينه العميق المكين.

     هذه العبارة الوجيزة جداً، الغنية جداً، هي التي قالها الرسول الكريم ﷺ، لأبي بكر الصِّدِّيق، الذي عبّر عن حزنه وإشفاقه أن يصل المشركون إليهما، وفي وصولهم القتل لا ريب.

     لقد كان المشركون على فم غار ثور الذي اختفى فيه المهاجران الكريمان، وليس بين المشركين، والمهاجرَيْن الكريمَيْن إلا اقتحامُ الغار، لكن الله عز وجل خذل عدوه، وأيّد وليّه، فآب المشركون بالخيبة والخسران على الرغم من كثرتهم، وآب المهاجران الكريمان بالنجاة الكريمة، على الرغم من أنهما كانا في الغار وحيدَين مجرّدَين من أسباب القوة المادية.

     وإذن؛.. فلعله طبيعي ومنطقي ومتوقع، أن يعبّر الصِّدِّيق العظيم عن مخاوفه، فلو أن واحداً من المشركين نظر إلى موضع قدميه لرآهما، وخوفه ليس على نفسه، فهو في التضحية والشجاعة لا يُشَقُّ له غبار، لكنه خائف على الرسول الكريم ﷺ أن تقتله عصبة الغدر والوثنية والضلال، والتي آلت على نفسها محاربة الإسلام، وإطفاء شعلته المباركة النيّرة، ولكنْ كما كان موقف الصِّدِّيق هو المتوقع، فإن موقف رسول الله ﷺ هو المتوقع كذلك، حيث لم يَهِنْ، ولم يلِنْ، ولم يخشَ، ولم يضعُفْ، بل قال للصِّدِّيق قولته الرائعة تلك: "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا".

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" ما أروعها من قولة كريمة!.. في ذلك الوقت الرهيب العصيب، حيث الكفر يقف في مدخل الغار باحثاً عن الرسول الكريم ﷺ ليسارع إلى قتله. ما أروعها من قولة!.. تصدر عن فم النبوة الطهور، وبين النجاة والقتل خطوات، وبين الحياة والموت لحظات، أنياب الموت حادة قاطعة، ومخالبه كالسيوف مشرئبة، لكنَّ عناية الله أعظم، ورعايته أقوى، فإليها التفويض، وعليها الاعتماد، هي الملجأ والملاذ والمعتصم، وهي الباب الذي لا يوصد، والقوة التي لا تنفد، وهي العون السريع، والغوث المبادر.

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" قولة أدخلت في قلب الصِّدِّيق العظيم، الطمأنينة والسكينة، والهدوء القوي المستيقن، وكانت بشرى خير وصدق، وأمارة فوز كبير مرتقب، وعلامة نصر قادم قريب، وذلك هو الذي كان.

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" شعار كبير ضخم، ينبغي أن نرفعه اليوم، والهجرة تمرّ بنا ذكراها الطهور، ونحن نتلمس في نورها المبارك عِبَرها ودروسها، محاولين أن نجد مواضع أمينة لأقدامنا، ومعالم هادية لمسيرتنا، شعارٌ يجب أن نرفعه ونتمسك بحقيقته، ونعض عليه بالنواجذ، منارةَ صدقٍ وخير، نهتدي بضيائها، ونستمد منها العزيمة المؤمنة، والإيمان الصادق، واليقين الشجاع، والثقة الراسخة.

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" شعارٌ يجب أن نعلن تمسكنا به، والهجرة تمر بنا طيوفها، وأعداؤنا علينا يتكالبون، والصعاب تظهر في طريقنا هنا وهناك، والمثبِّطون والمُخَذِّلون، والمُعَوِّقون والمُرجِفون يتعالى صياحهم المنكر، زاعمين أَنْ ليس لنا طاقة بقتال الأعداء وانتزاع الظفر عليهم من بين براثن التحديات الصعبة المسعورة. شعار علينا أن نرفعه ليكون لنا معينَ قوة ومدد، وذخراً يمدنا بطاقة من التفوق الروحي ليس لها حدود.

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" شعارٌ يجب علينا أن نرفعه اليوم، على أن نلتزمه حق الالتزام، ونعيه حق الوعي، وننهض بشدة وقوة وبطولة؛ بكل تبعاته ومسؤولياته ولوازمه، ونكون متوكِّلين لا متواكلين، عاملين لا قاعدين، مبادرين لا خائفين، ونؤدي كل الذي علينا من إعداد إعذاراً إلى الله عز وجل، وإبراءً لذمتنا من أن يشوبها النقص أو التقصير، ونفعل كل الذي من شأنه أن يجعلنا مع الله عز وجل حقاً وصدقاً، قولاً وعملاً، ليكون الله جل شأنه معنا.

     وحين نتعامل مع هذا الشعار، هذا التعامل الجاد المؤمن، سيبطل كيد الأعداء، ونخرج من التحديات التي نلاقيها اليوم فائزين منصورين، بإذن الله ومشيئته، تماماً، كما بطل كيد مشركي قريش، وهم على فم الغار، فخرج المصطفى ﷺ من ذلك الموقف العصيب، فائزاً ظافراً، لينتقل بالدعوة الإسلامية من نصرٍ إلى آخر، ومن ظفرٍ سابق إلى فوز لاحق، حتى علت الراية الإسلامية، وهُزِمت راية الوثنية والبغي والعدوان.

     ما من ريب في أن التحدياتِ الكبيرةَ حولنا كبيرةٌ، لكنه ما من ريب أننا بالإيمان أقوى منها وأكبر، وما من ريبٍ في أن خصومنا مسعورون باغون عادون، غرقوا في الأذى، وبيّتوا الشر، وأحكموا المكيدة، وخلوا من شرف الخصومة، لكننا بإذن الله تعالى نحن الغالبون.

     أليس لنا إذن أن نرى في عبرة الهجرة الشريفة، بشائر خير لنا نحن -المسلمين- في أيامنا الراهنة، إذا رفعنا بحق، وتمسكنا بصدق، وأعلنَّا بوعي ومسؤولية، شعارنا الخالد العظيم: إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا؟

*****

علاقة التاريخ الهجري بالعهدين المكي والمدني

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

علاقة التاريخ الهجري بالعهدين المكي والمدني

     لقد كان الخليفة العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، موفقاً تمام التوفيق، حين جعل من الهجرة المشرفة بداية للتاريخ الإسلامي، لكن المرء لا يستطيع أن يغفل الركيزة الأولى التي انطلق منها هذا التاريخ في مكة المكرمة، حيث الرسول العظيم ﷺ يبلّغ رسالة الإسلام محتملاً شتى المشاق والعقبات والصعاب، وحيث صحابته الكرام الأوفياء يصرون على التمسك بإسلامهم بالرغم من المحن الثقيلة، فثمة مَنْ تشوي جلودَهم شمسُ مكة المكرمة في لهب الصيف، وثمّة مَنْ شردوا عن بلدهم الحبيب وعاشوا في الحبشة، وهم ينتظرون الفرج والخلاص ويوم النصر المأمول، مستمعين آيات الله عز وجل تتنزل بين الحين والآخر لتواجه أوضاعهم في مكة المكرمة، وأوضاع المسلمين المشابهة لها طيلة العصور، ممن يتمردون على ما في مجتمعاتهم من فساد وانحراف، ويكافحون من أجل استئناف حياة إسلامية خالصة.

     حركة التاريخ الإسلامي إذن؛ تبدأ من مكة المكرمة نفسها، تبدأ منذ هاتيك الدقائق الغالية التي شرف بها الزمان واعتز، وهي الدقائق التي شهدت وحي السماء يتنزل على الرسول الكريم ﷺ ليقول له وهو في غار حراء: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1).

     وبذلك بدأت حركة التاريخ الإسلامي في مكة المكرمة، عقيدة ودعوة، وقيماً ومثلاً، ومبادئ أساسية كبرى، ثم اكتملت في المدينة المنورة دولة وحكومة، ونظاماً وسلطاناً، وبناءً اجتماعياً عملياً، يقدم الصورة الحية التطبيقية للإسلام وشريعته الخالدة.

     أما إنسان الإسلام الذي كان لبنة هذا التاريخ، ومادته الحية، وخليته التي تتحرك به وتحمله وتدعو إليه، فهو ذلك المسلم الذي آمن بهذه الرسالة الربانية، ووعى حقيقة مسؤوليتها، وعزم على النهوض بأعباء هذه المسؤولية والوفاء بها، وطفق يحاول أن يوجد الرصيد العملي الواقعي لرسالة الإسلام تنفيذاً صادقاً لها، وتطبيقاً جاداً لمبادئها ومثلها وأخلاقياتها.

     هذا الإنسان وجد في كل العصور والأماكن منذ بزغت شمس الرسالة الكريمة، وسيظل يؤدي دوره في الحياة ما كان كونٌ، وما كانت حياةٌ حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها. قد يكون فرداً في مجتمع مظلم ناءٍ عن منهج الله تعالى وشرعه، وقد يكون انتماؤه الجغرافي الترابي لبلد غير إسلامي، وربما كان داعية إلى الله تعالى في مناطق متباعدة، في أدغال أفريقيا وصحاريها، أو في عواصم الحضارة الغربية الغارقة في المادة وعبادتها، لكنه حيث كان ويكون.. هو الخلية الحية المتحركة في مسيرة الإسلام، ما دام صادق الولاء له، وحسن الفهم لحقيقته، عاملاً على نشره وتطبيقه والدعوة إليه.

     وإنسان هذا التاريخ، رجل لا علاقة له بالأرض والجنسية، واللغة واللون، والقومية والتراب، والوظيفة والحدود، والسحنة والشكل، والعادات والأزياء، وما إلى ذلك من مقاييس وحواجز متخلِّفة محدودة كابية، بل هو رجلٌ.. الإسلام وحده جنسيته وهويته، وحقيقته ووطنه. فالمعوّل في تحديد: من هو؟ وما هي حقيقته؟.. على ولائه للإسلام ومحاولة تطبيقه بشكل عملي.

     ولعبرة بالغة، وحكمة جليلة، كان من صناع التاريخ الإسلامي أو ظهوره، نفر من غير العرب، كان لهم دور كبير مشكور، وكأن كل واحد منهم ممثل لأمة من أمم الأرض الأخرى، فكان بلال الحبشي ممثلاً للأحباش، وصهيب الرومي ممثلاً للروم، وسلمان الفارسي ممثلاً للفرس، فكان وجودهم مع بقية المسلمين العرب وعلى رأسهم الرسول الكريم ﷺ، إعلاناً حضارياً ضخماً، على صعيد القيم والمثل والمبادئ النظرية، وعلى صعيد التطبيق العملي، والواقع التنفيذي، بأن رسالة الإسلام للناس كل الناس، في الأرض كل الأرض، وأنها فوق الحواجز الزائفة الكاذبة المتخلفة، التي تفرق الناس أقساماً شتى، ومزقاً متناحرة بسبب اللون والجنس واللغة والزي، وما إلى ذلك من جاهليات.

     إذن؛ ليس امتيازاً لأحد في الإسلام أن يكون قد ولد على أرض ما ولو كانت عزيزة غالية، كما أنه ليس نقصاً في أحد أن يكون قد ولد على أرض أخرى ولو كانت بعيدة أو كريهة أو فقيرة وما إلى ذلك.

     وما قيل عن الأرض يقال عن أصل الإنسان ونسبه، ولونه وشكله، ولغته وملبسه، وكل ما يمتُّ إلى ذلك بسبب. وينطبق هذا على العرب كما ينطبق على غيرهم من الشعوب المسلمة، وما أجمل ما عبّر به د. عبد الحليم عويس عن ذلك! حين قال: "ولئن كانت المحاولات التي تعطي العرب أفضلية مجانية لمجرد الأرض أو الجنس، محاولات متناقضة مع الإسلام نفسه، فإنها كذلك متناقضة مع سنة الله في الكون، لأنه سبحانه رفض دعوى اليهود الأفضلية، ورفض دعواهم ودعوى النصارى معهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وردّ على هؤلاء وأولئك بالرد القرآني الحاسم: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} (المائدة18).

*****

مكانة العهد المكي في الهجرة النبوية

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

مكانة العهد المكي في الهجرة النبوية

     ظهر الإسلام أول ما ظهر في مكة المكرمة، فقد كُلِّفَ الرسول الكريم ﷺ أن يبدأ بعشيرته الأقربين، وهم قومه في مكة المكرمة التي ولِد ونشأ وترعرع، وهكذا انطلقت بداية حركة التاريخ الإسلامي من مكة المكرمة، مهبط الوحي أولاً، وموطن رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام.

     وجاءت الهجرة إلى المدينة المنورة بعد ثلاثة عشر عاماً عانى فيها المسلمون في مكة المكرمة شتى أنواع الأذى والمحن، وفي المدينة المنورة وجد الإسلام الأرض الخصيبة، ووجد النفوس الصافية، والفطرة النقية، والمعادن الكريمة التي سرعان ما آمنت بالإسلام، ومنحته صادق الولاء.

     وفي المدينة المنورة برز الواقع الإسلامي في صورة حية عملية لم يظهر فيها من قبل في مكة المكرمة، هذه الصورة الحية، هي الدولة الإسلامية التي أقامها الرسول الكريم ﷺ عقب الهجرة، نموذجاً عملياً للإسلام يستقي ملامحه من التوجيهات والقيم القرآنية الكريمة، ومن تطبيق الرسول الكريم ﷺ لهذه القيم والتوجيهات.

     وقبل الهجرة الشريفة لم يكن الإسلام في واقعه العملي التطبيقي سوى أفراد يعيشون مشتتين مضطهدين يعانون من وطأة المقاطعة المادية أحياناً، والنفسية والاجتماعية في أكثر الأحيان، أو مشردين في الحبشة، لاجئين سياسيين؛ كما نعبّر نحن اليوم.

     وعلى الرغم من أن الانطلاق التطبيقي للإسلام بدأ في المدينة المنورة، إلا أن حركة التاريخ الإسلامي لا يمكن أن يَغْفُلَ المرء فيها عن العهد المكي. ذلك أن هذه الحركة بدأت في مكة المكرمة بناء عقدياً، ورسالة سماوية، وقيماً ومُثلاً ومبادئ، حيث ظل الوحي يتنزل بذلك طيلة ثلاثة عشر عاماً تحقق فيها أمران، الأول: عقدي حيث تكاملت الأسس الكبرى، والمعالم الأساسية لرسالة الإسلام، والثاني: عملي حيث تم بناء القاعدة المؤمنة الصلبة، وطليعة الجهاد الأولى، وهي أولئك النفر الكرام من المهاجرين الذين منحوا صادق ولائهم للإسلام في ظروف قاسية شاقة، وكانوا رأس الحربة في حركة التاريخ الإسلامي، روّاداً لزحفه المظفر الميمون، تمحّضوا لهذا الدين.

     أما المدينة المنورة فقد شهدت الإسلام بناءً عملياً تطبيقياً، ونظاماً مادياً متكاملاً، يظهر شامخاً للعيان في دنيا الناس الواقعية التطبيقية، وهكذا يتكامل الأمران معاً، ويتساوقان ليصوغا التاريخ الإسلامي صياغة نظرية وتنفيذية على السواء.

     وعندما بدأت الرسالة الإسلامية مسيرتها في مكة المكرمة حوصرت وحوربت، وانصب العذاب والتنكيل على المؤمنين بها، وحينَها لم يجد المسلمون أي حرج في أن يتركوا مكة المكرمة وينطلقوا في الأرض، ذلك أن الهدف لم يكن أرضاً بذاتها، بل الهدف هو غايات محدودة معينة، وهي عبارة عن مجموعة من القيم والمثل والمبادئ.

     لم يكن هدف الإسلام أن تعلو أرض معيّنة، أو ترتفع راياتها، أو يسود ذووها، أو يشمخ مجدها الوطني، أو عزها القومي، وما إلى ذلك من صغار المبادئ، وتوافه الأهداف، بل كان هدف الإسلام من سعيه وكفاحه أن يفوز بأي أرض وأي قوم. يجد المسلمون عندهم وعلى ترابهم الفرصة كي تحيا القيم التي جاء من أجلها، وتطبق المثل التي دعا إليها، وتسود المبادئ التي أعلنها على الناس، لأن هذه الفرصة تهيئ لهم السبيل ليرى الناس جميعاً الصورة الحية الحقيقية للإسلام؛ إذ يُطبق عملياً، ويُنفَّذُ واقعياً في دنيا الناس.

     وهذه الصورة الحية أكثر أثراً في الناس، وأبعد في إقناعهم وهدايتهم، إلى الطريق الصحيح من مجرد الدعوة النظرية فحسب!,, ومن هنا يأتي حرص الإسلام الشديد، وحرص دعاته الدائم على ضرورة تمثُّل هذا الدين واقعاً حياً، في دولة إسلامية تصاغ وفق هديه المبارك، وتشاد وفق مبادئه الكريمة الخالدة.

     من أجل ذلك لم يكن غريباً قط، بل كان طبيعياً ومنطقياً وبديهياً، أنه حين وجد الرسول الكريم ﷺ، ووجد المسلمون أن هناك أرضاً أخرى، هي أكثر تمهيداً وأغنى وأخصب، وأكثر مواءمةً وملاءمة لتحقيق هدفهم الربّاني الكريم لم يترددوا في أن يتركوا مكة المكرمة، وأن يضحوا فيها بكل أملاكهم، وأحياناً بأهلهم وأبنائهم، وبكل ما هو عزيز ونفيس وثمين، مسارعين بالهجرة إلى الأرض التي لاح لهم أن شمس الإسلام سوف تسطع منها، وتنتشر في كل الأرض، لأن عقيدتهم أغلى من كل ما تركوا وأنفس من كل ما ضحّوا وأثمن من كل الذي يودّعون.

     إنها مهمة كبيرة حقاً تلك التي كان على المهاجرين أن يؤدوها، ولا يستطيع الوفاء بها إلا عظماء الرجال.

     ولقد شهد التاريخ فعلاً؛ أن المهاجرين الكرام كانوا عظماء حقاً، وكانوا على مستوى المسؤولية التي نيطت بهم، فنهضوا بها أحسن نهوض وأكرمه وأبلغه، فكانت حركتهم الشجاعة بداية المسيرة في حركة التاريخ الإسلامي في كل عصوره على الإطلاق، الذي ظل وسيظل مديناً لموقفهم المؤمن الجريء العملاق.

*****

ذكريات الهجرة والصراع مع اليهود

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

ذكريات الهجرة والصراع مع اليهود

     حين يفد إلينا شهر محرم من مطلع كل عام، يحمل إلينا ذكريات الهجرة الغالية الكريمة، وما فيها من عبر ودروس ودلالات، جرت عادة الكُتّاب أن يتوقفوا عندها دارسين محللين مذكّرين.

     وينفرد جيلنا نحن من بين أجيال الأمة المسلمة، أنه دخل في صراع عنيف مرير مع اليهود، صراع يحاول أعداؤنا فيه أن يدمروا وجودنا برمّته على كل مستوى وصعيد، لنكون من بعده لا سمح الله، حِمىً مستباحاً، وسوائم ضائعة، يضع اليهود نشاطاتها حيث يريدون، ويوظفونه لصالح مخططاتهم الشريرة المجرمة التي ترمي إلى السيطرة على العالم كله.

     ولما كان الإسلام هو العقبة الكأداء التي تواجههم وتقف في طريق حماقتهم وجنونهم؛ فإنهم يبذلون اليوم معظم جهدهم لمحاربة هذا الإسلام بكل ما يقدرون عليه من شتى الوسائل والأساليب.

     التحدّي اليهودي لنا اليوم، هو أخطر التحديات التي نواجهها دون ريب، لذلك فمن البديهي ومن المتوقع أن تنصرف الأقلام الشريفة الجادة المؤمنة إلى كشف مخاطر هذا التحدي الأكبر، وتسليط الضوء عليه، ولعل قائلاً يقول في استفهام منكر: وما صلة هذا بالهجرة التي يبدو أنها موضوع هذا الحديث؟

     إن الصلة لتظهر بجلاء على الأقل في أمرين أساسيين، الأول: محاولتنا أن نستفيد من دروس الهجرة الشريفة فيما نواجهه اليوم من صعاب ومشكلات وعقبات، والثاني: أن اليهود يهاجرون اليوم -ومنذ حوالي قرن من الزمان- من شتى ديار العالم إلى أرض الإسلام في فلسطين. وبين الهجرتين: هجرة محمد بن عبد الله ﷺ وصحبه الكرام الأوفياء من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وبين هجرة اليهود القائمة حتى يومنا هذا كثير من الفروق التي ينبغي ألا تغيب عنا بحال.

     من هذه الفروق أن الهجرة المسلمة كانت برضى أهل المدينة المنورة، وإيثارهم وحبّهم، وعلى العكس من هجرة اليهود التي تمت على الرغم من أهل البلاد الأصليين وإنكارهم وكراهيتهم.

     فالهجرة المسلمة سبقها تخطيط دقيق، كان أهل المدينة المنورة من الأنصار على علم ببواعثه وأهدافه، وكانوا على علم بمسؤولياته القريبة منها والبعيدة كذلك. وبالرغم من هذا كله كانوا فرحين أشد الفرح بهذه الهجرة مستبشرين بها أيّما استبشار، وحين وصل الرسول الكريم ﷺ إليهم كانت الدنيا لا تسعهم من الفرحة، وطفقوا يرددون نشيدهم الجميل المؤثر: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع!.

     ودَعْكَ من تسابقهم لإكرام الرسول ﷺ ودعوته ليكون ضيفاً عليهم، لأنه أمر متوقع، فهو نبيهم وقائدهم وهاديهم، وأحب إلى أنفسهم من كل شيء، وانظر كيف استبقوا لإكرام إخوانهم المهاجرين الذين تركوا كل شيء في مكة المكرمة، وهاجروا خفافاً فقراء من متاع الدنيا؛.. أغنياء بالعقيدة والتفوق الروحي والنفسي.

     لقد تسابق الأنصار لإكرام إخوانهم هؤلاء، وأحلوهم موضع الحب والولاء والإيثار، واستقبلوهم أصدق استقبال وأجمله وأكرمه، وقاسموهم في المسكن والمال وهم في غاية الرضى والسرور والبهجة، ذلك أنهم يعلمون جيداً ضخامة التضحية الإيمانية التي بادر إليها إخوانهم المهاجرون، حين تركوا كل شيء استجابة لداعي الإيمان، ويعلمون كذلك ما احتمله إخوتهم هؤلاء من المتاعب والمحن والمشاق على أيدي قادة الشرك وعتاة الوثنية في مكة المكرمة طوال ثلاثة عشر عاماً هي عمر الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، ويعلمون كذلك أنهم بما يفعلون من كرم وجود وإيثار.. إنما يتحملون تبعة الإيمان الحق، وينهضون بمسؤولياتهم رجاءً لما عند الله تعالى من أجر عظيم لا نفاد له.

     ما من ريب في أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وما جرى بينهم من إيثار وحب وجود وتسابق على البذل والعطاء، صفحة نادرة في سفر الحياة البشرية ليس لها مثيل قط، وهي من ثمار هجرة الإسلام الهادية المباركة.

     قارن هذا بهجرة اليهود إلى فلسطين.. إن هجرتهم كانت وما تزال تتم على الرغم من كراهية أهل فلسطين، وإنكارهم وتصدّيهم لمواجهتها، فاليهود يهاجرون إلى فلسطين ليسلبوا أهلها المسلمين دُورهم ومزارعهم وأموالهم، بل وحياتهم كذلك، وليقيموا على أنقاض وجودِهم فيها.. وجودَهم الغادر المقتحم، الذي يسلب الناس كل ما أقرّت الأديان والشرائع والقوانين والأعراف أنه حقٌّ للإنسان فطريٌّ وأصيلٌ، ومقدسٌ ليس لأحد أن يعدو عليه ويغتصبه.

     وربما لا يحسن التفصيل ها هنا في غدر اليهود وظلمهم وبطشهم بأهل الديار الأصليين، لأن ذلك أمر يعيه جيلنا بدقة وإحاطة بسبب تكرره الدائم حتى لكأنه جزء من خبزنا اليومي الذي نعيش عليه.

     إن هجرة الإسلام قامت على إثرها أروع أخوة شهدها التاريخ، وهجرة اليهود قامت على إثرها عداوة لا تنتهي، وصراع حاد مرير بين صاحب البيت وسارقها لا ينتهي إلا بهلاك واحد منهما.

*****

بين هجرة المسلمين إلى المدينة وهجرة اليهود إلى فلسطين (2)

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

بين هجرة المسلمين إلى المدينة وهجرة اليهود إلى فلسطين (2)

     يحمل إلينا شهر محرم في إطلالته الكريمة ذكرياتٍ عزيزةً غالية، هي ذكريات الهجرة الشريفة على صاحبها أفضلُ الصلاة والسلام، وإذا كان علينا أن نتوقفَ مع ذكريات الهجرة هذه نستنبط منها العبر والدروس، لنهتدي بنورها الساطع في طريقنا الشاق الصعب، حيث تنوشُنا التحديات الضخمة من كل جانب، فإن علينا ألا نغفلَ عن هجرة أخرى معاصرة بدأت منذ حوالي قرن من الزمان أو أقل من ذلك بقليل، ولا تزال تنمو وتَقْوى في يومنا هذا، وهي هجرة اليهود من شتى بلدان العالم إلى فلسطين، ذلك أن هجرتهم هذه هي أحد كبار التحديات التي تواجهنا مواجهةً عميقةً حضارية، بهدف القضاء التام على وجودنا مادياً ومعنوياً على السواء.

     وبين الهجرتين هجرة محمد ﷺ وصحبه الكرام الأوفياء إلى المدينة المنورة وهجرة اليهود إلى فلسطين فروق كبيرة هائلة تكشف عن عظمةٍ ما عُرِفَ لها مثيل في هجرة الإسلام، وخسّةٍ ما عُرِفَ لها شبيه في هجرة اليهود.. عن خلقٍ يسمو، ودينٍ يزكو، وفضائلَ ومكرمات وما شئتَ من خيراتٍ حسان في هجرة الإسلام، وعن غدرٍ وفجور، وباطلٍ وضلال، ومفاسدَ وسيئات، وما شئتَ من شرورٍ مستوخمة في هجرة اليهود.

     ولا عجب!.. فهجرة الإسلام وَحْيُ السماء وحركةُ الإيمان، أما هجرة اليهود فهي تدبيرُ المفسدين في الأرض وأَمْرُ الشيطان.

     ومن أعظم الفروق بين الهجرتين، أن هجرة الإسلام ترتب عليها أنْ قامت في المدينة المنورة دولة الإسلام، أما هجرة اليهود فقد ترتب عليها أنْ قام الكيان الإسرائيلي الباغي في فلسطين، الذي يَأْمَلُ سدنة الشر من قادته ومخططيه أن يجعلوا منه دولةً عظمى تهزم الإسلام والمسلمين، وتسيطر على مقدّرات ديارنا، وتجعل منا أمةً لا حقيقة لها ولا شخصية، يوظّف اليهودُ قدراتِ أبنائها وخيراتِ بلادها لِما يريدون، ويجعلونهم دُمى في أيديهم يحركونهم كما يشاؤون.

     هجرة الإسلام كان من نتائجها أن قامت دولة، وهجرة اليهود كان من نتائجها أن قامت دولة!.. والفرق بين الدولتين؛ هو الفرق بين هديِ السماء، وأوحالِ الجاهلية.. بين حقيقةِ الإيمان وفسادِ الباطل.. بين صدقِ القرآن الكريم وصحتِه، وزيفِ التوراة المحرّفة وضلالِها.. بين سموِّ المسلمِ ونبله، وانحطاطِ اليهودي ونذالته.. بين الأمّةِ المؤتمنة على هديِ السماء، وأمّةِ الضلال وقَتْلِ الأنبياء.

     ودولة المسلمين التي قامت في المدينة المنورة؛ هي أكرم وأعظم، وأنبل وأسمى، وأطهر وأفضل دولة شهدها التاريخ على الإطلاق. فهي دولة العقيدة، قامت عليها ابتداءً وانتهاءً.

     لم تقمْ بسبب أرض أو جنس، ولم تقم بسبب لون أو لغة، ولم تقم بسبب مصالحَ ماديةٍ في تجارة أو زراعة أو صناعة أو غير ذلك، ولم تقم بسبب عصبية قبلية أو وطنية أو قومية أو ما يشبه ذلك، لقد قامت على العقيدة فحسب!.

     فبالعقيدة الإسلامية فقط هاجر المسلمون من مكة المكرمة، وتركوا ديارهم وأموالهم وذويهم ومرابع شبابهم وملاعب طفولتهم، وكل ما يحببُ المرءَ إلى بلدِه ويشدُّه إليه. وبهذه العقيدة استقبل الأنصارُ إخوانَهم المهاجرين أحسن استقبال، وأنزلوهم في قلوبهم قبل أن ينزلوهم في بيوتهم، وقاسموهم أموالهم، وشاركوهم فيما يملكون، حتى إن بعضهم ممن كانت له زوجتان، عرض أن يطلِّق إحداهما ليتزوجها أخوه المهاجري!.

     كانت العقيدة الإسلامية هي أساس الدولة، وهي الأصل فيها والجوهر، وهي التشريع والنظام، وهي الخُلُق والقانون، وهي الروابط والصلات، كانت كلَّ شيء في الدولة التي صِيغتْ بكلِّ شؤونها وِفْقَ هذه العقيدة.

     لذلك يمكن أن يقال: إن دولة الإسلام في المدينة المنورة هي أولُ نموذج حي متكامل للدولة "الآيديولوجية" التي تقوم على الفكرة، والتي لا يزال العالم حتى اليوم عاجزاً عن إقامة مثيلٍ لها، وإن ادّعى هنا وهناك أنه فعل.

     ودولة المسلمين في المدينة المنورة أقامت أكرمَ مجتمعٍ بشري على الإطلاق، فكان مجتمعها مجتمعَ المساواة الحقيقية، والعدالة الاجتماعية، والتعاون والتناصر، والتوادّ والمرحمة، والخير العميم، والهدي الكريم، والأمن والطمأنينة والسكينة، وما شئت من أمثال ذلك.

     أما هجرة اليهود إلى وطن الإسلام في فلسطين، فهي الأخرى قد قام بسببها مجتمع ودولة، ولكنْ ما الذي تقولُه فيهما؟ إنّ أيَّ كلماتٍ في وصف قذارتهما لتبدو قليلةً عاجزةً ضئيلة، وها هو جيلنا يشهد منهما فظائعَ الوحشيةِ والغدرِ والنذالة، كلَّ يوم، وحسبك أن تقول: إن كيان اليهود في فلسطين هو ملتقى الشرور والخبائث، ودولتهم مستنقعُ المفاسدِ والسيئات، ومجتمعهم أقذرُ ما شهدته البشريةُ قط.

*****

بين هجرة المسلمين إلى المدينة وهجرة اليهود إلى فلسطين (1)


الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

بين هجرة المسلمين إلى المدينة وهجرة اليهود إلى فلسطين (1)

     يحمل إلينا شهر محرم في إطلالته الكريمة المباركة، ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، المعطرة الطهور، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وهي ذكرى ما أكرمها!.. وما أطيبها!.. وما أغلاها على قلب المسلم!.

     ونحن اليوم إذ نستروح ذكراها هذه، نعيش كأمة إسلامية ظروفاً في غاية الصعوبة، وتحديات في منتهى الشراسة والعنف، يقف في طليعتها بغي اليهود وعدوانهم، وعربدتهم وجنونهم في أرض الإسراء والمعراج.

     وبغي اليهود في فلسطين العرب والإسلام يذكّرنا بهجرة من نوع آخر، هجرة مضت عليها عشرات السنين، ولا تزال تتوالى حتى اليوم، وهي هجرة اليهود من شرق الأرض وغربها إلى وطننا الإسلامي في فلسطين. وبين الهجرتين، هجرة محمد بن عبد الله ﷺ، وصحبه الكرام الأوفياء من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وهجرة اليهود من شتى ديار العالم إلى فلسطين، تَعْظُمُ المقارنة وتزكو، وتحلو وتطيب، لأنك مُلاقٍ بينهما الفرقَ الواسع العظيم بين خُلُق الإسلام وخسة اليهود، بين إشراق الحق وظلمة الباطل، بين سمو الإسلام وأوحال الجاهلية، بين ما يضعه الله عز وجل لخير الإنسان، وما يضعه شياطين اليهود لدمار الإنسان.

     وكثيرة هي الفروق بين الهجرتين، وفي مقدمتها أن هجرة الإسلام كان من ثمارها أن نجا الرسول الكريم ﷺ من أشنع جريمة قتل وأفظعها نتائجَ في غاية الوخومة، ذلك أن مشركي مكة المكرمة، كانوا قد عزموا على قتل الرسول الكريم ﷺ، وأعدوا لذلك خطة محكمة شيطانية، واختاروا لتنفيذها شاباً قوياً جَلْداً من كل قبيلة، ليتفرق الدم الطاهر في القبائل كلها، فيعجز بنو هاشم عن أخذ ثأرهم، ويرضوا بأخذ الدية. لكنَّ الهجرة الشريفة فوّتت عليهم ما يريدون، فخاب مسعاهم، وعادوا بالصَّغار والخسارة، ونجا الرسول الكريم ﷺ من القتل.

     ونجاتُه هذه تعني إخفاقَ أشنعِ محاولة اغتيال، وأخطرها وأبعدها نتائجَ مؤذيةً مدمرة، تتجاوز مكة المكرمة لتُلحِقَ الأذى بالإنسان أيّاً كانت أرضه، وأيّاً كان زمانه منذ رسالة الإسلام وحتى اليوم، وإلى أن يرثَ اللهُ تعالى الأرضَ ومَنْ عليها.

     وهذه النجاة ترتب عليها أنْ وصلَ الرسول الكريم ﷺ إلى المدينة المنورة سالماً محفوظاً لينشئ المجتمع المسلم الأمثل، ويبنيَ دولة الإسلام شامخة عالية، ويضعَ الأسس الكبرى لحضارة الإسلام التي سمت وارتفعت بعد ذلك وآتت أُكُلَها، جَنَىً طيباً عذباً مباركاً فيه، في عواصم الإسلام الكبرى دمشق وبغداد، وقرطبة والقاهرة.

     وهذه النجاة كان من ثمارها أربع خلافات إسلامية عريقة هي الراشدة، والأموية، والعباسية، والعثمانية، حملت الإسلام ونشرت نوره، وجاهدت لإعلاء كلمته ورايته، ويمكن لك -وأنت تبحث عن الأمور التي ترتبت على نجاته ﷺ من القتل بسبب الهجرة الشريفة- أن تقول: إن كل الخير الواسع العميم في دنيا الإسلام منذ الهجرة حتى يوم القيامة، هو من ثمار تلك النجاة الربانية الكريمة.

     أما هجرة اليهود إلى فلسطين العرب والإسلام فقد ترتب عليها القتل والقتال، والدماء والأشلاء، والحرب والاغتيال، ففشا العنف والحقد، والدمار والجنون والموت الذي لا يهدأ في فلسطين، وطنِ السلام والإسلام.

     هجرةُ الرسول الكريم ﷺ كان من نتائجها أنْ نجا من القتل، فامتدت حياة له وللمسلمين في الخير النافع، والتعاون الكريم، وقام مجتمع للحق والعدل، وبزغ فجر حضارة بنّاءة نفعت الناس جميعاً حتى غَيْرَ المسلمين، وكان بنيانٌ، وكان عمرانٌ، وكان نفعٌ ضخم واسع لبني الإنسان في كل ميدان، وكل زمان، وكل مكان، وعلى كل مستوى وصعيد.

     وهجرة اليهود إلى فلسطين كان من نتائجها أنْ فشا القتل والقتال والدمار، فضاعت أعمار، وأزهقت أرواح، وسفكت دماء، ودُمِّرت مدن وقرى، وهُدِّمت بيوت ومزارع، وأحرقت جثث لأحياء ولأموات، وكان عنفٌ، وكان حقدٌ، وكان دمارٌ، وكان جنونٌ، وكانت دماءٌ، وكانت أشلاءٌ.

     وها هو أتون ذلك كله لا يزال فاغراً فاه حتى ساعتنا هذه، وإنه لباقٍ على ذلك مستمرٌّ فيه، حتى يتم القضاء تماماً على اليهود بأيدي مؤمنين كرام، أولي بأس شديد يجوسون خلال الديار، ويحققون وعداً كان مفعولاً، ويُتَبِّرُونَ ما صنع اليهود تَتْبيراً، ويستأصلونهم استئصالاً نهائياً حتى لو هرب اليهودي، واختبأ وراء حجر أو شجر، أنطق الله تعالى ما اختبأ وراءه اليهودي فقال: يا مسلم، يا عبد الله!.. هذا يهودي خلفي تعال فاقتُلْه.

*****

أثر التوكل والإيمان في الهجرة النبوية

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

أثر التوكل والإيمان في الهجرة النبوية

     إذا كنا وقفنا على ما كان في الهجرة الشريفة من إعدادٍ وتكامل، وتخطيطٍ دقيق وتدبيرٍ محكم، وبذلٍ للجهد كله، واستفراغٍ للطاقة جميعها، وأخذٍ بكل الأسباب الممكنة وما إلى ذلك، فإننا لا نخطئ أن نقف فيها على جانب آخر في غاية الأهمية والخطورة، وهو ما كان عليه المهاجر الكريم ﷺ من توكلٍ عميقٍ جداً، وإيمانٍ شديد الرسوخ بالفوز والغلَبة، وثقةٍ لا حد لها بنصر الله عز وجل وحمايته وجميل ستره، ويمكن لك أن تلحظ هذا الجانب جليّاً بيّناً في جملة من المواقف، خلال رحلة الهجرة في جميع مراحلها.

     تلحظه فيما قاله الرسول الكريم ﷺ لأبي بكر الصِّدِّيق حين وصل المطارِدون إلى فم الغار وخشي الصِّدِّيق على نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، وأفضى إليه بمخاوفه، إذ نظر إلى المشركين فرأى لو أن واحداً منهم نظر عند قدميه لرآهما، لقد قال الرسول الكريم ﷺ للصِّدِّيق: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزنْ إن الله معنا.

     وإنه لَقولٌ غنيٌّ كريم، حافلٌ ضخم، بعيد الأمداء، يدل على رسوخٍ لا مثيل له، وتوكلٍ عميقٍ بالغ، وثقةٍ ليس لها حد، كانت في خلد الرسول الكريم ﷺ. وطاشت ألباب المشركين، وعبثاً أرهق مقتفو الآثار أنفسهم على الرغم من أنهم وصلوا إلى فم الغار، فالرسول الكريم ﷺ، ورفيقه الأمين في حماية الله تعالى وكفى، ودون الوصول إليهما المستحيل ولو اجتمعت جنود الأرض كلها عند الغار تطالب برأسيهما.

     وما أجمل وصف القرآن الكريم لهذه الحماية المباركة!..: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَاۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة40)".

     وتلحظه في تصرفه ﷺ مع سراقة بن مالك حين لحق به مطارِداً طامعاً بجائزة قريش، لقد وَعَد سراقة أن يلبس سواري كسرى. تأمل هذا الموقف العجيب! الرسول الكريم ﷺ ملاحَقٌ مطارَدٌ، مهدَّدٌ بالقتل ليس معه إلا الصِّدِّيق والدليل، وهو مع هذا يعد رجلاً يريد الظفر به، يحدوه الجشع والطمع، أنه سيلبس سواري كسرى.

     إن هذا الوعد معناه أن الإسلام سوف يظهر ويغلب، وتمتد مواكبه وراياته، وسوف يدخل فيه سراقة مع من يدخل، وأنّ موكب الفتح سيتقدم فائزاً منصوراً حتى يظفر المسلمون بكسرى، وهو أحد رجلين كانا يقتسمان العالم، ويكون سواراه من نصيب سراقة.

     إنه وعدٌ يدل على عمق اليقين عند الرسول الكريم ﷺ بأن وعد الله تعالى متحقق لا ريب في ذلك، وقد تحقق هذا الوعد فعلاً، ولبس سراقة سواري كسرى!.

     وربما كان بوسع المرء أن يتصور أبعاد ذلك اليقين العظيم لو أنه تأمل بدقة موقفه ﷺ مع سراقة دون النظر إلى ما حدث بعد ذلك، أو لو أنه وضع نفسه في موضع سراقة وغاص على المشاعر التي ثارت في أعماقه إذ ذاك.

     وما من ريب في أن موقفه ﷺ مع سراقة معجزة إيمانية كبرى، تدل على عميق التوكل، وراسخ الإيمان، والثقة البالغة القوية.

     وتلحظه في أن الرسول الكريم ﷺ خرج من داره بمكة المكرمة ليلة الهجرة في أعقاب ليلٍ مريع، فأبناء القبائل الأشداء الأقوياء المحيطون بالدار، ينتظرون لحظة خروجه ليقتلوه ويتفرق دمه الشريف في القبائل، لم يَهِنِ الرسول الكريم ﷺ، ولم يضعُفْ ولم يتردَّدْ، بل خرج من داره وهو في غاية الثقة والتوكل والشجاعة، وهو يقرأ آيات من سورة "يس". وعَبْرَ السدِّ الذي أغشى اللهُ تعالى به أبصارَ المحاصِرين انطلق إلى هدفه وفق مخططه المرسوم.

     والآن!.. وبعد أن اتضح تماماً ما كان عليه الرسول الكريم ﷺ في جميع مراحل هجرته من توكل عميق راسخ، وثقة وتفويض، قد يتبادر إلى بعض الأذهان أن ذلك مناقض للجانب الآخر الذي لجأ إليه الرسول الكريم ﷺ، جانب الإعداد الدقيق المحكم، والأخذ بكل الوسائل المادية المتاحة!.. وليس ثمة تناقض قط، ففي الإسلام الأمران مطلوبان معاً، فلا بد للمسلم من الأخذ بكل الأسباب، بغاية الدقة والضبط والإتقان لأن الله تعالى جعل للكون سننه ونواميسه وهي جارية على الجميع، محايدة مع كل الناس، لا تجامل أحداً، ولا تمالئ مخلوقاً، والأسباب المادية هي أولى هذه السنن والنواميس.

     وفي الوقت نفسه على المسلم أن يحذر أشد الحذر من الاعتماد على ما أخذ به من أسباب، وأن يحذر الاتكال عليها، وألَّا يتوهم أنه بعمله المتقن وتدبيره الدقيق واصل إلى النجاح بالضرورة، لأن هذه الأسباب لن تقود إلى النجاح ما لم يأذن الله تعالى بذلك.

     إن عليه بعد الأخذ بكل سبب متاح أن يعتمد على ربّه وربِّ الأسباب، فهو وحدَه الذي يضر وينفع، وهو وحده يجب أن يكون الاعتماد عليه.

     ومن الضروري أن يقال: إن إهمال الأسباب بدعوى حسن التوكل على الله تعالى ليس من الإسلام في شيء، وإهمال الأسباب خطأ فاحش مماثل للخطأ الآخر، وهو تأليه الأسباب.

     واجب المسلم إذن؛ أن يأخذ بالأسباب، فتلك مسؤوليته التي تنجيه من التقصير، في نفس الوقت الذي يتوكل فيه على الله تعالى حقاً وصدقاً، خالقِه وخالقِ الأسباب، الذي يختار له بإرادته الحرة الطليقة ما يشاء بعد أن أعذر إليه.

*****

الأكثر مشاهدة