الأربعاء، 13 يوليو 2022

علاقة التاريخ الهجري بالعهدين المكي والمدني

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

علاقة التاريخ الهجري بالعهدين المكي والمدني

     لقد كان الخليفة العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، موفقاً تمام التوفيق، حين جعل من الهجرة المشرفة بداية للتاريخ الإسلامي، لكن المرء لا يستطيع أن يغفل الركيزة الأولى التي انطلق منها هذا التاريخ في مكة المكرمة، حيث الرسول العظيم ﷺ يبلّغ رسالة الإسلام محتملاً شتى المشاق والعقبات والصعاب، وحيث صحابته الكرام الأوفياء يصرون على التمسك بإسلامهم بالرغم من المحن الثقيلة، فثمة مَنْ تشوي جلودَهم شمسُ مكة المكرمة في لهب الصيف، وثمّة مَنْ شردوا عن بلدهم الحبيب وعاشوا في الحبشة، وهم ينتظرون الفرج والخلاص ويوم النصر المأمول، مستمعين آيات الله عز وجل تتنزل بين الحين والآخر لتواجه أوضاعهم في مكة المكرمة، وأوضاع المسلمين المشابهة لها طيلة العصور، ممن يتمردون على ما في مجتمعاتهم من فساد وانحراف، ويكافحون من أجل استئناف حياة إسلامية خالصة.

     حركة التاريخ الإسلامي إذن؛ تبدأ من مكة المكرمة نفسها، تبدأ منذ هاتيك الدقائق الغالية التي شرف بها الزمان واعتز، وهي الدقائق التي شهدت وحي السماء يتنزل على الرسول الكريم ﷺ ليقول له وهو في غار حراء: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1).

     وبذلك بدأت حركة التاريخ الإسلامي في مكة المكرمة، عقيدة ودعوة، وقيماً ومثلاً، ومبادئ أساسية كبرى، ثم اكتملت في المدينة المنورة دولة وحكومة، ونظاماً وسلطاناً، وبناءً اجتماعياً عملياً، يقدم الصورة الحية التطبيقية للإسلام وشريعته الخالدة.

     أما إنسان الإسلام الذي كان لبنة هذا التاريخ، ومادته الحية، وخليته التي تتحرك به وتحمله وتدعو إليه، فهو ذلك المسلم الذي آمن بهذه الرسالة الربانية، ووعى حقيقة مسؤوليتها، وعزم على النهوض بأعباء هذه المسؤولية والوفاء بها، وطفق يحاول أن يوجد الرصيد العملي الواقعي لرسالة الإسلام تنفيذاً صادقاً لها، وتطبيقاً جاداً لمبادئها ومثلها وأخلاقياتها.

     هذا الإنسان وجد في كل العصور والأماكن منذ بزغت شمس الرسالة الكريمة، وسيظل يؤدي دوره في الحياة ما كان كونٌ، وما كانت حياةٌ حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها. قد يكون فرداً في مجتمع مظلم ناءٍ عن منهج الله تعالى وشرعه، وقد يكون انتماؤه الجغرافي الترابي لبلد غير إسلامي، وربما كان داعية إلى الله تعالى في مناطق متباعدة، في أدغال أفريقيا وصحاريها، أو في عواصم الحضارة الغربية الغارقة في المادة وعبادتها، لكنه حيث كان ويكون.. هو الخلية الحية المتحركة في مسيرة الإسلام، ما دام صادق الولاء له، وحسن الفهم لحقيقته، عاملاً على نشره وتطبيقه والدعوة إليه.

     وإنسان هذا التاريخ، رجل لا علاقة له بالأرض والجنسية، واللغة واللون، والقومية والتراب، والوظيفة والحدود، والسحنة والشكل، والعادات والأزياء، وما إلى ذلك من مقاييس وحواجز متخلِّفة محدودة كابية، بل هو رجلٌ.. الإسلام وحده جنسيته وهويته، وحقيقته ووطنه. فالمعوّل في تحديد: من هو؟ وما هي حقيقته؟.. على ولائه للإسلام ومحاولة تطبيقه بشكل عملي.

     ولعبرة بالغة، وحكمة جليلة، كان من صناع التاريخ الإسلامي أو ظهوره، نفر من غير العرب، كان لهم دور كبير مشكور، وكأن كل واحد منهم ممثل لأمة من أمم الأرض الأخرى، فكان بلال الحبشي ممثلاً للأحباش، وصهيب الرومي ممثلاً للروم، وسلمان الفارسي ممثلاً للفرس، فكان وجودهم مع بقية المسلمين العرب وعلى رأسهم الرسول الكريم ﷺ، إعلاناً حضارياً ضخماً، على صعيد القيم والمثل والمبادئ النظرية، وعلى صعيد التطبيق العملي، والواقع التنفيذي، بأن رسالة الإسلام للناس كل الناس، في الأرض كل الأرض، وأنها فوق الحواجز الزائفة الكاذبة المتخلفة، التي تفرق الناس أقساماً شتى، ومزقاً متناحرة بسبب اللون والجنس واللغة والزي، وما إلى ذلك من جاهليات.

     إذن؛ ليس امتيازاً لأحد في الإسلام أن يكون قد ولد على أرض ما ولو كانت عزيزة غالية، كما أنه ليس نقصاً في أحد أن يكون قد ولد على أرض أخرى ولو كانت بعيدة أو كريهة أو فقيرة وما إلى ذلك.

     وما قيل عن الأرض يقال عن أصل الإنسان ونسبه، ولونه وشكله، ولغته وملبسه، وكل ما يمتُّ إلى ذلك بسبب. وينطبق هذا على العرب كما ينطبق على غيرهم من الشعوب المسلمة، وما أجمل ما عبّر به د. عبد الحليم عويس عن ذلك! حين قال: "ولئن كانت المحاولات التي تعطي العرب أفضلية مجانية لمجرد الأرض أو الجنس، محاولات متناقضة مع الإسلام نفسه، فإنها كذلك متناقضة مع سنة الله في الكون، لأنه سبحانه رفض دعوى اليهود الأفضلية، ورفض دعواهم ودعوى النصارى معهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وردّ على هؤلاء وأولئك بالرد القرآني الحاسم: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} (المائدة18).

*****

مكانة العهد المكي في الهجرة النبوية

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

مكانة العهد المكي في الهجرة النبوية

     ظهر الإسلام أول ما ظهر في مكة المكرمة، فقد كُلِّفَ الرسول الكريم ﷺ أن يبدأ بعشيرته الأقربين، وهم قومه في مكة المكرمة التي ولِد ونشأ وترعرع، وهكذا انطلقت بداية حركة التاريخ الإسلامي من مكة المكرمة، مهبط الوحي أولاً، وموطن رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام.

     وجاءت الهجرة إلى المدينة المنورة بعد ثلاثة عشر عاماً عانى فيها المسلمون في مكة المكرمة شتى أنواع الأذى والمحن، وفي المدينة المنورة وجد الإسلام الأرض الخصيبة، ووجد النفوس الصافية، والفطرة النقية، والمعادن الكريمة التي سرعان ما آمنت بالإسلام، ومنحته صادق الولاء.

     وفي المدينة المنورة برز الواقع الإسلامي في صورة حية عملية لم يظهر فيها من قبل في مكة المكرمة، هذه الصورة الحية، هي الدولة الإسلامية التي أقامها الرسول الكريم ﷺ عقب الهجرة، نموذجاً عملياً للإسلام يستقي ملامحه من التوجيهات والقيم القرآنية الكريمة، ومن تطبيق الرسول الكريم ﷺ لهذه القيم والتوجيهات.

     وقبل الهجرة الشريفة لم يكن الإسلام في واقعه العملي التطبيقي سوى أفراد يعيشون مشتتين مضطهدين يعانون من وطأة المقاطعة المادية أحياناً، والنفسية والاجتماعية في أكثر الأحيان، أو مشردين في الحبشة، لاجئين سياسيين؛ كما نعبّر نحن اليوم.

     وعلى الرغم من أن الانطلاق التطبيقي للإسلام بدأ في المدينة المنورة، إلا أن حركة التاريخ الإسلامي لا يمكن أن يَغْفُلَ المرء فيها عن العهد المكي. ذلك أن هذه الحركة بدأت في مكة المكرمة بناء عقدياً، ورسالة سماوية، وقيماً ومُثلاً ومبادئ، حيث ظل الوحي يتنزل بذلك طيلة ثلاثة عشر عاماً تحقق فيها أمران، الأول: عقدي حيث تكاملت الأسس الكبرى، والمعالم الأساسية لرسالة الإسلام، والثاني: عملي حيث تم بناء القاعدة المؤمنة الصلبة، وطليعة الجهاد الأولى، وهي أولئك النفر الكرام من المهاجرين الذين منحوا صادق ولائهم للإسلام في ظروف قاسية شاقة، وكانوا رأس الحربة في حركة التاريخ الإسلامي، روّاداً لزحفه المظفر الميمون، تمحّضوا لهذا الدين.

     أما المدينة المنورة فقد شهدت الإسلام بناءً عملياً تطبيقياً، ونظاماً مادياً متكاملاً، يظهر شامخاً للعيان في دنيا الناس الواقعية التطبيقية، وهكذا يتكامل الأمران معاً، ويتساوقان ليصوغا التاريخ الإسلامي صياغة نظرية وتنفيذية على السواء.

     وعندما بدأت الرسالة الإسلامية مسيرتها في مكة المكرمة حوصرت وحوربت، وانصب العذاب والتنكيل على المؤمنين بها، وحينَها لم يجد المسلمون أي حرج في أن يتركوا مكة المكرمة وينطلقوا في الأرض، ذلك أن الهدف لم يكن أرضاً بذاتها، بل الهدف هو غايات محدودة معينة، وهي عبارة عن مجموعة من القيم والمثل والمبادئ.

     لم يكن هدف الإسلام أن تعلو أرض معيّنة، أو ترتفع راياتها، أو يسود ذووها، أو يشمخ مجدها الوطني، أو عزها القومي، وما إلى ذلك من صغار المبادئ، وتوافه الأهداف، بل كان هدف الإسلام من سعيه وكفاحه أن يفوز بأي أرض وأي قوم. يجد المسلمون عندهم وعلى ترابهم الفرصة كي تحيا القيم التي جاء من أجلها، وتطبق المثل التي دعا إليها، وتسود المبادئ التي أعلنها على الناس، لأن هذه الفرصة تهيئ لهم السبيل ليرى الناس جميعاً الصورة الحية الحقيقية للإسلام؛ إذ يُطبق عملياً، ويُنفَّذُ واقعياً في دنيا الناس.

     وهذه الصورة الحية أكثر أثراً في الناس، وأبعد في إقناعهم وهدايتهم، إلى الطريق الصحيح من مجرد الدعوة النظرية فحسب!,, ومن هنا يأتي حرص الإسلام الشديد، وحرص دعاته الدائم على ضرورة تمثُّل هذا الدين واقعاً حياً، في دولة إسلامية تصاغ وفق هديه المبارك، وتشاد وفق مبادئه الكريمة الخالدة.

     من أجل ذلك لم يكن غريباً قط، بل كان طبيعياً ومنطقياً وبديهياً، أنه حين وجد الرسول الكريم ﷺ، ووجد المسلمون أن هناك أرضاً أخرى، هي أكثر تمهيداً وأغنى وأخصب، وأكثر مواءمةً وملاءمة لتحقيق هدفهم الربّاني الكريم لم يترددوا في أن يتركوا مكة المكرمة، وأن يضحوا فيها بكل أملاكهم، وأحياناً بأهلهم وأبنائهم، وبكل ما هو عزيز ونفيس وثمين، مسارعين بالهجرة إلى الأرض التي لاح لهم أن شمس الإسلام سوف تسطع منها، وتنتشر في كل الأرض، لأن عقيدتهم أغلى من كل ما تركوا وأنفس من كل ما ضحّوا وأثمن من كل الذي يودّعون.

     إنها مهمة كبيرة حقاً تلك التي كان على المهاجرين أن يؤدوها، ولا يستطيع الوفاء بها إلا عظماء الرجال.

     ولقد شهد التاريخ فعلاً؛ أن المهاجرين الكرام كانوا عظماء حقاً، وكانوا على مستوى المسؤولية التي نيطت بهم، فنهضوا بها أحسن نهوض وأكرمه وأبلغه، فكانت حركتهم الشجاعة بداية المسيرة في حركة التاريخ الإسلامي في كل عصوره على الإطلاق، الذي ظل وسيظل مديناً لموقفهم المؤمن الجريء العملاق.

*****

ذكريات الهجرة والصراع مع اليهود

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

ذكريات الهجرة والصراع مع اليهود

     حين يفد إلينا شهر محرم من مطلع كل عام، يحمل إلينا ذكريات الهجرة الغالية الكريمة، وما فيها من عبر ودروس ودلالات، جرت عادة الكُتّاب أن يتوقفوا عندها دارسين محللين مذكّرين.

     وينفرد جيلنا نحن من بين أجيال الأمة المسلمة، أنه دخل في صراع عنيف مرير مع اليهود، صراع يحاول أعداؤنا فيه أن يدمروا وجودنا برمّته على كل مستوى وصعيد، لنكون من بعده لا سمح الله، حِمىً مستباحاً، وسوائم ضائعة، يضع اليهود نشاطاتها حيث يريدون، ويوظفونه لصالح مخططاتهم الشريرة المجرمة التي ترمي إلى السيطرة على العالم كله.

     ولما كان الإسلام هو العقبة الكأداء التي تواجههم وتقف في طريق حماقتهم وجنونهم؛ فإنهم يبذلون اليوم معظم جهدهم لمحاربة هذا الإسلام بكل ما يقدرون عليه من شتى الوسائل والأساليب.

     التحدّي اليهودي لنا اليوم، هو أخطر التحديات التي نواجهها دون ريب، لذلك فمن البديهي ومن المتوقع أن تنصرف الأقلام الشريفة الجادة المؤمنة إلى كشف مخاطر هذا التحدي الأكبر، وتسليط الضوء عليه، ولعل قائلاً يقول في استفهام منكر: وما صلة هذا بالهجرة التي يبدو أنها موضوع هذا الحديث؟

     إن الصلة لتظهر بجلاء على الأقل في أمرين أساسيين، الأول: محاولتنا أن نستفيد من دروس الهجرة الشريفة فيما نواجهه اليوم من صعاب ومشكلات وعقبات، والثاني: أن اليهود يهاجرون اليوم -ومنذ حوالي قرن من الزمان- من شتى ديار العالم إلى أرض الإسلام في فلسطين. وبين الهجرتين: هجرة محمد بن عبد الله ﷺ وصحبه الكرام الأوفياء من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وبين هجرة اليهود القائمة حتى يومنا هذا كثير من الفروق التي ينبغي ألا تغيب عنا بحال.

     من هذه الفروق أن الهجرة المسلمة كانت برضى أهل المدينة المنورة، وإيثارهم وحبّهم، وعلى العكس من هجرة اليهود التي تمت على الرغم من أهل البلاد الأصليين وإنكارهم وكراهيتهم.

     فالهجرة المسلمة سبقها تخطيط دقيق، كان أهل المدينة المنورة من الأنصار على علم ببواعثه وأهدافه، وكانوا على علم بمسؤولياته القريبة منها والبعيدة كذلك. وبالرغم من هذا كله كانوا فرحين أشد الفرح بهذه الهجرة مستبشرين بها أيّما استبشار، وحين وصل الرسول الكريم ﷺ إليهم كانت الدنيا لا تسعهم من الفرحة، وطفقوا يرددون نشيدهم الجميل المؤثر: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع!.

     ودَعْكَ من تسابقهم لإكرام الرسول ﷺ ودعوته ليكون ضيفاً عليهم، لأنه أمر متوقع، فهو نبيهم وقائدهم وهاديهم، وأحب إلى أنفسهم من كل شيء، وانظر كيف استبقوا لإكرام إخوانهم المهاجرين الذين تركوا كل شيء في مكة المكرمة، وهاجروا خفافاً فقراء من متاع الدنيا؛.. أغنياء بالعقيدة والتفوق الروحي والنفسي.

     لقد تسابق الأنصار لإكرام إخوانهم هؤلاء، وأحلوهم موضع الحب والولاء والإيثار، واستقبلوهم أصدق استقبال وأجمله وأكرمه، وقاسموهم في المسكن والمال وهم في غاية الرضى والسرور والبهجة، ذلك أنهم يعلمون جيداً ضخامة التضحية الإيمانية التي بادر إليها إخوانهم المهاجرون، حين تركوا كل شيء استجابة لداعي الإيمان، ويعلمون كذلك ما احتمله إخوتهم هؤلاء من المتاعب والمحن والمشاق على أيدي قادة الشرك وعتاة الوثنية في مكة المكرمة طوال ثلاثة عشر عاماً هي عمر الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، ويعلمون كذلك أنهم بما يفعلون من كرم وجود وإيثار.. إنما يتحملون تبعة الإيمان الحق، وينهضون بمسؤولياتهم رجاءً لما عند الله تعالى من أجر عظيم لا نفاد له.

     ما من ريب في أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وما جرى بينهم من إيثار وحب وجود وتسابق على البذل والعطاء، صفحة نادرة في سفر الحياة البشرية ليس لها مثيل قط، وهي من ثمار هجرة الإسلام الهادية المباركة.

     قارن هذا بهجرة اليهود إلى فلسطين.. إن هجرتهم كانت وما تزال تتم على الرغم من كراهية أهل فلسطين، وإنكارهم وتصدّيهم لمواجهتها، فاليهود يهاجرون إلى فلسطين ليسلبوا أهلها المسلمين دُورهم ومزارعهم وأموالهم، بل وحياتهم كذلك، وليقيموا على أنقاض وجودِهم فيها.. وجودَهم الغادر المقتحم، الذي يسلب الناس كل ما أقرّت الأديان والشرائع والقوانين والأعراف أنه حقٌّ للإنسان فطريٌّ وأصيلٌ، ومقدسٌ ليس لأحد أن يعدو عليه ويغتصبه.

     وربما لا يحسن التفصيل ها هنا في غدر اليهود وظلمهم وبطشهم بأهل الديار الأصليين، لأن ذلك أمر يعيه جيلنا بدقة وإحاطة بسبب تكرره الدائم حتى لكأنه جزء من خبزنا اليومي الذي نعيش عليه.

     إن هجرة الإسلام قامت على إثرها أروع أخوة شهدها التاريخ، وهجرة اليهود قامت على إثرها عداوة لا تنتهي، وصراع حاد مرير بين صاحب البيت وسارقها لا ينتهي إلا بهلاك واحد منهما.

*****

بين هجرة المسلمين إلى المدينة وهجرة اليهود إلى فلسطين (2)

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

بين هجرة المسلمين إلى المدينة وهجرة اليهود إلى فلسطين (2)

     يحمل إلينا شهر محرم في إطلالته الكريمة ذكرياتٍ عزيزةً غالية، هي ذكريات الهجرة الشريفة على صاحبها أفضلُ الصلاة والسلام، وإذا كان علينا أن نتوقفَ مع ذكريات الهجرة هذه نستنبط منها العبر والدروس، لنهتدي بنورها الساطع في طريقنا الشاق الصعب، حيث تنوشُنا التحديات الضخمة من كل جانب، فإن علينا ألا نغفلَ عن هجرة أخرى معاصرة بدأت منذ حوالي قرن من الزمان أو أقل من ذلك بقليل، ولا تزال تنمو وتَقْوى في يومنا هذا، وهي هجرة اليهود من شتى بلدان العالم إلى فلسطين، ذلك أن هجرتهم هذه هي أحد كبار التحديات التي تواجهنا مواجهةً عميقةً حضارية، بهدف القضاء التام على وجودنا مادياً ومعنوياً على السواء.

     وبين الهجرتين هجرة محمد ﷺ وصحبه الكرام الأوفياء إلى المدينة المنورة وهجرة اليهود إلى فلسطين فروق كبيرة هائلة تكشف عن عظمةٍ ما عُرِفَ لها مثيل في هجرة الإسلام، وخسّةٍ ما عُرِفَ لها شبيه في هجرة اليهود.. عن خلقٍ يسمو، ودينٍ يزكو، وفضائلَ ومكرمات وما شئتَ من خيراتٍ حسان في هجرة الإسلام، وعن غدرٍ وفجور، وباطلٍ وضلال، ومفاسدَ وسيئات، وما شئتَ من شرورٍ مستوخمة في هجرة اليهود.

     ولا عجب!.. فهجرة الإسلام وَحْيُ السماء وحركةُ الإيمان، أما هجرة اليهود فهي تدبيرُ المفسدين في الأرض وأَمْرُ الشيطان.

     ومن أعظم الفروق بين الهجرتين، أن هجرة الإسلام ترتب عليها أنْ قامت في المدينة المنورة دولة الإسلام، أما هجرة اليهود فقد ترتب عليها أنْ قام الكيان الإسرائيلي الباغي في فلسطين، الذي يَأْمَلُ سدنة الشر من قادته ومخططيه أن يجعلوا منه دولةً عظمى تهزم الإسلام والمسلمين، وتسيطر على مقدّرات ديارنا، وتجعل منا أمةً لا حقيقة لها ولا شخصية، يوظّف اليهودُ قدراتِ أبنائها وخيراتِ بلادها لِما يريدون، ويجعلونهم دُمى في أيديهم يحركونهم كما يشاؤون.

     هجرة الإسلام كان من نتائجها أن قامت دولة، وهجرة اليهود كان من نتائجها أن قامت دولة!.. والفرق بين الدولتين؛ هو الفرق بين هديِ السماء، وأوحالِ الجاهلية.. بين حقيقةِ الإيمان وفسادِ الباطل.. بين صدقِ القرآن الكريم وصحتِه، وزيفِ التوراة المحرّفة وضلالِها.. بين سموِّ المسلمِ ونبله، وانحطاطِ اليهودي ونذالته.. بين الأمّةِ المؤتمنة على هديِ السماء، وأمّةِ الضلال وقَتْلِ الأنبياء.

     ودولة المسلمين التي قامت في المدينة المنورة؛ هي أكرم وأعظم، وأنبل وأسمى، وأطهر وأفضل دولة شهدها التاريخ على الإطلاق. فهي دولة العقيدة، قامت عليها ابتداءً وانتهاءً.

     لم تقمْ بسبب أرض أو جنس، ولم تقم بسبب لون أو لغة، ولم تقم بسبب مصالحَ ماديةٍ في تجارة أو زراعة أو صناعة أو غير ذلك، ولم تقم بسبب عصبية قبلية أو وطنية أو قومية أو ما يشبه ذلك، لقد قامت على العقيدة فحسب!.

     فبالعقيدة الإسلامية فقط هاجر المسلمون من مكة المكرمة، وتركوا ديارهم وأموالهم وذويهم ومرابع شبابهم وملاعب طفولتهم، وكل ما يحببُ المرءَ إلى بلدِه ويشدُّه إليه. وبهذه العقيدة استقبل الأنصارُ إخوانَهم المهاجرين أحسن استقبال، وأنزلوهم في قلوبهم قبل أن ينزلوهم في بيوتهم، وقاسموهم أموالهم، وشاركوهم فيما يملكون، حتى إن بعضهم ممن كانت له زوجتان، عرض أن يطلِّق إحداهما ليتزوجها أخوه المهاجري!.

     كانت العقيدة الإسلامية هي أساس الدولة، وهي الأصل فيها والجوهر، وهي التشريع والنظام، وهي الخُلُق والقانون، وهي الروابط والصلات، كانت كلَّ شيء في الدولة التي صِيغتْ بكلِّ شؤونها وِفْقَ هذه العقيدة.

     لذلك يمكن أن يقال: إن دولة الإسلام في المدينة المنورة هي أولُ نموذج حي متكامل للدولة "الآيديولوجية" التي تقوم على الفكرة، والتي لا يزال العالم حتى اليوم عاجزاً عن إقامة مثيلٍ لها، وإن ادّعى هنا وهناك أنه فعل.

     ودولة المسلمين في المدينة المنورة أقامت أكرمَ مجتمعٍ بشري على الإطلاق، فكان مجتمعها مجتمعَ المساواة الحقيقية، والعدالة الاجتماعية، والتعاون والتناصر، والتوادّ والمرحمة، والخير العميم، والهدي الكريم، والأمن والطمأنينة والسكينة، وما شئت من أمثال ذلك.

     أما هجرة اليهود إلى وطن الإسلام في فلسطين، فهي الأخرى قد قام بسببها مجتمع ودولة، ولكنْ ما الذي تقولُه فيهما؟ إنّ أيَّ كلماتٍ في وصف قذارتهما لتبدو قليلةً عاجزةً ضئيلة، وها هو جيلنا يشهد منهما فظائعَ الوحشيةِ والغدرِ والنذالة، كلَّ يوم، وحسبك أن تقول: إن كيان اليهود في فلسطين هو ملتقى الشرور والخبائث، ودولتهم مستنقعُ المفاسدِ والسيئات، ومجتمعهم أقذرُ ما شهدته البشريةُ قط.

*****

بين هجرة المسلمين إلى المدينة وهجرة اليهود إلى فلسطين (1)


الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

بين هجرة المسلمين إلى المدينة وهجرة اليهود إلى فلسطين (1)

     يحمل إلينا شهر محرم في إطلالته الكريمة المباركة، ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، المعطرة الطهور، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وهي ذكرى ما أكرمها!.. وما أطيبها!.. وما أغلاها على قلب المسلم!.

     ونحن اليوم إذ نستروح ذكراها هذه، نعيش كأمة إسلامية ظروفاً في غاية الصعوبة، وتحديات في منتهى الشراسة والعنف، يقف في طليعتها بغي اليهود وعدوانهم، وعربدتهم وجنونهم في أرض الإسراء والمعراج.

     وبغي اليهود في فلسطين العرب والإسلام يذكّرنا بهجرة من نوع آخر، هجرة مضت عليها عشرات السنين، ولا تزال تتوالى حتى اليوم، وهي هجرة اليهود من شرق الأرض وغربها إلى وطننا الإسلامي في فلسطين. وبين الهجرتين، هجرة محمد بن عبد الله ﷺ، وصحبه الكرام الأوفياء من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وهجرة اليهود من شتى ديار العالم إلى فلسطين، تَعْظُمُ المقارنة وتزكو، وتحلو وتطيب، لأنك مُلاقٍ بينهما الفرقَ الواسع العظيم بين خُلُق الإسلام وخسة اليهود، بين إشراق الحق وظلمة الباطل، بين سمو الإسلام وأوحال الجاهلية، بين ما يضعه الله عز وجل لخير الإنسان، وما يضعه شياطين اليهود لدمار الإنسان.

     وكثيرة هي الفروق بين الهجرتين، وفي مقدمتها أن هجرة الإسلام كان من ثمارها أن نجا الرسول الكريم ﷺ من أشنع جريمة قتل وأفظعها نتائجَ في غاية الوخومة، ذلك أن مشركي مكة المكرمة، كانوا قد عزموا على قتل الرسول الكريم ﷺ، وأعدوا لذلك خطة محكمة شيطانية، واختاروا لتنفيذها شاباً قوياً جَلْداً من كل قبيلة، ليتفرق الدم الطاهر في القبائل كلها، فيعجز بنو هاشم عن أخذ ثأرهم، ويرضوا بأخذ الدية. لكنَّ الهجرة الشريفة فوّتت عليهم ما يريدون، فخاب مسعاهم، وعادوا بالصَّغار والخسارة، ونجا الرسول الكريم ﷺ من القتل.

     ونجاتُه هذه تعني إخفاقَ أشنعِ محاولة اغتيال، وأخطرها وأبعدها نتائجَ مؤذيةً مدمرة، تتجاوز مكة المكرمة لتُلحِقَ الأذى بالإنسان أيّاً كانت أرضه، وأيّاً كان زمانه منذ رسالة الإسلام وحتى اليوم، وإلى أن يرثَ اللهُ تعالى الأرضَ ومَنْ عليها.

     وهذه النجاة ترتب عليها أنْ وصلَ الرسول الكريم ﷺ إلى المدينة المنورة سالماً محفوظاً لينشئ المجتمع المسلم الأمثل، ويبنيَ دولة الإسلام شامخة عالية، ويضعَ الأسس الكبرى لحضارة الإسلام التي سمت وارتفعت بعد ذلك وآتت أُكُلَها، جَنَىً طيباً عذباً مباركاً فيه، في عواصم الإسلام الكبرى دمشق وبغداد، وقرطبة والقاهرة.

     وهذه النجاة كان من ثمارها أربع خلافات إسلامية عريقة هي الراشدة، والأموية، والعباسية، والعثمانية، حملت الإسلام ونشرت نوره، وجاهدت لإعلاء كلمته ورايته، ويمكن لك -وأنت تبحث عن الأمور التي ترتبت على نجاته ﷺ من القتل بسبب الهجرة الشريفة- أن تقول: إن كل الخير الواسع العميم في دنيا الإسلام منذ الهجرة حتى يوم القيامة، هو من ثمار تلك النجاة الربانية الكريمة.

     أما هجرة اليهود إلى فلسطين العرب والإسلام فقد ترتب عليها القتل والقتال، والدماء والأشلاء، والحرب والاغتيال، ففشا العنف والحقد، والدمار والجنون والموت الذي لا يهدأ في فلسطين، وطنِ السلام والإسلام.

     هجرةُ الرسول الكريم ﷺ كان من نتائجها أنْ نجا من القتل، فامتدت حياة له وللمسلمين في الخير النافع، والتعاون الكريم، وقام مجتمع للحق والعدل، وبزغ فجر حضارة بنّاءة نفعت الناس جميعاً حتى غَيْرَ المسلمين، وكان بنيانٌ، وكان عمرانٌ، وكان نفعٌ ضخم واسع لبني الإنسان في كل ميدان، وكل زمان، وكل مكان، وعلى كل مستوى وصعيد.

     وهجرة اليهود إلى فلسطين كان من نتائجها أنْ فشا القتل والقتال والدمار، فضاعت أعمار، وأزهقت أرواح، وسفكت دماء، ودُمِّرت مدن وقرى، وهُدِّمت بيوت ومزارع، وأحرقت جثث لأحياء ولأموات، وكان عنفٌ، وكان حقدٌ، وكان دمارٌ، وكان جنونٌ، وكانت دماءٌ، وكانت أشلاءٌ.

     وها هو أتون ذلك كله لا يزال فاغراً فاه حتى ساعتنا هذه، وإنه لباقٍ على ذلك مستمرٌّ فيه، حتى يتم القضاء تماماً على اليهود بأيدي مؤمنين كرام، أولي بأس شديد يجوسون خلال الديار، ويحققون وعداً كان مفعولاً، ويُتَبِّرُونَ ما صنع اليهود تَتْبيراً، ويستأصلونهم استئصالاً نهائياً حتى لو هرب اليهودي، واختبأ وراء حجر أو شجر، أنطق الله تعالى ما اختبأ وراءه اليهودي فقال: يا مسلم، يا عبد الله!.. هذا يهودي خلفي تعال فاقتُلْه.

*****

أثر التوكل والإيمان في الهجرة النبوية

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

أثر التوكل والإيمان في الهجرة النبوية

     إذا كنا وقفنا على ما كان في الهجرة الشريفة من إعدادٍ وتكامل، وتخطيطٍ دقيق وتدبيرٍ محكم، وبذلٍ للجهد كله، واستفراغٍ للطاقة جميعها، وأخذٍ بكل الأسباب الممكنة وما إلى ذلك، فإننا لا نخطئ أن نقف فيها على جانب آخر في غاية الأهمية والخطورة، وهو ما كان عليه المهاجر الكريم ﷺ من توكلٍ عميقٍ جداً، وإيمانٍ شديد الرسوخ بالفوز والغلَبة، وثقةٍ لا حد لها بنصر الله عز وجل وحمايته وجميل ستره، ويمكن لك أن تلحظ هذا الجانب جليّاً بيّناً في جملة من المواقف، خلال رحلة الهجرة في جميع مراحلها.

     تلحظه فيما قاله الرسول الكريم ﷺ لأبي بكر الصِّدِّيق حين وصل المطارِدون إلى فم الغار وخشي الصِّدِّيق على نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، وأفضى إليه بمخاوفه، إذ نظر إلى المشركين فرأى لو أن واحداً منهم نظر عند قدميه لرآهما، لقد قال الرسول الكريم ﷺ للصِّدِّيق: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزنْ إن الله معنا.

     وإنه لَقولٌ غنيٌّ كريم، حافلٌ ضخم، بعيد الأمداء، يدل على رسوخٍ لا مثيل له، وتوكلٍ عميقٍ بالغ، وثقةٍ ليس لها حد، كانت في خلد الرسول الكريم ﷺ. وطاشت ألباب المشركين، وعبثاً أرهق مقتفو الآثار أنفسهم على الرغم من أنهم وصلوا إلى فم الغار، فالرسول الكريم ﷺ، ورفيقه الأمين في حماية الله تعالى وكفى، ودون الوصول إليهما المستحيل ولو اجتمعت جنود الأرض كلها عند الغار تطالب برأسيهما.

     وما أجمل وصف القرآن الكريم لهذه الحماية المباركة!..: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَاۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة40)".

     وتلحظه في تصرفه ﷺ مع سراقة بن مالك حين لحق به مطارِداً طامعاً بجائزة قريش، لقد وَعَد سراقة أن يلبس سواري كسرى. تأمل هذا الموقف العجيب! الرسول الكريم ﷺ ملاحَقٌ مطارَدٌ، مهدَّدٌ بالقتل ليس معه إلا الصِّدِّيق والدليل، وهو مع هذا يعد رجلاً يريد الظفر به، يحدوه الجشع والطمع، أنه سيلبس سواري كسرى.

     إن هذا الوعد معناه أن الإسلام سوف يظهر ويغلب، وتمتد مواكبه وراياته، وسوف يدخل فيه سراقة مع من يدخل، وأنّ موكب الفتح سيتقدم فائزاً منصوراً حتى يظفر المسلمون بكسرى، وهو أحد رجلين كانا يقتسمان العالم، ويكون سواراه من نصيب سراقة.

     إنه وعدٌ يدل على عمق اليقين عند الرسول الكريم ﷺ بأن وعد الله تعالى متحقق لا ريب في ذلك، وقد تحقق هذا الوعد فعلاً، ولبس سراقة سواري كسرى!.

     وربما كان بوسع المرء أن يتصور أبعاد ذلك اليقين العظيم لو أنه تأمل بدقة موقفه ﷺ مع سراقة دون النظر إلى ما حدث بعد ذلك، أو لو أنه وضع نفسه في موضع سراقة وغاص على المشاعر التي ثارت في أعماقه إذ ذاك.

     وما من ريب في أن موقفه ﷺ مع سراقة معجزة إيمانية كبرى، تدل على عميق التوكل، وراسخ الإيمان، والثقة البالغة القوية.

     وتلحظه في أن الرسول الكريم ﷺ خرج من داره بمكة المكرمة ليلة الهجرة في أعقاب ليلٍ مريع، فأبناء القبائل الأشداء الأقوياء المحيطون بالدار، ينتظرون لحظة خروجه ليقتلوه ويتفرق دمه الشريف في القبائل، لم يَهِنِ الرسول الكريم ﷺ، ولم يضعُفْ ولم يتردَّدْ، بل خرج من داره وهو في غاية الثقة والتوكل والشجاعة، وهو يقرأ آيات من سورة "يس". وعَبْرَ السدِّ الذي أغشى اللهُ تعالى به أبصارَ المحاصِرين انطلق إلى هدفه وفق مخططه المرسوم.

     والآن!.. وبعد أن اتضح تماماً ما كان عليه الرسول الكريم ﷺ في جميع مراحل هجرته من توكل عميق راسخ، وثقة وتفويض، قد يتبادر إلى بعض الأذهان أن ذلك مناقض للجانب الآخر الذي لجأ إليه الرسول الكريم ﷺ، جانب الإعداد الدقيق المحكم، والأخذ بكل الوسائل المادية المتاحة!.. وليس ثمة تناقض قط، ففي الإسلام الأمران مطلوبان معاً، فلا بد للمسلم من الأخذ بكل الأسباب، بغاية الدقة والضبط والإتقان لأن الله تعالى جعل للكون سننه ونواميسه وهي جارية على الجميع، محايدة مع كل الناس، لا تجامل أحداً، ولا تمالئ مخلوقاً، والأسباب المادية هي أولى هذه السنن والنواميس.

     وفي الوقت نفسه على المسلم أن يحذر أشد الحذر من الاعتماد على ما أخذ به من أسباب، وأن يحذر الاتكال عليها، وألَّا يتوهم أنه بعمله المتقن وتدبيره الدقيق واصل إلى النجاح بالضرورة، لأن هذه الأسباب لن تقود إلى النجاح ما لم يأذن الله تعالى بذلك.

     إن عليه بعد الأخذ بكل سبب متاح أن يعتمد على ربّه وربِّ الأسباب، فهو وحدَه الذي يضر وينفع، وهو وحده يجب أن يكون الاعتماد عليه.

     ومن الضروري أن يقال: إن إهمال الأسباب بدعوى حسن التوكل على الله تعالى ليس من الإسلام في شيء، وإهمال الأسباب خطأ فاحش مماثل للخطأ الآخر، وهو تأليه الأسباب.

     واجب المسلم إذن؛ أن يأخذ بالأسباب، فتلك مسؤوليته التي تنجيه من التقصير، في نفس الوقت الذي يتوكل فيه على الله تعالى حقاً وصدقاً، خالقِه وخالقِ الأسباب، الذي يختار له بإرادته الحرة الطليقة ما يشاء بعد أن أعذر إليه.

*****

تدابير وأسباب في الهجرة النبوية

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

تدابير وأسباب في الهجرة النبوية

     لا يخطئ الباحث المدقق في الهجرة النبوية الشريفة وما فيها من عبر ودلالات ودروس، أن يلاحظ بوضوح وجلاء، ذلك التخطيط الدقيق المحكم، والإعداد الرائع المتقن، والأخذ بكل الوسائل المتاحة، والاحتياطات التي تقع في دائرة الإمكان، حين ينظر إلى ما فعله الرسول الكريم ﷺ إزاء هجرته الشريفة.

     فرغم يقينه الكامل أن الله عز وجل معه يحرسه ويرعاه ويسدد خطاه، لم يتعجل الحركة، ولم يرتجل الخطى، ولم يدع الأمور دون ضبط في غاية الدقة والإحكام والإتقان، بل تأنّى وانتظر، وفكّر ودبّر، وخطط ورتّب، مستفرغاً كل جهده وطاقته في ذلك.

     وما أروع البرنامج الذي أعده وطبقه الرسول الكريم ﷺ من أجل تحقيق هدفه بأكبر قدر ممكن من الضمانات والاحتياطات!.

     لقد أمر علياً ليلة الهجرة بالمبيت في فراشه، والاستتار ببُرده الحضرمي الأخضر، لينخدع به المشركون، ويتوهموا أن الرسول الكريم ﷺ لا يزال في داره، وينتظروا خروجه ليقتلوه، حتى إذا طلع الصباح وعرفوا الحقيقة، كان الرسول الكريم ﷺ قد وصل إلى غار ثور ليختفي فيه.

     ذلك تدبير دقيق محكم تلمحه بجلاء، كما تلمحه في جملة من الأمور الأخرى، فالرسول الكريم ﷺ كان حريصاً ألا يعلم أحد بتدبيره سوى الصِّدِّيق رضي الله عنه، مرافقه في الرحلة الخطيرة، يظهر ذلك في قوله له حين جاء بيته: "أخرج عنّي مَنْ عندك"، فهو لا يريد أن يعرف الآخرون تدبيره حتى لو كانوا موضع الثقة.

     وحين جاء إلى بيت الصِّدِّيق جاءه وقت الهاجرة، وهي ساعة ما كان يأتي فيها، وهي كذلك ساعة تهدأ فيها حركة العيون والأرصاد، وحين أراد الخروج من بيته لم يخرج من بابه المعتاد في واجهة الدار، بل خرج من خوخة في ظهر البيت، تحرياً لمزيد من التخفي والسرية.

     أضف إلى ذلك استئجار دليل ماهر ذي كفاءة عالية، مع عدم إحاطته بالتفاصيل، واستدعائه في الوقت المناسب للتنفيذ قطعاً لاحتمالات التواطؤ والخيانة التي ينبغي أن تدخل في الحسبان.

     وعلى الرغم من أن طريق الهجرة للمدينة المنورة يقتضي التوجه نحو الشمال، اتجه الرسول الكريم ﷺ إلى جنوب مكة المكرمة بادئ ذي بدء تضليلاً للمشركين وخديعة، ثم هو يبقى في غار ثور ثلاثة أيام، وهو غار يقع في قمة جبل أجرد موحش، يشق الصعود إليه على الشاب الجلد؛ فكيف به ﷺ وهو في الثالثة والخمسين من عمره المبارك في ذلك الحين!؟ والهدف من بقائه الأيام الثلاثة في الغار أن تهدأ عنه حركة البحث والتفتيش والمطاردة.

     وإذا كانت العبرة من البقاء في الغار واضحة، فثمة عبرة أخرى، هي معرفته بالغار البعيد المنقطع، مما يدل على إحاطته الجغرافية الدقيقة بمكة المكرمة وما حولها، وما من ريب في أن القائد البارع يجب أن يكون محيطاً بالأرض التي يتحرك عليها فذلك أقرب للنجاح والكمال.

     وخلال الأيام الثلاثة التي قضاها ﷺ مع الصِّدِّيق في غار ثور، لم يكن بمعزل عما يجري بمكة المكرمة، بل كانت الأخبار الدقيقة تأتيه بانتظام، وذلك كان جزءاً من خطة الهجرة المحكمة المتكاملة، فقد كان عبد الله بن أبي بكر شاباً ذكياً حاذقاً، وكان يقضي عامة نهاره في مكة المكرمة يسمع ما يقوله الناس، ثم ينقله ليلاً للمهاجرَيْن الكريمَيْن ويعود ليلاً إلى مكة، فيطلع عليه النهار وهو فيها دون أن يلاحظ أحد غيابه.

     وأما الطعام فقد تكفلت به السيدة العظيمة أسماء بنت الصِّدِّيق التي كانت تأتيهما بما يحتاجان.

     وأمّا عامر بن فهيرة مولى أبي بكر، فكان له هو الآخر دور خطير، كان يرعى غنمه في النهار حتى إذا جاء الليل اتجه إلى الغار، ليكون عوناً للسيدة أسماء في تقديم ما يحتاجه المهاجران الكريمان من زاد وطعام من ناحية، وليعفي بغنمه على آثار أسماء وعبد الله التي تقود إلى الغار تماماً فلا يكون بوسع أحد أن يتعقب آثار أقدامهما، وللعرب براعة في تعقب الآثار معروفة.

     وأخيراً حين مضت الأيام الثلاثة انطلق الرسول الكريم ﷺ من الغار إلى المدينة المنورة، عن غير طريقها المألوف، بل عن طريق الساحل الوعر غير المطروق.

     يمكن إذن أن يقول المرء: إن الرسول الكريم ﷺ استعمل كل الوسائل المادية التي تقع تحت دائرة الإمكان، ليوضح لنا أن استعمال هذه الوسائل المادية التي أرادت حكمة الله عز وجل أن تكون أسباباً في هذه الحياة، لا ينافي الإيمان بالله تعالى أبداً.. ينبغي أن يستقر هذا المعنى في أخلاد المسلمين، لأن الحق لا ينتصر لمجرد كونه حقاً، بل لا بد لأتباعه وحملته من استفراغ كل جهودهم بصدق وإخلاص، ووعي وإحاطة، وذكاء ومثابرة، وتخطيط محكم دقيق، وتطويق لكل منافذ الخطر، وسدٍّ لكل الأبواب التي تؤدي إلى الإخفاق، وأخذٍ بكل ما يؤدي إلى النجاح، ذلك أن الله عز وجل وضع لهذا الكون سنناً ونواميس، وهي لا تجامل أحداً قط، ولا تحابي مخلوقاً قط كائناً من كان، والذي يعيها ويأخذ بها يفوز ولو كان على باطل، والذي يهملها ويغفل عنها يفشل ولو كان على حق.

     العبرة في ذلك واضحة ماثلة أن الفهم الصادق للإسلام يُلزم المسلمين بأنْ يُعِدّوا كل ما يقدرون عليه من قوة، ويحكموا التدبير والإعداد، ويأخذوا بكل أسباب الحيطة والحذر، ويحسبوا لكل شيء حسابه، ثم يفوضوا أمورهم إلى الله عز وجل ويتوكلوا عليه، فإن فعلوا ذلك، فقد أَعْذَروا إلى الله عز وجل، ونجوا من التقصير، وبرئوا من التفريط في حق أنفسهم ودينهم.

*****

عام جديد.. والأمة المسلمة اليوم

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

عام جديد.. والأمة المسلمة اليوم

     لا يفوتنا اليوم ونحن في مطلع عام هجري جديد، انطوت به سنة من عمر الزمان، وبدأت سنة جديدة، سنتان تجعل المؤمن بين مخافتَيْن، مخافةٍ مما مضى أن تكون الذنوب كثيرة، والحسنات قليلة، ومخافةٍ مما يأتي حيث لا يدري المرء ما الله قاضٍ فيه.

     لا يفوتنا اليوم في مطلع العام الجديد والمخافتان تحيطان بنا من هنا ومن هناك، أن نتوقفَ عند دروس الهجرة الشريفة العظيمة، التي تذكِّرنا بها إطلالة العام الجديد، إذ يفد شهر محرَّم فيحمل إلينا ذكراها الطهور، لنستجليَ دروسَها الكريمة، في محاولة جادة واعية لفهم عبرها البالغة العظيمة، وعظاتها الغنية الواسعة، ودلالاتها الكريمة المعطاء، في السرية والكتمان، والإعداد والتدبير، والصبر والاحتمال، والتضحية والفداء، والشجاعة والبطولة، والإيمان القوي الذي لا يتزعزع، وإخلاص النية لله عز وجل وصادق الاعتماد عليه والتفويض إليه، واسترخاص المال والأهل والوطن وكل شيء في سبيل العقيدة.

     تواكبُ محاولَتنا الجادةَ لفهم ذلك كلِّه ووعيِه وحسنِ الإحاطة به؛ محاولةٌ جادة أخرى للإفادة العملية منه في الذي نواجهه اليوم من متاعب ومشكلات، وصعاب وتحديات، وذلك بأن نستلهمَ دروسَ الهجرةِ الشريفة، ونستنيرَ بخطواتها المباركة المؤمنة، متأسِّين بما فعله في جميع مراحلها رسولُنا الكريم محمد بن عبد الله ﷺ وصحبه الكرام الأوفياء.

     إن الأمة المسلمة اليوم، وهي تعاني متاعب كبيرة، وتحديات بالغة الخطورة، وصعاباً وعقباتٍ، وتواجه خصوماً في منتهى الشراسة والمكر، والخديعة والعنف، والغدر والخسة، ونقض العهود وإخلاف الوعود، يهدفون إلى تصفيتها تصفيةً تامة، تصفيةً جسديةً ومعنوية،.. إنها وقد كثرت عليها مؤامرات الأعداء من الشرق والغرب، واشتدت في وجهها الأعاصير الباغية الخؤون، حتى هال ذلك كثيراً من أبنائها، فسقطوا أسرى الوهن المخجل، والخوف المُقعِد، والرعب المستحكم من قوى الأعداء، والخيالات التي تزيد من قوتهم، وتبالغ في قدراتهم وإمكانياتهم،..

     إنها وحالُها كذلك في أشدِّ الحاجة إلى أن تعود إلى عِبَر الهجرة، تتوقف عندها وقفةً جادة ذكية، وتفحصها وتغوص في أعماقها، وتبحث عن دلالاتها العميقة، وتستخلص من ذلك كله، معالمَ وضيئةً بيّنة، لا عوج فيها ولا التواء، ولا لبس ولا غموض، تتخذ منها صُوَىً هاديةً مباركة في مسيرتها الصعبة الشاقة، ومشاعلَ صدقٍ ونور، تقودُ خطاها في دربها الوعر الطويل، حيث الأعداء الحاقدون يُعِدّون لها المكيدة تلو المكيدة، والشر والأذى، والمتاعب والصعاب دون أن يرعوا في ذلك إلًّا ولا ذمة، ولا وفاءً ولا حرمة، ولا قانوناً اتفق عليه الناس، ولا معنى من معاني الأخلاق والفضائل تعارفت عليه البشرية.

     إن الأمة المسلمة اليوم شديدة الحاجة لدراسة الهجرة الشريفة، وحُسنِ وعيها، والاستنارة بدروسها الهادية المباركة الرشيدة.

     إن خصوم الأمة المسلمة اليوم كثيرون بلا ريب، أقوياء أذكياء، يكيدون لها، ويَأْتَمِرون بها، ويريدون لها الشر، ويخططون للقضاء عليها، قضاءً مادياً ومعنوياً على السواء.

     وما من ريبٍ أن تدبيرهم خطير، وشرّهم كبير، ونيّاتِهم خبيثة، وإعدادَهم مكين، لكن هذا كلّه من الممكن أن يسقُط تحت إصرارِ المؤمن، وعزيمته القوية، وإيمانه الشامخ المستعلي؛ تماماً كما سقط مكر الأعداء من مشركي قريش، وبطشُهم وقوتُهم، وذكاؤهم وكثرتهم، وإصرارهم واستماتتهم في الخصومة، وعنادهم الغريب الملحاح، وهم يلاحقون المصطفى الكريم ﷺ، وهو مُجرَّدٌ من القوى المادية، معزولٌ عن أسباب القوى الظاهرة، مختفٍ في غارٍ صغيرٍ بعيد، على قمةِ جبلٍ أجردَ موحشٍ، ليس معه من البشر سوى الصِّدِّيق رضي الله عنه وأرضاه.

     لو نظر إنسانٌ بعين المادة وحدَها، وحساباتها للأشياء، وتقديرها للنتائج على ضوء المقدِّمات؛ لتوهَّم أن أمر الإسلام قد انتهى وباد، وما هي إلا لحظات حتى يصبحَ خبراً من الأخبار فحسب!.. فالرسول الكريم ﷺ في غار ثور، وأعداؤه الكثيرون الحاقدون المصمّمون على قتله وصلوا إلى فم الغار وأحاطوا به، لكنَّ عناية الله عز وجل حرست المهاجِرَيْنِ العظيمَيْن، وصرفت عنهما كيد الأعداء. ذلك أنهما فوّضا إليه جَل شأنه أمريهما بعد أن أخذا بكلِّ الأسباب المتاحة لهما، فأدّيا ما عليهما دونَ أيِّ تقصير.

     واليوم على الأمة المسلمة أن تبذلَ كلَّ جهدها، وتأخذَ بكلِّ سببٍ متاح، ثم تصدقَ في التوكل والتفويض والإنابة، يأتيها بإذن الله تعالى النصر المؤزر والفوز المبين.

*****

فجر الإسلام

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

فجر الإسلام

     ما أعظم التغيير الجذري الذي قام به رسول الله ﷺ يوم أن بُعث برسالة الإسلام، وقد استبدّت بالناس الحيرة، وفشا فيهم الانحراف، وغلبت عليهم الضلالات والجهالات، والأحقاد والسخائم، وأطبق عليهم ليل الجاهلية طويلاً ثقيلاً!.

     إن جميع المنصفين حتى من غير المسلمين يقفون أمام ذلك التغيير الجذري وقفة إعجاب وإكبار وتقدير، ذلك أنه كان تغييراً نفسياً وروحياً، شعورياً وفكرياً، عقدياً وأخلاقياً. كان تغييراً إلى الأحسن وبارتفاعٍ وسموٍّ شامخَين في كل شيء، على صعيد المبادئ والأفكار، والمشاعر والأحاسيس، والقيم والموازين، والسلوك والأخلاق، والتطبيق العملي الواقعي.. على مستوى الفرد والأسرة، والدولة والجماعة، وعلى مستوى الحضارة كذلك. وبوسعك أن تلمس ذلك في مواقف كثيرة جداً.

     تقدّم أنس بن النضر يوم أُحُد وقد انكشف المسلمون، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال أنس: يا سعد!.. الجنة وربِّ الكعبة!.. إني أشم ريحها من دون أُحُد، ثم قاتل حتى استُشْهِد، ووُجِد به بضع وثمانون ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، فما عرفه أحد إلا أخته؛ عرفته ببنانه.

     انتهى المسلمون المهاجرون في الحبشة إلى النجاشيِّ وهو جالس في مجلسه، وعمرو بن العاص عن يمينه، وكان لا يزال كافراً، وقد جاء يحرِّض النجاشيَّ على المسلمين، وعمارة بن الوليد عن يساره وقد جاء مع عمرو يشاركه مهمته، والقساوسة جلوس سماطَيْن، فبدرهم مَنْ عند النجاشيِّ قائلين: اسجدوا للملك، يعنون النجاشي، فقال جعفر بن أبي طالب، وكان المتكلم باسم الوفد: لا نسجد إلا لله.

     ذاك رجل يقاتل طلباً للجنة لأن يقينه بها أعظم بكثير من اهتمامه بهذه الدنيا الضئيلة.. وذاك رجل يأبى السجود للملك، على الرغم من أنه ومَنْ معه في موقف صعب، ذلك أن هناك محاولة جادة لإعادتهم إلى الاضطهاد. أبى السجود وهتف: لا نسجد إلا لله.

     لا نسجد إلا لله!.. كلمات تحمل معها انعتاق البشر من كل عبوديات الدنيا لِتَخْلُصَ عبوديتهم لله العلي القدير وحده. إنه التوحيد الإسلامي الذي لا يماثله توحيد آخر قط. إنه التوحيد الذي جعل غوستاف لوبون يقول: "وللإسلام وحده أن يباهي بأنه أول دين أدخل التوحيد إلى العالم"، ويقول "وتُشْتَقُّ سهولة الإسلام العظيمة من التوحيد المحض، وفي هذه السهولة سر قوة الإسلام".

     وهكذا كان الجيل الإسلامي الأول، صياغةً ممتازةً، وتربيةً عاليةً، أينعت أحسن الثمار، وأحدثت في تاريخ البشرية أكرم تغيير جذري بناءً على شتى المستويات، وفي كل المجالات.

*****

التكافل الاجتماعي في الإسلام

الفصل الأول: مولد الرسول ﷺ وعظيم خلقه .. تأملات في بعض المعاني

التكافل الاجتماعي في الإسلام

     رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً كبيراً في السوق يسأل الصدقة، فقال له: ما أنت يا شيخ؟ قال: أنا شيخ كبير أسأل الجزية والنفقة. وكان يهودياً من سكان المدينة المنورة، فإذا بعمر، المسلم العظيم، يقول له: ما أنصفناك يا شيخ!.. أخذنا منك الجزية شاباً، ثم ضيعناك شيخاً، وأخذ بيده إلى بيته، فرضخ له ما كان من طعامه، ثم أرسل إلى خازن بيت المال يقول: افرض لهذا وأمثاله ما يغنيه ويغني عياله.

     إن معنى الرحمة في هذه الحادثة واضحٌ بيّن، مضافاً إلى معنى العدل، وهما صفتان كبيرتان، من أهم ما تُبنى عليهما الحضارات من حيث العلاقات الاجتماعية، وحسن الصلة بالرعايا على اختلاف ما هم عليه.

     تتضح الرحمة في عناية عمر رضي الله عنه باليهودي العجوز حتى ليأخذه بيده إلى بيته هو ليقدم له شيئاً مما فيه من طعام. أما العدل فإنه يتضح إذ يعلن لليهودي أنه ليس من الإنصاف قط أن تؤخذ الجزية منه وهو شاب فتي، ثم يُهمَل ويضيع وهو شيخ عجوز، ويتضح كذلك في مسارعة تطبيق العدل من بعد إنصافه، حين يبعث عمر إلى خازن بيت المال ليفرض لهذا اليهودي منه، ما يغنيه ويغني عياله، فإن هذا الشيخ العجوز وإن كان يهودياً إلّا أنه واحد من رعايا الدولة المسلمة، لذلك عليها أن ترعاه وتتدبر أموره، ولذلك لم يفرض له ما يسد حاجته فحسب، بل وما يغنيه إلى جانب ذلك، ثم اتسع الخير والبر والعون، فشمل إلى جانب اليهودي عياله، وامتد أكثر وأكثر، فشمل جميع أهل الذمة ممن هم على شاكلة هذا اليهودي العجوز.

     لقد دلت هذه الحادثة من جملة ما دلت عليه، على خلقي الرحمة والعدل في شخص الخليفة العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي طبيعة المجتمع المسلم والحضارة الإسلامية، وهذا هو الذي نحب أن نَخلص إليه مما سقناه من حديث، لنقرر على ضوئه جدارة الأمة المسلمة بالوصاية على الناس، والقوامة على الجماعات البشرية، لأن جميع الناس من مسلم وكافر، بوسعهم أن يعيشوا حياة هادئة كريمة في ظلال من الأمن والرحمة، والعدل والتكافل، تقررها العقيدة الإسلامية بادئ ذي بدء، وتقننها وتفصلها الشريعة الكريمة الطهور، وينفذها أولو الأمر والسلطان، ويسهر على رعايتها وحراستها المسلمون كلهم حكاماً ومحكومين، علماء وقادة، مسؤولين وعاديين.

     لقد كان عمر رضي الله عنه، مثالاً كريماً لهذه المعاني العِذاب الوضاء جميعاً، فلقد جمع إلى حزمه المشهور، وصرامته في الحق، رحمة متناهية بالضعفاء والمساكين، وإحساساً رهيفاً جداً بضخامة المسؤولية التي ألقيت على عاتقه.

     وإنه لرائع جداً أن ننتقل من قصة عمر مع اليهودي إلى قصة أخرى مع فتاة تطيش هزالاً رآها ذات يوم في سكك المدينة المنورة، تقوم مرة وتقع أخرى، فقال وقد رقَّ لحالها، وحزن لها أشد الحزن: يا حوبتها!.. يا بؤسها!.. من يعرف هذه منكم!؟ فقال له ابنه عبد الله: أما تعرفها يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، قال: هذه إحدى بناتك!.. قال عمر: وأيّ بناتي هذه؟ قال: هذه فلانة بنت عبد الله بن عمر، أي ابنته هو. فقال عمر: ويحك، وما صيّرها إلى ما أرى؟ قال عبد الله: منعُك ما عندك. فقال عمر: إنك والله ما لكَ عندي غير سهمك في المسلمين وسعك أو أعجزك، هذا كتاب الله بيني وبينكم.

     إنه ما يغيب عن المرء وهو يتأمل في هذه الحادثة الفذة ما في الخليفة العظيم من أخلاق تبدو متناقضة وما هي بمتناقضة!.. فالرحمة تمتلك قلبه حتى يهتف إذ يرى الفتاة تقوم وتقع: يا حوبتها!.. يا بؤسها!... يهتف بهذا القول الذي يدل على حزن بالغ، ورقّةٍ شديدة، وحنان عميق، ورحمة واسعة لا تكلف فيها ولا تصنّع. لكن هذه المشاعر الرحيمة كلها، ما كانت لتخرق عنده الميزان الذي يتعامل به مع ولده ومع الآخرين، ولذلك يهتف بولده عبد الله وهو والد الفتاة، بعد أن تنكشف له الأمور بجلاء: إنك والله ما لكَ عندي غير سهمك في المسلمين وسعك أو أعجزك!

     أهو تناقض يا ترى!؟ لا.. ليس هو بتناقض قط، لكنه خلق الرحمة في عمَر الإنسان يتدفق فيحنو على هذه الفتاة، ثم هو خلق الإحساس بالمسؤولية في عمر العادل يمتلك عليه الموقف، فيقيم الميزان الراشد الذي لا يسمح بأن يعطى أحد من الناس أكثر مما يستحق.

     تُرى أثمة أي مبالغة إن قلنا: إن حضارتنا أعظم الحضارات وأكرمها إنْ على مستوى المبادئ، وإنْ على مستوى التطبيق!؟

*****

الأكثر مشاهدة