الاثنين، 24 يناير 2022

عبد الله بن المبارك بين المحراب والحراب

عبد الله بن المبارك بين المحراب والحراب

     كان طرازاً فريداً ممتازاً بين الناس، فقد اجتمعت له فضائل نادرة، يعظُم الإنسان إن أصاب بعضها، فكيف إذا امتلكها جميعاً!؟ علمٌ واسعٌ غزير، وزهدٌ شامخٌ عجيب، وورعٌ وتقوى، فضلاً عن جهادٍ بالنفس في سبيل الله.

     كان من أرباب السيف، كما كان من أرباب القلم، كان إماماً في ساحة الجهاد، كما كان إماماً في محراب المسجد، قال عنه ابن كثير: كان كثير الغزو والحج، ولقّبه الذهبي بفخر المجاهدين، وكان يحج سنة ويغزو مرابطاً في سبيل الله سنة أخرى، وقد أدركته الوفاة وهو منصرف في بعض الثغور الإسلامية.

     دهر طويل أنفقه في عمل جليل هو تعليم الناس وإرشادهم، وذلك في دروس الحديث والفقه، والتفسير والعلوم الأخرى. لكنه لم يكتفِ بذلك، فقد أنفق دهراً طويلاً آخر في عمل جليل آخر هو الجهاد في سبيل الله، وبذلك جمع بين اللسان المؤمن وبين السيف المؤمن فكان إماماً في الحالين.

     وحتى حين يكون مرابطاً مجاهداً كان لا ينسى أن يعلِّم الناس العلم والحديث، فكان إذا وصل إلى الثغر اجتمع المجاهدون حوله يتعلمون منه العلم، ويكتبون عنه الحديث، كما يتعلمون منه الشجاعة.

     كان حبه للجهاد قد ملَكَ عليه نفسه، فكان يحث الناس عليه، ويبيّن لهم أن العبادة تحت ظلال السيوف المجاهدة في سبيل الله، خير منها حيث الأمن والاطمئنان، وأبياته التي أرسلها إلى صديقه الفضيل بن عياض مشهورة، يقول فيها:

يا عــابد الحرمين لو أبصـرتنا     لعــلمت أنك بالعبـــــادة تلعـب
من كان يخضب جيده بدموعه     فنحورنـــا بدمائنـــا تتخضــب
أو كان يتعب خيـــله في باطل     فخيــولنا يوم الصبيـحة تتعــب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنـا     رهج السنابك والغبــار الأطيب
ولقد أتـانــــا من مقــــال نبينــا     قول صحيح صـادق لا يكـذب
لا جمع بين غبار خيـل اللّه في     أنف امرئ ودخان نـــار تلهب
هذا كتــــاب اللّه ينطـق بيننــــا     ليس الشهيـــد بميــت لا يكذب

     ولما قرأ الفضيل هذه الأبيات بكى وذرفت عيناه الدموع، وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح.

     أتدري من هو هذا الرجل العظيم؟ إنه الإمام الجليل عبد الله بن المبارك رحمه الله رحمة واسعة.

     خرج مرة مجاهداً في ديار الروم، فبرز رومي شجاع قتل ستة من المسلمين وهو يبارزهم حتى لم يخرج إليه أحد، فلما رأى عبد الله بن المبارك ذلك برز إليه فقتله وقتل ستة من الكافرين سواه، ثم عاد إلى مكانه الذي كان فيه هادئاً كأنه لم يفعل شيئاً.

     ومن أعظم مواقفه التي تكشف نفسيته الصادقة المؤمنة الكبيرة، أنه كان إذا حضر القتال أبلى فيه أحسن البلاء، فإذا جاء وقت اقتسام المغانم غاب عن أخذ نصيب منها.

     أيها الإمام المحدث المجاهد، إن النفوس معادن، منها النفيس ومنها الخسيس، وأنت معدن نفيس أصيل، ونفس حرة نبيلة، وكرم وإباء، وصدق وصفاء، وبطولة وفداء.

     إن موقفك هذا يذكر بالأنصار الكرام، كتيبة الإسلام الأولى المؤمنة المتفانية في نصرة هذا الدين، أولئك النبلاء الأوفياء الذين كانوا يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع، فأنت تحذو حذوهم، تغشى الوغى وتقف عند المغنم.

     لقد آثرت الجهاد على القعود، والمشقة على الراحة، والنصب على الدعة، والجوع على الشبع والظمأ على الري، والإيثار على الأثرة، ولنعم ما اخترت أيها العالم المحدث المجاهد!.

     أما صدرك الذي تخضّب بالدم، فإنه شارة عز، ووسام بطولة، وإنه شاهد صدق يكشف عن نفسك التي هانت عليك في سبيل الله.

     إن طاب لبعضهم لون من ألوان العبير، فإن عبيراً آخر قد طاب لك، فهو عندك أزكى وأروع وأمتع، ذلك أنه غبار المعارك إذ تشتد فترخص الأبطال نفوسها طلباً لجنة عرضها السماوات والأرض.

     وإن طاب لآخرين أن تظل خيلهم في لهو وتسلية، فأنت والأبطال المجاهدون، تتعب خيولكم من الكر والفر في ساحة الجهاد.

     تحدثوا عن كرمك فكان أعجوبة في البذل والسخاء، وتحدثوا عن زهدك فكان قمة في الرفعة والشموخ والأصالة، لقد زهدت وأنت غني وافر المال تسير القوافل في تجارتك الواسعة، فكان زهدك زهد القادرين لا زهد العاجزين، وزهد الأغنياء لا زهد الفقراء. وإليك هذه الأبيات لعلها تليق بك:

سموتَ على الطين حتى عظمتَ     فـأدركتَ مجــــداً عظيم البنــــاءْ
وجــاهدتَ حتى حميـتَ الثغــور     وأَرْقَلْتَ[1] ترجو كريم الثـــواءْ
وأنت المجــــــاهد إن أَقْبَــــــلَتْ     جيــــوش البغــاة تسد الفضــــاءْ
وكـل الفضـــــائل قــد نـلتــــــها     فــأنت الصفـــــاء وأنت السنــاءْ
فجـــودٌ كما يسـتطــــاب النــدى     وبــذلٌ كما يسـتطــــاب العطـاءْ
وزهــدٌ أبيٌّ نبيــــــلٌ شـــــمـوخٌ     وطهــــرٌ يضـــوع نـديُّ الرواءْ
*****
----------------
[1] أَرْقَلْتَ: أسرعت.

تركة صلاح الدين الأيوبي

تركة صلاح الدين الأيوبي

     ما الذي خلَّفه صلاح الدين بعدَ موته؟ ماذا ترك لأولاده من دارٍ ومالٍ وأثاث وأرض؟ أكثيرٌ ما خلَّفه أم قليل؟

     أسئلةٌ اعتاد الناس أن يبحثوا عن إجابتِها، بعد موتٍ يباغتهم فيختار واحداً منهم ليودّعَ الدنيا. قد يسارعُ الناس إلى هذه الأسئلةِ وقد يتأخرون، قد يحرصون على معرفة الإجابة وقد لا يحرصون، قد يلحّون في الأمر وقد لا يلحّون، لكنَّ يوماً قادماً بعد هدوء الأحزان، لا بد أن يحمل مثل هذه التساؤلات.

     وحين مات يوسفُ بعد عُمْر أمضاه في الجهاد، حقق فيه انتصارات عظيمة، وجاس فيه خلال ديار الأعداء، وتدفقت بين يديه كنوز من الأموال والنفائس، ونوادر التحف، وعجيب المغانم، تساءل الناس عما خلّف من مال؛ فكان الجواب: لقد ترك ديناراً واحداً وسبعة وأربعين درهماً.

- يا حامل هذا النبأ أجادٌّ أنت أم هازل؟

- بل هو جادٌّ تمام الجد، ليس في حديثه موضع للهزل أو السخرية. ذلك المال فقط هو ما تركه يوسف بعد موته.

- يا حامل هذا النبأ أما خلّف يوسف شيئاً آخر سوى هذا الدينار والدراهم السبعة والأربعين؟ أما خلّف داراً أو عقاراً أو أرضاً؟

- لا، إن يوسف لم يخلّف شيئاً آخر قط، ما خلّف أرضاً، ولا داراً ولا عقاراً، خلّف ديناراً واحداً وسبعة وأربعين درهماً فحسب.

- أعرفت من يوسف هذا؟

     إنه يوسف بن أيوب، صلاح الدين الأيوبي، المجاهد المسلم العظيم، والفاتح الموفق المنصور، وقاهر الصليبيين.

     صلاح الدين هذا، ما خلّف شيئاً سوى ذلك، حتى لقد أُخرِجَت جنازته بالدَّيْن كما يقول القاضي بهاء الدين بن شدّاد.

     حسب القاضي تركة هذا الرجل العملاق الذي جاءته مغانم وأموال لا يمكن للناس إحصاؤها. ذلك أنه بسط سلطانه على رقعة واسعة من العالم الإسلامي، شاسعة وغنية، كما أنه انتصر في حروب كثيرة جاءه فيها سيل دفّاق من المغانم الوفيرة.

     سلطانه امتد؛ فإذا به يشمل الشام كلها إلا ما كان منها بيد الصليبيين، وقسماً كبيراً من العراق، ومصر كلها، فضلاً عن الحجاز واليمن، وأجزاء أخرى في أفريقية، سلطان واسع شاسع يغطي أراضي كان جزء يسير منها تقوم عليه دول وحكومات، وترتفع عليه أعلام ورايات، ويحكمه رجال ينتحلون شتى الألقاب والشارات.

     جزء يسير مما اشتمل عليه نفوذ صلاح الدين، لو ملكه أحدهم لتوهّم نفسه صاحب سلطان وصولجان، ولأعد منه الجيوش الوفيرة ذوات العدد، ولأكّد لنفسه وللآخرين أنه موفّق أبعد التوفيق، مسدَّدٌ أعظم التسديد، أسعفته المُنى، وسارعت إليه الآمال، فهو شاكر للزمان أياديه البيضاء، فرح مسرور بما آل إليه أمره، ينتظر مقدم الشعراء ليصوغوا فيه أعظم القصائد.

     هذا الجزء الصغير الذي كان قميناً بهذا كله؛ كان لا يعدو أن يكون ولاية ربما صغرت ونأت في مملكة صلاح الدين الممتدة العظيمة، ومع هذا حين مات هذا العملاق المسلم المجاهد، خلّف ديناراً واحداً وسبعة وأربعين درهماً، وأُخرِجت جنازته بالدَّيْن كما يقول القاضي بهاء الدين بن شداد.

     ذلكم أمر سلطانه الممتد، أما المال الذي جاء إلى يديه العفيفتين، وأما المغانم التي تدفقت من حروبه الموفقة المنصورة كالسيل العرم الزاخر، فشيء يفوق التصوّر، ذلك أنه وضع يده على مصر الفاطمية، وكانت في الغِنى أمراً بالغ الدهشة، ثم وضع يده على بلاد أخرى مر بك ذكرها، هي في الخصب والعراقة والغنى تاريخ حي عظيم، وفي فتحه للقدس عام 583هـ، وفي معركة حطين من قبل ذلك وضع يده على أموال هائلة طائلة، من المغانم التي اكتسبها، ومن الفداء الذي دفعه الأسرى. ومع هذا كله، ما ترك حين مات لا داراً ولا عقاراً، ترك ديناراً واحداً وسبعة وأربعين درهماً فحسب، وأُخرِجت جنازته بالدَّيْن كما يقول القاضي بهاء الدين بن شداد.

     أيها السلطان المجاهد، ما تركته -والله- أبقى وأخلد، وأعظم وأروع، وأسمى وأنبل، من كل ما تركه غيرك من الذين شُغلوا بجمع الأموال وتكديسها، وامتلاك الأراضي وتشييدها، أيّاً كانت فعلتهم، من حلال أو حرام، من شح أو جود.

     ستظل سيرتك أعجوبة الإيمانِ حين يتّقد، والنفسِ إذ تصفو، والإخلاصِ إذ يمتلك كرام الرجال فيرتفع بهم إلى مصاف الأبطال. وأستأذنك في إهدائك هذه الأبيات:

يـا إمامــــاً رفــــــــــع الله به     دولة الحق ومجد المســـلمينْ
أنت عنـــــوان لروحٍ طــاهرٍ     أيّـــد الله به درب اليقيـــــــنْ
رفرفـــت رايــــــاته خفـــاقةً     ومضت أخباره في العـالمينْ
تنشر الهدي وتُعــــلي صوتَه     واحة التائه، مأوى الحـائرينْ
كــل إرثٍ في البرايــــا زائلٌ     غير تقوى الله والحق المبيـنْ
والذي خـلّفتَـــه لمَّـــا يــــزلْ     عبرة الأبرار تسـمو كل حينْ
*****

الأحد، 23 يناير 2022

إسلام جرجة يوم اليرموك

إسلام جرجة يوم اليرموك

     استبد القلق بالإمبراطور البيزنطي هرقل، إذ رأى جيوشه تتراجع مهزومة مذهولة أمام كتائب المسلمين. استبدّ به القلق، وكثرت عليه الهواجس، فهو محزون كئيب لا يستقر به مقام، ولا يصفو له حال.

     من الناحية المادية، جيشه أكثر من جيش المسلمين أضعافاً مضاعفة، ومن الناحية العددية أكثر سلاحاً وأوفر طعاماً، وأقطع سيوفاً، وأغنى زاداً من المسلمين أضعافاً مضاعفة.

     ثم إنَّ جيشه خبير بالشام ومسالكها، ومدنها ودروبها، وعشائرها وزعمائها من هؤلاء الطارئين الذين كانوا تائهين في جزيرتهم، ضعفاء متفرقين، فإذا بهم من بعد هذه الرسالة التي ظهرت فيهم أمة أخرى عجيبة. ومع هذا كله تهزم جيوشه وتتراجع، بينما تنتصر جيوش المسلمين وتتقدم، وهذا كان سبب ما استبد به من حزنٍ مُضنٍ عنيف.

     وأخيراً قرر إخراج جيش هائل، يحشد له إمكانيات الدولة جميعاً، يقذف به في وجه هذه الأمة الغازية الطموحة على أمل إيقاف زحفها على الأقل، إن لم يكن النصر الغالب، وهكذا كان.

     وفي اليرموك التقى الجيشان، الجيش الرومي الذي أرسله هرقل بقيادة "ماهان" والجيش المسلم الذي أرسله عمر بن الخطاب، وله عدة قواد، غير أنهم اتفقوا جميعاً على تأمير خالد بن الوليد في ذلك اليوم العظيم.
* * *

     كان من قواد ماهان رجل اسمه "جُرْجَة"، وكان قد سمع الكثير عن خالد وعبقريته العسكرية الرائعة، ففكر في أمره كثيراً، ثم أجمع على أمر غريب، لقد دعا خالداً للبروز إليه في إحدى فترات الراحة بين القتال، فبرز إليه خالد، وكان من أمر جرجة بعد ذلك ما هو حافل بالإثارة والإعجاب.
***

مشهد تمثيلي (1)
الشخصيات: جرجة – رجل مسلم – صوت

- جرجة "بأعلى صوته": يا خالد، ابرز إليَّ، فأنا جرجة عَوْنُ ماهان وساعده الأيمن في قتالكم.

- رجل مسلم: كما تريد أيها الرومي! عمّا قليل يبرز إليك أميرنا خالد بن الوليد.

- جرجة: إني منطلق إليكم "صوت انطلاق جواده، ووقع الحوافر".

- الرجل المسلم: وهاهو خالد ينطلق إليكم "صوت انطلاق جواده، ووقع الحوافر".

(صمت قصير)

- جرجة "في صوت حازم": يا خالد، اصدقني، ولا تكذبني، فإنَّ الحُرَّ لا يكذب، هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء، فأعطاك إياه، فلا تسلّه على أحد إلّا هزمته؟

- الصوت "في هدوء": وبكل ثقة هدوء يقول خالد: لا.

- جرجة: فيمَ سُمِّيتَ سيف الله إذن!؟

- الصوت: ويرد خالد بهدوئه وثقته على سؤال جرجة فيقول له: إنَّ الله بعث فينا رسوله، فمِنّا مَنْ صدّق، وِمنّا من كذّب؟ وكنتُ فيمن كذَّب، حتى أخذ الله قلوباً للإسلام وهدانا برسوله فبايعناه، فدعا لي الرسول بالنصر، وقال لي: "أنتَ سيف من سيوف الله"، فهكذا سُمِّيتُ سيفَ الله.

(صمتٌ قصير)..

- جرجة: وإلامَ تدعون؟

- الصوت: ويرد خالد فيقول: إلى توحيد الله وإلى الإسلام..

(صمت)..

- جرجة: هل لِمنْ يدخل في الإسلام اليوم مثل ما لكم من المثوبة والأجر؟

- الصوت: ويرد خالد فيقول له: نعم وأفضل..

(صمت).. (ويندهش جرجة)

- جرجة: كيف وقد سبقتموه؟

- الصوت: فيقول له خالد: لقد عشنا مع رسول الله ورأينا آياته ومعجزاته، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم في يسر، أما أنتم فإن أجركم أجزل وأكبر، إذا صدقتم الله سرائركم ونواياكم.

(الصوت يتابع حديثه بصوتٍ عالٍ فخور).

     جرجة "يصيح وقد دفع جواده إلى ناحية خالد ووقف إلى جواره": علمني الإسلام يا خالد.

     وأسلم الرجل وصلى لله ركعتين لم يُصلِّ سواهما.
***

مشهد تمثيلي (2)

الشخصيات: جرجة – رجل مسلم

صوت المعركة عنيفاً شديداً، وقع حوافر الجياد، صهيلها، السيوف وصليلها، صراخ الفرسان.

- جرجة "بأعلى صوته": يا معشر المسلمين، الثباتَ الثباتَ تُنْصَروا، أنا جرجة الرومي، إليَّ إليَّ نُلقِ أنفسنا في قلب المعركة.

- الرجل المسلم "بأعلى صوته": يا معشر المسلمين، لَنِعم ما انتدبكم إليه أخوكم جرجة.. "صمت".. يا جرجة أنا معك، هيا بنا.

"صوت انطلاق الجوادين"

- جرجة "بأعلى صوته": بالأمس قاتلتُ مع الروم، واليوم مع المسلمين، والله لأصدُقنَّ الله الجهاد. (حفيف سهم) وَيْ!.. أُصِبتُ والله، فُزتُ والله، (يهدأ صوته): أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
*****

إسلام الهُرْمُزان

إسلام الهُرْمُزان

     اتسعت الفتوح الإسلامية في أيام عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه، وامتدت امتداداً واسعاً، ومضى المسلمون كالسيل الأَتِيِّ يقتحمُ كلَّ ما في طريقه، ويمضي مسرعاً صوبِ غايتهِ دون إبطاء.

     كانت الجيوش المسلمة تعودُ بالظفر والغَلَبةِ والتمكين، وكان عمرُ، رضي الله عن عمر، يدبر أمورَها وأمورَ المسلمين من مقره في المدينة المنورة.

     وذات يوم وقع فارسي كبير أسيراً بين أيدي المسلمين الذين حملوه إلى المدينة المنورة ليحكم فيه الخليفة عمرُ بما يشاء. ذلك الأسير هو الهُرْمُزان وهو أحد قادة الفرس الكبار، وأحدُ الذين أبلَوا في حرب المسلمين وقاتلوهم بعناد وإصرار.

     جيء بالهُرْمُزان أسيراً، وهو قائد وحاكم، وأمير ومقاتل، وهو فارسي مُغْرِق في الفارسية، له في قومه مكانة وأهمية وخطر، لكن عمر رضي الله عنه شديد في الحق لا يعرف بجانبه ما يقيم له الناس وزناً وأهمية من عادات وتقاليد. لقد كان كالسيف المصلت لا يبالي إذا ما نزل ما الذي يقطعه أو يَفْصِمه ما دام الحق يقضي عليه بذلك.

     دعا الهُرْمُزان إلى الإسلام فأبى الهُرْمُزان ذلك، وظل متمسكاً بخرافات دين المجوسية، فاشتد ذلك على عمر، أيرفضُ هذا الأسير دين الإسلام وهو نور وشفاء، وهداية للبشرية التائهة الحائرة الضاربة في أعماق الشقاء، شقاء الجاهلية؟ أينأى عن الحق وقد دُعِيَ إليه؟ أليس له عقل رشيد يقارن به بين دين الإسلام وبين المجوسية؟ أيرفض الهُرْمُزان دين الإسلام تسوقه قحة وكبرياء؟ هل غرّته منزلته الكبيرة في قومه فأدخلت على نفسه الصلف والغرور والنأي عن الحق البيّن الصريح؟ يا ويح الهُرْمُزان لماذا لا يسلم.. لماذا!؟

     وعاد عمر رضي الله عنه يطلب من الأسير الفارسي الكبير أن يدخل في الإسلام، وعاد الهُرْمُزان يأبى ذلك في عناد وإصرار.

     وتذكر عمر قوة هذا الأسير وجبروته وحروبه الطويلة ضد المسلمين، وانتقاضه عليهم الكرّةَ تِلْوَ الكرّة، تذكر ذلك ورآه بين يديه أسيراً لا حول له ولا طول قد وقع بين أيدي المسلمين دون شرط له عليهم سوى أن يُساق إلى عمر ليرى رأيه فيه.

     إنه أسيرٌ لم يؤتَ أماناً، وليس له عقد ولا شرط، وهو يصر على كفره وباطله، إذن فالقتل هو ما يستحقه هذا العدو القويُّ الماكر، الصادُّ عن دين الله، الثابت على جهالة المجوسية وسخافتها وتفاهتها. وأمر الخليفة العظيم، العادل الحازم أن يُقتل الهُرْمُزان.

     أصاخ الهُرْمُزان إلى حكم عمر في دهشة وخوف، لكنه كان رجلاً عركته الأيام، وتقلبت به الدنيا، فهو ثابت القلب، رابط الجأش، رزين قوي، لذا لم يقابل حكم عمر بضعف أو خَوَر، فما ذاك من طبيعته، إنه رجل مجرِّب وله عقل ذكي أريب، وفؤاد فطِن لبيب، وبديهة وقّادة جيّاشة، ترى هل يسعفه ذلك في هذا الموقف الصعب العصيب؟ أيُسلِمُ يا ترى لينجو من القتل؟ لكنه إنْ أسلم فإن لقائل أن يقول: أسلم خوفاً من القتل، ولم يسلم عن رغبة في الإسلام صادقة.

     وطَفِقَ الهُرْمُزان يُعْمِلُ عقله، ويحرك ما سكن من ذكائهِ وفطنَتهِ، وهو موقِفٌ يَشُقُّ فيه التفكيرُ الهادئُ المنظَّم، فالحكمُ بالموتِ قد صدر، والسيفُ على رأسه يكادُ يَهْوي به ولم يبقَ سوى لَحَظات.

     وهتف الهُرْمُزان بأمير المؤمنين عمر يطلبُ منه شَربةَ ماء قائلاً: إذن ذلك خير من قتلي على الظمأ!.

     ووقعت هذه الكلماتُ من عمرَ في أحسنِ مَوْقِع، فهو رضي الله عنه، على شِدَّته وحَزْمِه رقيقُ القلب، رحيمٌ شفوق، ومن يدري فربما يعيدُ الأسيرُ النظرَ في مَوْقِفِه فَيُسْلِم، لذا سارعَ يأمرُ للهُرْمُزان بشَرْبَة ماء كما كان قد طلب.

     أمسك الأسيرُ الإناءَ بين يديه، ونظرَ إليه وأطالَ النظر، وفي نفسِه ضِرامٌ مُتَّقِد، وفي نفس الخليفةِ ترقّبٌ وانتظار، والجمعُ من حَوْليهِما ساكنٌ صامتٌ ينتظر نهايةَ المَشْهَد.

     ورد الأسيرُ إناءَ الماء عن فمهِ ولم يشربْ منه قطرةً واحدةً، وسأل الخليفة: أنا آمنٌ حتى أشرب!؟ قال الخليفة العظيم: نعم، عندها ألقى الهُرْمُزان الإناءَ من يديه، فسال الماء على الأرض، وقال لعمر -وهو ينظرُ إليه في ثقة وهدوء، وَتُؤَدَة وعزة نفس-: "الوفاءُ نورٌ أبْلَج". وسكت عمر، وسكت الهُرْمُزان، وسكتَ الجمعُ من حولِهما، وساد المكانَ صمتٌ مشوبٌ بكثيرٍ من التوجُّسِ والترقُّبِ والانتظار.

     ما الذي يريدهُ هذا الأسيرُ الفارسي!؟ أهي حيلةٌ يريدُ أن ينجُوَ بها من القتل!؟ ولكن هل في مُكْنَتِه ذلك!؟ لقد نال الأمانَ حتى يشربَ؛ فهل يمكنُ له أن يَظل بلا شُربٍ مدةً طويلة!؟ إن هذا الفارسي ذكيٌّ داهيةٌ، ولكن ما عسى أن ينفَعَهُ ذكاؤهُ سوى أن يؤجِّلَ القتلَ عدةَ أيامٍ حتى يستبدَّ به العطشُ فإن شرِبَ فقد زال عنه الأمان.

     وعرف الأسير أنه ليس مقتولاً الآن، وأن ما سلكه قد هيّأ له سبيل النجاة إلى حين، ورُفِع السيفُ عن رأسه، فأبرقت عيناه بالفرح والسرور. إنه يستطيع الآن أن يختار، وهو إن فعل ذلك فليس لأحد أن يتهمه بأنه فعل ما فعل رغبة في النجاة من القتل، فهاهو قد نجا منه إلى حين بلباقته وذكائه، وحسن تصرفه في الموقف الصعب الذي كاد يطيح برأسه.

     لقد كان الموت واقفاً على رأسه، فلم تكن له إرادة، بل كان الإكراه والخوف والرهبة، أما الآن وقد صار إنساناً له رأي لا يشوب فِعْلَهُ شائبة، ففي مُكنتِه أن يحقق الأمل الذي يرجوه، وأن ينال خيرين معاً في وقت واحد: أن ينجو من القتل، وأن يُسلِمَ دون أن يكون في إسلامه مجال لِمُؤَوِّلٍ أو مُتَقَوِّل.

     كان الهُرْمُزان قد عزم في سره على الإسلام، لكنه أراد أن يتخذ إليه هذا الأسلوب الذكي الحكيم، وهكذا كان. فقد قطعَ الصمتَ الذي ران على الجمع صوتُ الأسير الفارسي وهو يردد: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله".

     وبُهِتَ الحاضرون وفرحوا، وسادَ الجوَّ نوعٌ من الإعجاب والصمت والدهشة والانتظار. لقد عصمَ الأسيرُ دمَهُ الآن ونجا من القتل، بل إنه الآن أخٌ لهؤلاء في الإسلام له ما لهم، وعليه ما عليهم.

     وطفقَ الأسير الذكي الأريب ينظر في وجوه القوم مِن حوله يحاول أن يستقرئ من ملامحها وأساريرها ما الذي يجول في أفئدة أصحابها من مشاعر وخواطر، وظلَّ يتمعَّن في ذلك بهدوء وثقة، وصمتٍ واعتداد حتى سمع قول عمرَ يخاطبه: "ويحك! أسلمتَ خيرَ إسلامٍ فما أَخَّرك؟" قال الأسير الذكي: "خشيتُ يا أمير المؤمنين أن يقالَ: إن إسلامي كان جزعاً من الموت".
*****

أبو موسى الأشعري والبصري

أبو موسى الأشعري والبصري

     كان رجل من أهل البصرة، ذو شدة وقوة، وعزة وإباء، ونكاية في العدو بالغة ماضية، يعمل مع أبي موسى الأشعري والي البصرة من قبل الخليفة العظيم عمر بن الخطاب.

     ولأمرٍ ما حدث خلاف بين صاحبنا وبين أبي موسى.. ولأمر ما جلده أبو موسى عشرين سوطاً، وحلق له شعره، إمعاناً في العقوبة والتأديب.

     لكنّ صاحبنا لم يكن من النوع الهيّاب الوجل، لقد كان يعرف قدر نفسه، ويعرف عدل الإسلام وسماحته، حيث ضمِن لكل فرد حريته في حدود الشريعة السمحة. إنه دين الإباء لا الخنوع، والعدل لا الجور، والسماحة لا العدوان.

     لقد امتلكه الغيظ، واستبدّ به الألم.. فقد رأى أن أبا موسى قد جاوز قدره، وظَلَم.. وأنزل به عقاباً لا يستحقه.

     إذن فليذهب إلى المدينة المنورة، وليعرض ظُلامته على عمر بن الخطاب نفسه، ولينظر بماذا يحكم.. فهو عادلٌ أمين، لا يحابي في الله أحداً قط كائناً مَنْ كان.
* * *

     وجمع الرجل شَعْره وهو حزين النفس، منقبض الصدر، مكلوم الإباء، جريح الكرامة، ومضى يحث خطاه إلى المدينة المنورة ليطرح شكواه بين يدي الخليفة نفسه.

     لقد حفظ الإسلام لكلٍ كرامته وعزته، وربّى فيه الإباء والترفع، وصان له شخصيته أن تُهان، وحاط له حقه أن يذل، فلا بد له إذن من طلب حقه، ولو كان خصمه والي البصرة أو غيره، فالحق أكبر من الجميع.

     والتقى صاحبنا بالخليفة العظيم، وإلى جواره يجلس المجاهد الشهم جرير بن عبد الله البجلي الذي حدثنا فقال: كنتُ أقرب الناس حينذاك من عمر، فأدخل الرجل يده، فاستخرج شَعْره في غيظ، ثم ضرب به صدر عمر بن الخطاب!..

     ولا بدَّ أن جلساء الخليفة ذهلوا لهذه الجرأة الغريبة، لكن الخليفة العظيم لم يتغير قط. ما ثار في وجه الرجل.. ذلك أنه توقع أن يكون قد فعل ما فعل تحت وطأة ظلم قاساه، أو جور حدث له، فهو موتور متألم.. وهو كذلك معذور.

     قال الرجل: "أما والله لولا..."، وسكت ولم يتم كلامه.. فقال عمر في حِلم وأناة: "صدق؛ لولا النار..". لقد أدرك عمر أن في الرجل عزة وإباء ورجولة.. كانت حَرِيّةً أن تدفعه إلى البطش بأبي موسى، لولا خوف من الله عز وجل، جعله يحسب حساب النار وأهوالها.

     قال الرجل: "يا أمير المؤمنين إني كنت ذا صوت ونكاية في العدو.." ثم مضى يقص الأمر حتى قال: ضربني أبو موسى الأشعري عشرين سوطاً وحلق رأسي، وهو يرى ألا يُقْتَصَّ منه.

     وأعجب الخليفة العظيم بهذا الرجل الأبيّ الذي لو كثر أمثاله في الناس لما تجرَّأ أحدٌ على الطغيان!.. ذلك أن وجود الجبناء الأذلاء هو الذي يصنع بطش الطغاة، وظلم المتجبرين. فالطغاة لا يولدون طغاة، إنما يصنعهم ضعف النعاج.

     قال عمر معجباً بالرجل، معتذراً عنه: "لأن يكون الناس كلهم على صرامة هذا، أحب إليَّ من جميع ما أفاء الله عليّ". ثم كتب إلى أبي موسى الأشعري يقول له: "فإنْ كنتَ فعلت ذلك في ملأ من الناس فعزمت عليك لما قعدت له في ملأ من الناس حتى يقتص منك، وإن كنت فعلت ذلك في خلاء من الناس فاقعد له في خلاء من الناس حتى يقتص منك".
* * *

     ومضى الرجل يحث الخطى إلى البصرة، ودفع كتاب الخليفة إلى الوالي وانتظر. وأسقط في يد أبي موسى، وعلم أن الحق أكبر منه وأعظم.. وفكّرَ وفكرّ، ثم أذعن للحكم العادل، وكان يوماً مشهوداً!..

     اجتمع الناس ليشهدوا منظراً عجباً.. وسُرَّ كثيرون بالعدل يأخذ مجراه، وفرحوا بشريعة الله تعلو على الجميع، لكن كثيرين آخرين ودّوا لو أن الرجل يعفو ويصفح، لذا أحاطوا به يطلبون منه التنازل والسماح، ويذكِّرونه بأبي موسى ومكانته الكبيرة بين المسلمين فضلاً وعلماً وتقوى.

     وألحّ الناس على الرجل يطلبون منه العفو والسماح، لكنه أجابهم في شد وحزم وصرامة، لا والله، لا أدعه لأحد من الناس.

     وأخذ العدل مجراه، وعلت شريعة الله فوق الجميع. وقعد أبو موسى الأشعري بين يدي الرجل ليقتص منه، وصمت الناس، وهدأت منهم الأنفاس، واشرأبت منهم الأعناق، وساد المكان جو من الرهبة والترقب والانتظار.

     ووقف الرجل مستعلياً بالحق، ووجد أنه لا أحد قط يمنعه من ضرب أبي موسى عشرين سوطاً، وحَلْق رأسه أمام الناس.. وأحس بكرامته يحفظها له الدين، ويُعليها له الإسلام.. فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللَّهمَّ قد عفوت عنه!.

     وسكت الرجل، وسكت أبو موسى، وسكت الناس.. إعجاباً بهذا الرجل الأبيّ الذي ما سكت على الظلم.. لكنه كان سريعاً إلى السماح وقد ملك أسباب القصاص.
*****

عُمَيْر بن سعد.. والي حمص

عُمَيْر بن سعد.. والي حمص

     كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب شديد الحرص، عظيم الدقة، في اختيار ولاته، ذلك أنه يعلم جيداً خطورة الأمر وجلاله؛ كما كان يعلم أنه مسؤول أمام الله عز وجل عن هذا الاختيار.

     وقد أثرت عنه عبارة يمكن أن يُنظر إليها على أنها القانون الذي وضعه لاختيار الولاة. كان يقول: "أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميراً عليهم؛ بدا وكأنه أميرهم، وإذا كان فيهم وهو عليهم أمير؛ بدا وكأنه واحد منهم. أريد والياً لا يميّز نفسه على الناس في ملبس، ولا في مطعم، ولا في مسكن، يقيم فيهم الصلاة، ويقسم بينهم بالحق، ويحكم فيهم بالعدل، ولا يغلق بابه دون حوائجهم".

     لا شك أنها شروط تكشف مدى دقة الفاروق، ومدى حرصه على رعيته، ومدى إحساسه بخطورة المسؤولية الملقاة على عاتقه إذ يختار من يختار لمناصب الولاة.

     وعلى هديٍ من هذه الشروط الدقيقة، والضوابط الصارمة، تم اختياره لعمير بن سعد ليكون والياً على حمص. وحاول عمير أن ينجو من هذه المسؤولية، فأبى الفاروق وأصرّ على إلزامه إياها فقبل عمير ومضى إلى عمله.

     وبعد عام كامل وجد الفاروق أنه لم يصل إليه من عمير شيء لا خراج، ولا كتاب، فاستقدمه على عجل فجاء، ولكن كيف جاء؟
* * *

     وصل عمير إلى المدينة المنورة قادماً من حمص، متعباً مرهقاً مكدوداً أشعث أغبر، عليه وعثاء السفر، ويبدو عليه الإجهاد والعناء. كل زاده الذي جاء يحمله جراب فيه شيء من الطعام، وقربة فيها شيء من الماء، وعصا يتوكأ عليها، ويجاهد بها عدواً إن عرض.

     وألقى الوالي سلامه على الخليفة، ونظر الخليفة إلى الوالي فحزن لما رآه عليه من آثار الإعياء. فسأله بعد رد السلام،

- فقال له: ما شأنك يا عمير؟

- قال عمير: شأني ما ترى، ألستَ تراني صحيح البدن، ظاهر الدم، معي الدنيا أجرها بقرنها؟

- قال الخليفة: وما معك؟

- قال الوالي: معي جرابي أحمل فيه زادي، وقصعتي آكل فيها، وإداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي، وعصاي أتوكأ عليها، وأجاهد بها عدواً إن عرض، فوالله ما الدنيا إلا تبع لمتاعي.

     أسمعت ما الذي يقوله الوالي العظيم؟ أرأيت مدى زهده وترفعه وإبائه؟ أعلِمتَ أي نفس نبيلة كان يمتلكها هذا المؤمن العظيم؟
* * *

- ويعود الخليفة فيسأل الوالي: أجئت ماشياً؟

- فيقول الوالي: نعم،

- فيقول الخليفة: أولم تجد من يعطيك دابة تركبها؟

- فيقول الوالي: إنهم لم يفعلوا، وإني لم أسألهم.

- فيقول الخليفة: فماذا عملتَ فيما عهِدنا إليك به؟

- فيقول الوالي: أتيت البلد الذي بعثتني إليه، فجمعتُ صلحاء أهله وولّيتهم جباية فيئهم وأموالهم. حتى إذا جمعوها وضعتُها في مواضعها، ولو بقي لك منها شيء لأتيتك به.

- قال الخليفة: فما جئتنا بشيء؟

- قال الوالي: لا.

- قال الخليفة: جددوا لعمير عهداً.

- قال الوالي: تلك أيام قد خلت، لا عملت لك، ولا لأحد بعدك.
* * *

     إنه لا شيء من المبالغة قط في هذا الحديث، إنما هو واقع تاريخي حدث فعلاً في دنيا الناس.

     أي عملاق كان عمير بن سعد!؟ أي نفس شامخة تلك التي كانت بين جنبيه!؟ لقد رأى الدنيا كلها قد اختصرت في متاعه الزهيد، وكذلك النفوس التي تصفو، وتعلو، وتسمو، فتنظر إلى زخرف الحياة، لا كما ننظر نحن، بل كما ينظر رجل راشد إلى صبية صغار يتنازعون على شيء من النوى.

     ثم هو يرتحل من حمص إلى المدينة المنورة ماشياً على قدميه، ذلك أنه ما وجد من يعطيه دابة يركبها، ولا سمحت له نفسه العملاقة أن يطلب ذلك من أحد، فكان أن طوى الطريق على رجليه منتصراً على مشاقه وصعابه، ذلك أنه كان قد انتصر من قبل ذلك على نفسه، فصار يحملها على ما يريد، رافضاً أن تحمله هي على ما تريد. وكذلك النفوس الأبيّات تعمل، وإنه لعمل شاق ثقيل، مُضنٍ عنيف.

     وحين يفرح الفاروق العظيم بسبب ما رأى من واليه الذي نجح في الاختبار الصعب، يحاول تجديد عهده بالولاية على حمص، لكن عمير بن سعد، يأبى ذلك أشد الإباء، ويرفضه أصعب الرفض، ذلك أنه يعلم جيداً أن المسؤولية تكليفٌ لا تشريف، وجهدٌ لا راحة، وعناءٌ لا قعود، ثم هي حسابٌ بين يدي الله تعالى عسيرٌ عسير.

     رحم الله الخليفة العملاق، ورحم واليه العملاق، هما وأمثالهما الرجال.. أما أكثر الناس فهم أشباه رجال!.
*****

خالد بن الوليد حين موته

خالد بن الوليد حين موته

     "ما ليلة يُهدى إليَّ فيها عروس، أو أُبشَّرُ فيها بوليد، بأحب إليَّ من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، أصبِّحُ بهم المشركين".

     أما والله إنها لقولة رائعة آسرة.. قولة تكشف عن أعماق قائلها، ما يضطرب فيه من وجدان، ما يتردد فيه من أمان، ما يجيش فيه من آمال، ما يرنو إليه من أهداف. إنها قولة البطل المجاهد خالد بن الوليد رحمه الله رحمةً واسعة، ذلك الرجل الذي ملك عليه حبُّ الجهاد نفسَه، وغاص حتى سويداء قلبه فهو به مشغول، وعليه حريص.. لقد أصبح الجهاد أجمل ما في حياته، وأروع ما في حياته، وأسمى ما في حياته.

     لذا فإن ليلة تُزَف إليه فيها عروس، أو يُبَشّرُ فيها بغلامٍ وليد، ليست أحلى ولا أجمل، ولا أعطر ولا أنضر، ولا أقرب ولا أطيب من ليلة باردة، يشتد فيها البرد، حتى يستحيل الماء إلى جليد، يسعى فيها مع جماعة من المهاجرين، ليفاجئ المشركين في الصباح الباكر فيستأصل جمعهم الذي يعادي موكب الحق والفضيلة والإيمان.

     إنه خالد.. البطل الذي كان له في فتح العراق والشام، واستئصال المرتدين أعظم نصيب، فهو بالخير مذكور، وعند الله مأجور، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. كثيرة هي الآمال العذاب التي كانت تختلج في خلده النبيل، لكن أعظم هذه الآمال، وأسماها وأكرمها، هي أن يموت شهيداً.. أن يُرزق الشهادة.. تلك كانت أمنيته التي لا تفارقه، لا في حلٍّ ولا في ترحال، لا في ليلٍ ولا في نهار، فهو بها كلف مشغول، وهو عليها حريص مؤمل، وهو بها متيّمٌ والِه.

     أرأيت أحداً استبد به الحب، واشتد عليه الجوى، فهو ذاهل واهن محزون، راغب راهب مكدود!؟ إنّ حرص خالد على الشهادة أشد من حرص هذا على حبيبته وأعنف.

     أرأيت أحداً اشتد عليه العطش في الصحراء حتى كاد يذهب به، وطفق يجري وراء السراب يحسبه ماء، وقد صار لسانه في حلقه كأنه قطعة من الخشب!؟ إنّ حرص خالد على الشهادة أعظم من حرص هذا الظامئ على الماء البارد عثر عليه وهو في حاله ذاك. الشهادة في سبيل الله أمنية البطل العظيم، ورجاؤه المُلِحّ العنيف، وأمله الذي لا يغيب عنه.

     وذات يوم كان البطل العظيم، راقداً على فراشه في حمص من أرض الشام يودع الدنيا، يا سبحان الله! البطل العظيم الذي طالما اقتحم المهالك، ورمى بنفسه يبتغي الشهادة، يموت على فراشه، الرجل الذي قضى حياته على ظهور الخيل، والذي تكسرت بيده يوم مؤتة تسعة أسياف، والذي غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي قهر جيوش المرتدين، والذي دكّ صروح الطاغوت في الشام والعراق، أميراً وقائداً يحمل مسؤولية الأمراء والقادة، وجندياً يحمل شظف الجندي وقسوة الظروف التي يجاهد فيها ضد أقوى دول العالم يومذاك.. هذا الرجل يموت على فراشه في حمص، لا شهيداً في الميدان.

     إن قولته الأولى تكشف لنا عن نوع اهتماماته في الحياة، لكن قولته التي هتف بها على فراش الموت في حمص، ذات دلالة أعظم، وأثر أبلغ. لقد قال وهو على فراشه: "لقد شهدتُ كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضعٌ إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة رمح، أو رمية سهم، ثم هأنذا أموت على فراشي، حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء!".

     إنه ليس خائفاً من الموت، لكنه محزونٌ ألّا يموتَ شهيداً على الرغم من كل ما أصابه من ضربٍ بالسيوف، أو طعنٍ بالرماح، أو رميٍ بالسهام. ذلك هو سبب حزنه وألمه، ألّا تُختَم حياته بالختام الذي طالما رجا وأمَّل.

     يا سبحان الله! كان يمكن لأي ضربة سيف، أو طعنة رمح، أو رمية لسهم، أن تكون سبب الشهادة، لكن حكمة الله تعالى شاءت غير ذلك، شاءت أن يموت البطل حتف أنفه على فراشه في مدينة حمص بأرض الشام.

     لقد علّل أحد علماء الهند الأجِلّاء ميتة البطل دون شهادة، بأن خالداً سيفُ الله، وسيف الله لا ينبغي له أن يُقْهر، لذا فلا يكون بوسع أحد أن يغلبه أو يعيبه فأنّى له الشهادة!؟

     يا سبحان الله! إن قولة خالد وهو على فراش الموت؛ عِظة كبرى لكل ذي لُبٍّ بصير، أو عقلٍ راشد، أو فطرة سليمة. قولة لا يجيد النطق بها في مثل ذلك الظرف إلا رجل كخالد. وإن الرجال الذين هم كخالد قليل قليل.

     ومضى البطل إلى ربه راضياً مرضياً، وبكت أمه الوالهة الثكلى، وهي تقول:

أنت خيرٌ من ألف ألف من القوم إذا ما كبَتْ وجوه الرجالِ
أشجـــــاع؟ فأنت أشجع من ليثٍ غضنفرٍ يذود عن أشبـالِ
أجـــــــواد؟ فأنت أجود من سيل أتِيٍّ يسيل بين الجبالِ[1]

     أيها البطل العظيم.. سلام الله عليك في مثواك الأخير، وهنيئاً لك جوار ربك، فقد علّمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه، وكأنك القائل عن الشهادة كما بدا لي:

هنالك فوزي الذي قد رجوت     وأصدق لقيـــا وأرجى دعـاءْ
وأسمى أماني أندى الحنيــــن     وأطهر نبل وأسنى رجــــــاءْ
وأضـــوع عطر نديٍّ حبيــبٍ     وأسعـــد عرس وأهنى لقـــاءْ
هنـــاك النعيــم الذي لا يزول     وأكــرم نعمى وأوفى هنــــاءْ

     يا بطل المعامع العنيفة! يا فجر النصر الوردي الآسر!.. لقد بلغ بك المطاف الغاية التي يبلغها كل حي، بعد أن خلّفت ذكرى عاطرة ماجدة خالدة.

     رحمك الله أبا سليمان، لقد عشت حميداً، ولقد متّ سعيداً، وما عند الله خيرٌ لك وأبقى.

     ومن أجمل ما سمعت في حياتي عن خالد؛ جملة بليغة جداً، ذكية جداً، عن أحد علماء الهند، فاتني أن أحفظ اسمه، يقرر فيها أن خالداً حلم بالشهادة، لكنها ليست قدره، ذلك أنه سيف الله، وسيف الله لا يكسر.
*****
------------
[1] الأبيات منسوبة إلى أم خالد بن الوليد. واسمها لبابة الصغرى بنت الحارث الهلالية، وهي خالة عبدالله بن عباس رضي الله عنهم.

خالد بن الوليد ينتصر على نفسه يوم العزل

خالد بن الوليد ينتصر على نفسه يوم العزل

     معارك كثيرة خاضها بطلنا العظيم، وانتصر فيها انتصاراً كبيراً مدهشاً، معارك تحسب الواحدة منها لمحة أمجاده وبطولته النادرة، وعبقريته العسكرية المدهشة، حتى إذا جئت لواحدة أخرى حسبتها أعظم وأروع.

     حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسارع المرتدون يعلنون التمرد والعصيان، أرسله الخليفة الصِّدِّيق يبطش بهم، ويجوس خلال ديارهم، فأيقظهم من سباتهم، وكسر شوكتهم، وحطّم رؤوس الشر منهم، وجعلهم يلتزمون طريق الصادق الأمين، فإذا بهم من بعد ذلك جنود صادقون في كتائب الحق المؤمنة، تنشر الهدى، وترفع الحق، وتدك معاقل الطاغوت.

     وحين عادت جزيرة العرب معقلاً أَشِباً للإسلام من جديد سار بطلنا إلى العراق بناءً على طلب الخليفة أبي بكر الصديق. وفي العراق كان البطل يجاهد الإمبراطورية الفارسية، ويقتلع جذورها من الأرض اقتلاعاً عنيفاً لا عودة فيه للشرك والوثنية. وكان موكبه ينتقل من نصر إلى نصر، فحيثما حلَّ زال الباطل واندحر، وعلا الأذان يحمل إلى الدنيا بشائر العالم الجديد يصوغه تلاميذ الرسول صلى الله عليه وسلم على هدى من ربهم ونور.

     ويطلب إليه الخليفة بعد ذاك أن يتجه إلى الشام حيث الروم تحتشد لمعركة اليرموك الضارية العنيفة، ويمضي البطل، ويقود المسلمين هناك إلى نصر هائل حاسم بعد أن يترك المثنى بن حارثة الشيباني على مَنْ ترك من جيشه بالعراق.

     إنها انتصارات باهرة حقاً بكل ما تعنيه هذه الكلمة، باهرة رائعة لو أن واحداً من القادة العسكريين فاز في بعض منها لكان شيئاً مذكوراً في التاريخ العسكري، فكيف بمن فاز فيها جميعاً، ضد أقوى دولتين في العالم يومذاك، دولة الروم ودولة الفرس.

     لكنَّ بطلنا خالداً بن الوليد، كان قد ادُّخِر له نصرٌ عظيمٌ رائعٌ هو أعظم انتصاراته على الإطلاق.. إنه انتصاره على نفسه في معركة اليرموك.

     إنه انتصار نلتقي فيه مع العظمة الإنسانية في أعظم صورها، نبلاً ورجولة، وفداءً وتضحية، وكرم نفس.
* * *

     ففي الوقت الذي كان فيه خالد بن الوليد، ينتزع النصر بإذن ربه من أشداق آساد الروم، كان الخليفة الجديد عمر بن الخطاب يرسل أمره بتنحية خالد عن القيادة، وتولية أبي عبيدة بن الجراح مكانه.

     ففي رواية جاء الأمر إلى خالد فكتمه على الناس، ومضى في جهاده العنيف حتى إذا تم النصر، تقدم من أبي عبيدة يخبره بالذي جاء، ويعمل تحت إمرته جندياً كالآخرين.

     وفي رواية أخرى أنَّ أمر عمر بن الخطاب إنما جاء لأبي عبيدة فكتمه عن خالد، حتى إذا كان النصر أبلغه إياه، فما تغير، بل مضى يعمل تحت إمرة الجراح كالآخرين.

     وأيّاً كان الأمر، فإن سلوك خالد بن الوليد هو الذي يشدنا، ويستأثر باهتمامنا وإعجابنا، ذلك أنه مسلك بالغ الروعة والعظمة، والسمو والرفعة، والنبل والجلال.

     لعل موقف خالد هذا هو أعظم موقف في حياته يكشف عن إخلاصه العميق، وصدقه الوثيق، وتفانيه في خدمة دينه العظيم.

     لم يغير من جهاده شيئاً، ذلك أنه يجاهد وهو أمير، كما يجاهد وهو جندي، إذ الهدف واحد هو رضوان الله تعالى.

     ما تمرَّدَ وما تأفف، وما تشكَّى وما تظلَّم، بل انتصر على نفسه أروع انتصار إذ لم يغير العزل من جهاده شيئاً قط، فكان انتصاره على نفسه أروع من انتصاره على الروم، ذلك أنه لا يقاتل من أجل الخليفة، بل من أجل ربه ورب الخليفة، ورب الناس أجمعين.

     وعمر؛ الخليفة العظيم لم يعزله عن سوء أو تهمة، بل ضحَّى به في سبيل نقاء العقيدة حين رأى شدة تعلق الجنود به، واعتمادهم على عبقريته وكفايته العسكرية في انتزاع النصر، لقد عزله ليعلم هؤلاء أن النصر من الله تعالى، الذي ينصر الإسلام بخالد وبغير خالد، ليعتمدوا على الله وحده لا على بشر مهما كان عظيماً.

     رحمك الله أيها البطل المنصور! الذي هزم المرتدين، وهزم الفرس، وهزم الروم، وهزم نفسه، فكانت هزيمته لنفسه أعظم ما فعل وأروع ما اختار.

     وبحسب الناس أن يعلموا أن الخليفة عمر كان يعتزم رد الإمارة إليك بعد أن زال افتتان الناس بك لولا أن اخترمك الموت، ليعلموا أيَّ عظيم كان.

     وبحسبهم أن يعلموا أنك جعلت عمر وصيّاً على ما تركت، ليعلموا أي عظيم كنت، طهرك الإسلام من الأحقاد والشوائب، كما طهر عمر، فكنتما تلميذين نجيبين من تلاميذ النبوة المطهرة.

     رحمك الله يا خالد!.. وأجزل مثوبتك، وجزاك عن المسلمين والإسلام خير الجزاء. وإني على استحياء ووجل أضع بين يديك هذه الأبيات:

أيها العـــملاق يـا ليـــث الوغى     يا مضــــاءً مســـتميتـــاً لا يلينْ
أنت عنـــوان لمجـــد شــــــامخ     دوّخ الشـــرّ ودكّ الكافـــــــرينْ
حصــــدت خيـلك عاتي ظـلمهمْ     ومضت جــوَّابـةً في العـــالمينْ
تزرع الدرب انتصارات غـدت     مضرب الأمثال، والفوز المبينْ
أنـت سيـــــف الله في لألائـــــه     ما نبــــا يوماً ولم يفـــــلله ليــن
*****

خالد بن الوليد والقادة .. يوم اليرموك

خالد بن الوليد والقادة.. يوم اليرموك

     أرسل أبو بكر الصديق أربعة جيوش لفتح الشام، على رأسها أربعة من كرام الرجال، وعظام القادة؛ هم أبو عبيدة بن الجراح، وعَمْرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة.

     ومضت الجيوشُ المؤمنةُ تصدع بنيان الإمبراطورية الرومانية، وتُعلِي حيث تمضي كلمة الحق، وترتيلَ القرآن، ودَوِيَّ الأذان.

     وفكّر الإمبراطور الروماني هرقل ومن معه بالموقفِ الصعب، فعزموا على إرسال جيش ضخم هائل يبلغ تعداده قرابة ربع مليون مقاتل.. وحينَ بعثَ القادةُ الأربعةُ للخليفة الصِّدِّيق بالصورة المخيفة قال رضي الله عنه: "والله لأشفينَّ وساوسهم بخالد!".. قال هذه الكلمة، وسارعَ إلى إنفاذها في الحالِ، وهو مَنْ هو في معرفة الرجال واختيارهم.

     وكان خالدٌ يقودُ جيش المسلمين في العراق مجاهداً عَبَدَةَ النيران وأهل الوثنية.. وما كاد يتلقى أمرَ الصِّدِّيق بالتحول من العراق إلى الشام حتى سارع لإنفاذِه حالاً دون ريثٍ بعد أن تركَ طائفةً من جيشه مع المُثنّى بن حارثة على العراق.. واجتازَ البطلُ الشجاع بادية الشام سالكاً أصعب دروبها، وأشدها وحشة، وأقلَّها ماءً وعشباً ليصل بأقصى ما يستطيع إلى حيثُ يعسكِرُ القادة الأربعة في ديار الشام بانتظار قدومه.

     وما كادَ يصلُ حتى نظرَ إلى مَنْ معه، وإلى القادةِ الأربعةِ وجيوشهم، فجعلَ الجميع في جيشٍ واحد، وأنجزَ بعبقريته النادرة تنظيمَه وتنسيقَه وإعداده للقتال في وقتٍ وجيز. ثم وقف يخاطب القادة الأربعةَ، ويخاطب المجاهدين جميعاً بقوله: "إن هذا يومٌ من أيامِ اللهِ لا ينبغي فيه الفخرُ ولا البغي، أخلِصوا جهادَكم، وأريدوا الله بعملكم، وتعالوا نتعاوَرِ الإمارة، فيكونُ أحدُنا اليومَ أميراً، والآخرُ غداً، والآخرُ بعد غدٍ حتى يتأمَّرَ كلُّكم".

     كلماتٌ قلائل تلك التي هتف بها أبو سليمان، لكنها تُنْبِئُ عن عَظَمتِهِ وبراعتِه، ونبلِه وإخلاصِه، وحسنِ تصرفِه ساعةَ الشدة والضيق.

     هذا يومٌ من أيامِ الله.. تلكم كانت بداية كلامه.. وما أروعها من بداية حكيمة صادقة ناصعة!. إن يوم اليرموك يومٌ من أيام الله.. وإذن فليكن فيه الصدقُ والصفاء، والطهرُ والإخلاص، والإنابة والإخبات.

     إنه يومٌ لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، ولا طلبُ الشهرة أو السمعة.. وكان أن بدأ أبو سليمان بنفسه قبل الجميع فحملها على ما دعا الناس جميعاً والقادةَ الأربعةَ إليه. لقد تنازل عن حقهِ الدائمِ في القيادةِ العامة، وجعل نفسه مثل واحدٍ من إخوته الآخرين.. وبذلك سدَّ سبيل الشيطان على الجميع أن يوسوسَ لأحدهم بما يُبعِدهُ عن جادة الصواب.

     لا شك أنه موقف شهمٌ نبيل من أبي سليمان.. موقفٌ يكشف عن صدقه وإخلاصه من ناحية، وعن حصافته وبراعته من ناحية أخرى.. وكان القادة الأربعة الآخرون نِعمَ الرجالُ الأوفياءُ الصادقون.. لذا سارعوا يوافقون على ما اقترحه أبو سليمان.. وتركوا له القيادة في اليوم الأول.. وكان فيه النصرُ والتأييد.

     ولم يكن ليفوتَ أبا سليمان أن الروحَ المعنويةَ في الجيش من أعظمِ أسبابِ الغلَبةِ والتوفيق.. وأن الجيش الشجاع يغطي بشجاعته على نقص الموارد والأسلحة والأغذية والعُدد، وأن ذلك كلَّه ينقلبُ عِبئاً على الجيش الجبان يُعجِزُهُ ويَؤوده.. وقد يَدَعُه للعدوِّ غنيمةً باردة.. لذا حرصَ أبو سليمان على أن يبثَّ القوة المعنوية في صفوف المسلمين.. فأمر المقدادَ أن يطوفَ بهم يقرأُ عليهِم آياتِ الجهاد، ويوصيهم بالصبر والثبات.

     وما كان ليفوتَ أبا سليمان أن حركة هروبٍ صغيرةً يقوم بها رجالٌ قلائل قد تؤدي إلى كارثة للجيش كلّه.. لذا تراه يدعو نساء المسلمين ويأمرُهنّ بالوقوف وراء الجيش المسلم وفي أيديهِنَّ السيوف ويطلبَ منهن أن يقتلنَ كلَّ من يحاول الهروب.. وهي لفتةٌ ذكيةٌ بارعةٌ لا ريب أدّت دَورَها على أحسنِ ما يكون.

     كان عددُ الجيش المسلم أربعين ألفاً، أما جيش الروم فقد كان يصل إلى حوالي ربعِ مليون.. إنه فرقٌ ضخمٌ جداً دفعَ أحدَ المسلمين إلى أن يقولَ: "ما أكثرَ الرومَ وأقلَّ المسلمين!".

     وهي قولةٌ سيئةٌ مدمِّرةٌ قد تفعلُ في الجيش المسلم ما لا تفعله كتائب الروم.. لذا سارعَ أبو سليمان يكْبِتُها ويدفِنُها في الحال وهو يقول: "اصمت أيها الرجل! بل ما أقلَّ الروم!.. وما أكثرَ المسلمين!.. إنما تكثُر الجنود بالنصر، وتقلُّ بالخذلانِ لا بعددِ الرجال.. واللهِ لَوَدِدْتُ أن الأشقرَ براءٌ من تَوَجِّيه[1]، وأنهم أضعفوا في العدد".

     كلماتٌ وِضاءٌ عِذابٌ أكرِم بها! وأكرِم بقائلها!.. لقد وَدَّ البطلُ لو أن حصانه الأشقر الذي أضناه السفر المتواصل سالمٌ معافى، إذن لامتطى صهوتَه الشماء، ومضى في صفوفِ الروم لا يلوي على شيء مهما أضعفوا في العدد.

     وبدأت المعركة عنيفةً ضارية.. وأنبلَ الرومُ في فيالقَ كالجبال، فوجدوا المسلمين أثبتَ منها وأرسى، ودار قتالٌ هائلٌ مرير.. وتراجع بعض المسلمينَ مذعورين فارّين فإذا بنساء الإسلام يستقبِلْنَهم هاتفاتٍ وفي أيديهن السيوف: إلى أينَ يا حُماةَ الإسلام وطُلابَ الشهادة!؟ فرجع الفارّون، وقد امتلؤوا بالحماسة والعزيمة.

     ووقف عكرمةُ بن أبي جهل يهتف: "من يُبايعُ على الموت!؟" فبايعه أربعمئة من شجعان المسلمين، فاقتحمَ بهم لُجَجَ المنايا في اليرموك..

     وانطلق أحد المجاهدين إلى أبي عبيدة بن الجراح فقال له: إني قد عزمتُ على الشهادة؛ فهل من حاجةٍ إلى رسولِ الله أبلغها حين ألقاه؟

     قال أبو عبيدة: نعم، قلْ لهُ: "يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدَنا ربُّنا حقاً". واندفع الرجل كالسهمِ وسطَ المنايا يَضرِبُ ويُضرَبُ حتى فاز بالشهادة.

     لوحات فداءٍ رائعةٌ شامخةٌ رسمتها عزائمٌ مؤمنةٌ مُتّقِدة في اليرموك منها لوحةٌ لأبي سليمان وهو على رأس مئةٍ من جنوده لا غير ينقضُّونَ على مَيسرةِ العدو التي تبلغ أربعين ألفاً.. وهو يصرخُ عن بُعد: "والذي نفسي بيده!.. ما بقي مع الروم من الصبرِ والجَلَدِ إلا ما رأيتم، وإني لأرجو أن يمنحَنا الله أكتافهم".

     مئةٌ يخوضون في أربعين ألفاً.. إنه لعجبٌ أيُّ عجب!.. ولكن لا، لِمَ العجب!؟ أليسَ يملأُ قلوبَهم إيمانٌ شامخٌ عظيم!؟ أليسوا طلابَ آخرةٍ وعُشاقَ شهادة!؟ أليسوا كتائبَ النور التي انطلقت لتُخرِج الناس من ليل الجاهلية المظلم الآثم إلى فجر الإسلام الوردي المضيء!؟

     لقد كان اليرموك شاهدَ صدقٍ وعدلٍ على عظَمةِ الأمة المسلمة التي ربَّاها محمد صلى الله عليه وسلم.

     مواقفُ فيها أحلى من الفجر، وأسطعُ من الشمس، وأمضى من العزم.. وقفها تلاميذ المدرسةِ النبويةِ الشريفةِ الذين صاغتهم سنواتٌ طوال في مكة المكرمة، والمدينة المنورة. اليرموك ملحمةٌ من ملاحِم الجهاد الإسلامي العاطر.. فيها كلُّ ما في الملاحم من بطولةٍ تفوقُ الخيال، وتسبقُ الأمانيَّ والأحلام، لكنها بطولةٌ صادقةٌ ليس فيها تهويل أو مبالغة. ألفُ كاتبٍ يكتبُ عن اليرموك، وألفُ قَصَّاصٍ يستوحي مواقفها، وألفُ شاعرٍ يستلهِمُ بطولاتها، ثم تبقى مِن بعدِ ذلك كالمَنْجَمِ البِكر والغابةِ العذراء.

     مواقفُ في اليرموك مُضَمَّخةٌ بالطِّيب، معطَّرةٌ بالمِسك، ندِيَّةٌ غالية أثيرة.. كانت لرجالٍ هم قِمَّةٌ في الشجاعة والبطولة، والصدقِ والإخلاص، والعزمِ والإيمان.
*****
------------
[1] توجِّيه: توجُّعه من حفاء حافره. وَجِيَ: رقَّت قدم الدابة أو حافرها أو خفها من كثرة المشي.

خالد بن الوليد والطريق الصعب

خالد بن الوليد والطريق الصعب

     كان خالد بن الوليد على رأس جيشه في العراق حين جاءه أمر الخليفة أبي بكر الصِّدِّيق بالتوجّه إلى الشام فوراً، ليكون أميراً على جيوش المسلمين الأربعة هناك التي كانت تتهيأ للوقوف أمام ربع مليون جندي من جيوش الروم في اليرموك.

     كانت المهمّة المطلوبة من خالد غاية في الخطورة.. فجيوش المسلمين في الشام ومعها مَنْ رحَل مع خالد من العراق عددها جميعاً أربعون ألف مجاهد فحسب!.. تتصدّى لذلك الجيش الروماني الضخم اللهام.. لكنَّه كانت هناك مشكلة ضخمة أمام خالد، عليه أن يتغلّب عليها، ويجِد لها الحل الحاسم السريع. تلك هي: كيف يصل من العراق إلى الشام بأقصى سرعة، من أجل اللحوق بالجيش هناك قبل بدء المعركة!؟

     التمس خالد بن الوليد الأدِلّاء سائلاً عن أقرب الطرق إلى الشام، فدله الناس على رافع بن عميرة الطائي الذي كان من أمهر الأدِلّاء في الفيافي المُقفِرة.. وبيّنَ رافع لخالد أن هناك عدداً من الطرق يمكن له أن يسلكها باتجاه الشام. وثمّة طريق سهل، موفور الماء، كثير الرزق، لكنه مزدحم بالسكان.. وطريق ثانٍ قليل السكان، موفور الماء، ولكنه طويل بعيد.. وطريق ثالث وعر، قليل الماء، غير مطروق، لكنه أقصرها جميعاً.

     وفَكَّر القائد العبقري الفذ، وأطال النظر في الموقف الصعب!.. إن الطريق الأول سهل موفور الماء، موفور الأرزاق، لكنه مزدحم بالسكان الذين قد يقاتلونه في أثناء رحلته.

     وما كان خالد ليخاف قتال هؤلاء، لكنه كان حريصاً على الوصول بأسرع وقت إلى حيث يحتشد المسلمون في اليرموك.. ومثل هذا الطريق بمثل هذه الظروف سيؤدي إلى تأخر البطل وامتداد الرحلة، وهو عكس ما كان يريد؛ لذا سارع خالد بن الوليد يرفض سلوك هذا الطريق على الرغم من إغرائه، وميل النفس إلى الرحيل عبره لأنه سهل مطروق، كثير الماء، وافر الرزق.

     أما الطريق الثاني فقد كانت له ميزة كبيرة، إنه موفور الماء، وقليل السكان.. وهذا شيء هام لجيش يرحل صوب هدف كبير، ويتحاشى الصدامات الجانبية التي تعوقه عمّا يريد. فالماء كثير، والماء في الصحراء مادة الحياة.. ثم إن السكان قلة نادرة.. مما يجعل الجيش المرتحل بمنجاة عن مشاكل قد تنجم من مروره عليهم.. وإذن فإن لهذا الطريق إغراءً كبيراً لسلوكه.. لولا أنه طويل بعيد. وسارع خالد بن الوليد يرفض سلوك هذا الطريق على الرغم من مزاياه لأنه يخشى من طول الرحلة.

     بقي الطريق الثالث، وهو صعبٌ موحِش، وَعِرٌ مخيف.. غير مأهولٍ ولا مطروق، لكنه أقصر جميع الطرق. وظهرت ميزة القصر هذه بإغرائها الكبير لخالد بن الوليد واضحة ماثلة، فما تردد البطلُ في أنْ عَزَم على سلوك هذا الطريق الأخير على الرغم من جميع الصعاب الأخرى.. ذلك أنَّ ميزة القِصر كانت تهيئ لخالد أن يصل مبكراً إلى الشام قبل نشوب المعركة.

     كانت الطريق التي اختارها خالد غاية في الخطورة، بحيث يدل اختياره لها على روح المغامرة التي كانت تسري في أعماقه، وتأبى إلا أن تَظهرَ بين الفينة والأخرى على الرغم من حرص القائد أن يُجَنِّبَ جنودَهُ المهالك.

     ويمكن لك أن تدرك ذلك جيداً حين تسمع وصف الدليل رافع بن عميرة الطائي لتلك الطريق، لتعلم أي موقف صعب مخيف عزم خالد على اتخاذه. قال رافع لخالد: "إنك لن تطيق ذلك بالخيل والأثقال.. والله إن الراكب الفرد ليخافها على نفسه وما يسلكها إلا مغرور.. إنها لخمس ليالٍ لا يصاب فيها ماء مع مضلّتها!".

     لا شك أن كلمات رافع مخيفة مرعبة، وإنها تكفي لِبَث الرعب في أشجع القلوب وأثبتها ما لم يكن لها من الله عاصم.. خمس ليال طوال في صحراء قاحلة مخيفة ما يسلكها إلا مغرور كما عبّر الدليل نفسه، يخافها المرء المنفرد مع حُسن استعداده، وكثرة ما معه من ماء وزاد.. ثم هي صحراء يعلن الدليل نفسه أنه قد يضل فيها. والماء في الصحراء مادة الحياة الأساسية، ومن يفقدها يفقد الحياة..

     لكن خالداً رضي الله عنه عزم على سلوك هذه الدرب المخيفة على الرغم من كل تلك الصعاب مستعيناً باللّه عز وجل، متوكلاً عليه، متخذاً ما بوسعه من الأسباب التي يقدر عليها. قال خالد لرافع: "إن القوة تأتي على قدر النية، وإن المسلم لا ينبغي له أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله عز وجل".

     وحين رأى الدليل تلك العزيمة الخالدية الشجاعة قال: "أكثروا من الماء، ومن استطاع منكم أن يصر أذن ناقته على ماء فليفعل.. فإنها المهالك إلا ما دفع الله". ثم طلب عشرين ناقة عظيمة سمينة فلما أُتِيَ بها أجهدها عطشاً، ثم أورَدَها الماء فشربت حتى امتلأت، وعند ذلك قطع مشافرها ثم كممها حتى لا تجترّ ما عندها من ماء!.

     ورحل خالد، ورحل الجيش عبر الصحراء، وفي كل يوم تُذبح أربع من هذه النوق فيؤخذ ما في بطونها من ماء فيشرب الناس، ويسقون خيولهم، ويواصلون المسير.

     وبعد خمس ليال، ذُبِحت النوق العشرون جميعاً، ونفد الماء من الجيش الذي كاد يقطع الطريق إلا بقية منه، والعطش مخيف مرعب، وهو في الصحراء أرعب من مخيف، وأخوف من مرعب!. وللصحراء رهبتها المخيفة، ووحشيتها المرعبة.. وما أصعب ذلك! وما أشقَّه لمن نفد ما عنده من ماء!.

     وقال خالد لرافع: ويحك.. يا رافع ما عندك!؟ فأجاب رافع الذي كان قد أصيب بالرمد: "أدركت الريّ إن شاء الله!".. ثم هتف بالعطاش حوله: "انظروا، هل ترون شجيرة من عوسج كقعدة الرجل!؟" ونظر القوم، وأعادوا النظر، وبحثوا وأعادوا البحث دون أن يظفروا بشجيرة العوسج تلك.

     عندها هتف رافع يائساً حزيناً: "هلكتم والله إذن، وهلكتُ لا أبا لكم.. انظروا انظروا!".. وطفق القوم ينظرون، وانطلقوا يبحثون، واشتدوا في البحث والتفتيش فإذا بهم يجدون الشجيرة، وقد قطِعت وبقيت منها بقية: فلما رآها المسلمون كبّروا، ثم حفروا بجوارها.. فإذا بالماء ينبع ثراً عذباً.. فشربوا، وسقوا إبلهم وخيولهم، ونجّاهم الله من شر كبير.

     مغامرة لا شك مثيرة تلك التي قام بها خالد.. شاء الله عز وجل أن تنتهي بالنجاح.. وأن يصل إلى اليرموك بمن معه ليخوضوا معركة هائلة كُتِب فيها للمسلمين الفوز المبين.

     كان خالد أمام موقف صعب حين عزَم على اختراق بادية الشام: أيسلك أحد الطريقين الطويلين حيث يتوافر الماء والرزق!؟ أم يسلك الطريق الوجيز الوعر حيث قلة الماء والأرزاق!؟

     في أحد الطريقين الطويلين يكون الأمن لكنَّ الوصول إلى المعركة سيكون متأخراً. وفي الطريق الوعر القصير تقل مدة الرحيل، ولكن تعظم الأخطار.. وهل يخاف خالد من الأخطار!؟ وهل كان بوسعه أن يفعل ما فعل من بطولات عجيبة غريبة لو أنه آثر السلامة وابتعد عن المجازفة!؟

     عرف أن عليه الوصول بأقصى سرعة إلى الشام.. وإذن؛ فليسلك الطريق الوعر القصير. وعرف أن عليه أن يتخذ الأسباب التي يقدر عليها ففعل.. وإذ تم له ذلك، توكل على الله عز وجل ومضى ولم يتردد، وانطلق ولم يُحجِم، مستعيناً باللّه عز وجل، متبرِّئاً من حوله وقوته وتدبيره، إلى حول خالقه وقوته وتدبيره.. وكان يعلم أن العزيمة ردء عظيم لا يكل، وسلاح قوي لا يفل.. لذا كانت قولته لرافع: "ويحك إن القوة تأتي على قدر النية"..

     كان ما فعله خالد من اجتياز الصحراء مغامرة شجاعة كبيرة، لكنها لم تكن مغامرة حمقاء جاهلة، بل كانت مغامرة عاقلة مؤمنة، اتخذ من أسبابها ما يقع تحت مقدرته، واستعان باللّه عز وجل.. فكان أن نجَحَت، ولنعم المغامرة ما صنع خالد! ولنعمت المغامرات حين تكون من هذا القبيل!.

     أيها القائد العبقري المؤمن!.. إن موقفك في اجتياز الصحراء درس شجاع لكل القاعدين والمتواكلين الذين أخلدوا إلى الأرض، واستناموا إلى الكسل، وآثروا الدّعَة والخمول، يهمس في آذانهم أنهم ليسوا بالرجال!.
*****

الأكثر مشاهدة