عُمَيْر بن سعد.. والي حمص
كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب شديد الحرص، عظيم الدقة، في اختيار ولاته، ذلك أنه يعلم جيداً خطورة الأمر وجلاله؛ كما كان يعلم أنه مسؤول أمام الله عز وجل عن هذا الاختيار.
وقد أثرت عنه عبارة يمكن أن يُنظر إليها على أنها القانون الذي وضعه لاختيار الولاة. كان يقول: "أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميراً عليهم؛ بدا وكأنه أميرهم، وإذا كان فيهم وهو عليهم أمير؛ بدا وكأنه واحد منهم. أريد والياً لا يميّز نفسه على الناس في ملبس، ولا في مطعم، ولا في مسكن، يقيم فيهم الصلاة، ويقسم بينهم بالحق، ويحكم فيهم بالعدل، ولا يغلق بابه دون حوائجهم".
لا شك أنها شروط تكشف مدى دقة الفاروق، ومدى حرصه على رعيته، ومدى إحساسه بخطورة المسؤولية الملقاة على عاتقه إذ يختار من يختار لمناصب الولاة.
وعلى هديٍ من هذه الشروط الدقيقة، والضوابط الصارمة، تم اختياره لعمير بن سعد ليكون والياً على حمص. وحاول عمير أن ينجو من هذه المسؤولية، فأبى الفاروق وأصرّ على إلزامه إياها فقبل عمير ومضى إلى عمله.
وبعد عام كامل وجد الفاروق أنه لم يصل إليه من عمير شيء لا خراج، ولا كتاب، فاستقدمه على عجل فجاء، ولكن كيف جاء؟
* * *
وصل عمير إلى المدينة المنورة قادماً من حمص، متعباً مرهقاً مكدوداً أشعث أغبر، عليه وعثاء السفر، ويبدو عليه الإجهاد والعناء. كل زاده الذي جاء يحمله جراب فيه شيء من الطعام، وقربة فيها شيء من الماء، وعصا يتوكأ عليها، ويجاهد بها عدواً إن عرض.
وألقى الوالي سلامه على الخليفة، ونظر الخليفة إلى الوالي فحزن لما رآه عليه من آثار الإعياء. فسأله بعد رد السلام،
- فقال له: ما شأنك يا عمير؟
- قال عمير: شأني ما ترى، ألستَ تراني صحيح البدن، ظاهر الدم، معي الدنيا أجرها بقرنها؟
- قال الخليفة: وما معك؟
- قال الوالي: معي جرابي أحمل فيه زادي، وقصعتي آكل فيها، وإداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي، وعصاي أتوكأ عليها، وأجاهد بها عدواً إن عرض، فوالله ما الدنيا إلا تبع لمتاعي.
أسمعت ما الذي يقوله الوالي العظيم؟ أرأيت مدى زهده وترفعه وإبائه؟ أعلِمتَ أي نفس نبيلة كان يمتلكها هذا المؤمن العظيم؟
* * *
- ويعود الخليفة فيسأل الوالي: أجئت ماشياً؟
- فيقول الوالي: نعم،
- فيقول الخليفة: أولم تجد من يعطيك دابة تركبها؟
- فيقول الوالي: إنهم لم يفعلوا، وإني لم أسألهم.
- فيقول الخليفة: فماذا عملتَ فيما عهِدنا إليك به؟
- فيقول الوالي: أتيت البلد الذي بعثتني إليه، فجمعتُ صلحاء أهله وولّيتهم جباية فيئهم وأموالهم. حتى إذا جمعوها وضعتُها في مواضعها، ولو بقي لك منها شيء لأتيتك به.
- قال الخليفة: فما جئتنا بشيء؟
- قال الوالي: لا.
- قال الخليفة: جددوا لعمير عهداً.
- قال الوالي: تلك أيام قد خلت، لا عملت لك، ولا لأحد بعدك.
* * *
إنه لا شيء من المبالغة قط في هذا الحديث، إنما هو واقع تاريخي حدث فعلاً في دنيا الناس.
أي عملاق كان عمير بن سعد!؟ أي نفس شامخة تلك التي كانت بين جنبيه!؟ لقد رأى الدنيا كلها قد اختصرت في متاعه الزهيد، وكذلك النفوس التي تصفو، وتعلو، وتسمو، فتنظر إلى زخرف الحياة، لا كما ننظر نحن، بل كما ينظر رجل راشد إلى صبية صغار يتنازعون على شيء من النوى.
ثم هو يرتحل من حمص إلى المدينة المنورة ماشياً على قدميه، ذلك أنه ما وجد من يعطيه دابة يركبها، ولا سمحت له نفسه العملاقة أن يطلب ذلك من أحد، فكان أن طوى الطريق على رجليه منتصراً على مشاقه وصعابه، ذلك أنه كان قد انتصر من قبل ذلك على نفسه، فصار يحملها على ما يريد، رافضاً أن تحمله هي على ما تريد. وكذلك النفوس الأبيّات تعمل، وإنه لعمل شاق ثقيل، مُضنٍ عنيف.
وحين يفرح الفاروق العظيم بسبب ما رأى من واليه الذي نجح في الاختبار الصعب، يحاول تجديد عهده بالولاية على حمص، لكن عمير بن سعد، يأبى ذلك أشد الإباء، ويرفضه أصعب الرفض، ذلك أنه يعلم جيداً أن المسؤولية تكليفٌ لا تشريف، وجهدٌ لا راحة، وعناءٌ لا قعود، ثم هي حسابٌ بين يدي الله تعالى عسيرٌ عسير.
رحم الله الخليفة العملاق، ورحم واليه العملاق، هما وأمثالهما الرجال.. أما أكثر الناس فهم أشباه رجال!.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق