خالد بن الوليد حين موته
"ما ليلة يُهدى إليَّ فيها عروس، أو أُبشَّرُ فيها بوليد، بأحب إليَّ من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، أصبِّحُ بهم المشركين".
أما والله إنها لقولة رائعة آسرة.. قولة تكشف عن أعماق قائلها، ما يضطرب فيه من وجدان، ما يتردد فيه من أمان، ما يجيش فيه من آمال، ما يرنو إليه من أهداف. إنها قولة البطل المجاهد خالد بن الوليد رحمه الله رحمةً واسعة، ذلك الرجل الذي ملك عليه حبُّ الجهاد نفسَه، وغاص حتى سويداء قلبه فهو به مشغول، وعليه حريص.. لقد أصبح الجهاد أجمل ما في حياته، وأروع ما في حياته، وأسمى ما في حياته.
لذا فإن ليلة تُزَف إليه فيها عروس، أو يُبَشّرُ فيها بغلامٍ وليد، ليست أحلى ولا أجمل، ولا أعطر ولا أنضر، ولا أقرب ولا أطيب من ليلة باردة، يشتد فيها البرد، حتى يستحيل الماء إلى جليد، يسعى فيها مع جماعة من المهاجرين، ليفاجئ المشركين في الصباح الباكر فيستأصل جمعهم الذي يعادي موكب الحق والفضيلة والإيمان.
إنه خالد.. البطل الذي كان له في فتح العراق والشام، واستئصال المرتدين أعظم نصيب، فهو بالخير مذكور، وعند الله مأجور، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. كثيرة هي الآمال العذاب التي كانت تختلج في خلده النبيل، لكن أعظم هذه الآمال، وأسماها وأكرمها، هي أن يموت شهيداً.. أن يُرزق الشهادة.. تلك كانت أمنيته التي لا تفارقه، لا في حلٍّ ولا في ترحال، لا في ليلٍ ولا في نهار، فهو بها كلف مشغول، وهو عليها حريص مؤمل، وهو بها متيّمٌ والِه.
أرأيت أحداً استبد به الحب، واشتد عليه الجوى، فهو ذاهل واهن محزون، راغب راهب مكدود!؟ إنّ حرص خالد على الشهادة أشد من حرص هذا على حبيبته وأعنف.
أرأيت أحداً اشتد عليه العطش في الصحراء حتى كاد يذهب به، وطفق يجري وراء السراب يحسبه ماء، وقد صار لسانه في حلقه كأنه قطعة من الخشب!؟ إنّ حرص خالد على الشهادة أعظم من حرص هذا الظامئ على الماء البارد عثر عليه وهو في حاله ذاك. الشهادة في سبيل الله أمنية البطل العظيم، ورجاؤه المُلِحّ العنيف، وأمله الذي لا يغيب عنه.
وذات يوم كان البطل العظيم، راقداً على فراشه في حمص من أرض الشام يودع الدنيا، يا سبحان الله! البطل العظيم الذي طالما اقتحم المهالك، ورمى بنفسه يبتغي الشهادة، يموت على فراشه، الرجل الذي قضى حياته على ظهور الخيل، والذي تكسرت بيده يوم مؤتة تسعة أسياف، والذي غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي قهر جيوش المرتدين، والذي دكّ صروح الطاغوت في الشام والعراق، أميراً وقائداً يحمل مسؤولية الأمراء والقادة، وجندياً يحمل شظف الجندي وقسوة الظروف التي يجاهد فيها ضد أقوى دول العالم يومذاك.. هذا الرجل يموت على فراشه في حمص، لا شهيداً في الميدان.
إن قولته الأولى تكشف لنا عن نوع اهتماماته في الحياة، لكن قولته التي هتف بها على فراش الموت في حمص، ذات دلالة أعظم، وأثر أبلغ. لقد قال وهو على فراشه: "لقد شهدتُ كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضعٌ إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة رمح، أو رمية سهم، ثم هأنذا أموت على فراشي، حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء!".
إنه ليس خائفاً من الموت، لكنه محزونٌ ألّا يموتَ شهيداً على الرغم من كل ما أصابه من ضربٍ بالسيوف، أو طعنٍ بالرماح، أو رميٍ بالسهام. ذلك هو سبب حزنه وألمه، ألّا تُختَم حياته بالختام الذي طالما رجا وأمَّل.
يا سبحان الله! كان يمكن لأي ضربة سيف، أو طعنة رمح، أو رمية لسهم، أن تكون سبب الشهادة، لكن حكمة الله تعالى شاءت غير ذلك، شاءت أن يموت البطل حتف أنفه على فراشه في مدينة حمص بأرض الشام.
لقد علّل أحد علماء الهند الأجِلّاء ميتة البطل دون شهادة، بأن خالداً سيفُ الله، وسيف الله لا ينبغي له أن يُقْهر، لذا فلا يكون بوسع أحد أن يغلبه أو يعيبه فأنّى له الشهادة!؟
يا سبحان الله! إن قولة خالد وهو على فراش الموت؛ عِظة كبرى لكل ذي لُبٍّ بصير، أو عقلٍ راشد، أو فطرة سليمة. قولة لا يجيد النطق بها في مثل ذلك الظرف إلا رجل كخالد. وإن الرجال الذين هم كخالد قليل قليل.
ومضى البطل إلى ربه راضياً مرضياً، وبكت أمه الوالهة الثكلى، وهي تقول:
أنت خيرٌ من ألف ألف من القوم إذا ما كبَتْ وجوه الرجالِ
أشجـــــاع؟ فأنت أشجع من ليثٍ غضنفرٍ يذود عن أشبـالِ
أجـــــــواد؟ فأنت أجود من سيل أتِيٍّ يسيل بين الجبالِ[1]
أيها البطل العظيم.. سلام الله عليك في مثواك الأخير، وهنيئاً لك جوار ربك، فقد علّمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه، وكأنك القائل عن الشهادة كما بدا لي:
هنالك فوزي الذي قد رجوت وأصدق لقيـــا وأرجى دعـاءْ
وأسمى أماني أندى الحنيــــن وأطهر نبل وأسنى رجــــــاءْ
وأضـــوع عطر نديٍّ حبيــبٍ وأسعـــد عرس وأهنى لقـــاءْ
هنـــاك النعيــم الذي لا يزول وأكــرم نعمى وأوفى هنــــاءْ
يا بطل المعامع العنيفة! يا فجر النصر الوردي الآسر!.. لقد بلغ بك المطاف الغاية التي يبلغها كل حي، بعد أن خلّفت ذكرى عاطرة ماجدة خالدة.
رحمك الله أبا سليمان، لقد عشت حميداً، ولقد متّ سعيداً، وما عند الله خيرٌ لك وأبقى.
ومن أجمل ما سمعت في حياتي عن خالد؛ جملة بليغة جداً، ذكية جداً، عن أحد علماء الهند، فاتني أن أحفظ اسمه، يقرر فيها أن خالداً حلم بالشهادة، لكنها ليست قدره، ذلك أنه سيف الله، وسيف الله لا يكسر.
*****
------------
[1] الأبيات منسوبة إلى أم خالد بن الوليد. واسمها لبابة الصغرى بنت الحارث الهلالية، وهي خالة عبدالله بن عباس رضي الله عنهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق