خالد بن الوليد ينتصر على نفسه يوم العزل
معارك كثيرة خاضها بطلنا العظيم، وانتصر فيها انتصاراً كبيراً مدهشاً، معارك تحسب الواحدة منها لمحة أمجاده وبطولته النادرة، وعبقريته العسكرية المدهشة، حتى إذا جئت لواحدة أخرى حسبتها أعظم وأروع.
حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسارع المرتدون يعلنون التمرد والعصيان، أرسله الخليفة الصِّدِّيق يبطش بهم، ويجوس خلال ديارهم، فأيقظهم من سباتهم، وكسر شوكتهم، وحطّم رؤوس الشر منهم، وجعلهم يلتزمون طريق الصادق الأمين، فإذا بهم من بعد ذلك جنود صادقون في كتائب الحق المؤمنة، تنشر الهدى، وترفع الحق، وتدك معاقل الطاغوت.
وحين عادت جزيرة العرب معقلاً أَشِباً للإسلام من جديد سار بطلنا إلى العراق بناءً على طلب الخليفة أبي بكر الصديق. وفي العراق كان البطل يجاهد الإمبراطورية الفارسية، ويقتلع جذورها من الأرض اقتلاعاً عنيفاً لا عودة فيه للشرك والوثنية. وكان موكبه ينتقل من نصر إلى نصر، فحيثما حلَّ زال الباطل واندحر، وعلا الأذان يحمل إلى الدنيا بشائر العالم الجديد يصوغه تلاميذ الرسول صلى الله عليه وسلم على هدى من ربهم ونور.
ويطلب إليه الخليفة بعد ذاك أن يتجه إلى الشام حيث الروم تحتشد لمعركة اليرموك الضارية العنيفة، ويمضي البطل، ويقود المسلمين هناك إلى نصر هائل حاسم بعد أن يترك المثنى بن حارثة الشيباني على مَنْ ترك من جيشه بالعراق.
إنها انتصارات باهرة حقاً بكل ما تعنيه هذه الكلمة، باهرة رائعة لو أن واحداً من القادة العسكريين فاز في بعض منها لكان شيئاً مذكوراً في التاريخ العسكري، فكيف بمن فاز فيها جميعاً، ضد أقوى دولتين في العالم يومذاك، دولة الروم ودولة الفرس.
لكنَّ بطلنا خالداً بن الوليد، كان قد ادُّخِر له نصرٌ عظيمٌ رائعٌ هو أعظم انتصاراته على الإطلاق.. إنه انتصاره على نفسه في معركة اليرموك.
إنه انتصار نلتقي فيه مع العظمة الإنسانية في أعظم صورها، نبلاً ورجولة، وفداءً وتضحية، وكرم نفس.
* * *
ففي الوقت الذي كان فيه خالد بن الوليد، ينتزع النصر بإذن ربه من أشداق آساد الروم، كان الخليفة الجديد عمر بن الخطاب يرسل أمره بتنحية خالد عن القيادة، وتولية أبي عبيدة بن الجراح مكانه.
ففي رواية جاء الأمر إلى خالد فكتمه على الناس، ومضى في جهاده العنيف حتى إذا تم النصر، تقدم من أبي عبيدة يخبره بالذي جاء، ويعمل تحت إمرته جندياً كالآخرين.
وفي رواية أخرى أنَّ أمر عمر بن الخطاب إنما جاء لأبي عبيدة فكتمه عن خالد، حتى إذا كان النصر أبلغه إياه، فما تغير، بل مضى يعمل تحت إمرة الجراح كالآخرين.
وأيّاً كان الأمر، فإن سلوك خالد بن الوليد هو الذي يشدنا، ويستأثر باهتمامنا وإعجابنا، ذلك أنه مسلك بالغ الروعة والعظمة، والسمو والرفعة، والنبل والجلال.
لعل موقف خالد هذا هو أعظم موقف في حياته يكشف عن إخلاصه العميق، وصدقه الوثيق، وتفانيه في خدمة دينه العظيم.
لم يغير من جهاده شيئاً، ذلك أنه يجاهد وهو أمير، كما يجاهد وهو جندي، إذ الهدف واحد هو رضوان الله تعالى.
ما تمرَّدَ وما تأفف، وما تشكَّى وما تظلَّم، بل انتصر على نفسه أروع انتصار إذ لم يغير العزل من جهاده شيئاً قط، فكان انتصاره على نفسه أروع من انتصاره على الروم، ذلك أنه لا يقاتل من أجل الخليفة، بل من أجل ربه ورب الخليفة، ورب الناس أجمعين.
وعمر؛ الخليفة العظيم لم يعزله عن سوء أو تهمة، بل ضحَّى به في سبيل نقاء العقيدة حين رأى شدة تعلق الجنود به، واعتمادهم على عبقريته وكفايته العسكرية في انتزاع النصر، لقد عزله ليعلم هؤلاء أن النصر من الله تعالى، الذي ينصر الإسلام بخالد وبغير خالد، ليعتمدوا على الله وحده لا على بشر مهما كان عظيماً.
رحمك الله أيها البطل المنصور! الذي هزم المرتدين، وهزم الفرس، وهزم الروم، وهزم نفسه، فكانت هزيمته لنفسه أعظم ما فعل وأروع ما اختار.
وبحسب الناس أن يعلموا أن الخليفة عمر كان يعتزم رد الإمارة إليك بعد أن زال افتتان الناس بك لولا أن اخترمك الموت، ليعلموا أيَّ عظيم كان.
وبحسبهم أن يعلموا أنك جعلت عمر وصيّاً على ما تركت، ليعلموا أي عظيم كنت، طهرك الإسلام من الأحقاد والشوائب، كما طهر عمر، فكنتما تلميذين نجيبين من تلاميذ النبوة المطهرة.
رحمك الله يا خالد!.. وأجزل مثوبتك، وجزاك عن المسلمين والإسلام خير الجزاء. وإني على استحياء ووجل أضع بين يديك هذه الأبيات:
أيها العـــملاق يـا ليـــث الوغى يا مضــــاءً مســـتميتـــاً لا يلينْ
أنت عنـــوان لمجـــد شــــــامخ دوّخ الشـــرّ ودكّ الكافـــــــرينْ
حصــــدت خيـلك عاتي ظـلمهمْ ومضت جــوَّابـةً في العـــالمينْ
تزرع الدرب انتصارات غـدت مضرب الأمثال، والفوز المبينْ
أنـت سيـــــف الله في لألائـــــه ما نبــــا يوماً ولم يفـــــلله ليــن
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق