إسلام الهُرْمُزان
اتسعت الفتوح الإسلامية في أيام عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه، وامتدت امتداداً واسعاً، ومضى المسلمون كالسيل الأَتِيِّ يقتحمُ كلَّ ما في طريقه، ويمضي مسرعاً صوبِ غايتهِ دون إبطاء.
كانت الجيوش المسلمة تعودُ بالظفر والغَلَبةِ والتمكين، وكان عمرُ، رضي الله عن عمر، يدبر أمورَها وأمورَ المسلمين من مقره في المدينة المنورة.
وذات يوم وقع فارسي كبير أسيراً بين أيدي المسلمين الذين حملوه إلى المدينة المنورة ليحكم فيه الخليفة عمرُ بما يشاء. ذلك الأسير هو الهُرْمُزان وهو أحد قادة الفرس الكبار، وأحدُ الذين أبلَوا في حرب المسلمين وقاتلوهم بعناد وإصرار.
جيء بالهُرْمُزان أسيراً، وهو قائد وحاكم، وأمير ومقاتل، وهو فارسي مُغْرِق في الفارسية، له في قومه مكانة وأهمية وخطر، لكن عمر رضي الله عنه شديد في الحق لا يعرف بجانبه ما يقيم له الناس وزناً وأهمية من عادات وتقاليد. لقد كان كالسيف المصلت لا يبالي إذا ما نزل ما الذي يقطعه أو يَفْصِمه ما دام الحق يقضي عليه بذلك.
دعا الهُرْمُزان إلى الإسلام فأبى الهُرْمُزان ذلك، وظل متمسكاً بخرافات دين المجوسية، فاشتد ذلك على عمر، أيرفضُ هذا الأسير دين الإسلام وهو نور وشفاء، وهداية للبشرية التائهة الحائرة الضاربة في أعماق الشقاء، شقاء الجاهلية؟ أينأى عن الحق وقد دُعِيَ إليه؟ أليس له عقل رشيد يقارن به بين دين الإسلام وبين المجوسية؟ أيرفض الهُرْمُزان دين الإسلام تسوقه قحة وكبرياء؟ هل غرّته منزلته الكبيرة في قومه فأدخلت على نفسه الصلف والغرور والنأي عن الحق البيّن الصريح؟ يا ويح الهُرْمُزان لماذا لا يسلم.. لماذا!؟
وعاد عمر رضي الله عنه يطلب من الأسير الفارسي الكبير أن يدخل في الإسلام، وعاد الهُرْمُزان يأبى ذلك في عناد وإصرار.
وتذكر عمر قوة هذا الأسير وجبروته وحروبه الطويلة ضد المسلمين، وانتقاضه عليهم الكرّةَ تِلْوَ الكرّة، تذكر ذلك ورآه بين يديه أسيراً لا حول له ولا طول قد وقع بين أيدي المسلمين دون شرط له عليهم سوى أن يُساق إلى عمر ليرى رأيه فيه.
إنه أسيرٌ لم يؤتَ أماناً، وليس له عقد ولا شرط، وهو يصر على كفره وباطله، إذن فالقتل هو ما يستحقه هذا العدو القويُّ الماكر، الصادُّ عن دين الله، الثابت على جهالة المجوسية وسخافتها وتفاهتها. وأمر الخليفة العظيم، العادل الحازم أن يُقتل الهُرْمُزان.
أصاخ الهُرْمُزان إلى حكم عمر في دهشة وخوف، لكنه كان رجلاً عركته الأيام، وتقلبت به الدنيا، فهو ثابت القلب، رابط الجأش، رزين قوي، لذا لم يقابل حكم عمر بضعف أو خَوَر، فما ذاك من طبيعته، إنه رجل مجرِّب وله عقل ذكي أريب، وفؤاد فطِن لبيب، وبديهة وقّادة جيّاشة، ترى هل يسعفه ذلك في هذا الموقف الصعب العصيب؟ أيُسلِمُ يا ترى لينجو من القتل؟ لكنه إنْ أسلم فإن لقائل أن يقول: أسلم خوفاً من القتل، ولم يسلم عن رغبة في الإسلام صادقة.
وطَفِقَ الهُرْمُزان يُعْمِلُ عقله، ويحرك ما سكن من ذكائهِ وفطنَتهِ، وهو موقِفٌ يَشُقُّ فيه التفكيرُ الهادئُ المنظَّم، فالحكمُ بالموتِ قد صدر، والسيفُ على رأسه يكادُ يَهْوي به ولم يبقَ سوى لَحَظات.
وهتف الهُرْمُزان بأمير المؤمنين عمر يطلبُ منه شَربةَ ماء قائلاً: إذن ذلك خير من قتلي على الظمأ!.
ووقعت هذه الكلماتُ من عمرَ في أحسنِ مَوْقِع، فهو رضي الله عنه، على شِدَّته وحَزْمِه رقيقُ القلب، رحيمٌ شفوق، ومن يدري فربما يعيدُ الأسيرُ النظرَ في مَوْقِفِه فَيُسْلِم، لذا سارعَ يأمرُ للهُرْمُزان بشَرْبَة ماء كما كان قد طلب.
أمسك الأسيرُ الإناءَ بين يديه، ونظرَ إليه وأطالَ النظر، وفي نفسِه ضِرامٌ مُتَّقِد، وفي نفس الخليفةِ ترقّبٌ وانتظار، والجمعُ من حَوْليهِما ساكنٌ صامتٌ ينتظر نهايةَ المَشْهَد.
ورد الأسيرُ إناءَ الماء عن فمهِ ولم يشربْ منه قطرةً واحدةً، وسأل الخليفة: أنا آمنٌ حتى أشرب!؟ قال الخليفة العظيم: نعم، عندها ألقى الهُرْمُزان الإناءَ من يديه، فسال الماء على الأرض، وقال لعمر -وهو ينظرُ إليه في ثقة وهدوء، وَتُؤَدَة وعزة نفس-: "الوفاءُ نورٌ أبْلَج". وسكت عمر، وسكت الهُرْمُزان، وسكتَ الجمعُ من حولِهما، وساد المكانَ صمتٌ مشوبٌ بكثيرٍ من التوجُّسِ والترقُّبِ والانتظار.
ما الذي يريدهُ هذا الأسيرُ الفارسي!؟ أهي حيلةٌ يريدُ أن ينجُوَ بها من القتل!؟ ولكن هل في مُكْنَتِه ذلك!؟ لقد نال الأمانَ حتى يشربَ؛ فهل يمكنُ له أن يَظل بلا شُربٍ مدةً طويلة!؟ إن هذا الفارسي ذكيٌّ داهيةٌ، ولكن ما عسى أن ينفَعَهُ ذكاؤهُ سوى أن يؤجِّلَ القتلَ عدةَ أيامٍ حتى يستبدَّ به العطشُ فإن شرِبَ فقد زال عنه الأمان.
وعرف الأسير أنه ليس مقتولاً الآن، وأن ما سلكه قد هيّأ له سبيل النجاة إلى حين، ورُفِع السيفُ عن رأسه، فأبرقت عيناه بالفرح والسرور. إنه يستطيع الآن أن يختار، وهو إن فعل ذلك فليس لأحد أن يتهمه بأنه فعل ما فعل رغبة في النجاة من القتل، فهاهو قد نجا منه إلى حين بلباقته وذكائه، وحسن تصرفه في الموقف الصعب الذي كاد يطيح برأسه.
لقد كان الموت واقفاً على رأسه، فلم تكن له إرادة، بل كان الإكراه والخوف والرهبة، أما الآن وقد صار إنساناً له رأي لا يشوب فِعْلَهُ شائبة، ففي مُكنتِه أن يحقق الأمل الذي يرجوه، وأن ينال خيرين معاً في وقت واحد: أن ينجو من القتل، وأن يُسلِمَ دون أن يكون في إسلامه مجال لِمُؤَوِّلٍ أو مُتَقَوِّل.
كان الهُرْمُزان قد عزم في سره على الإسلام، لكنه أراد أن يتخذ إليه هذا الأسلوب الذكي الحكيم، وهكذا كان. فقد قطعَ الصمتَ الذي ران على الجمع صوتُ الأسير الفارسي وهو يردد: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله".
وبُهِتَ الحاضرون وفرحوا، وسادَ الجوَّ نوعٌ من الإعجاب والصمت والدهشة والانتظار. لقد عصمَ الأسيرُ دمَهُ الآن ونجا من القتل، بل إنه الآن أخٌ لهؤلاء في الإسلام له ما لهم، وعليه ما عليهم.
وطفقَ الأسير الذكي الأريب ينظر في وجوه القوم مِن حوله يحاول أن يستقرئ من ملامحها وأساريرها ما الذي يجول في أفئدة أصحابها من مشاعر وخواطر، وظلَّ يتمعَّن في ذلك بهدوء وثقة، وصمتٍ واعتداد حتى سمع قول عمرَ يخاطبه: "ويحك! أسلمتَ خيرَ إسلامٍ فما أَخَّرك؟" قال الأسير الذكي: "خشيتُ يا أمير المؤمنين أن يقالَ: إن إسلامي كان جزعاً من الموت".
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق