عبد الله بن المبارك بين المحراب والحراب
كان طرازاً فريداً ممتازاً بين الناس، فقد اجتمعت له فضائل نادرة، يعظُم الإنسان إن أصاب بعضها، فكيف إذا امتلكها جميعاً!؟ علمٌ واسعٌ غزير، وزهدٌ شامخٌ عجيب، وورعٌ وتقوى، فضلاً عن جهادٍ بالنفس في سبيل الله.
كان من أرباب السيف، كما كان من أرباب القلم، كان إماماً في ساحة الجهاد، كما كان إماماً في محراب المسجد، قال عنه ابن كثير: كان كثير الغزو والحج، ولقّبه الذهبي بفخر المجاهدين، وكان يحج سنة ويغزو مرابطاً في سبيل الله سنة أخرى، وقد أدركته الوفاة وهو منصرف في بعض الثغور الإسلامية.
دهر طويل أنفقه في عمل جليل هو تعليم الناس وإرشادهم، وذلك في دروس الحديث والفقه، والتفسير والعلوم الأخرى. لكنه لم يكتفِ بذلك، فقد أنفق دهراً طويلاً آخر في عمل جليل آخر هو الجهاد في سبيل الله، وبذلك جمع بين اللسان المؤمن وبين السيف المؤمن فكان إماماً في الحالين.
وحتى حين يكون مرابطاً مجاهداً كان لا ينسى أن يعلِّم الناس العلم والحديث، فكان إذا وصل إلى الثغر اجتمع المجاهدون حوله يتعلمون منه العلم، ويكتبون عنه الحديث، كما يتعلمون منه الشجاعة.
كان حبه للجهاد قد ملَكَ عليه نفسه، فكان يحث الناس عليه، ويبيّن لهم أن العبادة تحت ظلال السيوف المجاهدة في سبيل الله، خير منها حيث الأمن والاطمئنان، وأبياته التي أرسلها إلى صديقه الفضيل بن عياض مشهورة، يقول فيها:
يا عــابد الحرمين لو أبصـرتنا لعــلمت أنك بالعبـــــادة تلعـب
من كان يخضب جيده بدموعه فنحورنـــا بدمائنـــا تتخضــب
أو كان يتعب خيـــله في باطل فخيــولنا يوم الصبيـحة تتعــب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنـا رهج السنابك والغبــار الأطيب
ولقد أتـانــــا من مقــــال نبينــا قول صحيح صـادق لا يكـذب
لا جمع بين غبار خيـل اللّه في أنف امرئ ودخان نـــار تلهب
هذا كتــــاب اللّه ينطـق بيننــــا ليس الشهيـــد بميــت لا يكذب
ولما قرأ الفضيل هذه الأبيات بكى وذرفت عيناه الدموع، وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح.
أتدري من هو هذا الرجل العظيم؟ إنه الإمام الجليل عبد الله بن المبارك رحمه الله رحمة واسعة.
خرج مرة مجاهداً في ديار الروم، فبرز رومي شجاع قتل ستة من المسلمين وهو يبارزهم حتى لم يخرج إليه أحد، فلما رأى عبد الله بن المبارك ذلك برز إليه فقتله وقتل ستة من الكافرين سواه، ثم عاد إلى مكانه الذي كان فيه هادئاً كأنه لم يفعل شيئاً.
ومن أعظم مواقفه التي تكشف نفسيته الصادقة المؤمنة الكبيرة، أنه كان إذا حضر القتال أبلى فيه أحسن البلاء، فإذا جاء وقت اقتسام المغانم غاب عن أخذ نصيب منها.
أيها الإمام المحدث المجاهد، إن النفوس معادن، منها النفيس ومنها الخسيس، وأنت معدن نفيس أصيل، ونفس حرة نبيلة، وكرم وإباء، وصدق وصفاء، وبطولة وفداء.
إن موقفك هذا يذكر بالأنصار الكرام، كتيبة الإسلام الأولى المؤمنة المتفانية في نصرة هذا الدين، أولئك النبلاء الأوفياء الذين كانوا يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع، فأنت تحذو حذوهم، تغشى الوغى وتقف عند المغنم.
لقد آثرت الجهاد على القعود، والمشقة على الراحة، والنصب على الدعة، والجوع على الشبع والظمأ على الري، والإيثار على الأثرة، ولنعم ما اخترت أيها العالم المحدث المجاهد!.
أما صدرك الذي تخضّب بالدم، فإنه شارة عز، ووسام بطولة، وإنه شاهد صدق يكشف عن نفسك التي هانت عليك في سبيل الله.
إن طاب لبعضهم لون من ألوان العبير، فإن عبيراً آخر قد طاب لك، فهو عندك أزكى وأروع وأمتع، ذلك أنه غبار المعارك إذ تشتد فترخص الأبطال نفوسها طلباً لجنة عرضها السماوات والأرض.
وإن طاب لآخرين أن تظل خيلهم في لهو وتسلية، فأنت والأبطال المجاهدون، تتعب خيولكم من الكر والفر في ساحة الجهاد.
تحدثوا عن كرمك فكان أعجوبة في البذل والسخاء، وتحدثوا عن زهدك فكان قمة في الرفعة والشموخ والأصالة، لقد زهدت وأنت غني وافر المال تسير القوافل في تجارتك الواسعة، فكان زهدك زهد القادرين لا زهد العاجزين، وزهد الأغنياء لا زهد الفقراء. وإليك هذه الأبيات لعلها تليق بك:
سموتَ على الطين حتى عظمتَ فـأدركتَ مجــــداً عظيم البنــــاءْ
وجــاهدتَ حتى حميـتَ الثغــور وأَرْقَلْتَ[1] ترجو كريم الثـــواءْ
وأنت المجــــــاهد إن أَقْبَــــــلَتْ جيــــوش البغــاة تسد الفضــــاءْ
وكـل الفضـــــائل قــد نـلتــــــها فــأنت الصفـــــاء وأنت السنــاءْ
فجـــودٌ كما يسـتطــــاب النــدى وبــذلٌ كما يسـتطــــاب العطـاءْ
وزهــدٌ أبيٌّ نبيــــــلٌ شـــــمـوخٌ وطهــــرٌ يضـــوع نـديُّ الرواءْ
*****
----------------[1] أَرْقَلْتَ: أسرعت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق