عفو الرشيد.. لا تعاودوني فيه
أن تعفوَ عن إنسانٍ أساءَ إليك، وكادَ لك، وعدا عليك، أمرٌ ليس بالسهل قط مهما حسبتَ أن القدرة تذهبُ بالحفيظة، والسطوة تطرد الغضب، إنه أمر في غاية الصعوبة، أن ترى عدوك اللدودَ المعاند وقد وقف بين يديك ضعيفاً أعزل لا يقوى على شيء، بينما أنت تقدر على البطش به ومعاقبته كيف تشاء، ثم تعفو من بعد ذلك كلِّه، وتترك المذنب الآثم، الأسير الأعزل دون عقاب.
إنه أمرٌ نادر، تفعله قلة من الناس نادرة، وإنما يفعلُه مَن يفعلُه مِن الناس بعد إذ يكون قد خاض في داخل نفسه معركة عنيفة ضارية تغلَّبَ فيها على دواعي البطش، وأسباب الانتقام، وتجاوزَ آفاق اللذة التي يعتصرها ساعة الانتقام مما يَصُبُّه على العدو، إلى آفاق لذة أخرى أشرف وأسمى يعتصرها ساعة العفو، هي لذة العفو نفسه، وضبط النفس، ومُغالبة الهوى، والانتصار على الرغبة العاتية المُلِحَّة التي تدعو إلى المبادرة للبطش والفتك.. واللذة الثانية هذه، أفقٌ سامٍ مُشرِق، لا يصله من يصله إلا في أعقاب مجاهدة عنيفة ضارية يخوضها عبر معركة نفسية داخل الذات، طويلة مُتعِبَة معقّدة.
ولعل التاريخ لم يعرف بطولاتٍ في الرجولة والعفو عَبر أحقابه الطويلة الممتدة، كما عرف ذلك في أبطال الإسلام، الذين كان لهم كلُّ موقفٍ مُعجِبٍ رائع، كرماً وأريحية، وبطولة وسماحة، وانتصاراً شامخاً داخل الذات، واستعلاءً نبيلاً على المتاعبِ والأهواء.
خرجَ أحدهم على الرشيد، وللخروج متاعب ومشاكل، ومطامِحُ ومَقاتِل، وسَخائِمُ ومَصارِع، وساعات أملٍ عريضٍ واسعٍ تبدو الدنيا معه زاهيةً بهيجة، باسمةً واسعة، وساعاتُ يأسٍ قاتلٍ مدمّرٍ تبدو الدنيا معه أضيق من ثقب الإبرة، وكأن الرجل المتمرد العاتي نظر إلى الرشيد وما غمره الله عز وجل به من نِعَمٍ عظيمة تجلُّ عن الوصف، فركبه الغرور والطمع، وحملاه على الخروج والعصيان.
وجَدَّ الرشيد في البحث عن الخارج، وبثَّ العيون والأرصاد، وطفق يفكر في الحيلة تِلوَ الحيلة، والمكيدة تِلوَ المكيدة للظفر به، قبل أن يستفحِل أمره، ويغدُوَ صعباً مُتعِباً.
وظفِرت جنود الرشيد بالرجل الخارج وجيء به أسيراً أعزل فوقف بين يديه.. وصمت الرجلان، وجالت في خَلَدَيْهِما الخواطر المختلفة المتناقضة، وبدا الصمتُ كأنه دهرٌ طويل.. سارع الرشيد يقطعه ويقول للخارجي في ثقة وقوة وتهديد: ما تريد أن أصنع بك!؟.
وسكت الرشيد، وسكت الحضور.. فإذا بصوت الأسير يعلو دون هَلَعٍ أو جزعٍ أو اضطراب، مجيباً على سؤال الخليفة في شجاعة لا نظير لها: اصنع بي ما تريد أن يصنع الله بك إذا وَقَفْتَ بين يديه، وهو أقدَرُ عليك منك عليَّ.
إجابة شُجاعةٌ من ناحية، ذكيةٌ من ناحية أخرى، جعلَتِ الرشيد في موقف صعب أمام نفسه، وأمام الحاضرين.
إجابة جعلَتِ الرشيد يُطرِقُ ملياً وهو يفكر في هذا المأزق الحرِج الذي وضعه فيه هذا الرجل المتمرّد، الذكي الماكر.. وتذكَّرَ الخليفة يومَ القيامة، وصعوباته وأهواله، ترى ماذا يريد أن يصنع الله تعالى به في ذلك اليوم العصيب؟ أيحاسبه حساباً دقيقاً عن كل شيء؟ ويؤاخذه بكل صغيرةٍ وكبيرة؟ إنه عندها قد ينتهي به الأمر إلى عذاب أليم يسوقه إليه زبانية الجحيم الشِّداد الغِلاظ.
ماذا يريدُ الخليفة أن يصنع به خالقهُ يومَ الدين!؟ أيفضحُه على رؤوس الناس جميعاً، ويكشف معايبه وأخطاءه، ويُظهِرُ ذنوبه وآثامه، وينشرُ صفحة سيئاته للعَيان يقرؤها الناس!؟ إنه لو حدث ذلك لكانت فضيحة له أيُّ فضيحة! وخسارة أيّ خسارة!.
كيف يحب الخليفة أن يُفعَلَ به في يوم القيامة!؟ أيتعلق به أصحاب الحقوق والمظالم، ويُطالِبه كلٌّ منهم بحقه أمام من لا تخفى عليه خافية في الأرض والسماء في ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم!؟
أم أن الخليفة يريد أن يعفو الله عنه يوم القيامة، ويستره، ويغفر له، ويتجاوز عن هفواته، ويُدخِله في رحمته وفضله وجوده!؟ لا ريب أن ذلك هو ما يريد الرشيد ويأملُ أن يُصنَعَ به في يوم القيامة الصعب العصيب، وإن ذلك لو تمّ له لكان في عِداد السعداء الناجين، الذين فازوا أعظم فوز وأكرمه وأبقاه على الإطلاق.
مثل هاتيك الخواطر كانت تجوب عقل الرشيد وقلبه، وتُثِيرُ فيه روح التسامح والعفو.. وتجعله أقربَ إلى أن يأمرَ بإطلاق سراح الرجل الواقف أمامه ينتظر ماذا يحكم الخليفة في أمره؟
إن الرجل قد ألزمَ الرشيدَ حُجّةً قويةً يصعُبُ دفعها، أثارت فيه كل هاتيك الخواطر.. كانت قولة الرجل الأسير تجوب عقل الرشيد وقلبه ويتردد صداها في أرجائهما: "اصنع بي ما تريد أن يصنع الله بك إذا وَقَفْتَ بين يديه وهو أقدَرُ عليك منك عليَّ".
ظلّت هذه القَولَةُ تأخذ مجراها حارةً دافقةً في خَلَدِ الرشيد، وظلّت الخواطر المختلفة تنقدحُ في فؤاده، وظلّ الحاضرون ينتظرون ما يأمر به، وظل المتمرّد الأسير يرقبُ ما الذي سوف يُفعَلُ به امتثالاً لما يأمر به الخليفة. ومرّت الدقائق طويلةً متراخية.. وقطعَ الصمتَ الثقيلَ آخِرَ الأمر صوتُ الرشيدِ وهو يأمرُ بإطلاقِ الأسير.
ومضى الرجل في هدوءٍ وتؤدةٍ وأناة، والحاضرون صامتون قد تَملَّكَهُم إعجابٌ كبير إلا نفراً منهم.
ورانَ على المكان صمتٌ قَطَعَتهُ خطوات الرجُلِ المنصرف، ثم قطعه صوت واحد من بين الحضور يقول للرشيد: يا أميرَ المؤمنين تُقتَلُ رجالُكَ، وتَفنى أموالُكَ، وتظفَرُ بهذا الذي خرج عليك ثم تطلِقه بكلمةٍ واحدة! إن هذا يا أمير المؤمنينَ يُجَرِّئُ عليك أهل الفساد.
وكانت كلمة فيها جوانب من الصحة غيرُ قليلة، وفكّر الرشيد في الأمر فتذكّر أن هذا الرجل الخارج المتمرّد قد كلّفهُ الكثيرَ من العناءِ والرجال، والأموالِ والعتاد.. فكيف يتركهُ بسببِ كلمةٍ بليغةٍ ذكيةٍ يقولُها!؟
إن الحزمَ من أسباب بقاء السلطان، وانتشار العدلِ والأمان.. فكيف يعفو عن هذا الخارجِ المتمرّد!؟ ونَشبَ صراع حادٌّ في داخله أيأمرُ بإعادة الرجل أم يتركهُ يمضي؟ وإذا أمرَ بإعادته أمَا يظنُّ ظانٌّ أن الرشيدَ ألعوبة بين يدي رجاله، وأنه لا رأيَ له حازماً نافذاً يُبْرِمُهُ ويُنْفِذُه!؟ وانتهى الصراع الناشبُ حين هتفَ الرشيدُ بالحاضرين: رُدُّوهُ عليَّ!.
وأعِيدَ الرجلُ ثانيةً أمام الرشيد، وهو هو.. حزماً وقوة، وصبراً وعزيمة، ورباطةَ جأش وثباتَ جنان. وأدركَ حالاً أنه قد سُعِيَ به لدى الخليفة، وكان صادقاً فيما قدَّر. ووقف أمامَ الرشيد يقول هذه الكلمات الوِضاءَ اللاتي تزهو كاللآلئ في الظلمةِ الداكنة: يا أمير المؤمنين، لا تُطِعْ فِيَّ مُشيراً يمنعكَ عفواً تدَّخِرُ به عند الله يداً، فإنه لو أطاع فيك مشيراً ما استخلفكَ طرفةَ عين، وأحسِنْ كما أحسنَ الله إليك!.
وأحسَّ الرشيد بهذه الكلمات تَنْفُذُ في أعماقِه، وتَبَيَّنَ –وهو الذكيُّ الأريبُ اللبيب– مدى ما فيها من صحّةٍ وصدق، ونقاءٍ وجلاء، وبيانٍ ووضوح، وبلاغةٍ وروعة، وعُمقٍ وجمال، فسارع يأمرُ بإطلاقِ سراح الرجل.. والتفت إلى الواقفين حوله يطلبُ منهم الكفَّ عن الحديثِ في أمرهِ وهو يقول: لا تُعاودوني فيه!.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق