أَلْبْ أَرِسْلان وحنوط الموت
في مطلع النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، كان شاب في العقد الرابع من عمره، صارم طموح، قوي النفس والعزيمة، متّقد الآمال، جيّاش المُنى، يحكم دولة واسعة عظيمة، تمتد من سهول تركستان إلى ضفاف دجلة، ذلكم هو السلطان العظيم أَلْبْ أَرِسْلان[1] السلجوقي.
وقد استقرت أركان دولته، وثبتت دعائمها، ساعد السلطان على ذلك وزيره المشهور، وعضده القوي، وعينه الساهرة، الوزير الشهيد نظام الملك.
كان أَلْبْ أَرِسْلان سلطاناً شجاعاً مجاهداً، خاض بنفسه المعارك الطاحنة، ومضى يصارع الدولة البيزنطية التي كانت يومذاك من أقوى خصوم الإسلام في العالم.
وكانت له غزوات كُللت بالنجاح، وزادت من بأس المسلمين قوة وشهرة، وكان أعظم هذه الغزوات، تلك المعركة التاريخية المشهورة ملاذكرد.
ففي عام (463هـ)، الموافق لـ(1071م) كان على عرش الحكم في قسطنطينية إمبراطور شجاع اسمه رومانوس، كان يتحرق إلى لقاء السلاجقة والانتصار عليهم. لذا سارع إلى حشد كل ما يستطيع من القوى في جيش ضخم لهام من الروم والصقالبة وبعض طوائف الإفرنج، بلغ عدده في رواية (100,000) مقاتل، وفي رواية أخرى (200,000) مقاتل.
وإذ سمع أَلْبْ أَرِسْلان بهذا الجيش اللجب سار من فوره بجيش يبلغ عده في رواية أربعين ألف فارس، وفي رواية أخرى خمسة عشر ألف فارس فقط لملاقاة الجيش الروماني الزاحف.
وفكّر السلطان المسلم إذ رأى التفوق الهائل لجيش العدو بأن يعقد هدنة مع رومانوس، فقد بدا له ذلك خيراً من الدخول في معركة عنيفة حاسمة، وفعلاً نفّذ ذلك، فقد بعث إلى رومانوس يطلب عقد الهدنة، فرأى الإمبراطور الروماني في ذلك دليل إحجام وضعف، فرفض عرض السلطان المسلم، وردّ عليه رداً خشناً جافياً.
وهنا، يبدأ الموقف العظيم، وتبلغ الأمور ذروتها، فإذا بها عجب وبطولة، وصدق وجهاد، وتضحية نادرة مشرّفة.
* * *
كانت الخواطر المختلفة تنثال على فؤاد السلطان المجاهد، تحمل إليه صفوفاً شتى من الخواطر والأحاسيس، لكن الآية الكريمة ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [سورة البقرة249]، كانت تُلِح عليه باستمرار، وتأخذ من اهتماماته مساحة شاسعة واسعة. ولم لا؟ أما انتصر المسلمون وهم قلة على خصوم هم أكثر عدداً وأقوى عدة؛ في بدر، والأحزاب، وحنين، والقادسية، واليرموك؟ وفي معارك أخرى كثيرة؟
أما أغنت شجاعة القلة المؤمنة، وحسن ثقتها باللّه عز وجل عن العدد الكبير، والعتاد العظيم؟
أليس ثمة فرق واسع بين طلاب الدنيا متاعاً وغنائم ولذائذ، وبين طلاب الأخرى زهداً وفداءً وتضحية؟
تلك وأمثالها كانت الخواطر والتساؤلات في فؤاد السلطان المجاهد العظيم... ومن خلال يقينه الصادق بصدق دلالتها، وصحة إشاراتها عزم السلطان على خوض المعركة الفاصلة.
واختار الاشتباك مع الروم في يوم الجمعة، وصلى بجنده وبكى خشوعاً وتأثراً، وبكى الناس معه، ثم امتطى فرسه، وقد لبس البياض، وتحنط استعداداً للموت، وأعلن لجنوده أنه إن استشهد فإن ساحة الحرب هي مثواه الأخير.
ودارت المعركة عنيفة ضارية، واستبسل فيها الجانبان، وثبتا في الميدان، وأبدى المسلمون منتهى البراعة والجَلَد والثبات، فما حلَّ المساء حتى أحدثوا ثغرة في جيش الروم، كانت بداية هزيمة شنيعة لهم، ونصراً للمسلمين مؤزراً عظيماً، ووقع الإمبراطور الروماني نفسه في يد السلطان المجاهد أسيراً.
* * *
أيها البطل العظيم؛ إليك هذه الأبيات المبهورة قبل صاحبها بك، واعذرني على التقصير:
بكــــاؤك النبــــل لا خوف ولا خـــورُ
ولا ارتيــــاع ولا عجز ولا ضجـــــرُ
بكــــاؤك المجــــد والأيـــــام شــاهدة
والشـــعـر والنثـــر والسُّمَّار والسَّـــمر
وما حنـــوطك إلا مهـــــر غـاليـــــــة
هي الشــــهادة ترجــــوها وتنتــــــظر
وجنــــة الله أغــــلى مُنْـــــية طُلِبــــت
ودربهــــا الموت والأشــــلاء والخطر
وأنت خـــاطبها والعــــرس ملحـــــمة
السيـــف صــــانعها والقوس والوتــــر
والخيـــل تصـــهل والفرســــان دامية
والموت يحصد من ضلُّوا ومن بطروا
وأنت في الله غــــازٍ جــــلَّ مطلبــــــه
بالحـــق معتـــصم بالطهر مؤتــــــزر
المــــال أنفس ما يسخو الرجـــــال به
وفخرهم أـنهم جـــــادوا بما ادخـــروا
أما سخـــــاؤك فهو الموت محتسبــــاً
وأنت تـقســــم هذا عندي الظفــــــــــر
*****
---------[1] أَلْبْ أَرِسْلان: معناه بالتركية: المحارب الأسد، واسمه محمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق