الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 09 - صدق رائع


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

09- صدق رائع:

     من أجمل ما يروع الدارس لحياة البارودي وشعره، صدقه مع نفسه، ولا غرابة في ذلك، لأن هذا الصدق ثمرة طبيعية للفروسية التي نشأ عليها وأشرب حبها، فرافقته في جميع مراحل حياته. وأخلاق الفروسية تدعو إلى الصدق، وتدعو إلى الوفاء، وهذان المعنيان من ألزم لوازم المراثي الجيدة.

     يقول البارودي في رثاء ابنته ستيرة التي جاءه نعيها وهو في المنفى:

فزعت إلى الدموع فلم تجبـــني     وفقـــد الدمـــع عند الحـزن داء
وما قصـــرت في جزع ولكــن     إذا غلب الأسى ذهب البكاء[1]

     وهو بهذين البيتين أبان عن حزنه الممض، ووجد عذراً لنفسه أنه لم يقل في ابنته سواهما، فقد استبد به الحزن فغلبه على البكاء، كما غلبه على النظم.

     أما صديقه عبدالله فكري الذي كان نوراً يمشي بين الناس، فهو يود أن يفتديه لو كان إلى ذلك سبيل:

ألا بأبي من كان نوراً مجسـداً     يفيض علينا بالنعيم رواؤه[2]

     ولولا يقينه أنه في جنة الله تعالى وهو ما يدعوه إلى الصبر والعزاء، لبكى عليه بكاء يسلمه إلى العمى:

ولـــولا اعتقـــــادي أنه في حظيــرة     من القدس لاستولى على الجفن ماؤه

     والمصيبة به هائلة هدته هداً، وفتكت بقلبه فتداعى، فإذا بالأطباء عاجزون عن علاجه، وللطب مداه المحدود الذي لا يعدوه:

عليك ســلام من فؤاد نزا به     إليك نزاع أعجز الطب داؤه

     وفي رثائه لصديقه عبدالله فكري وأستاذه حسين المرصفي، نجده حزيناً جداً، لسلسلة الكوارث التي توالت عليه ومنها موت الفقيدين المرثيين، خاصة أنهما ماتا وهو في المنفى:

لـم تـدع صـــــولة الحوادث مني     غيــــر أشـــلاء همة في ثيــــاب
فجعــــتني بوالــــــــــدي وأهـلي     ثــم أنحــت تـكـر في أتـــــرابي
كــل يـوم يـــزول عني حبـــيـب     يــا لقـــلبي من فرقة الأحبــــاب
أين مني حسين، بل أيـن عبد اللـ     ــه رب الـكمـــــــــــال والآداب
مضيــــا غير ذكرة وبقــــاء الـذ     كــر فخـــر يــدوم للأعقـــــــاب
لم أجــــد منــــــهما بديلاً لنفسي     غير حزني عليهما واكتئابي[3]

     إن موت أقربائه وأصدقائه، جعل منه بقية أشلاء، ذلك أن المحنة بهم طحنته طحناً، فجعته بذويه، ثم مضت تفجعه بصحبه، فيزول كل يوم منهم حبيب، فأنى لقلبه أن يحتمل ذلك كله؟ وأنى له أن يجد بديلاً عما يكابد من أحزان؟

     أما رثاؤه لزوجته عديلة يكن فهو درة مراثيه، وهي قصيدة رائعة تفيض بالصدق والوفاء والحزن المرير والتصوير الحي، لذلك لا غرابة أن كانت أفضل مراثيه وأروعها، ولذلك لا غرابة أن وجدنا الدكتور شوقي ضيف يصفها بأنها ((تعد من غرر المراثي في لغتنا العربية))[4].

     ومن البيت الأول من القصيدة نشعر بالحرقة على الفقيدة العزيزة التي ضاعف حزنه عليها أنها ماتت أيام نفيه:

أيد المنون قدحت أي زنـــــاد     وأطرت أية شعلة بفؤادي[5]

     إن الشاعر يسأل الموت سؤالاً محزوناً مريراً عن النار التي أوقدها في قلبه، وهي نار أوهنت عزمه وكان قوياً وحطمت جسمه وكان صلباً وأصابته بسهم حل في سواد قلبه، فإذا بدموعه تنهل على خديه كأنها دماء جارية:

أوهنــــت عزمي وهو حملة فيلق     وحطمت عودي وهو رمح طراد
لم أدر هل خطب ألم بســــــاحتي     فأنــــاخ أم سهم أصـــاب سوادي
أقـذى العيـــون فأسبـــلت بمدامع     تجــري على الخدين كالفرصــاد

     والشاعر لقوة شخصه وما أشربه من الفروسية التي تجعل أبناءها رجالاً أشداء، لم يكن يحسب أنه يراع لحادث، فلما ماتت زوجته تبين له أن موتها فوق طاقته، فإذا به لا يحتمل المصاب، وإذا بالحزن يبليه حتى يكاد جسمه لا يبين للعواد الزائرين الذين جاؤوه للتعزية، وإذا به يستنجد الزفرات وهي محرقة، ويحاول كتم الدموع لكنه لا يستطيع:

ما كنت أحسبني أراع لحادث     حتى منيــــت به فأوهـن آدي
أبلتني الحسرات حتى لم يكـد     جسمي يـــلوح لأعين العـواد
أستنجد الزفرات وهي لوافـح     وأسفه العبــرات وهي بوادي

     وفي بيت رائع يصور لنا حزنه الكبير، فهو بين أمرين كلاهما مر صعب، اللوعة لا تدع فؤاده، ويده لا تقوى على رد الفقيدة الغالية:

لا لوعتي تـدع الفؤاد ولا يدي     تقوى على رد الحبيب الغادي

     وفي أبيات جميلة تفيض بالحزن المرير يناجي الشاعر الدهر الذي سلبه زوجته ويسأله عما حمله على ذلك، ولماذا لم يبقها لأولاده إن لم يشأ إبقاءها له، ويصور له كيف ساء حال بناته من بعدها بسبب جنايته، فهن منفردات ليس لهن من يحميهن، لا يقدرن على النوم، وعيونهن متقرحة من البكاء، وأكبادهن مضطربة من الحزن، تركن عقود الدر التي كانت تحيط أعناقهن، وجعلن من دموعهن قلائد بديلة، خدودهن ندية بالبكاء الدائم وقلوبهن محترقة من الهم والغم:

يـــا دهر فيم فجعتـــــني بحليلة     كانت خلاصة عدتي وعتـــادي
إن كنت لم ترحم ضناي لبعدها     أفـلا رحمت من الأسى أولادي
أفردتهن فــــلم ينمن توجعـــــاً     قرحى العيون رواجف الأكبـاد
ألقيـن در عقودهن وصغن من     در الدموع قلائـــــد الأجيـــــاد
يبـــكيــن من وله فراق حفيـــة     كانــت لهن كثيـــــرة الإسعــاد
فخــــدودهن من الدموع نديــة     وقلوبهن من الهمــوم صــوادي

     لقد استطاع الشاعر أن ينقل لنا صورة حية من أحزانه على الزوجة الفقيدة، وعلى بناته اللواتي هدتهن الكارثة، وصور لنا حالهن في مشهد درامي موجع.

     ويتوجع البارودي لزوجته، وكيف ارتحلت عن منزلها الذي كانت نوره وضياءه لتصبح رهينة في جوف قبر أغبر مظلم مغلق:

أسليلة القمرين أي فجيـــــعة     حلت لفقدك بين هذا النـــادي
أعزز علي بـأن أراك رهينة     في جوف أغبر قـاتم الأسداد
أو أن تبيني عن قرارة منزل     كنت الضيــــاء له بكل سواد

     ويوفق البارودي كذلك في تصوير حزنه على زوجته الفقيدة، فجوانحه لا تقر بعدها، وفراشه لا يلين له. وألمه عليها رفيق دائم له، ودمعه ملازم لوسادته كلما جاء ينام، وحين ينتبه من نومه فهي أول من يتذكره، وحين يأوي إلى فراشه فهي آخر ما يصطحبه، لذلك صار نموذجاً غريباً للحزن ينظر إليه الناس ما تجددت المصائب، وصار خاشعاً ضعيفاً يمشي مستخفياً حذر عدو له قد يفاجئه ويؤذيه:

هيهات بعدك أن تقــــر جوانحي     أسفـــاً لبعــــدك أو يلين مهــادي
ولهي عليك مصاحب لمسيــرتي     والدمع فيــــك ملازم لوســــادي
فإذا انتبهت فأنت أول ذكـــــرتي     وإذا أويت فـــــأنت آخـــر زادي
أمسيت بعدك عبرة لذوي الأسى     في يوم كل مصيبــــة وحــــــداد
متخشعــــاً أمشي الضراء كأنني     أخشى الفجاءة من صيال أعادي
ما بين حزن باطن أكل الحشــــا     بلهيب سورتــــه وسقم بــــــادي

     ويوفق البارودي في إبراز عاطفته الحزينة، حين يصور هول الكارثة على نفسه أول مفاجأة النبأ له، وخاصة في التناقض الحاد بين الأمل الذي كان وهماً، والكارثة التي باتت حقيقة:

ورد الـبـريد بغيـــــــر ما أملته     تعس البريد وشاه وجه الحادي
فسقـــــطت مغشياً علي كأنــما     نهشت صميم القلب حيـة وادي
ويـلـمه رزءاً أطــــــار نعيـــه     بالقـــــلب شعـــــلة مارج وقاد
قد أظلمت منه العيــــون كأنما     كحل البـــكاء جفـــونها بقتـــاد
عظمت مصيبته علي بقدر مـا     عظمت لدي شماتة الحســــــاد

     إن حزنه الصادق يظهر في هذه الأبيات بأجلى حالاته، لقد تناول البريد وهو يرجو أن يجد فيه ما يسره فإذا به يجد ما يسوؤه، لذلك يدعو عليه، ويدعو على حملته، ويسقط على الأرض فاقداً وعيه كأن حية سامة نهشت قلبه، ذلك أن المصاب أوقد فيه النار، وأجرى دموع عينيه اللتين كأنما وخزتهما الأشواك، وعظمت عليه مصيبته بفقدان الزوجة الغالية كما عظمت عليه مصيبته بشماتة الحاسدين.

     ويحمل البارودي في مودة حانية ورقة بالغة وصدق ظاهر، النسيم الذي يهب رسالة منه إلى قبر الفقيدة، ينقلها من منفاه البعيد إلى حيث دفنت الفقيدة في مصر، وفي الرسالة مودة وتحية للزوجة العزيزة، وفيها يبثها شكواه ممن حوله في المنفى إذ أخذوا يتلاومون، صحت أجسادهم ومرضت قلوبهم، وفشا فيهم الحسد، حتى إنهم يريدون الإحسان إلى أنفسهم من خلال الإساءة إليه:

سر يا نسيــم فبـــــلغ القبر الذي     بحـمى الإمام تحيــــتي وودادي
أخبـــره أني بعــــده في معشــر     يستجلبـــــون صلاحهم بفسادي
طبعـــوا على حسـد فأنت تراهم     مرضى القلوب أصحة الأجساد
ولو انهم علموا خبـيئة ما طـوى     لهم الردى لم يقـدحوا بزنــــــاد

     ويختم البارودي قصيدته الرائعة بأبيات تفيض بالصدق والوفاء، والدعاء واللوعة، وحفظ عهود المودة، فيقول:

فاستهد يا محــمود ربك والتـمس     منه المعــــــونة فهو نعم الهـادي
واســـأله مغفرة لمن حل الثــرى     بالأمس فهو مجيب كل منــــادي
هي مهجة ودعت يوم زيــــــالها     نفسي وعشـــت بحسرة وبعــــاد
تالله ما جفت دموعي بعــــــد مـا     ذهب الردى بك يا ابنة الأمجــاد
لا تحسبيني ملت عنك مع الهوى     هيهات ما ترك الوفاء بعــــــادي
قد كدت أقضي حسرة لو لم أكـن     متوقعــــاً لقيـــــاك يوم معـــادي
فعـليـــك من قـلبي التحيــــة كلما     نــاحت مطــــوقة على الأعــواد

     إن الشاعر يطلب من ربه الرحمة للفقيدة الغالية، التي ودع بوداعها كل شيء وانكفأ على نفسه منفرداً متحسراً، وهو يقسم أن الدموع ما جفت على الراحلة العزيزة، يحمله على ذلك الوفاء الذي عرف به، والذي يجعله يتذكرها على الدوام.

     إن مرثية البارودي لزوجته عديلة يكن، قصيدة حية مؤثرة، استكملت كل الأدوات اللازمة لتظفر بالتفوق في مستوى شعر البارودي، وفي مستوى الشعر العربي. يقول الدكتور علي محمد الحديدي عنها:((ومطولة البارودي التي يبكي فيها زوجته الحبيبة ويندبها على البعد، من نادر الشعر العربي، فقليلاً ما رثى الشعراء العرب زوجاتهم ... وقد استطاع البارودي أن يصور الحزن الحقيقي على الحبيب الفقيد، حتى ليكاد المرء يحس من القصيدة لهفة الشاعر وقد وهن عزمه، في عباراته، ويشعر بجمرات الحزن في كلماته، ويرى الدمع مدراراً على وسادته، والحزن في القصيدة حزن عميق جدير بأن يعد نموذجاً في الشعر العربي للعاطفة الصادقة))[6].

     وقصيدة البارودي في ابنه علي الذي توفي أيام نفيه، هي من أجمل مراثيه وأحفلها بالحزن واللوعة والصدق:

كيــف طوتــك المنـــــون يا ولـــدي
               وكيـــف أودعتـــــك الثـــرى بيــدي
واكبـــــدي يـــا عــلي بعــــــــدك لو
               كــــانت تبــــل الغليــــل واكبـــــدي
فقـــــدك ســــل العـظــــــام مني ور
               د الصبر عني وفت في عضدي[7]

     إنه يتساءل متعجباً متحسراً كيف طوت المنون ابنه الصغير، وكيف استطاع أن يودعه الثرى بيديه، وهو محترق الكبد لوفاته التي أضعفت جسمه، وردت صبره، وفتت في عضده.

     ودمع الشاعر مقترن بأرقه الدائم، وهو ما أضعف عينه التي اجتمع عليها البكاء والسهر معاً، ولهفته على معالم النجابة وأمارات الذكاء مما رآه في ابنه الفقيد لا تنتهي، ومما زاد في حجم المصيبة أن المفاجأة فيها كانت من حيث لا يتوقع، ولذلك فهو يود أن يعصف به الهيام لا الحلم لولا بقية من حياء تدعوه إلى الصبر:

كــم لـيــــــلة فيـــك لا صبـاح لهـا
               سهـــــرتهــا بــاكياً بـلا مـــــــــدد
دمــــــع وســــــهـد وأي نـــاظرة
               تبــــقى عــلى المدمعيـــن والسهد
لهـــــفي على لمحــــة النجــابة لو
               دامت إلى أن تـفــــوز بالســـــــدد
ما كنت أدري إذ كنت أخشى عليـ
               ـك العيـــن أن الحمــــــام بالرصد
فاجــــأني الدهر فيـك من حيث لا
               أعلم ختــــلاً، والدهر كالأســـــــد
لولا اتقاء الحياء لا عتضـت بالـــ
               ــحـــلم هيـــــاماً يحيــق بالجـــــلد
لـكن أبــت نفـسي الـكـــــريمة أن
               أثــــلـم حــــد العـــــزاء بالـكمــــد

     ويطلب الشاعر من قلبه أن يبكي على ابنه، لأن بكاء القلب يبلغ ما لا يبلغه بكاء العين، وإذا كان الموت قد أطبق على الولد فإن المصاب به أطبق على الوالد، الذي يسلم على ابنه أحسن سلام ويودعه أحسن توديع:

فليبــــك قلبي عليك فالعيـن لا     تبـــلغ بالدمع رتبــة الخــــــلد
إن يك أخنى الردى عليك فقـد     أخنى أليم الضنى على جسدي
عليك مني الســــلام توديـع لا     قـــال، ولكن توديع مضطهــد

     ويبدو أن حزنه على ابنه علي ظل يتجدد. لذلك نجده يعود مرة ثانية إلى رثائه له في قطعة من سبعة أبيات تفيض بالحزن الصادق:

بكـيــــت علـيــــاً إذ مضى لـسبيــــــــــــله
               بعيـــــن تـــــكـاد الروح في دمعها تجـري
وإني لأدري أن حــــــــــزني لا يـــــــــفي
               برزئي ولــكـن لا سبيــــــل إلى الصبـــــر
وكيـــف أذود الـقـــــلب عن حســــــــراته
               وأهــــون ما ألـقــــــاه يصدع في الصخــر
يـلومونني أني تجـــــاوزت في الـبــــــــكا
               وهـل لامرئ لم يبــــك في الحزن من عذر
إذا المــــرء لم يـفــــرح ويحــزن لنعــــمة
               وبـؤس فلا يـــرجى لـنفــــــع ولا ضـــــــر
وما كـنــــت لولا قســـمة الله في الـــــورى
               لأصبـــــر لـكنــــا إلى غـــــــاية نســــري
لقـــد خفـــــف البـــلوى وإن هي أشـــرفت
               على النفس ما أرجوه من موعد الحشر[8]

     وعاد البارودي لرثاء ابنه أيضاً مرة ثالثة، وتكرار الرثاء ثلاث مرات يدل على الحزن العميق من ناحية، وعلى العاطفة المتقدة من ناحية:

لم أصطبـــر بعدك من سلوة     لكن تصبــــرت على جـــمر
وشيــــمة العاقل في رزئـــه     أن يسبق السلوة بالصبر[9]

     ويدفع الوفاء البارودي إلى رثاء حاضنته في ثلاثة أبيات تفيض بالحزن الصادق عليها، يحلف لها فيها أنه لن ينساها، ولن ينسى كريم أخلاقها، ويدعو لها بالجنة:

أمريــــم لا والله أنســــــــاك بعـــــــــــد ما
               صحبتــــك في خفــض من العيش أنضـــر
فقـــــد كنــــت فينــــا بـــرة القول ســـــرة
               سليــــــمة قــــلب في مغيــــــــب ومحضر
فلقيــــت من ذي العرش خيــــــر تحيـــــة
               توافيك في روض من القدس أخضر[10]

     ويتوجع البارودي لوفاة صديقه أحمد فارس الشدياق، توجعاً يجعل جنبه لا يقر، وفؤاده منصدعاً للمصاب الذي كان كبيراً بحيث شعر أصحابه أنهم فقدوا به ما يفتقده الظامئ، حين لا يجد الماء للشرب أوان اشتداد حاجته إليه:

أبعد سمــــير الفضل أحمد فارس     تقر جنـــــوب أو يلائم مضجــــع
كفى حزناً أن النوى صــدعـت به     فــؤاداً من الحدثـــــان لا يتصدع
وما كنت مجزاعاً ولكن ذا الأسى     إذا لم يســــاعده التصبر يجـــزع
فقدناه فقدان الشــراب على الظما     ففي كل قلب غلة ليس تنــقع[11]

     وفي رثائه لأمه نجده محزوناً حزناً مراً عليها، فقد غالها الموت الذي لا يرحم، وكان يود أن تسلم ويموت بدلاً عنها، وحياته لا قيمة لها بعد خسارته لأمه التي فقدها كما يفقد الظمآن الماء العذب وقد ألح عليه الظمأ، وقد اشتد به الحزن لوفاتها شدة أمرضته، ولم يبق له منها إلا ذكرى تحزن وطيف يزور، لقد كانت له سروراً وبهجة خسرهما بوفاتها:

لعـــمري لقد غال الردى من أحبـــه
               وكــــان بودي أن أمـــوت ويســـلما
وأي حيــــاة بعـــد أم فقــــــــــدتهــا
               كما يفقد المرء الزلال على الظمــــا
تولـــت فولى الصبــر عني وعادني
               غرام عليـــها شف جسمي وأسقـــما
ولم يبـــق إلا ذكرة تبعــــــث الأسى
               وطيــف يوافيـــني إذا الطرف هوما
وكانت لعيــــني قـــرة، ولمهجــــتي
               سروراً فخاب الطرف والقلب منهما
فــلولا اعتقــــــادي بالقضاء وحكمه
               لقطعــــت نفسي لهفـــة وتندما[12]

     ويدعو البارودي لوالدته بالرحمة، وأن تشرب من الكوثر كأساً عذبة شهية، ويطلب من قلبه البكاء عليها لأن القلب أوفى للعهود، ويقسم لها إنه لن ينساها ما أشرقت شمس وما حن طير حتى يلقاها بين يدي الله:

سقتــــك يد الرضوان كأس كرامة
               من الكوثر الفياض معسولة اللمى
ولا زال ريحــان التحية ناضــــراً
               عليك وهفـــــاف الرضا متنســـما
ليبــــك عليك القلب لا العيـن إنني
               أرى القلب أوفى بالعهــود وأكرما
فو الله لا أنســـاك ما ذر شــــارق
               وما حن طيـــر بالأراك مهيــــنما
عليك ســــلام لا لقــــــاءة بعــــده
               إلى الحشر إذ يلقى الأخير المقدما

     ويفيض رثاؤه لعلي رفاعة الطهطاوي بالحزن الصادق العميق، وبالثناء المستطاب على الفقيد الكريم:

مضى وأقـمنـــــا بعــــده في مــــآتم
               عـلى الفضل نبـــــكيه بأحمر قــاني
فـــلا عين إلا وهي بالدمع ثــــــــرة
               ولا قــــلب إلا وهو ذو خفقـــــــــان
حفــــاظاً وإشفاقــــاً على متــــرحل
               خـــلت أربع من شخصـه ومغـــاني
فقـدنـــــاه فقــــدان الظماء شــرابهم
               بديمـــومة والـــورد لـيــــس بــداني
لعـــمري لقد هــــاج الأسى بعد فقده
               بنــــا لـوعــــة لا تنثـــــني بعنــــان
ضمـــان على قلبي صيـــــانة عهده
               وما خيــــر قلب لا يفي بضـــــــمان
لـقـــد كان خـــلاً لا يشان بغــــــدرة
               وصـــاحب غيــب طـــاهر وعيـــان
خـــلال يفوح المسك عنها محدثـــــاً
               ويثـــــني على آثـــــارها الملـــــوان
فلا غرو أن تدمى العيون أســـــــافة
               عليك ويرعى الحزن كل جنان[13]

     فالبارودي يصور عظم الكارثة التي حلت بوفاة المرثي، فشاع الحزن، وبكى الناس دماً أحمر قانياً عليه، ولا غرابة في ذلك فقد فقدوه أحوج ما يكونون إليه كما يفقد الظماء الماء وهم منقطعون في الصحراء. ويتعهد البارودي محمولاً بوفائه وأخلاقه أن يظل حافظاً عهد الفقيد الذي كان طاهراً في السر والعلن، متصفاً بأفضل الأخلاق التي تضوع كالمسك، ويثني عليها الليل والنهار، ولذلك لا غرابة أن يحزن عليه الجميع وأن تدمى عليه العيون والقلوب.

     ورثاء البارودي لأخته يصور تصويراً حياً حزيناً ألمه عليها، حيث نجد أن مقلته يذهب البكاء بها، وحين تنفد الدموع يسيل الدم، ذلك أن الشقيقة الفقيدة كانت نادرة في دينها وحيائها وعفافها وثقافتها وكانت تطارحه فنون البلاغة والإنشاء:

هي مقـــلة ذهب البكــــاء بمائها     مقذية والبيـــــــــن من أقــذائها
نفــــدت مدامعها فأعقــــــبها دم     تجـــــري سوابقه على أرجائها
تبكي لصورة عفة حجب الردى     عني براعة فضـــــلها وروائها
أخت وما الأخـــوات كن كمثلها     في دينــــها وعفافها وحيــــائها
ذهبت وأبقت في فــؤادي لوعة     تترقص الأحشـــاء من برحائها
كانت تطارحني فنــــون بلاغة     مصقولة الأطراف من إنشــائها
ماذا على الأيـــــام وهي بخيـلة     لو أنها سمحت لنـا ببقـائها[14]

     وحين رثى صاحباً له، اعتصره الحزن فأحسن وأجاد، وهو يثني على الفقيد من ناحية ويصف أحزانه من ناحية أخرى:

يــا فقيــد العـــــلم والوطــن     بنــت عن عيني ولم تبــــن
أنت في قــــلبي وإن ذهبـت     بــــك عني غـــــدرة الزمن
كيف لا يبــــــكيك ذو شجن     أنت منه موضع الشجـــــن
كان قـلبي للســـــــرور فمذ     غبــــت عني صار للحـزن
قد أشـــــت الدهر ألفتـنـــــا     ليت هذا الدهر لم يكن[15]

     إن الفقيد بان عن الدنيا لكنه لم يبن عن قلب الشاعر الذي يبكيه إذ عصف به الزمن، وقلب الشاعر الذي كان للسرور باجتماعه مع صديقه، صار للحزن بعد أن تمزق الشمل فمات الفقيد وترك الشاعر وحيداً يبكي فيه الألفة الزائلة.

     وهكذا يظل الصدق الذي عرف به البارودي في حياته بارزاً في شعره عامة وفي رثائه خاصة، وهو صدق مبعثه نفس وفية ترى الكذب عاراً والنفاق دناءة، ومبعثه أيضاً بكاء أقارب رحلوا، وأصدقاء ماتوا، زاد من فجيعة الشاعر بهم أن معظمهم حل بهم الموت وهو في المنفى فكانت المصيبة بهم مضاعفة.

     وهو صدق يجعله ــ وهو الفارس الأبي ــ لا يخجل من تصوير وقع الكارثة عليه وضعفه أمامها، ويجعله يسائل الدهر عن سبب جنايته على من يحب، ويدعو على البريد وحامله حين وافاه بغير ما أمل، ويحمل النسيم تحية حارة من سيلان إلى القاهرة، ويعاهد على دوام التذكر وطلب الرحمة، ويتمنى لو استطاع أن يكون الفداء لو كان إلى ذلك سبيل.

     هذا الصدق في حياة الشاعر وفي مواقفه، وفي شعره هو أمر يلمسه الدارس للبارودي حيث توجه، لذلك قرر الدكتور شوقي ضيف وهو يتحدث عن صدق التجربة عند البارودي أن ((شعر البارودي صورة صادقة لحياته وقومه وبيئته المصرية وكل ما ألم به من بيئات، وهو يروعنا بهذا الصدق الذي لا يشوبه تمويه، وهو صدق استتبع في قصيدته أن تكون تجربة فنية أحسها الشاعر وملأت جنبات قلبه وهي تجربة لا تزال أبياتها تتولد من نفسه متلاحقة، بيتاً من وراء بيت، حتى تتم القصيدة صورة لنفسه ومشاعره ... فالقصيدة تنفصل من ذات نفسه صورة صادقة أمينة كأجمل ما تكون الأمانة والصدق، وكان يشعر بذلك شعوراً عميقاً بل شعوراً متأصلاً في أطواء نفسه ... وحقاً لم يجر في نفسه شيء إلا صوره في شعره وجسده تجسيداً، وكأنه يقتطعه منها اقتطاعاً، وكانت نفساً خصبة، عمقت اتصالها بالحياة وكل ما أحاط بها اتصالاً زادها خصباً إلى خصب، وهو اتصال أعد لتطور واسع في شعرنا الحديث إذ وصله بحياتنا الواقعة وانطباعاتها المختلفة))[16].

     وقد يكون صدق البارودي في مراثيه أحد الأسباب التي جعلته مقلاً فيها، فهو لا يرثي إلا محزوناً منفعلاً، وبهذا نجا مما وقع فيه شوقي وحافظ إذ كانا يرثيان في بعض الأحيان، مدفوعين بالمجاملة أو المنافسة أو الرغبة في الظهور. يقول الأستاذ عمر الدسوقي:((ولم يرث البارودي إلا صديقاً أو قريباً، فلم يكن رثاؤه مفتعلاً أو من شعر المناسبات، وإنما كان منبعثاً من عاطفة صادقة))[17]، يضاف إلى ذلك أن معظم مراثي البارودي قالها في فترة النفي، وهو ما جعل عاطفته أكثر صدقاً وأشد انفعالاً، وقد ذكر ذلك الأستاذ عمر الدسوقي حيث قال:((ومما زاد رثاءه حرارة أنه قال معظمه وهو في المنفى فزاد في أساه لوعة النوى عن الوطن وحرمانه من التزود من الميت بنظرة أو حديث))[18].

وقد لاحظ الأمر نفسه الدكتور إبراهيم السعافين حيث قرر أن الرثاء عند البارودي كان ((غرضاً ذاتياً خالصاً، قصره على أصدقائه الأقربين وذويه الأدنين، كالزوجة والوالدين والأبناء والأصدقاء الخلصاء، ولم يؤثر عنه أنه رثى كما رثى شعراء البلاط، بل كان رثاؤه متصلاً بذاته لا يتعداها إلى المجاملة والتكلف، لهذا فإن هذا الغرض لم ينل حيزاً كبيراً في الديوان))[19].

     وهكذا يمكن للدارس أن يقرر أن صدق التجربة عند البارودي كانت أحد الأسباب الأساسية في قلة مراثيه حيث لم يرث إلا منفعلاً محزوناً، غير محمول بدافع من دوافع المجاملة أو المنافسة. وحين أشاد الدكتور عبدالقادر القط بالبارودي، ودوره التجديدي وتفوقه وريادته، جعل من ذلك ((التجربة الصادقة واللمسات الذاتية)). يقول: ((أما البارودي فقد أتاحت له موهبته وظروف حياته أن يؤدي دوره في حركة الإحياء تلك، على خير ما كان يمكن أن يؤدي في ذلك العصر، فشعره يكاد يشبه في نسجه ومعجمه وبناء عبارته وصوره وأخيلته شعر الكبار من شعراء العصر العباسي ... وهكذا اجتمع في شعر البارودي أسلوب، إن يكن قديماً فهو على أية حال جديد بالنسبة إلى عصره، متفوق كل التفوق بالقياس إلى عصور التخلف، وتجربة صادقة ولمسات ذاتية طالما افتقدها الشعر العربي في تلك العصور))[20].

-------------------
[1] الديوان 1/81.
[2] الديوان 1/81.
[3] الديوان 1/104.
[4] البارودي رائد الشعر الحديث، ص 122.
[5] الديوان 1/237.
[6] محمود سامي البارودي، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967م، ص 165-166.
[7] الديوان 1/248.
[8] الديوان 2/111.
[9] الديوان 2/112.
[10] الديوان 2/111.
[11] الديوان 2/242.
[12] الديوان 3/394.
[13] الديوان 4/99.
[14] د. سامي بدراوي: أوراق البارودي، ص 70.
[15] المرجع السابق، ص 108.
[16] البارودي رائد العصر الحديث، ص 187 – 188.
[17] محمود سامي البارودي، ص 42.
[18] المرجع السابق، ص 42.
[19] مدرسة الإحياء والتراث، دار الأندلس، بيروت، ط1، 1981م، ص 173 – 174.
[20] الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، ص 25 – 26.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 08 - ملامح بدوية


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

08- ملامح بدوية:

     اتصل البارودي اتصالاً مباشراً بدواوين الشعر العربي القديمة، وتتلمذ عليها، وتمثل صورها وأخيلتها وتقاليدها، ولم يتعلم الشعر على طريقة معاصريه، فنجا بذلك من أن يكون شاعراً عروضياً على حد تعبير العقاد[1]، ونجا من تمثل الصور المسفة للشعر العربي في عصور ضعفه، التي أضاعت معانيه وديباجته وإشراقه وحيويته بسبب ما فشا فيها من تكلف وبديعيات وموضوعات تافهة.

     وقد كان في هذا اللون من الاتصال نفع كبير، ذلك أن البارودي تجاوز به عصره، وطوى الزمان فتعامل مع أروع نماذج الشعر العربي في أفضل عصوره، فكان أن ارتفع بهذا التعامل، ثم رفع بما صنع مستوى الشعر فكان رائداً حقاً، فنياً وموضوعياً على حد سواء.

     واتصال البارودي الوثيق بدواوين الشعر العربي الأولى، وهو شعر نشأ في البادية حيث اكتملت فيها تقاليده الفنية، جعل أثر البادية واضحاً في شعره أكثر من شوقي وحافظ، لذلك لا نخطئ أن نلمس معالم ذلك بشكل واضح، وقد أعان البارودي على الأمر، أنه كان فارساً تمثلت فيه أخلاق الفروسية أصدق تمثيل، وأنه كان مقاتلاً حقيقياً له في القتال مجد باذخ، وبادية العرب كانت تحفل بالفرسان الذين ملأت صورهم خيال البارودي فنالوا من إعجابه واحتذائه الشيء الكثير.

     يرثي البارودي زوجته فنجد العناصر البدوية واضحة في مرثيته تماماً من قدح الزناد طلباً للنار، ومن رمح الطراد والقتال، ومن إناخة المصيبة كما ينيخ البعير:

أيـد المنــــون قدحت أي زنــــــاد     وأطــرت أيـة شعـــلة بـفــــؤادي
أوهنت عزمي وهو حــــملة فيلق     وحطمت روحي وهو رمح طراد
لم أدر هل خطـــب ألم بســـاحتي     فأناخ أم سهم أصـاب سوادي[2]

     ويصور نفسه كيف صار خائفاً ذليلاً بعد فقد زوجته، فهو يمشي خاضعاً كأنه يخشى الغارة من أعداء له يكادون يسطون به، كما جرت العادة في حياة البادية:

متخشعــــاً أمشي الضراء كأنني     أخشى الفجاءة من صيال أعادي

     وعيناه باكيتان كأنما وخزهما القتاد بشوكه الصلب ذي الإبر، فأظلمتا إذ كان القتاد لهما بديلاً عن الكحل:

قد أظلمت منه العيون كأنما     كحل البكاء عيونها بقتـــــاد

     ولو أن الدهر يخاف سطوة شجاع أو سطوة فاتك لفعل به ما فعله الحارث بن عباد يوم تحلاق اللمم في حرب البسوس إذ انتصف به لقومه بكر من تغلب:

لو كان هذا الدهر يقبــــل فدية     بالنفس عنك لكنت أول فـــادي
أو كان يرهب صولة من فاتك     لفعلت فعـــل الحارث بن عباد

     وهو لا يرضى أن يبكي على زوجته عاماً واحداً كما فعل لبيد حين طلب من ابنتيه ذلك، على ما جرت عليه عادة البدو مع موتاهم:

فلئـــن لبيــــد قضى بحول كامل     في الحزن فهو قضاء غير جواد

     ورثاؤه لوالده ينقلنا إلى جو البادية منذ البداية، فنجد أنفسنا مع عناصرها المختلفة تحيط بنا حيث نكون:

لا فـــــارس اليوم يحمي السرح بالوادي
               طــاح الردى بشهــــاب الحي والنـــادي
مــات الذي ترهــب الأقــران صولتـــه
               ويتــــقي بـأســـه الضرغـــامة العــادي
هــل للمكـــارم من يحـيي منـــــاسكهــا
               أم للضــــلالة بعـــد اليــــوم من هـادي
جف الندى وانقضى عمر الجدا وسرى
               حـــــكم الردى بين أرواح وأجســـــــاد
فـلتمــــرح الخيــل لهواً في مقـــــاودها
               ولتصـــدأ البـــيض ملقــــاة بأغماد[3]

     إننا نجد أنفسنا أمام واد خلا من فارسه الذي يحمي حوزته حيث أطاح الردى بمقدم القبيلة والحي، وحيث هلك الشجاع الذي كان أنداده يخافون لقاءه في الحرب، فجف بموته الكرم والسخاء وصارت الخيل لا تجد من يقودها للحرب، والسيوف لا تجد من يقاتل بها، فلهذه أن تمرح حيث هي في مرابعها، ولهذه أن تصدأ حيث هي في أغمادها.

     وإحساسه بفقد الشدياق إحساس مرير، يجعله يشعر شعور من فقد الماء وهو ظامئ، والظمأ والماء من طبيعة الصحراء ولوازمها:

فقدناه فقدان الشراب على الظما     ففي كل قلب غلة ليـس تنقع[4]

     وفي رثائه لقبائل العرب التي أحزنه اقتتالها، نجده ينقل أحدنا نقلة كاملة إلى جو البادية، فما يخال نفسه إلا في إحدى المعامع التي كانت تجري بين قبائلها، بكل ما للبادية وما للمعامع والقبائل فيها من عناصر وإشارات:

إذا ما تذكرت الزمــــان الذي مضى
               تســـاقط نفسي إثر تــلك القبـــــــائل
قبــــائل أفنتهـــا الحـــروب ولم تكن
               لـتفــــنى كرام الناس ما لم تقــــــاتل
قضت بعدهم نفسي عزاء وأصحبت
               عشـــــوزنتي وانقــــاد للـذل كاهلي
وأصبحت مغــــلول اليدين عن التي
               أحــاولهــا والدهر جم الغـــــــــوائل
صريـــع لبانـــــات تقســمن نفســـه
               وغـــادرنه نهـب الأكف الخواتـــــل
كأني لم أعقــــد مع الفجـر رايــــــة
               ولم أدع بــــاسمي للكمي المنــــازل
ولم أبعث الخيل المغيرة في الضحى
               بـكــل ركــــوب للـكريهــة بـاســــل
نــزائع يعــــلكن الشكيم على الوجى
               إذا عريـــت أمثـــــــالها في المنازل
من القــــوم باد مجدهم في شمــالهم
               ولا مجـــد إلا داخل في الشمـــــائل
إذا ما دعـــوت المرء منهم لدعــوة
               على عجـــل لبــــاك غير مســــائل
يكفـــكف أولى الخيــــل منه بطعنة
               تمـــج دماً مطعـــــونها غير وائــل
يـكون عشــــاء الزاد آخر آكــــــل
               ويوم اختلاج الطعن أول حامل[5]

     هناك بادية واسعة تسكنها قبائل كثيرة، وهذه القبائل كثيرة الحروب، وهو ما يجعلها تتفانى وما يجعل الشاعر يحزن عليها حزناً لا حد له، بحيث ضعفت قوته، وذل كاهله، ولم يعد يعقد رايات القتال مع الفجر لتهجم أول النهار على الأعداء، ولا يهتف باسمه مفتخراً لمن يبرز له في القتال، ولا يأمر بإرسال الخيل المغيرة تحمل الأبطال الشجعان.

     وهذه الخيل المغيرة تعلك شكائمها مع ما بقوائمها من وجى وحفاء لأنها معتادة على الكر والفر وطول الركوب، بخلاف سواها من الخيل التي لا يجشمها ذووها عناء القتال.

     ومن في هذه البادية شجعان يسارعون إلى إجابة النداء حين يدعوهم الداعي دون مساءلة أو تأخير، والواحد منهم يرد الخيل العدوة بطعنة تجعل صاحبها لا يعود إلى الحياة، وهو من عفة النفس والشجاعة ممن يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع، ففي الطعام يتأخرون وفي القتال يقدمون.

     وفي رثائه لوالدته يتساءل عن الحمام الذي يبكي على فقد الهديل الذي تجعله الأسطورة العربية جداً للحمام أو فرخاً مات عطشاً، فكل حمامة من بعده إنما تبكي عليه:

ينوح على فقد الهديل ولم يكن     رآه فيـــــا لله كيف تهـكما[6]

     وليس للشاعر بعد أمه الراحلة عنه رغبة في الحياة، ذلك أنه فقدها كما يفقد المرء شرابه وهو ظامئ:

وأي حيـــــاة بعـــد أم فقـــــــدتها     كما يفقد المرء الزلال على الظما

     ويتساءل – ملتمساً العظة – عن الماضين الذين عفت ديارهم فلم يبق منها إلا الطلول، وأخبارهم التي لم يبق منها إلا الظنون:

مضوا وعفت آثارهم غير ذكرة     تشيــد لنـــا منهم حديثــاً مرجما

     والشاعر لا ينسى والدته الراحلة قط ما أشرقت الشمس، وما حن طير في شجر الأراك الذي ينمو في البادية:

فوالله لا أنســاك ما ذر شارق     وما حن طير بالأراك مهينما

     وفي رثاء البارودي لعلي الطهطاوي نجده يستدعي العناصر البدوية كما فعل عدة مرات من قبل:

نعـــاء عليه أيهـــا الثقــــــــلان     فقـد أقصدتــــه أسهــم الحدثــان
حفـــاظاً وإشفاقـــاً على مترحل     خلت أربع من شخصه ومغـاني
فقدنـــاه فقـــدان الظماء شرابهم     بديمومة والورد ليس بداني[7]

     إن الشاعر في هذه الأبيات ينقلنا نقلة تامة إلى البادية، حيث نرى من يركب الجمل ويمر بمضارب القبائل ليقول لهم ((نعاء فلاناً)) كما جرت عادة العرب إذا مات لهم شخص مهم خلت منه الديار إذ رحل، فحزن الناس عليه حزن المسافر في الصحراء يفتقد الماء أشد ما يكون حاجة إليه.

     وهذا الجو الذي ينقلنا به البارودي إلى عالم البادية، مع أنه لم يعش في البادية بل في مدن متحضرة عامرة، لا يوحي بالتكلف ولا ينفي عن البارودي صفة الصدق، ذلك أنه إن لم يعش في البادية بجسمه فقد عاش فيها بروحه وثقافته، فروحه روح الفرسان الذين نشأت تقاليدهم النبيلة في بادية العرب، وثقافته نهلت من منابع الشعر العربي الأولى وهي وثيقة الصلة بالبادية ورموزها وتقاليدها وخصائصها. من جهة أخرى يمكن أن يعد هذا الأمر نموذجاً واضحاً لأثر التراث على البارودي، وهو أثر واسع، وضع بصماته عليه بوضوح من جانب، وأخذ بيده ليكون رائد الشعر العربي الحديث وباعثه من جانب آخر.

----------------------
[1] شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، ص 7 – 8 .
[2] الديوان 1/237.
[3] الديوان 1/250.
[4] الديوان 2/242.
[5] الديوان 3/136.
[6] الديوان 3/394.
[7] الديوان 4/99. 

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 07 - إشارات تاريخية


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

07-
إشارات تاريخية:

     كان البارودي واسع الاطلاع على التراث الشعري العربي القديم، وكان اطلاعه هذا إلى جانب قوة طبعه وموهبته، إلى جانب أنه اتصل بالشعر القديم اتصالاً مباشراً متجاوزاً الطريقة التقليدية التي كانت سائدة يومذاك، أهم أسباب عبقريته وريادته للشعر الحديث. وقد أعانه على هذا الاطلاع أولاً والاستيعاب ثانياً أنه كان ذا ذاكرة قوية توصف كأنها آلة من آلات التصوير، لذلك تمثل عناصر الشعر العربي في أحسن فتراته تمثلاً قوياً وظهر هذا التمثل في شعره أحسن ظهور.

     ومن المجالات التي يظهر فيها هذا التمثل إشاراته التاريخية إلى أيام العرب القديمة وغير القديمة وإلى أبطالهم ووقائعهم، بطريقة تدل على حضور هذه العناصر في ذاكرته حضوراً قوياً، ثم في شعره.

     وحين ننظر في مراثي البارودي نجد هذه العناصر بين الحين والآخر، تضفي على الموقف روعة تاريخية، أو تحسن الانتفاع من رمز أو واقعة أو إشارة بما يزيد الشحنة النفسية أو الطاقة الفكرية التي يحفل بها الموقف.

     لما أراد أن يبين مقدار وفائه لزوجته في داليته الشهيرة في رثائها، أوضح لنا كيف كان مستعداً للفداء لو أن الدهر يقبل ذلك، وأنه كان مستعداً أن يصاول ويحارب كما فعل الحارث بن عباد في حرب البسوس المشهورة في الجاهلية، لو أن الدهر يخاف صولة فاتك أو مغامر:

لو كان هذا الدهر يقبـــــل فـدية     بالنفس عنك لكنت أول فـــــادي
أو كان يرهب صولة من فاتــك     لفعلت فعل الحارث بن عباد[1]

     ويستدعي البارودي قصة لبيد مع ابنتيه حين حضرته الوفاة ليوظفها توظيفاً يظهر به وفاءه لزوجته الراحلة. لقد طلب لبيد من ابنتيه أن تبكيا عليه حولاً كاملاً، لأن البكاء لمدة سنة كاملة يدل على وفائهما فلا تتهمان بالتقصير:

وقـــولا هو المرء الذي لا خليـله     أضاع ولا خان الصديق ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السـلام عليكما     ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتــذر

     أما البارودي فرأى أن البكاء عاماً واحداً على زوجته لا يكفي لاختلاف حالها عن حال لبيد، فلبيد عاش عمراً طويلاً لبس فيه الزمان على اختلاف صروفه، بخلاف زوجته التي ماتت شابة لم تبلغ من أوطار الحياة ما بلغه لبيد، ولذلك يقرر البارودي أنه سوف يخالف وصاة لبيد في البكاء لمدة عام واحد:

فلئــن لبيــــد قضى بحـــــول كامل     في الحزن فهو قضـــاء غير جـواد
لبس الزمان على اختلاف صروفه     دولاً وفــــــــل عرائـــــك الآبــــاد
كم بيـــن عـــــادي تمـــــلى عمره     حقبــــاً وبين حديثـــــة الميـــــــلاد
هـذا قضى وطر الحيـــــاة وتلك لم     تبــــلغ شبيــــبة عمرهــا المعتـــاد
فـعــــلام أتبـــــع ما يقول وحــكمه     لا يستـــوي لتبـــــاين الأضــــــداد

     وحين أراد أن يلتمس العبرة والعزاء من خلال النظر إلى مصارع الماضين، أخذ يتحدث عن الدهر الذي أفنى ملوك حمير في اليمن، وسادة ثمود في مدائن صالح، وقادة عاد في الأحقاف، وقبيلة قضاعة في شمالي الجزيرة العربية، وقبيلة إياد في سواد العراق، ومدائن كسرى، والهرمين، وأبا الهول، مشيراً إلى أن الصمت هو الذي سوف يتولى الجواب، حيث إن هذه الأمم الخالية قد بادت أخبارها كما بادت هي من قبل:

فلينظــــر الإنسان نظرة عاقــــــــل     لمصـــــارع الآبـــــاء والأجــــــداد
عصف الزمـــان بهم فبــــدد شملهم     في الأرض بين تهــــــائم ونجـــــاد
دهر كأنـــــا من جرائــــر ســـــلمه     في حــــر يوم كريهــــة وجـــــــلاد
أفنى الجبــــــابر من مقاول حميـــر     وأولي الزعــــامة من ثمود وعــــاد
ورمى قضـــاعة فاستبـــاح ديـارها     بالسخـط من ســــابور ذي الأجنــاد
وأصـاب عن عرض إياد فأصبحت     منـــــكوسة الأعــــلام في سنـــــداد
فـســــل المدائـــن فهي منجم عبـرة     عمـــا رأت من حـــاضر أوبـــــــاد
كـرت عليــها الحادثــــــات فلم تدع     إلا بقــــــايـا أرســــــــــــم وعمـــاد
واعكف على الهرمين واسأل عنهما     بلهيـــب فهو خطيــــب ذاك الوادي
تنبئك ألسنـــة الصموت بما جـــرى     في الدهر من عـــدم ومن إيجــــــاد
أمم خـــلت فاستعجــــمت أخبــارها     حتى غدت مجهـــــولة الإسنـــــــاد
فعـــلام يخشى المرء صرعة يومه     أو لـيـــــس أن حيـــــــاته لنفـــــــاد

     وفي رثائه لوالدته يصور لنا الغفلة التي تعتري الإنسان فينسى مصيره ويغفل عن ذكر مصارع من سبقه ممن شادوا ثم بادوا، ومضوا، وفنيت آثارهم، وانقرضت أخبارهم فلم يبق منها إلا أحاديث هي إلى الظن أقرب منها إلى اليقين:

أرى كل حي غافلاً عن مصيـره     ولو رام عرفان الحقيقة لانــتمى
فأيـن الألى شادوا وبادوا ألم نكن     نحــل كما حلوا ونرحل مثــــلما
مضـوا وعفت آثارهم غير ذكرة     تشيـد لنا منهم حديثاً مرجما[2]

     وللدهر سنته المطرودة في الإفناء، فأنى له أن يصون أحداً أو يحفظ عهداً، وقد أهلك من قبل عاداً وجرهماً:

وكيف يصون الـدهر مهجة عاقل     وقد أهلك الحييـــن عاداً وجرهما
هو الأزلـم الخداع يخفر إن رعى     ويغدر إن أوفى ويصمي إذا رمى

     وفي رثائه لعلي الطهطاوي يقرر أننا ننخدع بالدنيا، فنلهو وننسى أن الموت حتم على الجميع ورده آدم عليه السلام، أبو البشر الأول فكيف لا يرده من بعده من الأحفاد:

تخـادعنــا الدنيا فنلهو ولم نخـــل     بـــأن الردى حتم على الحيـــوان
إذا ما الأب الأعلى مضى لسبيله     فما لبنـــيه بالبقــــاء يـــــدان[3]

     إن التاريخ في هذه المراثي يدل على ثقافة الشاعر من ناحية، كما يدل من ناحية أخرى على توظيفه له في التماس العبرة من خلال النظر في فناء الأمم والأفراد والدول، وهو ما يهون وقع المصيبة على من تحل به حيث يتأسى بما جرى للآخرين من قبله، والملاحظ أن الرموز والإشارات التاريخية التي وردت في مراثيه، هي رموز عربية أو من الرموز التي اتصلت بالعروبة بسبب أو بآخر، فلا نلحظ فيها رموزاً غربية، وهو ما يدل على ولاء البارودي للتراث العربي، وعمق أثر هذا التراث عليه.

--------------
[1] الديوان 1/237 .
[2] الديوان 3/394.
[3] الديوان 4/99.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 06 - الحكمة


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

06- الحكمة:


     تشيع الحكمة في مراثي البارودي شيوعاً لا مبالغة فيه ولا تكلف، فهي تأتي في موقعها الطبيعي وحجمها المقبول، منبعثة من قلب الشاعر وعقله، انبعاث مراثيه بشكل عفوي لا تشعر فيه أن البارودي تعسف فيها وتمحل. والسبب واضح سهل وهو أن شعر البارودي، مرآة صادقة لنفسه ولحياته، لقد عاش البارودي ومات وكان منسجماً مع نفسه، ومع قناعاته، صادقاً مع الناس في فعله وقوله، وهذا الأمر كما يظهر في حياته، يظهر في شعره، وفي مراثيه، وفي حكمته، ومن هنا نجد في حكمته اليسر والسهولة والصدق، وعدم التكلف والافتعال، ومن هنا أيضاً نجدها لا تكثر كثرة تدل على رغبة قسرية في إيرادها.

     يقول في رثائه لصديقه عبدالله فكري وشيخه حسين المرصفي:

ليــس يخـــفى علي شيء ولكـــن     أتغــابى والحزم إلف التغــــــابي
وكفى بالمشيـــب وهو أخو الحـز     م دليــــلاً إلى طريق الصــــواب
إنما المرء صورة سوف تبـــــلى     وانتهاء العمران بدء الخراب[1]

     وواضح ما في هذه الأبيات من سهولة المعنى، ومناسبته للموقف الذي هو فيه، حيث كان يشكو من رفاق المنفى، وهو ما يدعوه إلى التجاهل والتغابي، خاصة أن الشيب يعين على الحزم ويساعد على الصواب.

     وحين يعزي خليل مطران بوفاة عمه حبيب مطران، يسوق عزاءه في إطار من الحكمة القريبة:

فيــــا صاحبي صبراً فـلست بواجـــــد
               ســـوى حاضر يبكي فجيعة غـــــائب
وصبـــراً فإن الصبر أكرم صـــاحب
               لمن بــــان عن مثواه أكرم صـــاحب
ولا تأس من وقع الخطوب وإن جفت
               عليــك فــــإن النــاس مرعى النوائب
إذا ما الــــردى أودى بــــآدم قبــــلنـا
               فهــــل أحـد من نسـله غير ذاهب[2]

     وهذه الأبيات حكم سهلة ومناسبة، تعين على التصبر بما تنبه إليه من الكوارث التي تصيب الناس فما ينجو منها أحد، والموت قدر لا مفر منه منذ آدم عليه السلام.

     وفي رثائه لزوجته يلتمس لنفسه الصبر بأن يتذكر أن جميع الناس إلى فناء، وأن لكل واحد منهم أجلاً لا يعدوه، وأن النذر المتوالية كفيلة بإيقاظ الغافلين:

كــل امرئ يوماً ملاق ربـــــه     والناس في الدنيـــا على ميعاد
وكفى بعــادية الحوادث منذراً     للغافلين لو اكتـفوا بعوادي[3]

     والإنسان الحي أسير للموت ينشب فيه أظفاره إذا جاء أجله، وأيام الدنيا منازل ومحطات يسكنها أقوام ويتركها آخرون، والمرء ليس بخالد، إنما هو ساع مدة عمره. يقول:

لعمرك ما حي وإن طال سيــره     يعـــد طليقـــاً والمنــون له أسر
وما هذه الأيـــــام إلا منـــــازل     يحل بها سفر ويتركها سفر[4]

     ويحاول في رثائه لابنه علي أن يجد في الصبر ما يعينه على احتمال الرزء، ويقرر أن الإنسان العاقل يسبق بصبره سلوته، فكأنه بذلك يختصر مدى الأحزان:

لم أصطبـــر بعدك من سلوة     لكـن تصبـــرت على جمـــر
وشيــــمة العاقل في رزئـــه     أن يسبق السلوة بالصبر[5]

     وفي رثائه لأحمد فارس الشدياق يجعل الإقامة في الدنيا عجيبة، إذ يميل الإنسان إلى التمتع بها وسيف المنية يلمع فوق رأسه، فاليسر يجاور العسر والسعادة تجاور الشقاء:

نميــــل من الدنيا إلى ظل مزنــة     لهـــا بــــارق فيه المنــــية تــلمع
وكيف يطيب العيش والمرء قائم     على حذر من هول ما يتوقع[6]

     وإساءة الدنيا للناس لا تحملهم على كرهها:

ومن عجب أنا نساء ونرتضي     وندرك أسباب الفنـــاء ونطمع

     ولو أن الإنسان استحضر دائماً نهاية أمره لهانت عليه أحزانه وأفراحه:

ولو علم الإنسان عقبان أمره     لهـــــان عليه ما يسر ويفجع

     وحركة الأيام دائمة، أرحام تدفع، وأرض تبلع:

تسير بنا الأيــام والموت موعد     وتدفعنا الأرحام والأرض تبلع

     والدنيا خادعة غادرة لا وفاء لمواعيدها، ولا لذة للعيش فيها:

عفاء على الدنيا فما لعداتها     وفاء ولا في عيشها متمتـع

     وفي رثائه لأمه يصور طمع الإنسان الذي لا ينتهي، فله كل حين حاجة يسعى إليها ويجعلها همه، حتى إذا فاز بها عنت له حاجات أخرى:

يــود الفــتى في كل يـــوم لبـــــــانة
               فإن نالها أنحى لأخرى وصمما[7]

     وإذا زاد عمر الإنسان قل ما بقي له من الحياة، والنقصان آفة الاكتمال:

إذا زاد عمر المرء قــــل نصيبه
               من العيش والنقصان آفة من نما

     والدهر يظل على سنته المطردة في إفناء الناس كما أفنى الأمم السائدة من قبل:

وكيف يصون الدهر مهجة عاقل     وقد أهلك الحيين عــاداً وجرهما

     والإنسان لا يستطيع إنقاذ أحد من الموت:

وهل يستطيع المرء فدية راحل     تخرمه المقـــــدار فيمن تخرما

     ويقول في رثائه لعلي رفاعة الطهطاوي:

وأي امرئ يبــقى ودون بقـــــائه     نهــــار وليـــل بالردى يفـــــــدان
ألا قـاتــل الله الحيـــــاة فـإنهــــــا     إلى الموت أدنى من فــم لـبنــــان
تخــادعنــا الدنيا فنلهو ولم نخــل     بــأن الردى حتم على الحيـــــوان
إذا ما الأب الأعلى مضى لسبيله     فمـــــا لبنيـــه بـالبقـــاء يـدان[8]

     والحكمة شائعة في هذه الأبيات الأربعة، نرى الشاعر فيها يتحدث عن الفناء الذي يحكم مصير كل إنسان، وعن قرب الموت الشديد منه، وعن مخادعة الدنيا للناس فيلهون وينسون المنايا، وعن موت أبي البشر جميعاً ليكون مصير الناس جميعاً مثل مصيره.

     ونلقى لدى البارودي ما يمكن أن يسمى بتساوي الأضداد، حيث يهون الموت الأشياء على الشاعر، فيرى السرور كالحزن، والإساءة كالإحسان، والضحك كالبكاء، كما كان الحال لدى المعري في داليته الخالدة الشهيرة. يقول البارودي في رثائه لوالدته:

ومن عرف الدنيــــــا رأى ما يسره     من العيش هماً يتـــرك الشهد علقما
إذا كــــــان عقـــبى كل حي منــــية     فسيان من حل الوهاد ومن سما[9]

     إن خبرة الشاعر في الحياة تجعله يقرر أن السرور هم، وأن الشهد علقم، وأن الصعود والهبوط سيان كما أن هذه الخبرة تجعله يقرر في بيت آخر من القصيدة أن النقصان قرين النماء:

إذا زاد عمر المرء قل نصيبــــه     من العيش والنقصان آفة من نما

     والدهر يهدم إذ يبني، لأن الهدم والبناء عنده مقترنان، فلا ينفك أحدهما عن الآخر، فكأنه تكملة له ولازم من لوازمه:

إذا ما بنانا الدهر ظلت صروفه     تهدمنا والدهر أغدر باني[10]

     ومن الواضح أن البارودي لا يتكلف الحكمة، ولا يتكلف التفلسف، فلا يجهد نفسه في التفكير، ولا يرهقها في التعمق والتأمل، فتأتي الحكمة في مراثيه عفو الخاطر، في حجم معقول، وتناول قريب، لذلك لاحظ الأستاذ عمر الدسوقي أن البارودي ((لم يلجأ إلى الوقوف على سر الحياة الأخرى، وأن يستشف ما بعد الموت كما كان يفعل شوقي))[11]. وتظهر في حكمة البارودي إلى جانب شخصيته الواضحة، شخصيته المؤمنة التي تظل على الدوام موصولة بالسماء، وإدراكه الفطري السليم لطبائع النفس الإنسانية ورغباتها، الأمر الذي نستشفه بوضوح من خلال شعره في الرثاء.

--------------------
[1] الديوان 1/ 104
[2] الديوان 1/133.
[3] الديوان 1/237.
[4] الديوان 2/39.
[5] الديوان 2/112.
[6] الديوان 2/242.
[7] الديوان 3/394.
[8] الديوان 4/99.
[9] الديوان 3/394.
[10] الديوان 4/99.
[11] محمود سامي البارودي، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1958م، ص 42.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 05 - الموقف الديني


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

05- الموقف الديني:


     يظل البارودي في مراثيه يرنو إلى السماء والدار الآخرة، يستعين بالإيمان على تحمل المصيبة، وطلب الثواب، والأمل بأن يكون المرثي في رحمة الله عز وجل ومغفرته وجنته. ولذلك تشيع الروح المؤمنة في مراثي البارودي فلا تكاد تخطئها في واحدة منها.

     يقول البارودي في رثائه لصديقه عبدالله فكري: 

ثــوى برهـة في الأرض حتى إذا قضى
               لـبـــــانتـه منـــها دعتـــــــه ســــــــماؤه
وما كــــان إلا كوكـبـــــاً حـل بالثــــرى
               لوقــــت فـلــــما تم شـــــال ضيـــــــاؤه
نضــــــا عنـه أثــــواب الفنـاء ورفرفت
               إلى الـفــــــــلك الأعــلى به مضـــــواؤه
فأصبــــح في لــج من الـنـــور سابحـــاً
               سـواحــــله مجهــــولة وفضــــــــــــاؤه
فـــإن يـك ولى فهـــــو بــــاق بأفقـــــــه
               كنجــــم يشـــــوق النــــاظرين بهـــــاؤه
ولولا اعتقـــــادي أنه في حظيــــــــــرة
               من القدس لاستولى على الجفن ماؤه[1]

     والتأمل في هذه الأبيات يدل على الإيمان العميق الذي كان يعمر قلب الشاعر، فالمرثي يبقى مدة في الأرض ثم يرتفع عنها بوفاته إلى الملأ الأعلى، وينضو عنه أثواب الفناء، ويلحق بعالم الخلود، حيث يسبح في بحر من النور هائل، والشاعر يرى أن الفقيد صار إلى الجنة، وهو ما يخفف من حزنه عليه.

     وفي قصيدته الأخرى التي قالها في رثاء عبدالله فكري وحسين المرصفي، وهي قصيدة يظهر فيها الحزن الشديد على صديقيه وعلى نفسه بسبب غربته وبسبب مرضه، نجده ينكر من الناس أشياء لم يكن يتوقعها، ويجد في اعتزالهم فائدة، ذلك أن هذا الاعتزال كان عوناً له على التقوى والبعد عن الغيبة:

قـد لعــــمري عرفت دهري فأنـــكر
               ت أموراً ما كـــن لي في حســـــاب
وتجنبــــت صحبـــة النـــــاس حتى
               كـــان عونـــاً على التقـاة اجتنــــابي
لا أبـــالي بمــا يقــــــال وإن كـنـــــ
               ــــت مليئــــــاً بـــــرد كل جــــواب
قـد كفـــــاني بعدي عن النـــاس أني
               في أمـــان من غيبـــــة المغتــــــاب
فـليقـــــل حاســــدي علي كما شــــا
               ء فسمعي عن الخنا في احتجاب[2]

     أما قصيدته في زوجته وهي درة مراثيه، فإنها تفيض بالإيمان واليقين والنظر إلى ما عند الله عز وجل، والتسليم بالقضاء والقدر، والدعاء بالعون والمغفرة وترقب يوم المعاد.

     لذلك حين ود الشاعر أن يصنع مع الدهر مثل ما صنعه الحارث بن عباد مع أعدائه تذكر أن ذلك مستحيل، فلجأ إلى التسليم والخضوع لمشيئة القدر:

لو كان هذا الدهر يقبــل فديـــة     بالنفــس عنك لكنت أول فــادي
أو كان يرهب صولة من فاتـك     لفعــلت فعــل الحارث بن عباد
لكـنـــها الأقدار ليس بنــــــاجع     فيها سوى التسليم والإخلاد[3]

     والموت حق، ولابد للجميع منه، حيث يلقى الإنسان ربه جل جلاله في زمن محدد لا يتقدم ولا يتأخر:

كل امرئ يومـــاً ملاق ربه     والناس في الدنيا على ميعاد

     وكل امرئ ينسى المعاد ويغفل عن رصد المنون له وهي آتية إليه لا محالة، إنما يقود نفسه إلى التعاسة:

تعس امرؤ نسي المعاد وما درى     أن المنـــــون إليه بالمرصـــــــاد

     ويطلب البارودي من نفسه أن تلتمس هداية الله وعونه لتستطيع احتمال المصاب، وأن تطلب المغفرة للفقيدة من الله المجيب الرحيم:

فاستهد يا محمود ربك والتمس     منه المعــــونة فهو نعم الهادي
واسأله مغفرة لمن حل الثــرى     بالأمس فهو مجيب كل منـادي

     وإيمان الشاعر بالبعث والنشور حيث يأمل أن يجتمع مع زوجته يخفف من أحزانه، ولولا ذلك لقتلته الحسرة:

قد كدت أقضي حسرة لو لم أكن     متوقعــــاً لقياك يوم معـــــــادي

     وفي رثائه لابنه علي، يقرر البارودي أن الذي حمله على الصبر، رضاه بأمر الله حيث حكم على الجميع بالموت، ورجاؤه بلقاء ولده يوم الحشر:

وما كـنـــــت لولا قســـــــمة الله في الورى
               لأصبــــر لكنـــــا إلى غــــــاية نســـــــري
لقد خفـــــف البــــــلوى وإن هي أشرفــــت
               على النفس ما أرجوه من موعد الحشر[4]

     والإيمان بالقضاء والقدر يجعل الشاعر يصبر ويسلم فلا يذهب به الحزن ولا الندم، كما يقول في رثائه لوالدته:

فلولا اعتقادي بالقضاء وحكمه     لقطـعت نفسي لهفة وتندما[5]

     وينادي الشاعر والدته ليخبرها أنه يود أن يفتديها بنفسه لو كان القدر يسمح بذلك، ويدعو لها أن تشرب من الكوثر كأس كرامة ورضوان، ويودعها على أمل اللقاء بها يوم الحشر:

فيـــا ربـة القبـــر الكريم بما حوى     وقتـــك الردى نفسي وأين وقـــلما
وهـل يستطيــــع المرء فدية راحل     تخــرمه المقدار فيمن تخـــــــرما
سقتــــك يد الرضوان كأس كرامة     من الكوثر الفياض معسـولة اللمى
ولا زال ريحــان التحية نــــاضراً     عليــك وهفـــاف الرضـــا متنسما
عليـــك ســــلام لا لـقـــاءة بعـــده     إلى الحشر إذ يلقى الأخير المقدما

     وفي رثائه لعلي رفاعة الطهطاوي، يدعوله ولأبيه برحمة الله تعالى، ويبعث إليه بسلام حار تحمله الملائكة إليه في الجنة:

فيـا رحمة الله استهلي عليـــهما     بسجــــلين للرضوان ينــهملان
وعمي قبـــور العـالمين كرامة     لقبــــرين بالبطحـــــاء يلتقيـان
عليـــك ســـــلام الله مني تحية     يوافيك في خلد بها الملكان[6]

     وحين أخذ يعدد مزايا أخته لما رثاها، ذكر من هذه المزايا مالها من دين وعفاف وحياء، وهو ما جعلها تتميز على من حولها:

أخت وما الأخوات كن كمثلها     في دينها وعفافها وحيائها[7]

     وهكذا يظل البارودي في مراثيه مؤمناً عميقاً، مستسلماً للقدر، مؤملاً المغفرة للميت واللقاء به في الدار الآخرة، مدركاً لطبيعة الحياة وأحكام الموت الدائرة فيها على الجميع. والدين عنده مزية تجعله يشيد بأخته لاستمساكها به، وعون له على دنياه تجعله ينصرف إلى تنقية نفسه وتزكيتها، والبعد بها عن خلق دنيء يحرمه الدين مثل الغيبة كما ظهر لنا في رثائه لعبدالله فكري.

     والدين عنده قوة على مواجهة الشدائد والصبر على مفارقة الأحباب، وهو ما يجعله يلتمس هداية الله وعونه لنفسه كما يلتمس مغفرته ورحمته للفقيد. وهكذا كان الدين في مراثي البارودي أمارة على نفس مؤمنة إيماناً عميقاً لا تكلف فيه ولا تعمل، وسبباً للصبر، ودعاء للميت الراحل، وصبراً وقوة للحي الباقي، وهذه كلها معان إيجابية حميدة، تدل على حسن فهم للدين وتنسجم مع شخصية البارودي القوية العزيزة.

---------------
[1] الديوان 1/81.
[2] الديوان 1/104.
[3] الديوان 1/237.
[4] الديوان 2/111.
[5] الديوان 3/394.
[6] الديوان 4/99.
[7] د. سامي بدراوي: أوراق البارودي، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة 1981م، ص 70.

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 04 - رثاء النفس


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

04- رثاء النفس:


     عاش البارودي حياته كلها عزيز النفس قوي الشخصية رابط الجأش، تحمله على ذلك نشأته العسكرية وطموحه الكبير وأخلاق الفروسية التي أشرب حبها، وقد ظل على هذا الشأن حتى في أيام محنته في السجن والمنفى. من أجل ذلك نراه يفتخر بين الحين والآخر حتى وهو ينظم في الرثاء، ومن أجل ذلك أيضاً نجده دائماً صابراً ثابتاً قادراً على الاحتمال ومغالبة الأحزان والكوارث.

     على أن تطاول أمد النفي، وموت الأحباب، جعله يأسى لنفسه ويحزن لما أصابه فإذا به بين الحين والآخر يرثي نفسه خلال رثائه الآخرين.

     يقول في رثائه لصديقيه عبدالله فكري وحسين المرصفي:

أيـن أيــــــام لـذتي وشـبـــــــــــابي     أتـراهــــا تعــــــود بعــد الذهـــاب
ذاك عهـــد مضى وأبعـــــــد شيء     أن يـرد الزمــــان عهد التصــــابي
فــأديــــــــــرا علي ذكـــــــراه إني     منـــذ فـارقتـــــه شديــــد المصـاب
كـل شيء يســــلوه ذو اللــــــب إلا     ماضي اللهـــو في زمــان الشبــاب
يــا نــديمي من سرنديــــب كـفـــــا     عن ملامي وخـليــــاني لمــــــا بي
كيــف لا أندب الشباب وقد أصـــــ     ـبحت كهلاً في محنة واغتراب[1]

     وهذه الأبيات تفيض بالحزن واللوعة التي تملأ قلب الشاعر، بكاء على شبابه الذاهب، وهو شباب كان يملأ أوقاته بالبهجة والسعادة فليس له أن ينساه، ولذلك يطلب من صديقيه في المنفى ألا يلوماه، وألا يستغربا ما يفعله خاصة أنه اجتمعت عليه الكهولة مع محنة الغربة والنفي.

     وينتقل بعد ذلك ليقدم لنا صورة رائعة تمتد لتصير مشهداً كاملاً يظهر لنا فيه ما حل بجسده بسبب السن والمرض والنفي:

أخـــلق الشيب جدتي وكســاني     خلعـــة منــه رثـــة الجلبـــــاب
ولـوى شعر حـــاجبي على عيـ     ـــني حــتى أطــل كالهـــــــداب
لا أرى الشيء حيـــن يسنـح إلا     كخيــــــال كـأنني في ضبــــاب
وإذا ما دعيـــــت حـرت كــأني     أسمع الصوت من وراء حجاب
كـلمـــا رمت نهضــة أقعـــدتني     ونيــة لا تقـــلهـا أعصــــــــابي
لم تدع صولــــة الحـوادث مني     غيــر أشــــلاء همة في ثيــــاب
فجعـتـــني بـوالــــدي وأهــــلي     ثـم أنحــــت تـــكـر في أتـرابي

     وهذه الأبيات تصور تصويراً دقيقاً أثر الكوارث والأمراض والسن على الشاعر، في الشيب وشعر الحاجب وضعف البصر ووهن السمع وعجز الأعصاب، والأبيات لوحة مفصلة لأثر النكبات التي فجعته بذويه ثم مضت تفجعه بأترابه، فما أبقت منه إلا أشلاء همة في ثياب.

     وتتخلل رثاءه لزوجته، الإشارة إلى سوء حاله، نجد ذلك منذ البداية:

أيـد المنــــون قدحت أي زنـــــاد     وأطـرت أية شعـــــلة بفــــــؤادي
أوهنت عزمي وهو حملة فـيـــلق     وحطمت عودي وهو رمح طراد
لم أدر هل خطب ألم بســــــاحتي     فأنـــاخ أم سهم أصــــاب سوادي
ما كنت أحسبـــني أراع لحــادث     حتى منيـــت بــه فـــــــأوهن آدي
أبلـتــني الحسرات حتى لم يكـــد     جسمي يلوح لأعين العــــواد[2]

     وواضح في هذه الأبيات أن الشاعر يبكي نفسه خلال رثائه لزوجته، فعزمه الذي كان كحملة جيش وهن، وجسمه الذي كان رمح طراد انحطم، حتى رأى نفسه ضعيفاً متحسراً بالياً، بعد أن كان يحسب نفسه لا يراع لأمر، أما جسمه وهو الضابط السابق الذي كان ملء السمع والبصر، فتوة وقوة وقامة، فقد أبلته الحسرة حتى صار إلى تضاؤل وانكماش، بحيث لا يكاد عواده الزائرون يبصرونه.

     ويجعل البارودي من نفسه عبرة لكل من يصاب بكارثة، فهو ضعيف يمشي مستخفياً حذر صولة مفاجئة من أعدائه، والحزن الباطن أكل أعماقه، والسقم الظاهر جعل منظره يثير الشفقة، ويبرع في تصوير حاله أول مفاجأة النبأ له، إذ سقط كالملدوغ، واشتعلت بقلبه النار، وسالت مدامعه كأنما وخزت عينه بالشوك، وزاد من سوء حاله شماتة الحساد به:

أمسيت بعدك عبرة لذوي الأسى     في يــوم كل مصيبـــة وحـــــداد
متخشعـاً أمشي الضـــراء كأنني     أخشى الفجاءة من صيال أعادي
ما بين حزن باطن أكل الحشــــا     بلهيــــــب سورته وسقم بــــادي
ورد البريــد بغيـــر ما أملتــــــه     تعس البريد وشاه وجه الحـــادي
فسقطـــت مغشيـــاً علي كأنــــما     نهشـت صميم القـــلب حية وادي
ويـلمه رزءاً أطـــــار نعيـــــــــه     بالقـلــــب شعـــــلة مارج وقـــاد
قــد أظلمت منه العيــــون كأنـما     كحـل البكــــاء جفــــونها بقتـــاد
عظمت مصيـــبته علي بقدر مـا     عظمت لـدي شمــــاتة الحســـاد

     وفي رثائه لوالده نجده يقول:

مضى وخلفـــني في ســــن سـابعة     لا يرهب الخصم إبراقي وإرعادي
إذا تـلفـــت لم ألمح أخــــا ثـقـــــــة     يـــأوي إلي ولا يسعى لإنجـــــادي
فالعيــن ليس لها من دمعهــــا وزر     والقلب ليس له من حزنه فادي[3]

     فالشاعر حزين على نفسه لأن أباه مات وهو في السابعة من عمره، وهي سن صغيرة لا تجعل خصمه يخاف سطوته، وإذا تلفت لم يجد أخاً موثوقاً يعينه وينجده، لذا فهو دامع العين محزون القلب، إن الحزن في هذه الأبيات حزن على النفس التي تتطلع من صغرها إلى امتلاك السطوة والنفوذ، وتأسى لحالها لأنها فقدت ذلك بفقدانها الأب الذي يمكن له أن يحققها لها.

     وإذا كان فخر البارودي في مراثيه فخر الأبي المغالب للأحداث الممتلك حقاً لصفات نفسية عالية وهو ما جعله غير مستغرب، فإن بكاءه نفسه فيها يمكن أن يعد هو الآخر أمراً مقبولاً غير مستغرب، فالفخر اعتزاز بصفات موجودة، والرثاء بكاء على أمور مفقودة، والموجود يحمل الشاعر على الاعتزاز به لشعوره بنفاسته، والمفقود يحمله على الأسى عليه لشعوره أنه أضعف من قدرته على التفوق والقوة والسيادة، ومن هنا يتلاقى الفرح بالموجود مع البكاء على المفقود ليصلا بين فخار البارودي بنفسه وبكائه عليها في مراثيه.

     ويوضح هذا المعنى أكبر توضيح أنه بكى نفسه خلال بكائه لوالده وهو بكاء نفس نزاعة إلى القوة منذ صغرها، ففقدانه للأب فقدان لسند القوة وسببها. أما بكاؤه نفسه خلال مراثيه التي قالها في المنفى فيما بعد، فهو بكاء يتداخل فيه هذا المعنى بمعنى آخر هو أنه كان يسير إلى ضعف بسبب غربته ومرضه وسنه وإحساسه بالظلم والإحباط، خلافاً لما كان عليه الحال حين رثى أباه وهو في أول العمر والدنيا عليه مقبلة والأيام واعدة.

------------
[1] الديوان 1/104.
[2] الديوان 1/237.
[3] الديوان 1/250.

الأكثر مشاهدة