‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب بقايا ذاكرة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب بقايا ذاكرة. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 2 يناير 2022

طه حسين وشجاعة الاعتذار

طه حسين وشجاعة الاعتذار

     تظل للدكتور طه حسين «1889-1973م» مكانة متميزة في وجدان الأمة، ذلك أنه كان - بما له وما عليه - شخصية لها حضورها البارز، لقد كان الرجل بعاهته وصبره ومثابرته وبيانه ومؤلفاته وأفكاره الصائبة والخاطئة، وبدعوته إلى التجديد، وجرأته المحمودة والمذمومة، شخصية مثيرة للجدل من شأنها أن تكسب الأصدقاء والأعداء على السواء.

     في العشرينات من القرن الميلادي المنصرم أصدر الدكتور طه حسين كتابه الشهير «في الشعر الجاهلي» الذي ادعى فيه أن الشعر الجاهلي منحول، وقال في حق الدين كلاماً منكراً فتح عليه باب خصومه، وأعطاهم حجة قوية ضده، وانتهى الأمر بعد أن أصدر طبعة معدلة من الكتاب هي «في الأدب الجاهلي»، ولكنْ بعد أن حقق شهرة هائلة جعلته حديث القاصي والداني، فنال ما أراد، وكان يومها في العقد الثالث من عمره.

     بعد قرابة عشرين عاماً أصدر كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، وأكد فيه أن مصر تنتمي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط أكثر مما تنتمي إلى عالم العروبة والإسلام، ودعا إلى أن نأخذ الحضارة الغربية بخيرها وشرها، وما يذم منها وما يحمد، وكان يومها في العقد الخامس من عمره، أي أنه تجاوز مرحلة الشباب بما فيها من عجلة وحماسة، فلماذا قال ما قال وهو كهل من ناحية، وهو مَنْ نال الشهرة التي يريد من ناحية أخرى؟

     منذ أن درست في جامعة القاهرة على يد كوكبة من الأساتذة المتميزين، وفي طليعتهم الدكتور شوقي ضيف وهو أنجب تلاميذ الدكتور طه وأبرزهم، وكان من بين ما درست ما قاله الدكتور طه عن الشعر الجاهلي، ثم أتبعت ذلك بما قرأته للدكتور طه وما قرأته عنه، وقر في نفسي أن الدكتور طه لم يكن مقتنعاً حقاً بما قاله في كتابيه المشار إليهما سابقاً.

     حملني على ذلك أن الخطأ واضح فيما قال أشد الوضوح، وأن فيه عدواناً سافراً على الدين والدين أهم ثوابت الأمة، والدكتور طه ابن الريف المصري، وهو ريف يطبع أبناءه بحب الإسلام، كما أن فيه مجافاة صريحة للعقل المتوسط فضلاً عن الألمعي، والدكتور طه رجل ذكي ألمعي. إذن كيف قال ما قال مما يخالف إسلامه وألمعيته؟ قال الكثيرون -وأنا منهم: إن الرجل طالب شهرة، وقال كثيرون آخرون: إنه كان ينفذ مخططات معادية يحرضه أهلها ويدعمونه، فليست الشهرة وحدها وراء ما فعل؛ بدليل أنه كتب كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» بعد أن حقق شهرته الواسعة يوم أصدر كتابه «في الشعر الجاهلي».

     وأياً كان فقد وجدت نفسي أدين الدكتور طه وأخالفه، لكنني ظللت في أعماقي أرى أنه مسلم محب للإسلام قال ما قال وهو غير مقتنع به؛ طلباً للشهرة، أو إرضاء لجهات معادية، أو الاثنين معاً.

     ومع الزمن ازداد اقتناعي رسوخاً، حين سمعت من الأستاذ محمود محمد شاكر رحمه الله في داره في القاهرة، وفي الرياض حين كان يزورها، كما سمعت من سواه، أن الدكتور طه حسين كان يسر لبعض جلسائه وخاصته أنه أخطأ فيما قال.

     ثم تكاثرت الأمارات والقرائن والأدلة على أنه اعترف بخطئه، لكن لم يصل به الأمر إلى أن يعلن ذلك في بيان شاف وعلانية جهيرة وقول فصل، وهو ما كان ينبغي له أن يعمله، فلا يجوز أن يكون الخطأ ملء السمع والبصر والاعتذار عنه في جلسات خاصة ضيقة. وغفر اللَّه للدكتور طه، لقد امتلك الجرأة على المجاهرة بالباطل، لكنه لم يمتلك الجرأة على المجاهرة بالحق، ولو أنه فعل لشكر له الناس ذلك، وأحبه حتى من عاداه، ونال رضا الخالق وهو أجل وأبقى.

     وقد نشرت مجلة العربي الكويتية في عددها رقم 519 الصادر في فبراير 2002م؛ مقالاً للأستاذ محمد سيد بركة عنوانه «في بيت اللَّه الحرام طه حسين يحج والشيخ الشعراوي يستقبله»، وقد ربط هذا المقال على قلبي، وزادني يقيناً بما وقر في قلبي عن طه حسين من قديم.

     ذهب الدكتور طه حسين إلى جدة في مهمة ثقافية وذلك في عام 1955م، أي أنه كان في السادسة والستين من العمر، وقد كبر وشاخ ونضج، ونال كثيراً مما كان يطمع أن يصل إليه، وحسناً فعل حين ذهب إلى كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة.

     وحين عاد إلى القاهرة قال في مقابلة صحفية: «لقد سبق أن عشت بفكري وقلبي في هذه الأماكن المقدسة زهاء عشرين عاماً - منذ بدأت أكتب «على هامش السيرة» حتى الآن - ولما زرت مكة والمدينة أحسست أني أعيش بفكري وقلبي وجسدي جميعاً. عشت بعقلي الباطن، وعقلي الواعي، استعدت كل ذكرياتي القديمة، ومنها ما هو من صميم التاريخ، ومنها ما هو من صميم العقيدة، وكانت الذكريات تختلط بواقعي، فتبدو حقائق حيناً ورموزاً حيناً، وكان الشعور بها يغمرني ويملأ جوانب نفسي».

     ولما سئل: هل أخرجك هذا الشعور عن المألوف؟ ابتسم وقال: «على أي حال لم أصل إلى درجة الانجذاب، كنت دائماً في كامل وعيي، أخذتني الرهبة والخشية والخشوع كل مأخذ عندما كنت وحدي».

     يقول الأستاذ محمد سيد بركة: ولقد زار طه حسين الأماكن المقدسة مرة واحدة، وكان كما يقول في هذه المرة الواحدة مع الناس ومع نفسه في وقت واحد، ويوضح ذلك بقوله: «لقد جرت العادة عندما يصل المرء إلى الكعبة أو المسجد الحرام أن يتسلمه طائفة من الناس يسمون «المطوّفين» أي الذين يقومون بإجراءات الطواف بالكعبة، ويسمون في المدينة «المزوِّرين» أي الذين يقومون بإجراءات الزيارة لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد حاولت جهدي أن أتخلص من المطوفين والمزورين، ولكن محاولاتي ذهبت هباء، وجدتني بين أيديهم أردِّد بلا وعي ما يقولونه، ووجدتني في الوقت نفسه وحدي، وإن كنت في صحبتهم، كنت شخصين: شخصية واعية بلا كلام، وشخصية متكلمة بلا وعي.

     كانت الشخصية المتكلمة بلا وعي تردد كلام المطوفين والمزورين، وكانت الشخصية الواعية بلا كلام تناجي ربها في صدق وصمت وخشوع».

     إيمان فطري عميق! فهو ككل مسلم يهفو إلى زيارة الأراضي المقدسة، وقد عبر عن مشاعره الأولى حين حل بهذه الأراضي فقال: «أول ما شعرت به وما زلت أشعر به إلى الآن هو الذي يجده الغريب حين يؤوب بعد غيبة طويلة جداً إلى موطن عقله وقلبه وروحه بمعنى عام»، وقد قام طه حسين بالتنبيه على مرافقه وهما يغادران مدينة جدة قاصدين البيت الحرام في مكة المكرمة أن يوقف الركب عند الحديبية، فلما توقفوا عندها ترجّل الرجل، وقبض من تراب الحديبية قبضة فشمّها، ثم تمتم ودموعه تنساب على التراب قائلاً: «واللَّه إني لأشم رائحة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا التراب الطاهر»، وهدأ مرافقه من روعه خلال استراحة الركب من عناء السير، ثم استأنف الركب الرحلة حتى دخل الحرم من باب السلام، والدكتور لا يكاد يخفي وجد إيمانه عن رفيقه، وتوجها إلى الكعبة فتسلم الحجر وقبّله باكياً، واستمر يطوف ويسعى في خشوع ضارع وبكاء خفي.

     ويقول أمين الخولي صاحبه في تلك الزيارة: «حين استلم طه حسين الحجر الأسود ظل يتنهّد ويبكي ويقبّل الحجر حتى وقفت مواكب الحجيج انتظاراً لأن يغادر هذا الأديب الكبير المكفوف مكانه، ولكنه أطال البكاء والتنهيد والتقبيل، ونسي نفسه فتركوه في مكانه وأجهشوا معه في البكاء والتنهيد».

     وعند الطواف؛ كان طه حسين يناجي ربّه بقول: «اللهم لك الحمد. أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي، لا إله إلا أنت»!

     وهو يحفظ هذا الدعاء منذ بعيد، ويرى أنه من أصح ما روي من الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يناجي ربه دائماً بهذا الدعاء، وبغير هذا الدعاء.

     وفي فلورنسا في مؤتمر عن الحضارة المسيحية قال هذا الدعاء باللغة الفرنسية، ولم يكد ينتهي من إلقاء الدعاء حتى دوت قاعة المؤتمر بتصفيق شديد. وجاءته سيدة مسيحية، وطلبت نسخة من الدعاء، وقالت وهي تبكي: خذ دموعي وإعجابي وبلغها للإسلام الذي أحبه كثيراً، فقال لها: لا داعي للدموع، إعجابك يكفي!، وختام هذا الدعاء النبوي الكريم اختارته أسرته الكريمة لينقش على ضريحه.
***

وبعد:

لقد أبحت لنفسي هذا النقل الطويل عن الأستاذ محمد سيد بركة، لأنني فرحت به، فقد ربط على قلبي، وأكد أن الدكتور طه مسلم عميق الإسلام، وإن كان هذا لا يبرر له أخطاءه قط، لقد أخطأ مرتين، أخطأ حين قال ما قال، وأخطأ حين خانته شجاعته فلم يعتذر اعتذراً علنياً شافياً مكتوباً كما كان ينبغي له أن يفعل.

وثمة درس مستفاد هو أن في الإنسان عامة والمسلم خاصة، مساحة من الخير تضيق وتتسع، وتخبو وتعلو، ومن النادر أن تغيب غياباً تاماً، ومهمة الدعاة الأذكياء أن يبحثوا عن هذه المساحة بأناة وصبر، وحب للمدعوين، والاهتمام بهم، والتماس المعاذير لهم ما أمكن، وتسليط الضوء على هذه المساحة وتوسيعها واستثمارها حتى تبلغ مداها في يوم يعلمه اللَّه وحده، نجد فيه الكافر أو المعاند أو الضال أو العاصي يفيء إلى الحق، إذا استبان له الهدى بعد ضلال، أو عزفت نفسه عن الشهرة بعد استعلائه عليها، أو غلب في نفسه داعياً من دواعي الخوف والطمع، أو انتصر على مفسدة كانت تحكمه، والأمثلة كثيرة جداً في قديم الزمان وحديثه، كانت ولا تزال تقدم لنا شواهد على صحة هذه الفكرة، في رجال آمنوا بهذا الدين وكانوا يجهلونه، وآخرين التحقوا بركبه وكانوا من أعدائه، وطائفة أخرى من أصحاب المعادن العالية والمواهب المتألقة كانوا من أشد خصومه فصاروا من أعظم فرسانه.

     ودرس آخر يهم المسلمين عامة، وأصحاب الدعوة والفكر والأدب والريادة منهم خاصة، وهو أن يمتلك الواحد منهم شجاعة الاعتذار إذا أخطأ، وأن يكون الاعتذار مكافئاً للخطأ حتى يمحوه، وأن يقصد بقوله وعمله وجه اللَّه تعالى، ويحذر من الانسياق الخاطئ وراء حب الشهرة؛ لأنه مقتل، ومن الوقوع في براثن من يريد بدينه وأمته السوء؛ لأنه كارثة.

     غفر اللَّه للدكتور طه حسين أخطاءه، وتقبل منه حسناته، وعامله برحمته لا بعدله، وألهمنا العبرة من سيرته.
***

الأستاذ عبد العزيز السالم صورة كلية

الأستاذ عبد العزيز السالم

صورة كلية

     حين دعاني صديقاي الفاضلان الأستاذان عبد الرحمن مرداس، والأستاذ عبد الرحمن المعمر للمشاركة في الملف الصحفي الذي أعدته ونشرته جريدة الجزيرة الغراء في «18/ 2/ 1426هـ، 28/ 3/ 2005م»، عن الأخ النبيل الشهم العف الفاضل معالي الأستاذ عبد العزيز السالم ـــ حفظه اللَّه - وجدت نفسي بين مخافتين.

     الأولى: أن كتابتي قد تؤولها ظنون سوداء تتهمني بالانحياز والثناء رعاية لحقوق الأخوة والزمالة والصداقة الطويلة لا أكثر، أي أني أقول أشياء لا أؤمن بها، وهذا أمر يقع باستمرار في الحياة عامة، وفي الصحف والمجلات خاصة، والدوافع كثيرة، منها المحمود، ومنها المذموم.

     الثانية: أن اعتذاري سوف يمنعني من قول الحق فيمن يستحقه، وإزجاء الثناء حيث ينبغي أن يزجى، وفي هذا إحجام مرفوض، وحساسية مفرطة، خصوصاً إذا انتفت الدوافع الدنيا وتأكدت الدوافع العليا لدى القائل والمقول فيه.

     ظلَلْت بين هاتين حتى استطاع أخي عبد الرحمن المعمر، بدعاباته المعهودة، وذكائه ومودته، وحسن تأتيه للأمور، ودالته عليّ، ومعرفته الطويلة بنا نحن الاثنين، أن يحسم الأمر معي، فأغلق جميع منافذ الاعتذار، وفنّد كل الظنون السوداء، وأبرز كل الدواعي الحميدة، فأقنعني بالكتابة، وحسناً فعل، فله الشكر الجزيل.

***

     بدأت الصلة في قسم اللغة العربية في كلية الآداب، جامعة القاهرة عام «1380هـ/1960م»، حيث كنا طالبين متفرغين للدراسة تماماً، اخترنا تخصصنا فيها عن قصد سابق، ورغبة قوية، وحب للعربية يبلغ درجة العشق، وحماسة للدراسة أوصلتنا إلى التفوق، ذلك أننا كنا - ولا نزال - نرى العربية ديناً يصان، وعرضاً يحفظ، وسياجاً للهوية، وحارساً للتراث، ونرى أن محبتها واجبة، والوفاء لها أمانة، والغيرة عليها عهد، وأنها أم اللغات، ولغة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والأداة الأولى لفهم الإسلام، فضلاً عما فيها من غنى، وخصب، وامتداد، وجمال باهر، وقدرة على التجديد الذي يستوعب ضرورات العصر من مكتشفات وأساليب، مع حفاظ على الثوابت التي تحفظ لها أصالتها وكيانها.

     تلاقى فينا التخصص الدراسي مع هذه النظرة الرسالية إليه، فإذا بنا بعد قليل من اللقاء وكأننا أخوان ورفيقان وصاحبان منذ أول الدهر.

     كان هذا هو الخيط الأول الذي بدأت من خلاله الصلة، ثم تكشفت الخيوط الأخرى من ولاء للإسلام واعتزاز به، وحب للعروبة وإشادة بمكارمها، ونفور فطري أصيل من المبادئ المنحرفة التي كان لها يومذاك صولة وسلطان، وبذلك وقعت الألفة من دون كلفة، والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، كما جاء في الحديث الشريف.

***

     هو مسلم عميق الإسلام من دون إفراط ولا تفريط، لم يحرص كثيراً على الشكل وإن لم ينتقص منه، ولكنه حرص على الجوهر كثيراً وحسناً فعل، فكانت عقيدته صحيحة سليمة، وإيمانه عميقاً نقياً، وعباداته كما يفعل الأخيار، وأخلاقه كما يحب الصالحون، نقي السريرة، نقي العلانية، ولعل الأولى خير من الثانية.

     سويُّ الفطرة يكره التكلف والشذوذ والتشدق والادعاء، يعيش بوضوح، ويعمل بوضوح، ويتحدث بوضوح، ويكتب بوضوح.

     يكره النفاق والمنافقين ويضيق ذرعاً بهم، ويراهم عبئاً على الحياة عامة وعلى الدعوة خاصة، وتزداد هذه الكراهية حين يلبس هذا المنافق أو ذاك لبوس الدين، ويتحول الدين عنده إلى حرفة لا رسالة.

     فيه ميل فطري إلى الزهد، لاحظت أنه آخذ بالازدياد في السنوات الأخيرة، ومما يجدر أن يروى هاهنا أنه لقي الشيخ الصالح أبا الحسن الندوي رحمه الله، في منتدى الأستاذ عبد العزيز الرفاعي رحمه الله، وكانت عنده فكرة كاملة عن زهد الشيخ وعفته ونقائه وترفعه، وتحدث الشيخ ما شاء اللَّه تعالى أن يتحدث والجميع مبهورون به مشدودون إليه، وحين انتهى سمعته يكلم نفسه بصوت خفيض - وكان مقعدي إلى جوار مقعده - فيثني على الشيخ، ويهنئ أي مسلم يموت فيسكن قبراً مثل قبره، وقد سررت بهذا المعنى كثيراً وفرحت به، وحين توفي الشيخ الصالح أكرمني اللَّه تعالى بقصيدة موفقة فيه، أودعتها هذا المعنى.

     عصامي صبور، بدأ السلم الوظيفي من درجاته الأولى، واستطاع بعون اللَّه تعالى قبل كل شيء، ثم بالصبر، والأناة، والإتقان، وحسن الخلق، وكتمان السر، ودقة العمل، وحسن التأني، ونظافة العقل والقلب واللسان واليد، أن يبلغ ذروة لعله زانها أكثر مما زانته.

     في مناصبه الدقيقة الحساسة؛ استطاع أن يحقق التوازن الحكيم والمطلوب والذكي، بين أمرين، بين واجبات هذه المناصب بما تستدعيه من دقة، وسرية، وأمانة، ووعي، وبين حقوق مراجعيه وزائريه من بشاشة الوجه، ولين الحديث، وخفض الجناح، وقضاء الحوائج، فظفر بثقة رؤسائه وحبهم، وظفر أيضاً بحب الناس.

     هذا النجاح المشهود له به في هذا الميدان يذكرني بأسماء أخرى ظفرت بمثله مثل معالي الشيخ صالح الحصين رحمه الله، ومعالي الدكتور عبداللَّه نصيف رحمه الله، وسعادة الأستاذ عبد الرحمن العبدان رحمه الله، وسعادة اللواء جميل الميمان رحمه الله. وأنا لا أستقصي؛ ولكني أتحدث عمن عرفت، لقد كان هؤلاء نماذج مشرفة لهذا النجاح، وقبل ذلك كله وبعده نماذج للاستقامة والإخلاص، وقوة الأمين، وأمانة القوي، وزهد القادر، وعفة الشريف، ممن يراقب سلوكه قبل أن يراقبه الآخرون، ويخاف على دينه قبل أن يخاف من القانون، ويضع نفسه حيث يدعوه الحق والشرف، وينأى بها عن مزالق الضعف والهوى، وبذلك سار بنفسه ولم تسر به، وقاد رغابه ولم تقده، وتلك سمة المعادن العالية، والنفوس النبيلة.

     محب للخير مفطور عليه، صنع الكثير منه في الخفاء والعلانية، ولعل ما صنعه في الخفاء أضعاف ما صنعه في العلانية.

     فيه تواضع أصيل يصدر عن نفس سوية أصيلة، لذلك تراه يعامل مَنْ دونه معاملة الأنداد، وفيه إباء مرده إسلامه وعروبته واستقامته، لذلك بقيت له شخصيته المستقلة وهو يتعامل مع رؤسائه، يحفظ لهم أقدارهم، ويحفظ لها قدرها.

     منظم، ملتزم، دقيق، في حياته كلها، في النوم، واليقظة، والطعام، والعلاقات الاجتماعية، وقد أعانه هذا على إدراك ما أدرك من النجاح في عمله الوظيفي الطويل، وفي التزامه بالكتابة الدورية المستمرة في الصحف، لكن هذا النجاح جار على جانب آخر من شخصيته هو جانب الأديب الدارس فانصرف عنه، مع أن في برديه الإمكانية المطلوبة ليكون دارساً جيداً، فهو طالب متفوق، وهو قارئ، دائم، وهو متابع للجديد، وهو حريص على الوقت، ثم إنه قادر على التركيز وضبط الأولويات.

***

     وأستأذن القارئ الكريم في رواية بعض الوقائع، التي شهدتها فيه، وهي تنطق بجوهره النبيل بأصدق لسان، وهي غيض من فيض.

· كنت أزوره في مكتبه في الرياض بين الحين والآخر، وأشهد صبره على المراجعين، ورغبته في قضاء حوائجهم، وبشاشته في وجوههم، وتزاحمهم عليه بما يعطل قدرته على خدمتهم في بعض الأحيان، فاقترحت عليه أن يجعل في جانب من مكتبه مجلساً صغيراً خاصاً يتيح له أن يخلو بهذا المراجع أو ذاك بعض الوقت، فهذا أنفع له وللمراجع، وأعون على تنظيم المراجعين حسب أدوارهم فأبى، وقال لي: دعني أكن كالأرض السهلة يؤمها الماء بسهولة ويسر.

· خرج ذات مرة من بيته ليصلي الفجر في مسجد مجاور ولم يكن الأذان قد رفع، فرأته دورية من رجال الأمن فاستوقفته وأخذت تسأله عن خروجه في هذه الساعة المتأخرة كما لو كان مشبوهاً، وهو يؤكد أنه ذاهب للصلاة، ولم يرض أن يخبرهم تصريحاً أو تلميحاً عن منصبه ومكانته، وخلال النقاش ارتفع صوت الأذان فتركته الدورية يذهب إلى المسجد وكأنها قد عفت عنه.

· تخرجنا من الجامعة عام «1383هـ/1963م»، وكنا طالبَيْن متفوقَيْن بفضل اللَّه تعالى، وكان الطلبة يحرصون على الحصول على شهادات التخرج، المتفوقون منهم وغير المتفوقين، أما هو فلم يحرص على شهادته في قليل أو كثير.

· افترقنا بعد التخرج خمس سنوات، ثم التقينا حين ذهبت أزوره في مكتبه في الطائف دون أن أخبره بذلك، ودخلت مع سواي من المراجعين، ولم أقل شيئاً حين وقفت أمام مكتبه واعتصمت بالصمت التام، فلما رآني وثب من مكانه محيياً ومرحباً ومعانقاً، وكأننا لم نفترق قط، فعلمت أنه هو هو، بل ازداد أصالة ووفاء وتواضعاً، خلافاً لسواه ممن يطيش صوابهم ويركبهم الغرور لبعض ما آتاه اللَّه تعالى إياه، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال: (الناس معادن)، حقاً إنه معدن نبيل كريم.

     وكان نعم العون، ونعم الناصح، وأذكر أنه رآني في حاجة ماسة، منعني حيائي من ذكرها، ولكنه فطن إليها بذكائه ومروءته فقضاها لي، فتذكرت بموقفه هذا قول الشاعر القديم:

ولي صاحب كالسيف أبيضَ مصلتاً
               وهيهــــات منه كلُّ أبيضَ مصـــلتِ
رأى حاجتي من حيث يخفى مكانها
               فكانت قـــذى عينيه حتى تجــــــلتِ

     · كان له مقال أسبوعي في جريدة الرياض ظل ملتزماً به سنوات، مع كثرة أعبائه ودقتها وأهميتها، وذلك أمر يحسب له في سجل المزايا، وكان لا يوقع باسمه الحقيقي، بل يوقع باسم «مسلم بن عبد اللَّه المسلم» وهو ميزة أخرى له، وفيهما ما يدل بوضوح على دقة الالتزام، وعلى الزهد في الشهرة والأضواء.
***

     وبعد؛ فمعاذ اللَّه أن أدعي لأخي النبيل، أو لأحد من الخلق أجمعين، كمالاً أو عصمة، فالكمال للَّه تعالى وحده، والعصمة للأنبياء الكرام عليهم أفضل الصلاة والسلام وحدهم، ولكني أقرر - وعن معرفة يقارب مداها ستة عقود من الزمان - أنه مسلم صادق الإسلام، عربي نقي العروبة، حاز مجموعة من الفضائل الوَهْبية والكَسبية سكنت شخصه في إطار من التوازن والاعتدال فزانته وجعلته شامة بين الناس.
***

عبد الرحمن الباني الشيخ الصديق الذي أمات حظوظ نفسه

عبد الرحمن الباني الشيخ الصديق

الذي أمات حظوظ نفسه

     سألني الشابُّ الصاعد الواعد أيمن ذو الغنى عن الشيخ عبد الرحمن الباني رحمه الله هل تعرفه؟ أجبته: نعم، وقد رأيت فيه مجموعة من المزايا الباهرة النادرة أعجبتني جدّاً، فطلب مني أن أكتب عنه مثنياً وناقداً ولو بإيجاز، لأنه يعمل على إعداد كتاب عنه.

     الشيخ عبد الرحمن الباني رحمه الله؛ رجلٌ عفيفُ اللسان، عفيفُ السريرة، سيطر على لسانه فأحكمه، وسيطر على سريرته فنقّاها، فهو نقيُّ الظاهر نقيُّ الباطن، ولعلَّ سريرته أنقى من علانيته، وهي منزلة عالية لا ينالها إلا صفوةُ الصفوة من الرجال، وهم أقل القليل.

     في الشيخ الباني حياءُ الفتاة، ودقّةُ الساعة، ودأبُ النحلة، ونيّةُ المحتسِب، وهو صابرٌ حيث ينبغي له أن يصبر، شاكرٌ حيث ينبغي له أن يشكر، زهدُه زهد المختار لا المضطرّ، وقد حدّد دربه الدعويَّ والتربويَّ في الحياة، عن عقل حصيف راشد، وإرادة حازمة جازمة، وقلب جعله للَّه بالكليَّة، واستمرَّ في هذا الدرب حتى لقي ربه، وهو نِعْمَ الداعيةُ، ونعم المربي، ونعم القدوة.

     وقد وقر في نفسي من قديم أن هذا الرجل أمات في نفسه حظوظَ نفسه، فلم يعُد يسعى إلا لمرضاة اللَّه تعالى، ولم يعُد يفكّر - في يقظته، بل وفي نومه - إلا في مصالح المسلمين، يستحضرُها ويتابعها ويحثُّ نفسه وغيره على العمل فيها، إن لي أن أصف الشيخَ عبدَ الرحمن الباني رحمه الله رحمةً واسعة بأنه رجل نادر المثال، جديرٌ بأن يقال عنه: إنه صِدِّيق، جملةً وتفصيلاً.

     وإن لي أن أقول عنه: إنه رجل من الرعيل الأول من السلف الصالح، جاء في عصرنا ليكون قدوة لنا، وحجة علينا.

     على أني من قديم آخذ عليه قلَّة عطائه العلميِّ تأليفاً مع عمره المديد، وعلمه، وغَيرته، واطِّلاعه الواسع، ومردُّ ذلك عندي إلى حبّه الشديد للإتقان الذي يجعله يطيل النظر فيما ينبغي له أن يكتب، فلا يكتب.

     غفر اللَّه للشيخ عبد الرحمن الباني، وبوَّأه مقعد صدق في الآخرين.

***

الشيخ الأعجوبة الموسوعي علي الطنطاوي

الشيخ الأعجوبة الموسوعي علي الطنطاوي

     الشَّيخ عليٌّ الطَّنطاويُّ «1327- 1420هـ، 1909- 1999م» رحمه الله؛ أُعجوبَةٌ مِن أعاجيب عَصْره؛ عِلمًا وحِكمَةً، وعَقلاً وذكاءً، وبَيانًا وفَصاحةً، وطُرفةً ونادِرةً، وثَقافةً غنيَّةً مَوسوعيَّةً، وذاكِرةً قويَّةً، وقُدرةً على إيصال المعلومة إلى الآخَرين بأُسلوبٍ شائق ينفرد به، وهو قارئٌ مُدمِن، وعِصاميٌّ حقيقيٌّ، وقد جعلَتْه عِصاميَّتُه مع الزَّمنِ نَسيجًا مُتميِّزًا، إنَّه عِصاميٌّ في طلَبِ الرِّزق، وعِصاميٌّ في تحصيل العِلم، وعِصاميٌّ في الأداء والبَلاغ المُبين، وعِصاميٌّ في المكَانة التي احتلَّها عن جَدارةٍ، وكان بها محلَّ التَّقدير والإجلال من الكَثيرين من العلماء، والأُمراء، والدُّعاة، والسَّاسَة، والأُدباء، من مُختلِف المستويات والشَّرائح.

     تعمَّق في عُلوم الشَّريعة والأدب واللُّغة والقَضاء، وأحاط بقضايا عَصْرِه إحاطةً مُمتازة، وأحبَّ دِينه حبًّا جمًّا، ووهَبَ نفسَه له، فكان بحقٍّ من أعظَم دُعاة الإسلام وحُماته، وأضافَ إلى ذلك رغبةً في اليُسر والاعتِدال، وقُدرةً على رَبْط الجُزئيَّات بالكُليَّات، والأحكام بالمقاصِد، فَضلاً عن وَعْيٍ عميق بمَنطِق الأولويَّات والمُوازَنات، وإعطاء كلِّ قضيَّة حقَّها، ووضْعها في مكانها الذي تستحقُّه، لا تتقدَّم عنه ولا تتأخَّر.

     ولأنَّه داعيةٌ إسلاميٌّ واعٍ جدًّا، جعلَ مِن دأْبِه أمرَين؛ الأوَّل: أن يعرِفَ خُطَطَ الأعداء ويتصدَّى لها، والثاني: أن يعرِفَ جوانبَ القُصور في العمَل الإسلاميِّ ويُحذِّرَ منها، وله في هذَين الأمرَين جُهدٌ مَشكورٌ، وخِبرَة تجعله حُجَّةً ينبغي للدُّعاة الاستِفادةُ منها.

     وكان مُذْ بدأَ عمَله الدعويَّ مِلْءَ السَّمع والبصَر، وكانت له مواقف مَجيدة زادَتْ من شُهرته ومَجْده، وجعلَتْه حديثَ الناس، وازدادَ أهلُ الخير حُبًّا له بسببها، وازدادَ أهلُ الشرِّ كُرهًا له بسببها أيضًا، ولو أنَّ الإنسان تتبَّع هذه المواقِفَ، لعاد منها بحَصيلة وافِرة جدًّا، ليس هذا مَكانَها.

     يبدو لي أنَّ الشَّيخ الطَّنطاويَّ كان عدَّة رجالٍ في رجل، فهو: أُستاذٌ، وخَطيبٌ، ومُربٍّ، وداعيةٌ، وفقيهٌ، وقانونيٌّ، وقاضٍ، ومؤلِّفٌ، وأديبٌ، وقَصَّاصٌ، ومَسرحيٌّ، وناقِدٌ، وصحفيٌّ، ورحَّالةُ، وراويةٌ، ومتحدثٌ إذاعيٌّ، ثمَّ هو أحَدُ شُهود العَصْر النَّادِرين الذين تابعوا - بوَعْيٍ وإحاطَة - تَغيُّرَ الدُّوَل واختِلافَ الحُكَّام منذ نهاية الدَّولة العثمانيَّة حتَّى وفاته.

     وإذا كانت هذه المزايا الكَثيرة التي أكرَمَه اللَّه تعالى بها، من أسباب شُهرته من ناحية، ومن أسباب سَعَة نفْعِه للمُسلِمين من ناحية؛ فإنها قد جارَتْ عليه؛ ذلك أنَّها أدَّت به إلى كثير من الشَّتات، وكثير من التَّكرار، ولو أنَّه نجا من ذلك بالتركيز فيما هو أقدَرُ عليه، وأنفَعُ فيه، وانصرف عمَّا سِوى ذلك، لكان حظُّه من النَّجاح والنفع أكبَرَ بكثير مما حازَه؛ ولذلك أرى أنَّ كَثيراً من جُهدِه سوف يَطويه الزَّمن فيما يَطويه، ولستُ أدري كيف غابَ عنه هذا الأمرُ مع ذكائه ونُبوغِه! إنَّ التاجِر الحَصيف يستغني عن صَفقةٍ رابِحة؛ مِن أجلِ صَفقة أكبرَ رِبحًا، وهذا الأمر يصحُّ في عالَم الأفكار، كما يصحُّ في عالَم الأموال، وللإمام العبقريِّ أبي حامدٍ الغزاليِّ:، جملةٌ وَجيزةٌ عبقريَّة، يَحسُن إيرادُها في هذا السِّياق يقول فيها: تَركُ الترتيب بين الخيرات من جُملة الشُّرور.

     وأنا من الجيل الذي تفتَّح وَعْيُه، والطَّنطاويُّ مِلْء السَّمْع والبصَر، فبهَرني جدًّا، واتَّصلتُ به من خِلال الخُطبة والإذاعة والتلفزة والكِتاب، ثُمَّ اتَّصلتُ به صِلةً شخصيَّةً سَمعتُ فيها منه وسَمعَ منِّي؛ لذلك لي أن أقولَ وبفَخْرٍ: إنَّه أحَدُ أساتذتي الذين وضَعوا بصَماتِهم عليَّ فِكرًا وبيانًا.

     كنتُ أَحرِصُ جدًّا على زيارة الشَّيخِ الطَّنطاويِّ حين يُتاح لي ذلك في بيتِه في مكَّة المُكرَّمَة، أو بيتِه الآخَر في جدَّة، وكنتُ أَحرِصُ على أن أُوجِّهَ إليه بعضَ الأسئلة التي تَشغَلُني؛ حتى لا تكونَ الزِّيارة مُجرَّد تَحيَّة ومُجامَلة وإضاعة للوقت، وأهمُّ من هذا وذاك كنتُ أَحرِصُ على أن أَعرِضَ عليه ما يَجدُّ في ذِهْني من أفكار، أشكِّلُها ببُطْء وأتشبَّثُ بها بإصرار - مع أنَّ كثيراً ممَّن حولي يلومونَني عليها - وأَطلُب رأيه فيها، ومُحاوَرةُ العُقَلاء الصُّرَحاء الفُضَلاء هي الطريقةُ المُثلى لِمعرفة الصَّواب والخطأ فيما نؤمنُ به، وفي كثير من الأحيان كان الشَّيخ يُؤيِّدُني ويَربِط على قلبي، ومع الزَّمَن ومع استمرار العَرْض والحوار، بدأ الشَّيخ يُثني عليَّ ويُشجِّعُني؛ حتَّى إنَّ أحد تلاميذه الآخَرين - وهو في الوقت نفسِه أخي وزميلي وتِرْبي - كان يقول لي في سياقٍ مِن الدُّعابة والثناء: يا حَيدر، إنَّ الشَّيخ يُؤمِن بكَ.

     وفي زيارة للشَّيخ تاريخها «24/ 1/ 1411هـ، 15/ 8/ 1990م»، سألتُه عدَّة أسئلة عِندي أجوبةٌ حاسمة لها تمامًا؛ ليَرُدَّ عليَّ إنْ رفَضَها، وليَربطَ على قلبي إنْ أقرَّها، فأقرَّها جميعًا.

     قلتُ له: إنَّ علوم الفلسفة ليس لها فائدة، ولن تَخسرَ البشريَّةُ شيئًا لو هلكَتْ جميعًا، فوافَق، وقلتُ له: إنَّ علوم البلاغة العربية - خاصَّةً في القرون الأخيرة - لن تَخسَرَ العربيَّةُ بفِقدانها شيئًا؛ لأنَّها تقومُ على تقسيماتٍ عقليَّة لا تبقى في الذِّهن، ولا تصنَع من حافِظها أديبًا بليغًا، فوافق وسُرَّ كثيرًا، وقال مُمازحًا: لو كنتَ جَميلاً لقبَّلتُك، وقلتُ له: إنَّ طريقة تدريس علومِ الدِّين عامَّةً والتَّوحيدِ خاصَّةً؛ طريقةٌ حِفظيَّة تَلقينيَّة قليلةُ الجَدوى، فأيَّد ذلك، وقلتُ له: إنَّ كثيرًا مِن المتديِّنين الذين ارتبطَتْ أرزاقُهم بالدِّين، هم - بسُلوكهم وعاداتهم وتَكلُّفهم وضَعْف ملَكاتهم - قليلو النفع للدِّين، وربَّما كان بعضُهم يَضرُّ، فأيَّد الشَّيخُ ذلك، وذكر أنَّ له مقالاً طريفًا عن هذا الموضوع عنوانه: «صِناعة المَشيَخَة».

     وكنتُ حَريصاً جدّاً على أنْ أَعرِفَ رأيَه في شِعري؛ لأنِّي خَشيتُ أنْ أكونَ مُجرَّد ناظِم، ولأنَّه قرأ لي قِطعةً قصيرةً، فأخبرَني أنَّها لم تُعجِبْه، ثم شاء اللَّه تعالى لي أنْ أزورَه برُفقة أخي وزميلي وتِرْبي الذي سبقَت الإشارةُ إليه في بيتِه في مكَّةَ المكرَّمة يوم الجمعة «6/2/1412هـ، (16/8/1991م».

     وقد حَرَصتُ على تأريخ هذا اليوم - وبغايَة الدقَّة - لفرَحي بما ظَفِرتُ به من الشَّيخ فيه؛ لقد طلَبتُ منه أن يقولَ لي رأيَه في شِعري بصَراحة تامَّة، وقلتُ له: سوف أقرأ لك قَصيدةً أَعدُّها من أجود شِعري، وبعدها قُل لي: دَعِ الشِّعرَ فأنت لم تُخلَقْ له، أو امضِ فيه، إنَّه شَرطي للقِراءة؛ فربَّما لا أَصلُح للشِّعر، فأبى الشَّيخُ أن يَعِدَ بشيء، فكرَّرتُ الطلب، فأبى الشَّيخ؛ ذلك أنَّه أراد أن يَدفَعَ عن نفسِه الحرَج، وعنِّي الإحباطَ لو كانتِ النَّتيجةُ سلبيَّة، على كلِّ حالٍ قرأتُ القصيدةَ للشَّيخ عليٍّ، وكانت «جُرح الشَّآم» فسُرَّ كثيرًا، وطَرِبَ واهتزَّ، وكرَّر كلمةَ «عظيم» عدَّة مرَّاتٍ، ثمَّ أردَفَ: إنَّ المَرْء يسكُت أحيانًا من شدَّة الإعجاب، ففَرحتُ بذلك كثيراً جدّاً.

     ووجدت أن الشيخ بثنائه هذا أجازني شاعراً، فشجعني هذا على مزيد من العناية بالشعر نظماً وتحسيناً.

     ومِن المعروف أنَّ الشَّيخ الطَّنطاويَّ اعتزل الدُّنيا كلَّها في العِقْد الأخير من عُمره، وظلَّ بين بيته في مكَّةَ المكرَّمة وبيته الآخَر في جدَّة حتَّى مات عام «1420هـ/1999م» رحمه الله رحمة واسِعة، ومع اعتِزاله الاختياريِّ هذا، ومع مكانته الجليلة المُقرَّرة، ومع معرفته بسوء رأيي في بعض خاصَّته، أبَى عليه كرَمُه وإنصافه، وقُدرتُه على الفَصْل بين الأمور، ووَضْع كلِّ أمر في حجمه ومكانه، إلا أنْ يتَّصلَ بي هاتفيًّا لمَّا عرَف أنِّي حصَلتُ على الدكتوراه عام «1414هـ/1994م»؛ ليقولَ لي من حيثُ يُقيم في مكَّةَ المكرَّمة إلى حيثُ أُقيم في الرِّياض: أنا ما اتَّصلتُ بك لأهنِّئكَ بالدكتوراه؛ بل لأهنِّئَ الدكتوراه بكَ، فاستبدَّ بي فرَحٌ غامِر، وشَكرتُ الشَّيخَ شُكرًا جَزيلاً، وقلتُ له: هذا الثَّناء أجلُّ عِندي من قرار اللجنة العلميَّة التي منحَتْني الدكتوراه.

     وحين طبَعتُ رسالة الدكتوراه، وكانت عن الشَّاعر الكبير عُمر أبو ريشة ؒ، وقرأها الشَّيخُ الطَّنطاويُّ، أثنى على ما قرأه كثيرًا، ووصفَه بأنه مُدهشٌ ومُمتاز، ووصف اللغة بأنها عالية، وقال لي: لقد أنصفْتَ الشاعِر، وكنتُ أُقرُّ بجَودتكَ كاتِباً، لكنْ لم أكنْ أظنُّك بهذا المستوى، وأنا الآن أُشيد بمَقْدرتك كاتباً بعد أن أشدتُّ بمَقْدرتكَ شاعِراً، عِندها تشجَّعتُ وأحسَسْت أنِّي أريد أن أظفَرَ من الشَّيخ بمَزيد من الثَّناء، فقرأتُ له قَصيدتي «يا شام»، فسُرَّ بها كثيراً، وكان اختياري لهذه القصيدةِ بالذَّات مُوفَّقًا؛ لأنَّ الشَّيخ عاشِقٌ لدمشقَ من ذُروة رأسه حتى أخْمَص قدمَيه، وربَّما كان في اختياري لهذه القصيدة نوعٌ من المَكْر المُباح، على كلِّ حالٍ فرحتُ كثيرًا بثَناء الشَّيخ وسُروره، وهو ما دفَعني إلى تَدوين هذه الزِّيارة وتأريخها فورًا، وكأنَّها وثيقةٌ أَزهُو بها، وأخاف أن تتسرَّبَ من الذَّاكرة، لقد كانت الزِّيارة في بيته العامِر في جدَّة، يوم الخميس «21/2/1418هـ، 26/6/1997م».

     وبعدُ؛ فإنِّي لا أدَّعي للشَّيخِ عليٍّ الطَّنطاويِّ رحمه الله؛ كَمالاً ولا عِصمَةً، فالكَمالُ للَّه وحدَه سبحانه، والعِصمَة للأنبياء الكِرام فقط، لقد كان بشَرًا من البشَر له وعليه، ولكنْ لي أنْ أُقرِّرَ ومعي شواهِدُ كثيرةٌ جدًّا: أنَّ ما له أكبرُ بكثير جدًّا ممَّا عليه، وأنَّه من أنبغ النُّبَغاء، وأذكى الأَذكياء، وأنَّه إضافة مُتفرِّدة في عَصْره، وأنَّه من أعظَم دُعاة الإسلام وحُماته، وأنَّ سيرتَه جَديرةٌ أنْ تُدرَسَ وتُحتَذى، ويتعلَّمَ منها الكِبارُ قبلَ الصِّغار.

· إني أنتقدُه لِما وقعَ فيه من الشَّتات والتَّكرار.

· وأنتقدُه أيضًا لمزاجه الخاصِّ الحادِّ الذي ضيَّق دائرةَ من أرادوا الاستفادةَ العلميَّة والدعويَّة والتربويَّة من خلال القُرب منه.

· وأنتقدُه أيضًا لحجب بعض مُروءاته التي هو قادرٌ عليها عن بعض مُستحقِّيها الأخيار لحساباتٍ خاطئة.

· وأنتقدُه كذلك لأنه لم يؤلِّف لنا كتابًا مستقلًّا عن العمل الإسلاميِّ الحديث يصفُه، ويقوِّمُه، ويقترح له خططًا ومعالمَ مستقبليَّة تجعله أكثرَ صوابًا، ولو أنه فعلَ لقدَّمَ خِدمةً متميِّزةً جدًّا نافعةً جدًّا، إن في كتاباته وأحاديثه أشياءَ جيِّدةً تتصلُ بذلك، لكنَّها مُبعثَرةٌ هنا وهناك، وتشكو من التجزئة والتكرار، والوصولُ إليها في مَظانِّها الكثيرةِ الممتدَّة زمانًا ومكانًا أمرٌ شاقٌّ جدًّا.

     وثمَّةَ اعتِذارٌ أضعُه بين يدَي القارئ الكريم، حول حِرصي على الحَديث عن صِلَتي به وثنائه عليَّ، ويغفرُ اللَّه تعالى لي إن أخطأتُ، لقد أردتُّ للتلميذ الشابِّ أنْ يحفظَ مَنزلةَ أساتذته، ولكنْ ليس له أن يَذوبَ فيهم، وأردتُّ له أنْ يسألَهُم عمَّا يصلُ إليه من أفكار؛ ليَربطوا على قلبه أو ليُصحِّحوا له، وأردتُّ له أيضًا أن يفرَحَ بثَناء عُقلائهم عليه وتشجيعهم له؛ فذلك حافِزٌ قويٌّ جدًّا له إلى المُثابَرَة والنجاح. ولقد كنت ولا أزالُ أرى أنَّ الحوار مع العُقَلاء الصُّرَحاء الفُضَلاء مَغنمٌ كبير جدًّا، وخُطوةٌ في الترقِّي، وعَونٌ على تطوير الذَّات، وزيادةِ مَساحَة الصَّواب، وتَقليلِ مَساحَة الخطأ.يبقى لي أن أشيد بكتاب الشيخ الطنطاوي «ذكريات» الذي صدر في ثمانية أجزاء، فهذا الكتاب موسوعة جميلة، وبستان مليء بالأطياب، إنه ذكريات، ودين، وعلم، وأدب، وفن، ونوادر، وجغرافية، ورحلات، وسياسة، وتربية، وما إلى ذلك، وهو مكتوب بأسلوب شائق جداً، وقد قرأته عدة مرات، وأنوي أن أعيد قراءته مجدداً، وأنصح الآباء أن يضعوا في بيوتهم عدة نسخ منه ويشجعوا أبناءهم على قراءتها مرة بعد مرة، وسوف يرون آثارها الطيبة عليهم بإذن اللَّه.

***

شاهد القرن

مقاطع من قصيدتي في الشيخ علي الطنطاوي «شاهد القرن»

حُـــمَّ الرحيــــل وما رأيتك تشــفقُ     وأجبـــتَه والوجـــه طلق مشـــرقُ
فعجبـــت يا شيخي وجئت مسـائلاً     فيــم البشــــاشة والرضا والرونـق
كيف ابتسمت وكان بشرك كالسنـا     ولمن هششت ومن لقيت ومن لقوا
والعهــــد أن الموت يرهبــه الفتى     ويخــــافه حتى التقي الأصــــــدق
فأجبــــت إني للرحيـــم مســــــافر     فعــــلام أشــــكو يــــا بُني وأقــلق
***

يفني الزمــــان مدائناً وقيــاصراً     ويـزول مُثْــرٍ في الحياة وممــلق
وعطـــاء مثـــلك دائم متجــــــدد     يهفـــو إليه مغــــرِّب ومشــــرِّق
نضـــر يجـــدد كل حين حســـنه     فجـــماله غض قشــــيب مونـــق
***

المســـلمون عشـــــيـرة لك كلهم     إن يحزنــوا أو يفرحوا أو يقـلقوا
تـــأسى لهم وتذود عن حرماتهم     وتـكــــاد من آلامهم تتــــــمـزق
فإذا انجلت عنهم وعنك همومهم     ضحــكت بوجهك بسمة تتــــألق
***

ومضيت حين مضيـــت كل ثنية     في الأرض ودت أنها لك نُمْــرق
لكن ظفـــرت بمكة ولقد رجـــت     أن وسِّـــدتك مع المحبة جــــــلق
وسكنت جـــار المروتين وزمزم     وحراء جارك وهو هدي يعبـــق
والكعبـــة الزهراء منك قريبــــة     وحفيــــة فيـــها السنـــا والرونق
يــا طيب حظك بالجوار وأهــله     لمـــــــا أتوك بشـــــائراً تتـــدفق
***

حين رأيت العقاد

حين رأيت العقاد

     كان عباس محمود العقاد «1889-1964م» قامة شامخة حقاً، عاش حياة عريضة، كان فيها ملء السمع والبصر، ومات بعد أن فرض نفسه علامة مميزة في جيله لا يمكن تجاوزها.

     كان قامة شامخة في جسده، فقد كان طويلاً عملاقاً وجهه أبيض مشرب بحمرة، وكان قامة شامخة في عصاميته، التي كانت عصامية متجددة بحق، فقد ترك التعليم النظامي بعد حصوله على الشهادة الابتدائية فقط، وترك العمل الوظيفي بعد فترة يسيرة قضاها فيه ووصف الوظيفة بأنها «رق القرن العشرين»، ثم انصرف إلى القراءة والكتابة بصبر، ومثابرة، وعناد، وتنوع حتى مات، ولذلك فهو مَنْ بنى نفسه بنفسه، لم يعتمد في نجاحه على مال، ولا أسرة، ولا حزب، ولا تبعية لهذا الوجيه أو ذاك، ذلك أنه كان شديد الاعتزاز بنفسه، عظيم الثقة بها، راضَ نفسَه على الصبر والكفاف، واختصر كثيراً من الصوارف، والملهيات، وتجاوز كثيراً من المطامع والمغريات، وتلك قدرة نادرة، وهي - بإذن اللَّه - من أهم أسباب نجاحه المتفرد.

     كان له في شبابه ما يؤخذ عليه، مثله في ذلك مثل كل البشر، كنقده لشوقي الذي أصاب في جانب منه، وأخطأ في جانب، وكبعض آرائه المردودة في الدين والحياة، ولكن يحمد له أنه تجاوز ذلك كله، وما زال يغذ خطاه نحو جادة الصواب، حتى مات وهو من الفرسان المعدودين والمرهوبين، المدافعين عن الإسلام العظيم ونبيه الكريم e، المنافحين عن العربية، والأصالة، والأخلاق، المتصدين الشجعان للدعوات المنحرفة التي شاعت في عصره من تغريب، وعلمانية، ويسارية، وثورية، وشيوعية وغيرها، من الفتن التي أرهقت البلاد والعباد.

     حين جئت القاهرة للمرة الأولى، طالباً في قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة عام «1379هـ/ 1959م»، كان العقاد ملء السمع والبصر، وكنت من قرائه ومحبيه، وكنت أتمنى أن أراه، لذلك لما أعلن الأزهر الشريف عن محاضرة له في ذلك العام نفسه، وجدت نفسي مسارعاً للذهاب إلى القاعة التي هي محل المحاضرة، وكانت قاعة الإمام محمد عبده، بجوار المبنى التاريخي للأزهر الشريف، وكانت المحاضرة عن الإمام الغزالي.

     بدأ العقاد محاضرته، ولا تزال جملتها الأولى محفورة في ذاكرتي، وفيها أكّد أنه تأخّر في الكتابة عن الغزالي لأهمية الغزالي في نفسه، وهو ما دعاه إلى أن يحتشد لها الاحتشاد اللائق بها، ثم قرر أن الغزالي لم يكن نقطة تحول في تاريخ الفكر الإسلامي فحسب، بل نقطة تحول في تاريخ الفكر البشري، ثم قال بثقة راسخة ملأى بالاعتداد: كان الفكر البشري يسير في طريق فجاء الغزالي ليجعله يسير في طريق آخر.

     ويومها وقف شاعر شاب فألقى قصيدة بين يدي العقاد يحييه فيها، وأذكر أنها كانت على مجزوء الكامل، فلما انتهى منها شكره العقاد ببيتين ارتجلهما على نفس القافية والوزن، وللعقاد عدة دواوين، لكنه لم يكن شاعراً ممتازاً، بل لم يكن شاعراً متوسطاً، ويغلب على شعره الجفاف والتقريرية، وتقل فيه القفزات المبدعة، ولعل السبب الأكبر في ذلك أنه عقل يقظ جداً وصارم جداً ومنطقي جداً، وهذا لا يتيح للعاطفة أن تبرز، ولا للخيال أن يحلق، وذلك من ألزم لوازم الشعر الممتاز.

     ومرت الأيام، وقرأت الكثير للغزالي، وكانت كلمات العقاد حاضرة في بالي، وأجد لها ما يشهد بصحتها، فالغزالي هو الذي هدم الفلسفة اليونانية، وهو الذي فضح الفرق الباطنية، وهو الذي أراد أن يعيد لعلوم الدين روحها بعد أن تحولت عند بعض العلماء إلى حرفة، وهذه مكاسب جليلة تحسب للإمام الغزالي.

     وظللت أتمنى أن أحضر ندوة العقاد التي كان يقيمها في بيته مرة كل أسبوع، وقد كانت فرحتي كبيرة حين يسّر لي ذلك زميلي في الدراسة علي ذو الفقار شاكر، وهو ابن أخي العلامة الأشهر محمود محمد شاكر.

     واعدني أخي علي في ميدان روكسي حيث كان بيت العقاد قريباً منه، فحرصت على أن آتي في الموعد المحدد بدقة خوفاً من ضياع الفرصة، وخوفاً من امتلاء البيت بالضيوف فلا نجد مكاناً.

     ودخلنا بيت العقاد، وهو شقة مرتفعة في بناية عادية في شارع السلطان سليم، وكان بيتاً في غاية البساطة والتواضع، ووجدنا الكتب وقد ملأت أمكنتها، ثم تجاوزتها حتى لقد رأيت بعضها في مطبخ الشقة، ودخل العقاد وجلس في مقابلة الضيوف، وبدأت الأسئلة والأجوبة، ونحن في غاية اليقظة النفسية والفكرية مخافة أن يفوتنا شيء منها.

     وفي هذه الندوة، أو في أخرى تالية لها، توجه أحد الحضور إلى العقاد فسأله عن رأيه فيمن يرى أن غاية الصلاة هي التهذيب، ولذلك تسقط عمن وصل إلى الدرجة المحمودة منه، ورحم اللَّه العقاد، لقد أجاب الإجابة الحاسمة والصريحة تماماً، لقد نفى هذه الدعوة الضالة جملة وتفصيلاً، وقال فيما قال: إننا نصلي لأن اللَّه عز وجل أمرنا بذلك، والصلاة فريضة لا تسقط عن أحد أبداً، بل يظل مطالباً بها حتى يموت، ومثّل لنا بالرسول صلى الله عليه وسلم، الذي ظل يصلي حتى آخر يوم في حياته، وهو أعلى قمة بشرية في التهذيب.

     ومرةً سأله أحد الحضور سؤالاً شمَّ فيه العقاد رائحة بشعة، هي أن السائل جاء مترصداً له، لينقل إلى رؤسائه ما يدينه، فغضب العقاد وقال كلاماً فيه نقد صريح جداً لتوجهات السلطة الحاكمة، وقال للسائل: اذهب إلى من أرسلوك وقل لهم: هكذا قال العقاد، وهذه الواقعة تدل على جرأته وإبائه وثقته بنفسه.

     إن الحديث عن العقاد حديث طويل، وشائق، ومتنوع، وهو نموذج للعصامية المتجددة، وفي حياته دروس كثيرة، ينبغي أن توضع بين الشبان لتكون قدوة تحتذى، وفي طليعة هذه الدروس أن السبب الأول في النجاح هو الإرادة الحازمة، وتحديد الهدف المطلوب، واختيار الأدوات والوسائل الموصلة إليه، والعمل من خلالها.

     ولقد قرأت للعقاد الكثير، ومما قرأته فأعجبني جداً كتابه «الفلسفة القرآنية»، وهو كتاب وجيز محكم، يدل على فهمه العميق الصحيح للإسلام، تشريعاً، وجزئيات، وكليات، ومقاصد، واعتزازه به، ويقينه أنه الدين الخاتم المحفوظ، وسبيل سعادة الناس في دنياهم وأخراهم، لكن صدري ضاق باسم الكتاب، لأن الفلسفة بصوابها وخطئها عمل بشري، لا يجوز أن يوصف القرآن الكريم به، ثم إني مع الرأي الذي يقرر أن الفلسفة لم تدفع البشرية شبراً واحداً إلى الأمام، والذين دفعوها وأحسنوا إليها هم الأنبياء الكرام، والرواد الذين اقتبسوا نورهم وساروا فيه.

     غفر اللَّه للعقاد خطأه، وتقبل منه صوابه المبرور والمشكور، وأعلى مقامه، وعوّض الأمة عن خسارتها فيه خير العوض.

الأستاذ صالح الحصين شخصية باهرة

الأستاذ صالح الحصين
شخصية باهرة


     معالي الأستاذ صالح الحصين، يذكرني دائماً بالشيخ الصالح أبي الحسن الندوي لما بينهما من تشابه كبير، وكنت أمازح نفسي فأقول لها: لك قدوتان هندية ونجدية، ونعم القدوتان هما.

     الأستاذ الحصين نموذج مشرف لزهد الواجد لا زهد الفاقد، فالفاقد هو الذي انصرفت عنه الدنيا فرضي بذلك وصبر وهو على ذلك مشكور، والواجد هو الذي أقبلت عليه الدنيا بيسر وإغداق فانصرف عنها لانشغاله بأهداف أعلى وأغلى، وهو زهد أجل وأنبل.

     أقبلت عليه الدنيا من كل جانب، فدرس في الرياض، وابتعث إلى فرنسا فدرس فيها، وعاد إلى السعودية تسبقه سمعته العاطرة وسلوكه القويم، فأحبه الناس، وعرف أولو الأمر مكانته فرعوها، وأهدوه من المناصب والتقدير ما يليق بها، ولكن معدنه العالي جعله ذلك لرضوان اللَّه تعالى، ثم لخدمة البلاد والعباد.

     والأستاذ الحصين ذو عقل ذكي دقيق، بعيد النظر، له قدرة على المقارنة والموازنة ومعرفة المقاصد من الأحكام الشرعية، واتخاذ القرار الصواب، أعانه على ذلك ذكاؤه النادر، وعلمه الشرعي، ودراسته للقانون، وعفته وترفعه، وإيثاره الأخرى على الأولى، ولذلك كان نصيبه من الصواب كثيراً محموداً، وقد حملني على الحديث عن هذه الميزة، أن الزاهد - عند كثير من الناس - هو الإنسان الساذج أو المغفل أو ذو الملكات الضعيفة عقلياً ومالياً واجتماعياً، والضمير الشعبي يطلق عليه اسم (الدرويش)، وهي كلمة تعبر عن الرثاء، والإشفاق، والاحتقار أحياناً. وحقاً إن في الزهاد من هو كذلك، والخطأ في التعميم.

     والأستاذ الحصين لم يكن من هذا النوع قط، ذلك أن زهده زهد الواجد لا الفاقد، وزهد صاحب الملكات المتفوقة لا الرديئة ولا العادية.

     رأيته مرة واحدة في المجلس الأعلى للإعلام، ورأيته يتحدث في أحد المؤتمرات من خلال التلفزيون، وقرأت له أحد كتبه، وكان إعجابي يزداد به دائماً، ثم سمعت من عدد من أهل العقل والعلم والدين الذين اقتربوا منه؛ عجائب في السلوك والعفة واحترام النفس وقول الحق المحض بصراحة تامة، وفي أدب رفيع؛ ما دعاني إلى الإعجاب به إلى درجة الانبهار.

     وكنت أحدث نفسي أن يمنحني ساعة من وقته لأضع بين يديه ما انتهيت إليه من الخطأ والصواب، والبدائل المستقبلية النافعة للبلاد والعباد عامة، وللعمل الدعوي خاصة، لأنه من أفضل من يستشار في هذا المجال المهم، وكنت واثقاً أني سأفوز منه بالدرر الغوالي، ولكني سوفت فلقي اللَّه دون أن أقابله، رحمه اللَّه رحمة واسعة.

     والآن أحاول أن ألخص مزايا هذا الإنسان النادر، بدقة وإحكام، وإيجاز، وشمول، كما كان يفعل بلغاء العرب الأعلام، وعسى أن أوفق:

- إنسان نقي السريرة، نقي العلانية، ولعل الأولى أعظم.

- عقله يسبق لسانه، يفكر بدقة وعمق، ويتكلم بمثل ذلك.

- عرف نقطة القوة في نفسه، فمضى في سبيلها بحزم وعزم فتألق وتفوق، وكأنه كان يستحضر الحديث الشريف: كل ميسر لما خلق له.

- يعامل الأعيان والكبار والوجهاء والمسؤولين بما ينبغي له أن يفعل دون أن تبدو عليه ذرة من الضعف، ويعامل من هم دون ذلك بأدب جم دون أن تبدو عليه ذرة من الكبر.

- إذا تكلم أحسن الكلام، وإذا صمت أحسن الصمت، وإذا استمع أحسن الاستماع.

- عرف أحكام الشريعة الغراء، ونفذ إلى مقاصدها العظيمة، وأدرك منطق الأولويات، والموازنة بين الكليات والجزئيات، وحسن الاختيار حين تتاح الفرص الجيدة، وحسن الاختيار حين تكثر الأضرار الغالبة.

     وإلى القارئ الكريم بعض الروايات التي سمعتها عنه، وهي قليل من كثير:

- جاء مرة إلى الديوان الملكي حيث يعمل، فلم يعرفه الحرس ومنعوه من الدخول، فجلس ينتظر ولم يرض أن يقول لهم شيئاً عن مكانته، ثم جاء الملك فيصل، فرآه وابتسم وداعبه قائلاً: لعلك ارتكبت مخالفة فأغضبت الحرس، ثم اصطحبه معه، رحمهما اللَّه.

- دُعِيَ مرة للمشاركة في أحد المؤتمرات، وذهب إلى المطار في الموعد المحدد، وله حجز خاص فيه، ووقف في الطابور مع سواه، فلما وصل إلى الموظف وذكر له اسمه، نظر الموظف في السجل فنفى أن له حجزاً، فطلب منه أن ينظر بدقة في السجل، فنظر الموظف وأجابه أن المحجوز له هو معالي صالح الحصين، وأنت اسمك صالح الحصين كما قلت لي، فابتسم: وقال له: اسمي صالح الحصين، ولكن حملت لقب معالي بحكم وظيفتي، فاعتذر منه الموظف، فشكر له اعتذاره.

- دعته وزارة المالية لتنظيم لوائح مالية دقيقة ومتنوعة، بسبب ما عرف عنه من دقة وإتقان وإحاطة، وعكف عليها في فترات المساء بعد أن ينتهي من عمله الصباحي حتى أداها كما أرادت الوزارة وزيادة، فخصصت له الوزارة مبلغ مئة ألف ريال مكافأة لما فعل، فأبى أن يأخذها وردها، فلما سئل عن سبب ردها مع أنها حق خالص له لأنها عمل إضافي مسائي، أجاب: أنا موظف عند الدولة، ولها أن تستخدمني صباحاً أو مساء. وهذا المبلغ يعادل في أيامنا مبلغ مليون ريال.

- في مشيته طريقة لافتة للنظر، يمشي وقد تأبط عباءته، ولبس الغترة بدون عقال، وركز بصره على مواطئ قدميه، لا يتلكأ، أو يتسكع، أو ينظر إلى ما يمر به، وفيه يصح قول الشاعر العربي القديم في مشية إحدى فواضل النساء:

كأن لها في الأرض نَسْياً تقصه     على أمِّها فــــإن تكلِّمْك تَبْــــلَتِ

     وهذا يؤكد أن ما يشغله من اهتمامات عالية، هو رفيقه الدائم حيث يكون، وهي ميزة نادرة تُذْكر فتُشْكر.

     وإن هذه الوقائع -وهناك الكثير من أمثالها- لا تحتاج إلى ثناء أو إشادة أو شرح، فإنها بيان فعلي حقيقي أفصح من كل قول مهما كان بليغاً.

     وبعد:

     فإني أرجو ممن يعرف سيرة هذا الإنسان النادر أن يعدها باستقصاء وإحاطة وأسلوب شيق يشجع الناس عامة على القراءة والشباب خاصة، لأن صاحب هذه السيرة يحق أن يوصف بأنه «قدوة صالحة» ينبغي أن تشاع على أوسع نطاق.

أستاذي أبو الحسن الندوي

أستاذي أبو الحسن الندوي

     حين كنا شباناً نتابع أخبار العالم الإسلامي، وهموم المسلمين وآمالهم، كان الأستاذ الرباني الصالح الشيخ أبو الحسن الندوي؛ أحد الأعلام البارزين الذين نسمع بهم ونتابع أنشطتهم، ونقرأ كتبهم، وبخاصة كتابه الرائد الذي عرف به في المنطقة العربية، وهو: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟!»، وأذكر أني قرأته غير مرة، ثم قرأت له كتبه الأخرى، كلها أو معظمها.

     ثم شاء اللَّه تعالى أن أتصل به أكثر، من خلال محاضرات ولقاءات وزيارات، زادتني حباً له وإعجاباً به، في المدينة المنورة، وفي الرياض، وفي الهند في ندوة العلماء التي كان أميناً عاماً لها، وفي استراحته الخاصة التي كان يلجأ إليها للعبادة والتأليف، وتقع في قرية «رائي بريلي» التي تبعد عن لكنو 80 كم.

     وكما التقيت الشيخ الندوي؛ التقيت آخرين ممن كانت لهم شهرة دعوية، وكنت أرجو لقاءهم، وإني أشهد شهادة ألقى اللَّه تعالى عليها، بعد نظر طويل وتمحيص ومراجعة، أني وجدتهم ثلاثة أصناف:

· الصنف الأول: وجدته كما سمعت عنه، بلا زيادة ولا نقصان، وأهل هذا الصنف مشكورون مأجورون.

· الصنف الثاني: وجدته أقل بكثير مما سمعت عنه، أخذ مكانة لا يستحقها، بعض أبنائه أذكياء لكنهم يتاجرون بالدين ويوظفونه لأهوائهم، وبعضهم مخلصون لكنهم أغبياء، يسيئون وهم يظنون أنفسهم يحسنون، وجميعهم كارثة على العمل الدعوي، كانوا وسيظلون، وأفضل ما يتقرب به هؤلاء إلى اللَّه تعالى أن يبتعدوا عن العمل الدعوي بالانصراف عنه إلى سواه، فإن أبوا حملوا على ذلك حملاً.

· الصنف الثالث: وجدته أفضل مما سمعته عنه، وأبناؤه قلة، لكنها القلة التي تشرُف بها الحياة، ويصح بها العمل، وينعقد عليها الأمل، وفي طليعة هؤلاء الشيخ الندوي، إنه يذكرني بالشاعر العربي القديم الذي كان يسمع عن جعفر بن فلاح، فلما لقيه وجده أفضل مما سمعه عنه فقال:

كانت مُســـــامَرةُ الرُّكبانِ تُخبرُنَا     عنْ جعفــر بن فلَاحٍ أطيبَ الخبرِ
ثمّ التقيــنا فلا واللَّه ما سمعــــــت     أذني بأحسن مما قد رأى بصري

***

     وعن جدارة صار الشيخ الندوي واحداً من أشهر دعاة الإسلام في جيله، ومن أنبل رموزه النبيلة المتجردة، وتجربته الدعوية غنية واسعة، فقد عمل في التربية والتعليم، وسافر وحاضر، وشارك في الندوات والمؤتمرات والملتقيات، وامتدت جهوده في شتى المجالات الرسمية والشعبية، بل امتدت إلى غير المسلمين إما بدعوتهم، وإما بالتعاون معهم في أعمال محمودة مشتركة، وخالط الكبار والصغار، والمشهورين والمغمورين، والقادة والساسة، وكتب إلى عدد من الملوك والرؤساء ناصحاً مقترحاً محذراً، وقابل عدداً منهم للهدف نفسه، ودافع عن قضايا المسلمين في بلده الهند وفي غيره، وتحدث في الإذاعات، وكتب في الصحف والمجلات وألف الكتب وألقى المحاضرات، تحدوه عزيمة صادقة، وحب عميق للإسلام والمسلمين، وقلب يقظ محترق، ورغبة حارة في نهضة الأمة المسلمة حتى تتجاوز عجزها، وتؤدي رسالتها، وتحتل مكانتها اللائقة بها أمة دعوة وهداية، وريادة وقيادة.

     وقد وضع اللَّه تعالى لهذا الشيخ المربي النبيل القبول، فسمعته عاطرة طيبة، وصلاحه معروف مشهور، وعفته وزهده محل الإجماع، وترفعه عن السفاسف والتوافه والخلافيات معلم ثابت من معالم شخصيته، وكتبه ذائعة في العالمين العربي والإسلامي، بل حيث وجد دعاة ومربون هي كذلك، وأن منهم تلاميذه الذين يحملون روحه الكريمة الصادقة ومفاهيمه الدعوية الخيّرة يذكرونك به حيث تلقاهم، فهم مدرسة واحدة مباركة ميمونة، تضع بصماتها على من تأثر بها.

     ولد الأستاذ الندوي في الهند، من أسرة عريقة في العلم والدعوة، والتربية والجهاد، ترجع أصولها إلى العرب، بل إلى ذؤابة العرب، إلى النسب النبوي الشريف، ومن هنا جاء لقبه الذي يحمله «الحسني».

     أما لقبه الآخر «الندوي» فهو نسبة إلى ندوة العلماء في لكنو بالهند التي أعطاها زهرة عمره، وهو نسب عجيب، فالذين يحملون لقب «الندوي» من أبناء تلك المؤسسة المباركة لا تجمعهم قرابة الدم بالضرورة، فذلك شأن عدد قليل منهم، أما أكثرهم فهو اعتزاز بالندوة التي تربوا وتعلموا فيها، وفي هذا إشارة لطيفة إلى ولائهم لها الذي هو فرع من ولائهم للإسلام الذي تحمله وتبشر به، وتقديمهم هذا الولاء على ما سواه.

     والأستاذ الندوي معمٌّ مخولٌ، تلاقى فيه النِّجَاران الكريمان أباً وأمّاً، فكانا بقدر اللَّه من العوامل التي شكلت نفسيته وعقليته، ودفعا به إلى اختيار طريقه الذي اختاره عن بصيرة واقتناع وحماسة.

     ولقد كان نسبه هذا قوة دافعة نافعة، فلم يتخذه وسيلة للشهرة وطلب المغنم، ولم يحاول أن يوظفه للحصول على مكانة مرموقة ينتزع بها الإعجاب والإجلال والمهابة، بحيث يتبرك به الناس ويحبونه، ويلثمون يديه، ويقفون له ويوسعون له، ويجعلونه في صدور مجالسهم ومنتدياتهم، بل لقد كان هذا النسب حافزاً دائماً في أعماقه يجعله يطلب الكمال، ويشعره أنه ينبغي له أن يكون على المستوى اللائق بوارثه، وشتان شتان ما بين من يشعر أن نسبه الشريف هو عبء نبيل ومسؤولية دقيقة، ومن يهمل ذلك أو يتخذه مطية لطلب المصالح والمغانم.

     وإذا كانت للشيخ النبيل مكانة كبيرة لدى تلامذته ومحبيه حيث كانوا، فإنها أمر لم يقصده ولم يسع إليه، بل هو حصيلة منطقية لأعماله المبرورة وصدقه وإخلاصه، وحب الناس للعبد الصالح وثناؤهم عليه هو عاجل بشرى المؤمن كما جاء في الحديث الشريف.

***

     وجاءت بعد ذلك عوامل أخرى شاركت في رسم أبعاد شخصيته، حب للعلم رافقه منذ أن وعى نفسه، وروح مشرقة شفافة جعلته يحرص على نقاء السريرة، وقلب سوي نقي جعله يوازن بين مطالب العقل والنفس، فلا يجور أحدهما على الآخر، وحياء صادق أصيل لا تكلف فيه، وإباء جعله يترفع عما بأيدي الكبراء والأغنياء، وتقلل من الدنيا مخافة أن تشغله عن رسالته الدعوية التي امتلكت عليه لبه، وأدب جم في خطاب الصغير والكبير، والفقير والغني، والجاهل والعالم، والمرؤوس والرئيس، والمسلم وغير المسلم، واشتغال بمعالي الأمور عن سفسافها، وحرص على وحدة المسلمين وجمع كلمتهم والتقائهم على أمر سواء، وكره للخلاف والنزاع والتشرذم، وإيثار للجوهر على الشكل، وللحقيقة على الصورة، فضلاً عن نقاء عقيدته وعبادته وفكره، واعتداله الذي جعله في الوسطية المحمودة بعيداً من الإفراط والتفريط، وجهره برأيه موافقاً أو مخالفاً، وهو ما جعله لا يغفل عن أخطاء من يوافقهم ويحبهم، ولا مزايا من يختلف معهم في قليل أو كثير، وبساطته التي تشي بصدقه مع نفسه ومع الناس خلافاً للمتكلفين والمتفاصحين والمتنطعين، وزهده الذي اختاره وارتضاه والذي لم تدفعه إليه الظروف كما وقع لسواه.

     وعلى ذكر الزهد يمكن أن يقال: «الزهد زهدان: زهد اضطرار، وزهد اختيار»، وكلاهما خير، لكن زهد الاختيار أعلى وأغلى، وزهد الاضطرار يكون حيث يجد الإنسان نفسه في ظروف صعبة فلا يسخط، بل يرضى بأقدار اللَّه تعالى، ويصبر ويزهد، وزهد الاختيار يكون حيث يجد الإنسان نفسه في ظروف مواتية، ولكنه يختار الزهد، ويرضى بالقليل شاكراً متعففاً، ولقد كان زهد الشيخ الندوي من هذا النوع النبيل.

***

     لم يكن الأستاذ الندوي من العاملين في السياسة، فقد اختار العلم والتربية والدعوة ميداناً له، لكن ذلك لم يجعله غافلاً عنها، بل كان عميق الوعي فيها، دقيق النظر في بداياتها ومآلاتها، أعانه على ذلك صبره، ومتابعته، وانشغاله بهموم المسلمين، ومعرفته بنقاط القوة والضعف في التاريخ الإسلامي.

     يزكي ذلك ويؤكده الكثير مما عرف عنه، ومنه الوصية الحكيمة التي أثرت عنه وتناقلها محبوه، وهي نصيحته للدعاة أن يجعلوا همهم أن يصل الإيمان إلى أصحاب الكراسي؛ لا أن يصل أصحاب الإيمان إلى الكراسي ما أمكن ذلك، وهي نصيحة غنية واعية، تدل على شفافية ونفاذ بصيرة، كما تدل على معرفة عميقة بالصراع الذي شاب التاريخ الإسلامي، ومعرفة عميقة أيضاً بالنفس الإنسانية التي قد تختلط فيها الدوافع أو تنقلب فتجعل الهدف الحقيقي لهذا الداعية أو ذاك هو الوصول إلى الحكم من حيث يعلم أو لا يعلم.

     وإن على الدعاة أن يطيلوا النظر في هذه النصيحة، ويجعلوها نصب أعينهم، ففيها ما يساعدهم على مراجعة نياتهم وتمحيصها للَّه تعالى، وفيها ما يعينهم على النجاة من صراعات اقتحموها، أو أقحموا فيها، فجرتهم إلى كوارث وتضحيات كانوا في غنى عنها، وفيها - وهو أمر في منتهى الأهمية - ما يجعل الحكام الأخيار والحكام الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً يستمعون إليهم، ويتيحون لهم مساحة من حرية الدعوة، ويكفون عن ملاحقتهم والتوجس منهم، وربما أصغوا إليهم، وأخذوا بقليل أو كثير من خططهم وبرامجهم الإصلاحية، وفي ذلك فوائد جمة، وتوفير للجهد والوقت والمال، وفيه أيضاً تقريب بين الدعاة وهم أصحاب الرأي والفكر والنفوذ الأدبي والروحي، والحكام وهم أصحاب السلطة العملية التنفيذية، وهذان الفريقان هما جناحا الأمة، بهما تسعد، وبهما تشقى.

     ومما يستفاد من نصيحة الأستاذ الندوي أن يحسن الدعاة الانتفاع من المناخ المتاح للعمل الدعوي سواء في البلدان الإسلامية أو في خارجها، فكثيراً ما أضاعوا مناخاً متاحاً قلَّ أو كثُر يهيئ لهم فرصة محمودة للدعوة، وقفزوا إلى ما وراءه، فخسروا المتاح ولم يظفروا بما قفزوا إليه، فكان من ذلك شر كبير، كما عليهم أن يرفعوا من الشعارات ما يطيقون، وما تحتمله طبيعة الظروف التي يمرون بها.

     وإني أذكر له بمزيد من الإعجاب والتقدير، موقفه من صدام حسين قبيل احتلاله الكويت عام 1990م، فقد حاول صدام أن يضفي على نفسه صفة الرئيس المؤمن الذي اختار الإسلام منهجاً له، ليحظى بالتأييد المأمول حين يقع الاحتلال، فدعا إلى مؤتمر كبير في بغداد ألبسه ثوباً إسلامياً زائفاً حتى انخدع به بعض الدعاة الصالحين، وجاء إلى لكنو مسؤول عراقي يدعو الشيخ للمشاركة في المؤتمر، فاعتذر الشيخ بضعف صحته وبضرورة بقائه في الهند لمتابعة قضايا المسلمين ومشكلاتهم، وأصر المسؤول على الدعوة، وأصر الشيخ على الاعتذار، ولم ييأس المسؤول فقال للشيخ: إن غيابه عن مكانه لن يطول، إذ إن طائرة خاصة ستنقله للمشاركة في المؤتمر، ويجلس في الصف الأول من المشاركين وقتاً قصيراً، ثم تعيده الطائرة إلى بلده بحيث لا يغيب عنه إلا يوماً أو بعض يوم، وبذلك لن يسبب له غيابه القصير أي تأثير يخاف منه الشيخ على صحته وعلى ظروف بلده، فأبى الشيخ.

     ولقد أكرمني اللَّه تعالى بزيارة الهند عقب احتلال صدام للكويت، وتشرفت بزيارة الشيخ في لكنو، فروى لي قصته مع المسؤول العراقي الذي جاءه يدعوه للمشاركة في المؤتمر، وقال في ختام روايته: لم أطمئن للمؤتمر، ولم أصدق أن الرئيس العراقي تخلّى عن علمانيته وضلاله، وكنت على يقين أنهم يريدون مني الظهور في المؤتمر، والتقاط بعض الصور لي، واستدراجي إلى شيء من الثناء، ليشيعوا بين الناس أنني من المؤيدين لصدام في احتلال الكويت.

     وهذه الواقعة تؤكد أن الشيخ ؒ -الذي كان بعيداً عن السياسة، ومتابعة جزئياتها - ذو نظر ثاقب، وفراسة صادقة، وتجرد خالص للَّه تعالى يعينه على اتخاذ القرار الصواب، وبذلك نجا من الفخ الذي أراد الدهاة الأشرار إيقاعه فيه، ووقع فيه كثير من الدعاة السياسيين منهم وغير السياسيين.

***

     والذي يمعن النظر في تجربة الأستاذ الندوي الدعوية يجده يركز في الإنسان قبل الأدوات والوسائل والأشكال، وتلك هي البداية الصحيحة في أي عمل دعوي، فهو يعمل على إيقاظ العقل بالعلم والمعرفة الصحيحة، وعلى إيقاظ القلب بدوام الصلة باللَّه تعالى حباً له وخوفاً منه وتجرداً وإخلاصاً، وعلى إيقاظ روح العطاء والبذل والاهتمام بمعالي الأمور، واقتحام آفاق القيادة والريادة، ولا ريب أن الإنسان الذي تتحقق فيه هذه العناصر المباركة من اليقظة المتكاملة يصبح إنساناً فاعلاً يستشعر مسؤوليته الدعوية، وينهض بأعبائها، فيبني المسجد، وينشئ المدرسة، ويقيم المعهد، ويعقد المؤتمر، ويلقي المحاضرة، وما إلى ذلك.

     وليس المقصود الاستهانة بالأدوات والوسائل والأشكال، فهي أمر مطلوب عقلاً وبداهة وضرورة، والأستاذ الندوي قد مارسه بكثير من صوره، وهو عون على صياغة الإنسان وتحقيق اليقظة المطلوبة فيه، لكن المقصود أن يبقى هذا الأمر في مكانه الطبيعي، ولا يتحول إلى غاية في حد ذاتها، أو ينال حظاً من العناية أكثر مما تدعو الحاجة إليه.

     وفي العالم الإسلامي كثير من المؤسسات الرسمية والشعبية المتصلة بالعمل الدعوي، عطاؤها أقل بكثير من قدراتها، وربما تحول بعضها إلى ما يشبه الديكور والمتحف، الصورة جميلة حسنة، والعطاء نزر لا يذكر، ولو أنها شحنت بروح اليقظة المتكاملة التي يركز فيها الأستاذ الندوي لكان عطاؤها أضعافاً مضاعفة، وإذن فعلينا ألا نبادر إلى أي أداة أو وسيلة أو شكل مفيد للدعوة إلا بشرطين: الأول: أن يكون بالحجم الذي تدعو إليه الحاجة، والثاني: أن لا يتحول إلى غاية في ذاته، بل الغاية هي إيقاظ الإنسان المسلم الفاعل حيث يكون.

     ولقد رأينا كثيراً من النماذج البشرية اتصلت وتخرجت في عدد من المؤسسات الدعوية الشعبية منها والرسمية، وتشكلت بأشكالها، ورددت شعاراتها، وحفظت مصطلحاتها، وقرأت كتبها، وتبنت وجهة نظرها، ودعت الآخرين إليها، واعتزت بانتمائها إليها، ودافعت عن هذا الانتماء، وربما أوذيت من أجله، ومع ذلك فجهودها لا تكاد تذكر، وفي هذه الجهود حماقات وأخطاء تصد عن العمل الدعوي وتنفر الناس منه، والسبب هو غلبة الإطار على الحقيقة، والصورة على الأصل، والتلقين على التربية، والمظهر على المضمون، وتحول الأدوات والوسائل والأشكال إلى غايات بحد ذاتها، أو أخذها حظاً من العناية أكثر مما ينبغي، في مقابل إهمال التركيز في الإنسان الذي ينبغي أن تتضامن كل الجهود الدعوية لإحداث اليقظة المتكاملة المطلوبة منه بحيث يصبح إنساناً فاعلاً حيث يكون.

     وتركيز الأستاذ الندوي في الإنسان بادئ ذي بدء؛ هو نقطة البداية الصحيحة في العمل الدعوي، وهو أمر تشهد به تجاربه الكثيرة الصواب منها والخطأ، وهذا التركيز يدل - فيما يدل - على حكمة الأستاذ المربي، وعمق نظره وانتفاعه من تجارب التاريخ وبصيرته النافذة، كما يدل على شخصيته التي يلتقي فيها العقل والقلب، والعلم والخبرة، والتأمل العميق في تناغم واتساق وتكامل.

***

     ومن سعة أفق الأستاذ الندوي وحبه للخير واستشرافه للمستقبل نجده يعمل على إنشاء «حركة رسالة الإنسانية»، وهي حركة تريد التعاون مع جميع الهنود من مسلمين وغير مسلمين، لما فيه صالح الهند العام.

     وتختلف هذه الحركة عما سواها من الأعمال والحركات والدعوات التي شارك فيها الأستاذ الندوي في أنها انبعثت منه، حيث استولت عليه، وامتلكت أعصابه، فجعلته يفكر فيها، ويخطط لها، ويعمل من أجلها، شأنه في ذلك شأن كل مخلص لفكرة يتبناها ويدعو إليها.

     وقد كان الدافع لإنشاء هذه الحركة ما شاهده الأستاذ الندوي في الهند مما سماه «الفوضى الخلقية والانتحار الجماعي»، حيث فشت النفعية والانتهازية، وتراجع احترام الناس للأعراض والأموال والأنفس، وتمت التضحية بالمصالح الكبيرة العامة من أجل مصالح صغيرة تافهة، وأهدر الوقت، وكثرت الرشوات والسوق السوداء وكل ما يخالف الدين والعرف والقانون.

     يقول الأستاذ الندوي: «وانتظرت أن يقوم أحد في وجه هذا الفساد، ولكن الحزبية والسياسة لم تدع مجالاً للناس للتفكير في مثل هذه القضايا، وأخيراً قررت رغم شعوري بقلة بضاعتي ووحدتي وضعف تأثيري أن أنزل في الميدان، وأخاطب الناس من دون تمييز بين المسلمين وغيرهم، وأحذرهم من عواقب هذه الحياة المادية المتطرفة.

     وإن من واجب المسلم أنه أينما كان يعتبر نفسه مسؤولاً عن مجتمعه، ولا يتعامى عن الأخطار بدس الرأس في الرمل مثل النعامة، ولا يردد درس: (كل شيء على ما يرام)، فإن على المسلم حقاً في كل مكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بالإصلاح وإزالة الفساد، وليحسب نفسه راكباً سفينة الحياة التي إذا غرقت غرق مع الجميع، ولا أروع وأجمل من مثل ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك، لم أجد له مثلاً في آداب أي ديانة وفلسفة أخلاق، روى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقاً، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا) رواه البخاري.

     فنحن كلنا رُكاب سفينة واحدة، هي سفينة بلادنا، إذا غرقت - لا سمح اللَّه - فلا تنجو مؤسساتنا ولا مكتباتنا، ولا شخصياتنا المحترمة، ولا العلماء الفضلاء، ولا العاملون الصالحون.

     فليس عندي من طريق لحياة العز والشرف للأمة الإسلامية في هذه البلاد إلا بأن يثبت المسلمون نفعهم وإسعافهم لهذه البلاد، ويملؤوا فراغ هذه القيادة الخلقية الذي لا يزال منذ مدة طويلة، فإنه لا يمكن لأي أقليّة أو فرقة في أي بلد أن يعيشوا حياة الكرامة والعز إلا بإثبات فائدتهم للبلاد، وأنهم ضرورتها وحاجتها، وبالقيادة الخلقية والدعوة الإسلامية والإنسانية الفاضلة.

     وقد قمت في صدد هذه الحركة بجولات في ولايات بهار وراجستهان وهريانة، وبنجاب وأترابراديش، وعقدت في مختلف الأماكن احتفالات رائعة ناجحة، كان يحضرها عدد كبير من غير المسلمين من الطبقة المثقفة فيهم، وكانوا يستمعون الخطب والمحاضرات بإصغاء واهتمام، ويبدون تأثرهم وانطباعاتهم الطيبة، وقد قلت في إحدى هذه المناسبات: إن على المسلمين مسؤولية ذات وجهين:

     المسؤولية الأولى: أن كتابهم الأخير الخالد القرآن، ورسولهم الخاتم محمداً صلى الله عليه وسلم، لا يرشدانهم إلى اجتناب هذا الفساد العام والحريق المستطير، ووحل عبادة المادة والمال فحسب، بل يأمرانهم بالوقوف دونه وسد سيله وحماية الناس منه.

     والمسؤولية الأخرى: أنهم كانوا وردوا هذه البلاد برسالة احترام الإنسانية والعدل الاجتماعي والمساواة الإسلامية، وقد أسعفوا هذه البلاد في ساعات حرجة دقيقة، ولا تزال هذه الرسالة محفوظة في صحائفهم الدينية، فلو لم يبذلوا جهودهم المستطاعة في الأخذ بهذه السفينة الغارقة أو المتورطة لكانوا عند اللَّه أصحاب ذنب وتقصير وجريمة، وسجّلهم التاريخ غير قائمين بالواجب، كافرين بالنعمة، مجرمين بالغفلة.

     واستمرت الحركة بطريقة أو أخرى، ولكن لم يتيسر لها حتى الآن من العناية وبذل الاهتمام والرعاية، ومن الدعاة القديرين والممثلين الأقوياء ما تستحق، وأصبح جُلُّ الاعتماد فيها على رسائل ومحاضرات طبعت ونشرت باللغات الهندية والإنكليزية والأردية، أو على بعض أسفاري ورحلاتي التي تقع أحياناً، ولكني - رغم أزمة الرجال، وقلة الوسائل والأسباب، وعدم إدراك الناس لهذه الضرورة والحاجة الماسة - على ثقة كاملة، كاليوم الذي أنشئت فيه هذه الحركة، بجدّيتها وأهميتها وضرورتها، بل إن الأوضاع المتردّية الشاذّة في البلاد تؤكد هذه الضرورة، وتصدق على هذه الأهمية.

     ويبدو لي في هذه الآونة أن اللَّه تعالى يعطي فرصة طيبة للمسلمين لقيادة هذه البلاد من هذا الطريق، والحصول على حياة العز والكرامة والاحترام بحماية هذه البلاد من الوقوع فريسة الفوضى والدمار، فإنه لم يُرفع - حتى الآن - أي صوت ضد هذه الأوضاع بصورة جادة من أي وسط أو فرقة»[1].

     إن السعة النفسية والعقلية لدى الأستاذ الندوي، جعلته يحب الخير للهنود كلهم، وجعلته يحرص على تحقيقه لهم، فإذا به يعمل معهم في المساحة المشتركة من العمل النافع التي تجمع العقلاء من البشر أياً كانوا، ولعله كان يستلهم ما فعله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين شارك في حلف الفضول قبل الإسلام، وهو حلف التقى فيه أهل مكة المكرمة على دفع الظلم، وإحقاق الحق، ونصرة الضعيف، وحين قرر بعد أن شرفه اللَّه بالرسالة أنه لو دُعي إلى مثله لأجاب.

     وفي هذا درس عميق، وهو أن على المسلم أن يرحب بأي عمل من الخير يلتقي فيه مع سواه من البشر، وهذا يمنحه فرصة واسعة للعمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفي ذلك فوائد للجميع، فيه فائدة للإنسانية بعامة، والإسلام يريد الخير للناس أجمعين المسلم منهم وغير المسلم، وفيه فائدة للمسلم لأنه يوسع آفاقه في التعاون الإيجابي البناء، بل إن فيه فائدة دعوية لأنه يحبب الآخرين في المسلم حين يرونه سمحاً متحضراً، واسع الأفق والنفس، عالي الاهتمامات، فيحبون دينه من خلال محبتهم له، ثم إن أي زيادة في مساحة العدل والحرية والحق والعلم والمساواة هي تقدم محمود باتجاه الإسلام، لأنها تتيح لغير المسلمين أن يتعرفوا إلى الضمانات القوية التي يوفرها الإسلام لهذه القيم الشريفة، وللمبادئ النبيلة التي يلتقي فيها المسلمون مع سواهم، وهذه السعة المحمودة لدى الأستاذ الندوي تجعله إنساناً صاحب رؤية طويلة المدى، وبصيرة ثاقبة ذكية، كما أنها تجعل له وعياً سياسياً عاماً مستقبلياً وإن لم يكن من المشغولين بقضايا السياسة وتفاصيلها وأسرارها.

     ويظهر لنا الأستاذ الندوي واعياً للفرص السانحة التي تمر بها الأمم والجماعات بين الحين والآخر، فينتهزها الرواد والشجعان والأذكياء، وذلك حين يوجد فراغ ينتظر من يتصدى له، فيلحظ فرصة الفراغ في الساحة الهندية، ويهيب بالمسلمين أن يتصدوا لملئه، ويخاف ألا يفعلوا ذلك فيقول: «كأن الحكمة الإلهية تشير إلى المسلمين، وتهيب بهم أن الميدان فارغ، والناس في انتظار، وقد جد الجد، وحان الحين، وكأن لسان الحال ينشد:

يدعون سياراً إذا حميَ الوغى     ولكلِّ يومِ كريهةٍ سيــارُ»[2]

     لك اللَّه أيها الشيخ الجليل ما أحصفك! وما أبعد رؤيتك! وما أصدق حبك للناس أجمعين!، وليعذرني القارئ الكريم لأني أطلت في الحديث عن «حركة رسالة الإنسانية» نقلاً وتعليقاً، وذلك أني أعجبت بها جداً، كما أعجبت بصاحبها، وأراها جديرة بأن يتأسى بها الدعاة في عصرنا الحاضر، خصوصاً في البلدان التي يكون المسلمون فيها مهاجرين أو أقلية.

     لقد لقيت الشيخ الندوي مرات كثيرة، أشرت إليها في بداية هذا المقال، لكن لقائي إياه في استراحته التي كان يعتكف فيها بين الحين والآخر، له طعم خاص، وذكرى لا تزول.

     زرت الهند عام «1399هـ/ 1979م»، ووجدت أن من واجبي زيارة الشيخ الجليل في مدينة لكنو، وفعلت، لكنني لم أجد الشيخ الذي كان في استراحته في مدينة رائي بريلي التي تبعد عن لكنو نحو 80 كم، وقد أكرمني أحد أقرباء الشيخ فاصطحبني إليها، لما رأى من حرصي على لقائه، ووصلت إلى الاستراحة فماذا وجدت؟!

     وجدت رائي بريلي قرية صغيرة جداً يمكن لك أن تحيط بها من خلال نظرة واحدة، تقع على ضفة نهر صغير في منطقة جبلية، فيها مسجد صغير، ومقبرة صغيرة، وبيوت قليلة، واستراحة الشيخ، فوقع في نفسي أن الشيخ يرتاح إليها لأنها تلخص له الحياة الدنيا، بالمسكن الذي يأوي إليه، والمسجد الذي يصلي فيه، والمقبرة التي يدفن فيها.

     أما الاستراحة فشأنها عجب، لأن الاستراحة عند أكثر الناس، هي المكان الذي يأوي إليه الإنسان هارباً من وعثاء الحياة، وقد جهزه بما لذ وطاب من الأثاث والرياش وما إلى ذلك من النعم التي تهيئ له ما يود من المتع والرفاهية.

     أما استراحة الشيخ فكانت بناء متواضعاً جداً، نظيفاً جداً، فيه أثاث قليل، قدرت أن ثمنه جميعاً لا يصل إلى مئة دولار، ولا تزال صورة السرير الذي ينام عليه الشيخ ماثلة في خيالي، إنه سرير مصنوع من قواعد خشبية عليه سقف من سعف النخيل، وظللت في الاستراحة مشدوهاً بما أراه من أدلة باهرة على صدق الشيخ وزهده وعفته، حتى دعينا إلى الطعام فازددت انبهاراً، كان الطعام أشياء يسيرة من خبز، ورز، ولحم، وسلطة، وقطع من الحلوى، وضعت في صحون صغيرة، ودعانا الشيخ إلى الطعام في بشر صادق، وحفاوة حيية، ولم يبد على الشيخ قليلاً أو كثيراً أنه يخجل من طعامه اليسير القليل، بل لعله كان فرحاً بذلك لأنه يريد أن يعلمنا أن الداعية أولى الناس بالزهد.

     ولقد زرت في حياتي بيوتاً كثيرة، واستراحات كثيرة، لأغنياء ووجهاء، ووجدت فيها أصناف النعيم، وأنواع المتاع، وروائع الأثاث، والكرم الجم، لكن ذلك كله طوته الأيام، خلافاً لاستراحة الندوي التي بقي أثرها الإيجابي فيَّ ولا يزال، إن هذه الاستراحة المتواضعة شكلاً، الغنية دلالة، شاهد صدق يضاف إلى الشواهد الأخرى الكثيرة التي تشهد للشيخ بمزاياه النادرة المتألقة، وهي مزايا تقول: إن الشيخ الندوي واحد من التابعين الأخيار، والسلف الصالح، لكنه تأخر إلى عصرنا ليظهر فيه، فيكون قدوة لنا وحجة علينا، إنه النموذج النادر للداعية الذي أمات في نفسه حظوظها، فسما وزكا وتألق، ونال حب الناس وأنا منهم، فرثيته بقصيدة لعلها من أجود شعري سميتها: «لوحت للناس»، يقولُ مطلعُها:

لا الحزن يرجع من غابوا ولا الجلدُ
               يفنى الجميـــــع ويبقى الواحد الأحدُ

       ***

     إن الأستاذ الندوي «1333- 1420هـ، 1914– 1999م» طراز نادر من الدعاة يجدر بنا أن نضع سيرته أمام الناس عامة والناشئة خاصة، ومما يعين على ذلك أن ينهض قاص مبدع بكتابتها بأسلوب قصصي مشوق فيه خيال لا يجور على الحقيقة، وقدرة على التركيز في مواضع العبرة، وعناية بتسلسل الوقائع، لتكون وثيقة تاريخية دعوية أدبية شائعة، يقبل عليها القراء عامة والشباب خاصة.

     وللشيخ يوسف القرضاوي كتاب جيد عن الندوي اسمه: «الشيخ أبو الحسن الندوي كما عرفته» يحقق بعض المطلوب.

     هذا وإن القارئ يجد في بعض النصوص المنقولة عن الأستاذ الندوي شيئاً من الركاكة، وأقدر أن ذلك مرده ضعف من ترجم هذه النصوص إلى العربية، ذلك أن لغة الأستاذ كما قرأناها في كتبه، وكما سمعناها منه لغة ممتازة.

     وفي الختام أود أن أنقل للقارئ الكريم عدداً من الشهادات التي قيلت في هذا الشيخ الجليل، جزى اللَّه قائليها، وجزى الشيخ خير الجزاء.

· أخلص وجهه للَّه، وسار في حياته سيرة المسلم المخلص للَّه تعالى ورسوله e، فدعا إلى الإسلام بسياحاته التي حاضر فيها ووجه وأرشد، فجزاه اللَّه خير ما يجزي عالماً عن دينه.

(الدكتور الشيخ عبد الحليم محمود، شيخ الجامع الأزهر).

· إن خاصة الزهد والترفع عن حطام الدنيا، في هذا الجسد النحيل اللطيف الذي يكاد ينطق بقول ابن الرومي عن نفسه:

أنا من خفَّ واستدقَّ فما يُثْــ     ـــــقِلُ أرضاً ولا يسدُّ فضاءَ

     هذه الخاصة هي التي مكنت له في مضمار الإصلاح والنقد الاجتماعي، فلا يهادن باطلاً، ولا يكتم حقيقة، وجعلت لكلامه مساغاً في الأسماع فلا تنكر عليه ما يقول.

     وهو كالشيخ ابن باز في حسن تأتيه عند توجيه النصيحة الواجبة، يطرق بها أبواب القلوب في أسلوب من الحكمة والموعظة الحسنة، ولا يسخط ولا ينفر، ولكنه يبعث على التأمل والتدبر والتفكر.

(الشيخ الأديب محمد المجذوب).

· أنا قد سبقت الشيخ أبا الحسن في رؤية هذه الدنيا إذ ولدت قبله بست سنين أو سبع، ولكنه سبقني في بلوغ ذرا الفضائل فيها.

     الدعوة الصحيحة هي التي تكون للعقل من غير استغراق في المادية، ودعوة للقلب من غير انحراف مع الصوفية، وأن نلزم طريق الكتاب والسنة، وفي الكتاب والسنة غناء، وهذا ما عليه جماعة الندوة، اشتغال بالعلم مع تثبيت للإيمان وإصلاح للقلب، وترفع عن المعارك السياسية التي لا غاية لها إلا الوصول إلى كراسي الحكم، يسلك أصحابها إلى ذلك كل طريق، المستقيم منه والملتوي، ويتخذون كل ذريعة، الطيبة والخبيثة، والإسلام يريد أن تكون الغاية حسنة، وأن يكون الطريق إليها مستقيماً آمناً، وأن يكون أسلوب الدعوة بعيداً عن أساليب الأحزاب السياسية التي لا تبتغي إلا المناصب والألقاب.

     إن أبا الحسن وجماعته ملتزمون بالإسلام قولاً وعملاً، كتابة وسلوكاً، يعمل ما يعمل ابتغاء رضا اللَّه لا رضا الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم كره التكلف، وأنا لم أر فيمن عرفت من الناس من هو أبعد عن التكلف وأقرب إلى البساطة من أبي الحسن.

     عرفت أبا الحسن من قريب في مكة المكرمة، وفي المدينة المنورة، وفي دمشق، وعرفته قبل ذلك في الهند، فوجدته في الأحوال كلها مستقيماً على الحق، عاملاً للَّه، متواضعاً زاهداً زهداً حقيقياً، لا زهد المغفلين الذين يعيشون وراء أسوار الحياة لا يدرون ما الدنيا، ولا يعرفون ماذا فيها!. بل زهد العالم العارف بالدنيا وأهلها، فقد رأى الشرق والغرب، وزار الحواضر والأمصار، ولقي الكبار والصغار، وعاش صدر حياته في قصر الأمير نور الحسن، فذاق حياة الترف والنعيم، ولكنه زهد فيها.

     وإذا كان من بنى حصناً أو قاد جيشاً عد في العظماء؛ فأبو الحسن بنى للإسلام من نفوس تلاميذه حصوناً أقوى وأمتن من حصون الحجر، بنى أمة صغيرة من العلماء الصالحين والدعاة المخلصين.

     وجدت أبا الحسن قد أكرمه اللَّه فاستكمل مزايا الداعية الإسلامي الذي نطلبه ونفتش عنه.

(الشيخ الأديب الموسوعي علي الطنطاوي).

· أُشْهِدُ اللَّه أني أحبه، وأرجو أن يكون حباً للَّه تعالى، فقد أحببته لتجرده وإخلاصه وربانيته، وأحببته لاعتداله ووسطيته، أحببته لنقاء فكره من الخرافة، وصفاء قلبه من الحسد، وسلامة عقيدته من الشركيات، وسلامة عبادته من المبتدعات، ونظافة لسانه من الطعن والتجريح بالتصريح أو التلويح، أحببته لانشغاله بالقضايا الكبيرة عن المسائل الصغيرة، وبالحقائق عن الصور، وبالعمق عن السطح، ولست وحدي الذي يحب الشيخ الجليل، فأحس أن كل من عرفه واقترب منه أحبه على قدر معرفته به وقربه منه، وكلما ازداد منه قرباً ازداد له حباً، ولهذا فلا عجب أن يتفق الناس على شخص أبي الحسن الندوي.

(الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي).

***

لوحت للناس

مقاطع من قصيدتي في الشيخ أبي الحسن الندوي «لوحت للناس»

لا الحزن يرجـع من غابوا ولا الجــلدُ
             يفـنى الجميـــع ويبقى الواحد الأحــــدُ
هذي الحيــــاة مطايـــا الموت دائبـــة
             والشــاهد الشمس والخضراء والأبــد
والليـــــل والصبــــح والحدباء بينهما
             تمشي بركبــــانها تهفــــو وتتـئــــــــد
والناس مذ خلقوا والأرض مذ عمرت
             ســـلها ففي جوفهـــا الآبـــــاء والولـد
أمٌّ لهم فهي تغـــــذوهم وترفــــــــدهم
             حبـــــاً وتقتـــــاتهم كرهاً إذا لحــــدوا
والموت حـــــارس أهـليــــها وقاتـلهم
             جهـــــراً وليـــس لهم ثـــــأر ولا قـود
والمهـــد لحـــــد فــــإن رابتك رائبــة
             جـــلا غواشيهـــا فيـــما اعتراك غـــد
       ***

رضيـت طبـــعَ الألى عزت معــادنهم
             إذ جــــاءك العيـــش فيه الليـن والغيـد
حسنــــاء فتــــانة كالشـــمس طلعتــها
             أحـــلى من الحـــلم ما جــاءت به تعـد
فقـــــلتَ: كلَّا لقـــد آثــــرتُ آخـــرتي
             فهي الغنى والذي تحبـــــــونه زبـــــد
كأنك الحســــن البصـــــري أو عمــرٌ
             أو الغـــزاليُّ زانوا الدهر إذ زهــــدوا
بكـل نعـــماه إذ جــــاءت تراودهـــــم
             فمــا أجـــابوا وللفـردوس قد نهـــــدوا
      ***

أبي الأجـــلَّ وأستــــاذي إليـــــك يدي
             مددتهــــا وأنـــا أزهــــو وأحـتشــــــد
بهـــا كتبــــت بكـــل الحب قــــــافيتي
             فهـــل شفـــت بعض ما أشكو وما أجد
يـــا ليت لي مثـــل قبـــر أنت ساكنــه
             عســــاي ألقى الذي لاقيـــت إذ أفــــد
       ***

لبيـــت أحـــلى نداء عشت ترقبـــــه
             لما دعــــاك إليـه الواحـــد الصــــمد
وقـــلت والبشـــــر ريـــــان ومؤتلق
             قد طاب أمسي وأرجو أن يطيب غد
لوحــــت للنـــــاس إذ ودعتـهم بيــد
             لما دعتـــك إلى دار البقــــــــاء يــد
       ***
----------------------

[1] انظر: كتاب الندوي: «في مسيرة الحياة»، ص: 338-340.
[2] المرجع السابق، ص:341.

مساء شائق

مساء شائق

أقامت إثنينية الأستاذ عبد المقصود خوجه في جدة حفلاً لتكريم الدكتور شاكر الفحام، وطلب إليّ منظمو الحفل المشاركة فيه، ففعلت.

     الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وبعد:

     فيطيب لي أن أشارك في هذا المساء الشائق لتكريم معالي الدكتور شاكر الفحام، وأحيي في هذا الحفل الذي هو عرس من أعراس الثقافة، المعاني الكريمة التي تكمن في عقول القائمين عليه وقلوبهم، وهي إعلاء قيمة الفكر والبيان، والإشادة بذوي الجهود المتميزة في حقول العلم والدعوة والإبداع، فهم في الحقيقة أنبل ما في الحياة، وهم أبقى ما في الحياة، وهم القادة والرادة والسابقون.

     الضيف الكريم المحتفى به، جمع بين الأدب والسياسة، وهو الآن يقود سفينة المجمع العلمي العربي في دمشق، وهو مجمع جاد عريق له جهوده المشكورة في خدمة ثقافتنا عامة، واللغة العربية خاصة، ولا غرابة، فدمشق منذ شرّفها اللَّه بالفتح الإسلامي بلد الإسلام وظئر العربية، وستبقى.

     تَرْبطني بالضيف الكريم - مع تباين انتمائنا الفكري - أكثر من صلة سيكون بعضها مفاجئاً له، تربطني صلة الإسلام وهي أول صلة، وأبقى صلة، وأغلى صلة، والإسلام كان وسيبقى: الهوية، والقضية، والماضي، والحاضر، والمستقبل، والأمل، والحل.

     وتربطني صلة العروبة، فالعروبة المؤمنة وعاء للفضائل ومهاد للمروءات ومستودع للمعادن الغالية، إنها موئل الكرم، ومثابة النبل، ومسرح الشجاعة، ومنبت الحرية، ودارة البطولة، ومنبع الوفاء، ومصنع الإباء، ومهوى العزة، ومُسْتراد الأريحية والنخوة والغيرة والفروسية.

     ولقد اختار اللَّه تعالى جزيرة العرب منطلقاً لرسالته، وله الحكمة البالغة، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، لأنها الأجدر بحملها مكاناً وزماناً وإنساناً ولساناً، ومن يومها اكتسبت هذه الجزيرة الميمونة هويتها ومهمتها، وأدتها خير أداء، والتاريخ خير شاهد، وانظر ما رواه عن بنيها الكرام منذ انطلقوا كالصقور فاتحين عادلين ظافرين يحملون إلى الدنيا هدي الإسلام ورحمته وعدله وحضارته، فكانوا وبحق خير أمة أخرجت للناس.

     وتربِطني بالضيف الكريم صلة الانتساب إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، فلهذا القسم العريق أفضال كثيرة، وقد كنت في السنة النهائية فيه حين حَرَصت على حضور مناقشة الدكتوراه التي تقدم بها الضيف الكريم وكانت عن الفرزدق.

     ثم إننا من تلاميذ العلامة المرحوم محمود محمد شاكر، حارس العربية، وعاشق التراث، وسادن الأصالة، الذي فتح للناس عامة ولمريديه خاصة قلبه وعقله وبيته ومكتبته، وطالما استفدنا من كرم نفسه وصدق أبوته، وغزير علمه ودقيق ملاحظته، وتقبلنا شاكرين صابرين باسمين شتائمه حين يغضب علينا بحق أو من دون حق.


إن من حق كل أمة أن تعتز بلغتها، ولنا نحن العرب أن نعتز بلغتنا كما يعتز الآخرون وأزيد، لأنها لغة ديننا قرآناً وسنة وثقافة، ولأنها لغة حضارتنا الغنية المتميزة، ثم لأنها اللغة الأغنى والأخصب والأجمل والأعرق، إن لنا أن نفتخر أننا الأمة الوحيدة التي يستطيع تلاميذ المرحلة الابتدائية فيها أن يفهموا ويحفظوا وينشدوا نصوصاً عمرها أكثر من ألف عام خلافاً لكل لغات الأرض، لذلك نحن لا نبالغ قط حين نقول عن لغتنا: إنها مجد باذخ، وقول جميل، وعراقة وأصالة، وحياة وتجدد، وعرض يصان، ودرة غالية تسكنُ العقولَ والقلوب والألسنة قبل الكتب والأوراق.

هذه اللغة العالية الغالية الشريفة تتعرض الآن لهجوم واسع من العجمة والعامية والابتذال وما يسمى الشعرَ الشعبي وما تؤذينا به فضائيات تجور على كثير من ثوابت الأمة ومنها اللغة العربية.

والحرب على العربية جزء من المؤامرة الكبرى التي تحاك ضد الأمة، ولن أخاف من قوم مردوا على اتهام من يتحدث عن المؤامرة، بأنه أسير الوهم، بل هم أُسارى الوهم، فالمؤامرة كانت وستبقى، وهي أكبر مما نظن ويظنون، لكنها قد تنجح وقد تخفق وقد ترتد على صانعيها.

إنني أهيب بكل غيور على اللغة وبالمؤسسات العلمية المتخصصة من جامعات ومراكز بحث علمي ومعاهد ومجامع؛ أن يهب الجميع لخدمة العربية بالعمل العلمي الجاد على كل المستويات، وأهيب بالضيف الكريم وهو على رأس مجمع محترم عريق أن يكون على رأس المبادرين في هذه المعركة الشريفة النبيلة التي تزداد الحاجة إليها يوماً بعد يوم.

***

هذه تحية النثر، أما تحية الشعر فهي هذه القصيدة التي كتبتها عن «الضاد» وإني إذ أمجد الضاد، أمجد الضيف الكريم، وأمجد هذه الكوكبة الكريمة من أهل العلم والفضل التي جاءت إلى هذا المساء الشائق.

***

الضاد

     الضاد لغة بهية عبقرية تمنحك من كنوزها بمقدار ما تقبل عليها.

يـا لســـاناً مثلَ الضحى عربيَّـا     تشـــرب العينُ حسنَه العبقريَّـا
وتصيـــخ الآذان عشقاً وشوقـاً     لغـواليــه بـــكـرة وعشيــــــــا
سيـــداً للبيـــان كنـــتَ وتبـقى     سيـــداً مالكـــاً وهوباً غنـــــيـا
تهــب الفكر كلَّ معنى جميـــل     حيــن تكسوه من حُلاك حليـــا
تــأسر الذائقَ العصيَّ رضـــاه     إذ تـلقّـــاه ســـاحراً ســـــامريا
ويجيء المعنى البعيد المرامي     فيــك يزهو مثلَ الصباح بهيــا
كل نعــمى على بســاطك راح     كل حســنى على رواقــك ريـا
كالدنــــان المعتقــــات اللـواتي     طبـــن طعماً وفحن مسكاً شذيا
أنت نهـــر أكوابـــه مترعـــات     وشــراب مثــل الرحيق نقيــــا
وبســـاط مثــل الربيع الموشّى     ضـاحكَ الغيثُ حسنَه الموشيـا
شهــد الأعصــرَ الطوالَ ولمَّـا     يَخــبُ حسناً وما يزال صبيـــا
إنـــه الضـــاد شمس كل بيــان     كـــان مذ كــان ملهماً وسريـــا
ســـرق الحسنَ كله واكتســــاه     وجـــلالَ الـنهى وكان حريــــا
ومضى يمــلأ الحيــــاة طيوبـاً     ويجــوب الآفـــاق طلق المحيا
***

ما تمــــلى بيـــــانَه ذو بيـــــان     وذكــــاء إلا اعتـــرته الحميـــا
وأعــــارته جـــذوة تتــــــنزى     وأصــــارته ضاحكاً أو شجيــا
مستعيــــداً ما راقــــه واستبـاه     مستهــــاماً به شغوفـــاً حفيــــا

***

وكـفى الضــــادَ عزة وفخــاراً     ما أطل الصبـــاح يوماً وحيــا
أن فيه الكتــــاب يتــــلوه قـوم     ملؤوا الرحبَ دانيـــاً وقصيـــا
ربما هبـــت البشـــــارات فيـه     فســرى فيهم الرضاء رخيــــا
أو توالـــت قوارع فتهـــــاووا     حــذر النــار سجــداً وبكيـــــا
ستشــيب الحياة والناس تبــلى     وسيـــبقى غضاً ويبقى طريــا
***

أنـــا للضــــاد عاشق فســـلوه     كيـــف أحببتـــه زمانــاً مليـــا
وحبــــــاني من وده ما حباني     واصطفـــــاني فكنت براً وفيا
ســـكن الضاد كاللبانـات قلبي     وبنـــاني وخاطري والمحيـــا
ولســــاناً يراه أحـــلى وأشهى     من كؤوس الـطــلاء في شفتيا
هو ضيفي في يقظتي ومنامي     ورفيــــقي أحنو ويحنو عليـــا
هو في كـــل ذرة من كيـــاني     وأخـــو خلوتي وفي مقلتيـــــا
وهو إلفي وصبـــوتي ونديمي     جئــــته مغـــرماً وجــــاء إليا
وهو لحن في مسمعي عبقري     وشـــذاً فـــاح طيبه ورديـــــا
***

عشت يا ضـــاد سيـداً وسَرِيّاً     مثـــلما كنت سيــــــداً وسَرِيّا

الأكثر مشاهدة