‏إظهار الرسائل ذات التسميات دراسات وقراءات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات دراسات وقراءات. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 13 يونيو 2021

عاشق المجد 5 / 6 - أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم

عاشق المجد - دراسة في ست حلقات

(الحلقة الخامسة)

أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم
صحيفة الرياض - السبت
18/ 1/ 1418هـ - 9/ 2/ 1998م


الوحدة العضوية للقصيدة:

     تحت هذا العنوان حدد المؤلف المنحى الشعري للشاعر أبي ريشة وأنه اختار لنفسه أن يكون شاعر قصيدة لا شاعر بيت؛ "بمعنى أن القصيدة عنده وحدة متكاملة يأخذ بعضها برقاب بعض حتى تنتهي مع البيت الأخير نهاية تثير الدهشة وهو ما كان يسميه بيت المفاجأة".

     ومضى المؤلف بعد ذلك يتحدث في تحليل واسع يتفق وثقافته الواسعة عن آراء النقاد القدامى والمعاصرين في هذه القضية التي أخذت أبعاداً واسعة، وبعد أن استعرض وجهات نظر النقاد من قدامى ومحدثين وما قالوه عن وحدة البيت الشعري، وعن الوحدة العضوية للقصيدة العربية، تحدث عن الوحدة العضوية في الشعر الحديث، واستشهد بنقل أقوال كثيرة لنقاد عديدين، وقد شغل هذا الاستشهاد (18) صفحة من الكتاب.

     وفي تحليل المؤلف للوحدة العضوية للقصيدة يؤكد "أن الدعوةَ إلى الوحدة العضوية من حيث هي عمل فني يراد له أن يكون متكاملاً مترابطاً متين النسج يقع كل جزء منه في مكانه المناسب، وينجو من الاستطراد، ويركز على فكرةِ القصيدة وموضوعِها؛ أمرٌ لا غبار عليه. بل هو جيد، وربما كان أكثر انسجاماً مع روح العصر الذي لا يطيق التنوع والانتقال من خاطرة إلى أخرى، ومن محور إلى آخر، لكن العيب الكبير الذي وقع فيه دعاتها هو آفة التعميم والإصرار على انتقاص أي قصيدة مهما كانت جيدة إذا كانت تعددت محاورها".

     ويخلص الدكتور حيدر بعد هذا التحديد لمفهوم الوحدة العضوية لدى أكثر الشعراء المعاصرين إلى القول: "وأياً كان الأمر فإن خاتمة القصيدة عند أبي ريشة خاتمة مؤدية جداً تبهر المتلقي، وتتركه في ذروة درجات التواصل، بحيث يمكن لنا أن نقول: إنه لم يكن فيها الوحيد، لكنه كان فيها السابق والمبرز والمتفرد".

***

الصورة الشعرية:

     يختلف وضع الكلمة في الصيغة النثرية عن وضعها في الصورة الشعرية، لما يتطلبه الشعر من تصوير للخوالج النفسية، وتجسيد للمشاعر التي يقدمها الشاعر، ويضفي عليها من روحه وحيويته ما يبعث فيها روح الأصالة، ويبث من خلالها إرادة التأثير، فالشعر مصدر الإلهام لمن يتمتع بالموهبة، والصورة الشعرية ذات أبعاد. وعن هذه الأبعاد يقول المؤلف: "إذا كان مصدر الشاعر في استقاء مواد صورته هما "الطبيعة والثقافة"، فإن ذلك لا يعني أنه ينقل عنهما نقلاً حرفياً مباشراً، وإنما هو يتجاوزهما إلى إضافته هو إلى الموقف، وهي إضافة تتكون من انفعاله، واتجاه أفكاره ورغباته، والجو العام الذي يتفاعل معه". ثم يضيف ما يوضح الصورة توضيحاً أكثر حين يتحدث عن الإطار العام للصورة الشعرية فيرى: "أن الشاعر يجد نفسه أمام مصادر كثيرة للصور، لكنه لا ينقل عنها نقلاً حرفياً، بل ينقل عنها من خلال اختياره وإضافته وتبديله، وتجاهله للعلاقات بين مواد الصورة وبنائه لعلاقات أخرى".

     وبعدما انتهى إلى هذه النتيجة أفاض في توسيع نطاق الصورة بإيراد أقوال كثيرة لعدد من الأدباء الكبار والكتاب المعاصرين في هذا الصدد، ثم عقب على استعراضه العام بتحديد الصورة عند شاعره موضوع هذه الدراسة، حيث قال: "ولقد شكلت الصورة الشعرية دعامة أساسية من دعائم البنية الفنية عند أبي ريشة مثلها مثل الوحدة العضوية وبيت المفاجأة".

     وتابع بعد ذلك اجتلاء الصورة عند هذا الشاعر بقوله: "إن الصورة المكثفة من أهم ما امتلكه أبو ريشة ونقصد بها تلك الصورة التي توجز الكثير في القليل، والتي تومض كأنها لمحة برق. لكنها تدعك مأخوذاً مسلوباً. إنها جرعة مركزة لكن مفعولها كبير وغني". وقد حشد المؤلف صوراً من الشواهد العديدة من شعر أبي ريشة ليدلل على كثافة الصورة الشعرية عند الشاعر، فهو كما قال المؤلف: "كان أبو ريشة صاحب قصد واعٍ هادف ومُلح أيضاً في صنعته الشعرية. بدا هذا الأمر في حرصه على الوحدة العضوية، وبيت المفاجأة والتصوير".

***

الموسيقى الشعرية:

     ارتبط الشعر العربي بالذات بالموسيقى ارتباطاً جذرياً منذ بدايته، فمنذ بدأ الشعر مع حداء الإبل والعرب ينشدون الأشعار المنغمة وهم يحدون القوافل، وكما نقل المؤلف عن أستاذنا الدكتور شوقي ضيف عن نشأة الشعر مع الغناء في بداياته الأولى حيث قال: "وأغلب الظن أنهما كانا مترابطين في أول نشأتهما ترابطاً وثيقاً، ثم انفصلا بمضي الزمن ورقي كل منهما، وأصبحت له طبيعته الخاصة، ولا تزال طوابع هذه النشأة بارزة في الشعر، فلا يوجد شعر بدون موسيقى، وهي فيه تقوم مقام الألوان في الصورة، فكما أنه لا توجد صورة بدون ألوان؛ كذلك لا يوجد شعر بدون موسيقا وأوزان وأنغام".

     وتوكيداً لما سلف فإننا نلمس في حاضرنا في مجال الشعر الشعبي الذي يجري إنشاده في المحاورات لأنه يرتكز على التنغيم الموسيقي والأبيات الموزونة، وهو شعر يصدر عن السليقة، ويقال على البديهة مباشرة. يبدأ شاعر بالإنشاد فيرد عليه آخر على المنوال نفسه. يجري ذلك أمام مشهد من الحضور، وكل شاعر يؤدي شعره بصوت منغم، ولشعره جرس موسيقي يتكيف مع طبيعة الإنشاد المشهود، والإنسان مفطور على الميل إلى الأصوات الجميلة والنغمة المريحة. لذلك نجده وهو لا يزال في مهد الطفولة ينام على هدهدته بصوت منغوم يسري في كيانه فيجلب له النوم، وعندما يكبر معه هذا الإحساس فإنه يتجسد في حب أصوات الطيور، وخرير الجداول، وحفيف أوراق الأشجار، وما يدخل في هذا الإطار من أهازيج وأناشيد وأشعار. وقد تحدث المؤلف عن بدايات الموسيقى الشعرية منذ تاريخ الشعر اليوناني في العهود الغابرة حتى العصر الحالي، وقدم نماذج كثيرة من أقوال عديد من العلماء والأدباء الأوائل، وكذلك من الأدباء والشعراء في العصر الحاضر.

     وقد استوعب هذا الفصل مساحة كبيرة من الصفحات حفلت بأقوال عدد من المنظرين في هذا المجال، وعزا المؤلف تأثر الشاعر بالموسيقى الشعرية إلى سبعة عوامل فصلها، وأرجع إليها الانطباعات الذاتية، وأسهب كذلك في الحديث عن بحور الشعر التامة والمجزوءة، وتعدد الأوزان داخل القصيدة الواحدة، وقد حمله التوسع في هذا المضمار بحس الشاعر (فهو أديب وشاعر) إلى الحديث عن القوافي المطلقة والمقيدة والمشتركة والمنوعة، والقوافي المأنوسة. كما أفاض في الحديث عن الموسيقى الداخلية للقصيدة، وقد طوى هذا الفصل (83) صفحة، من الصفحة

***

لغة الشعر:

     لا تختلف لغة النثر والشعر في طبيعتها واشتقاقاتها ودلالتها، لكنها تختلف في أسلوب توظيفها وفي إيقاعها، فالكلمة في النثر تؤدي المعنى المقصود بحسب الدلالة المحددة. أما الكلمة في الشعر فهي شحنة أحاسيس تتفجر داخل الشاعر فتتحول الكلمات عنده إلى ورود، أو قذائف وفق طبيعة الموضوع الذي يستدعي الرقة أو الخشونة، فالشعر الغزلي يختلف عن الشعر الوطني، وكل لون من ألوان الشعر له كلماته الخاصة، واستعمالاته المناسبة كما هو الوضع بالنسبة لجميع فنون الآداب والعلوم، فالنثر الفني يختلف عن نثر المتون العلمية، أو أي كلام لا يلزم منه إلا أن يكون مفيداً، وكل فن من فنون القول وسيلته التي توصله إلى القارئ أو المستمع هي الكلمة، فإذا وضعت في غير موضعها صارت نشازاً تبعث النفور لدى المتلقي بدل أن تجتذبه، وهي ذاتها إذا وضعت في موضعها الصحيح أدت دورها المطلوب لتحقيق الغاية من صياغتها لاجتذاب المتلقي وإقباله عليها.

     وللشعر لغة خاصة به ترتفع فوق مستوى النثر بحكم أن الشعر الحقيقي صادر عن انفعال بحدث، أو تأثر بموقف، أو تجاوب مع منظر جمالي، أو مشهد طبيعي، أو أي مظهر للجمال الحسي أو المعنوي. فتسمو الشاعرية للتعبير عن ذلك بكلمات ذات تأثير تترجم عن معاناة الشاعر وأحاسيسه. وقد نقل المؤلف تعريفات كثيرة للغة الشعر بصفة عامة عن قدامى ومحدثين حتى انتهى إلى اختلاف النقاد في لغة شاعرنا "بين فريقين. فريق يتهمه بضعف لغته، وقلة مفرداته، وقلة اتصاله بالتراث اللغوي، وفريق يقف مناقضاً لذلك يشيد بلغة أبي ريشة، ويرفع من مكانها".

     أما الشاعر نفسه عمر أبو ريشة فقد قال في مقابلة صحفية نشرت في الشرق الأوسط ما نصه: "علاقتي بالشعر بعيدة الجذور، وكل كلمة أستعملها أدرسها وأعيها وأعرف موقعها وأبعاد معانيها، الشعر عندي عالم فسيح بلا حدود، أجوبه بملء حريتي متى شاء لي الإحساس". وإذا كان لكل شاعر كبير معجمه الشعري فإن لشاعرنا معجمه الخاص، ويمكن الرجوع إلى هذه الدراسة عنه للتعرف على منهجه ومعجمه الشعري.

***

الرمز الشعري:

     من الشعراء المعاصرين من يلجأ إلى الرمز في شعره سواءً كان ذلك عن إبداع أو تقليد لكن أبا ريشة لا يقلد، وإنما يتمثل الرمز الذي يلامس مشاعره، ويهز وجدانه فيسجله أحرفاً بارزة في شعره، وأكثر ما يتجسد هذا الرمز في الصحراء، فهي مصدر إلهام له بحكم أن جزيرة العرب تمثل الصحراء في ذهنه، فهي المكان الذي نزل فيه الوحي، وانتشر منه نور الإسلام، وأن هذه الصحراء العربية ضمت بطولات الفاتحين، واحتضنت مكارم الأخلاق، وبهذا المفهوم كان للصحراء حضور في شعره لارتباطها في ذهنه بالمروءات والبطولات، والأصالة والحرية، والإباء والشجاعة والكرم.

     وعلى هذا الأساس وظف هذا الرمز في شعره لارتباطه بتلك الفضائل والخصال الحميدة، وهو يؤكد هذا المعنى حين يقول: "إن الصحراء ارتبطت بذهني ارتباطاً وثيقاً، فوالدي من العرب الأقحاح، وقد رأيت هذه الأرض الجرداء خيراً من كل أراضي الدنيا". ولذلك فإنه يحرص على تسجيل مظاهر الصحراء، ورص معالمها المتمثلة في الحياة الخشنة، والفارس المتحفز، وأدوات العربي البدوي التي تصاحبه في حله وترحاله كالسيف والخيل، والخيمة الصغيرة التي تتسع لكثرة الأضياف، وتمتد مع امتداد واحات الكرم الأصيل. وحين ينحرف بدوي مترف، ويتخلى عن عادات قومه، ويدير ظهره لتلك السجايا الشامخة، يلهب ظهره بسياط شعره الموجعة، فيسخر من انقلاب الحياة الصافية الصامدة إلى حياة خاملة تافهة تنعكس فيها تلك المعاني إلى ضدها:

فــإذا النخوة والكبـــــر على
               ترف الأيــــــام جرح موجع
هانت الخيل على فرســـانها
               وانطوت تلك السيوف القطع
والخيـــام الشم مالت وهوت
               وعوت فيها الريــاح الأربع

     هذه أبيات من قصيدة تصور غضبة الشاعر وسخطه على مظاهر الترف الحضاري المصحوب بالتهالك على الملذات، والتخلي عن القيم، فيستدعي في ذهنه رمز الصحراء عندما أضاء نورها بوهج الإسلام، وارتفعت رايات النور، وتألق المجد، وسار موكب الهدى يشق دروبه رافعاً علم التوحيد بعزيمة واثقة وإرادة حاسمة:

من هنــا شق الهدى أكمامه ... وتهـــادى موكباً في موكب
وأتى الدنيــــا فرفت طربـاً ... وانتشت من عبقه المنسكب
وتغنــــت بالمروءات التي ... عرفتها في فتـــاها العربي

     وأبو ريشة يهوى التحليق بشعره في الآفاق كالنسور، ولذا فإن النسر عنده رمز لهذا التحليق، فهو يستدعيه في كثير من شعره الوطني ليؤكد تحليقه في أجواء لا يرتفع إليها سوى النسور، وهو لهذا يأبى أن يهبط إلى السفوح، فقد عاش للمجد، والمجد لا ينال بالهبوط وإنما بالتسامي، والنسور تحتل قمم الجبال العالية، لكن عندما تختل المعادلة الصحيحة يهبط النسر إلى السفح ليزاحم بغاث الطير على ما يأكله، وعندما ينتهي به الأمر إلى هذا الوضع المزري يلجأ إلى الانتحار لئلا يعيش حياة ذليلة، والشاعر يصور هذا المشهد من خلال قصيدة مطلعها:

أصبــــح الســــــفح ملعباً للنسور
               فاغضبي يا ذرى الجبال وثوري

     ثم ينتهي إلى بيت القصيد حينما يتصور حاله مثل هذا النسر الذي كان عزيزاً في ذراه العالية ثم هبط إلى السفوح ليسد جوعه، لكنه وجد نفسه تزاحمه البغاث من الطير وتدفعه وهو لا يستطيع أن يدافع عن نفسه لما ناله من الكبر، فضاقت به الحياة، فلم يجد مفراً من التحليق عالياً، ثم هوى جثة هامدة. وكذلك ينبغي أن يكون كل حر، والشاعر يلتقط رموزه من حياة الصحراء، ومن صميم الحياة العربية.

***

عاشق المجد 4 / 6 - أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم

عاشق المجد - دراسة في ست حلقات

(الحلقة الرابعة)

أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم
صحيفة الرياض
2/ 2/ 1418هـ - الموافق 7/ 6/ 1997م


شعره الوطني:

       امتداداً لمواقفه الجريئة يجيء شعر عمر أبي ريشة الوطني جريئاً لا تنقصه الشجاعة، فهو شاعر شجاع لا يعتريه التردد في المواقف الوطنية، ولا النكوص عن قول ما يعتقده ويؤمن به. تبهره البطولات، وتشده الفروسية العربية، فقد كان معجباً كما يقول المؤلف: "بشخصية الفارس العربي مروءة ونجدة وبطولة، وكان يحاول أن يتمثل هذه الشخصية.. كان فيه نزوع حاد إلى التمرد والحرية، وكراهية للأغلال والقيود، وكانت جراح أمته جراحاً شخصية له، وشاعر من هذا النوع لا يمكن بحال أن يعيش لنفسه في ذاتية ضيقة مغلقة".

       وفي هذا المضمار يقول أبو ريشة عن نفسه: "إن كلمة وطنية عنت بالنسبة لي أكثر من شعور: إنها مواقف سامية، وأعمال كبيرة. حزنت لأحزان قومي، وفرحت لأفراحهم؛ إلى كل بلد من البلدان العربية انتموا، ولطالما رأيت في كلمة (وطنية) اللغة العربية وأعلامها، والأدباء الذين أحيوا هذه اللغة، وجعلوها حية تخفق في القلوب والضمائر".

       هذا كلام رجل يؤمن بدينه، ويحب قومه، ويحترم لغته، ويقدر عروبته. وبالرغم من أن المرحلة المهمة من دراسته كانت في الجامعة الأمريكية وفي بريطانيا؛ فإنه لم يتنكر للغته، ولا تخلى عن وطنيته، ولم تحمله ثقافته الغربية للانحياز للتغريب الفكري، وإنما ظل وفياً لمبادئه، متصلاً بتراثه، متأثراً بأسلافه، مؤثراً في أمته. وحين بدأ امتداد النفوذ الصهيوني كالأخطبوط، واتسعت أهدافه لتشمل ما لم يكن في أذهان العرب، وحقق مكاسب كبيرة على الصعيد الدولي، وفي مجال الرأي العام العالمي؛ كان موقف شاعرنا موقف المسلم الغيور، والعربي المناضل، فقد عبّر عن أحاسيسه في هذا الصدد عندما قال: "يقلقني الخطر الصهيوني الحاقد، ولست أذكر أني اعتليت منبراً بعد عودتي من بريطانيا عام 1932م إلا وأشرت في كلامي إلى خطر الصهيونية، وما تعده لأبناء الأمة العربية من دسائس ومؤامرات".

       ولذا نجد شعره الوطني يمتاز بحشد المعاني المؤثرة، والكلمات المثيرة إلى جانب الأسلوب الذي ينتهجه الشاعر في وطنياته، وما يضفي عليه إلقاؤه لشعره من تأثير بالغ، وحشد للمشاعر حوله بما جعله مؤهلاً لأن يكون بحق شاعر العروبة، رافعاً لراية الجهاد ضد المستعمر الذي مكن للصهيونية الماكرة ذات الأطماع الغادرة. وها هي ذي دولتها المتسلطة لا تزال تمارس أنواع المكر والخداع، وهي تبني نفسها بفرض الأمر الواقع حيناً، وبالمراوغة حيناً آخر، وبالقوة في أكثر الأحيان، وأرض فلسطين تنتهب، وقدسها يمتهن، ولا نملك إلا أن نشكو إلى الله ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الآخرين.

       وقد مضى الحديث عن قصيدته الوطنية الرائعة: (أمتي)، وفي قصيدته (خالد) يخاطب سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه، البطل الذي تجسدت فيه الشجاعة، وكان نموذجها الحي على مدى التاريخ.

       وأبو ريشة في هذه القصيدة يعتذر للبطل الذي واراه الثرى في بلاده سوريا، يعتذر عن تعثر الأمة العربية التي تضم أرضُها رفاتَه، ويعده بأنها ستعود إلى ميدان النضال من جديد لتسفح الدم جهاداً في سبيل الله لتحرير الأرض وإجلاء المستعمر، فلا يزال للرجولة دور يؤدى، وللنخوة صدى يرتفع رغم خيانة نفر من الخانعين الذين لفظهم المجتمع، وبصق عليهم التاريخ، وها هو ذا الشاعر يتفجر أسى وحسرة:

لا تقــل ذلـت الرجولة يا خــــــا
               لـــد واستســـلمت إلى الأحــزان
حمحمات الخيول في ركبك الظا
               فــــر ما زلن نشـــــــــوة الآذان
كم طوت هـذه الربـــوع أفـــــلا
               ذ قلـــــوب بدريـة الخفقــــــــان
قــم تلفت ترى الجنود كما كــــا
               نــــوا منـــار الإبــاء والعنفوان
ما تخــــلوا عن الجهــــاد ولكن
               قـــــادهم كل خــائن وجبــــــان

     فشاعرنا عربي أصيل تسري في شرايينه عزة صقلتها المحن، وأكدتها كثرة المآسي حتى تكسرت النصال على النصال. وفي هذا الإطار ينظر إلى الأرض العربية الخضراء التي يزاحمنا عليها الأعداء في محاولات مستمرة لاقتلاع الجذور العربية، وإبعاد الإسلام من المواجهة التي يحتلها في نفوس العرب والمسلمين، لذلك يتمنى أن تعود الأرض جرداء وهي تعطي الرجال؛ لا خضراء وهي تحتضن الأعداء، فيسأل الله أن يردها قفراء حتى لا تكون مطمعاً للعدو، فنحن نهواها حتى لو كانت مجدبة ما دامت تنتج الرجال:

كيف نمشي في رباها الـ ... ــخضر تيـهاً واختيــــالا
وجـراح الــذل نخفيـــــــ ... ــها عن العـــــز احتيالا
ردها قفــــــــراء إن شئـ ... ــت وموّجـــــــها رمالا
نحـن نهواها على الجــد ... ب إذا أعطـت رجـــــالا

     وعندما تم رحيل الاستعمار الفرنسي عن سوريا تحققت أمنية غالية من أمانيه الممزوجة بأماني مواطنيه، وقد جاء الاستقلال ثمناً للتضحيات الجريئة والكفاح الشريف، وعلى أصوات هتافات الفرحة، وأناشيد الابتهاج تحولت البلاد إلى مهرجان ترفرف أعلامه الوطنية وراياته العربية، وسار المواطنون في موكب تحوطه القلوب، ويعلوه السرور وكأنه في عرس متفرد بالبهجة وحده. وهذا المشهد أملى على الشاعر قصيدة أطلق عليها اسم: (عروس المجد) وهو عاشق المجد، ولذا فإنه يتجه إلى بلاده الحبيبة، وإلى نفسه، مشاركاً في بهجتها بشعره الذي يصدر من أعماق قلبه، وينسكب من فيض وجدانه:

يا عروس المجد تيهي واسحبي
               في مغــــانينا ذيول الشـــــــهب
لن تـري حفنــــــة رمل فوقهــا
               لم تعــــطَّر بدما حـــــــــرٍّ أبي

***

شعره الإسلامي:

     كانت له في هذا الميدان مشاركات ملموسة؛ فقد أنشأ قصائد مطولات كان نفسه فيها مديداً حتى توهم أنه قادر على أن يصوغها على هيئة ملاحم شعرية، ولكن كانت أمانيه أوسع من قدرته، وأحلامه أكبر من إرادته، فوقف بهذه القصائد حيث كانت، وأضاف إلى بعضها بعض إضافات لا ترقى بها إلى رتبة الملحمة، وهذه القصائد التي تميزت بالروح الإسلامية أربع، وهي حسب ترتيب إنشائها وعناوينها: (خالد)، (محمد)، (من ناداني)، (أنا مكة).

     في القصيدة الأولى تصوير لفروسية البطل الفارس الفاتح خالد بن الوليد سيف الله رضي الله عنه، وفي القصيدة الثانية تصوير لجوانب من سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكانت القصيدتان السابقتان من شعره في مرحلة شبابه، والأولى قبل الثانية بفترة زمنية محددة. أما القصيدتان الأخريان: الثالثة والرابعة فهما من شعره في مرحلة كهولته، وهما تتحدثان عن أمجاد الإسلام. ومعلوم أن العاطفة الإسلامية العربية تبلغ ذروتها عند هذا الشاعر العربي الأصيل الذي كانت دراسته الجامعية في معاهد أجنبية، وقد أمضى شطراً من حياته في بلدان أجنبية، لكنه ظل مع كل ذلك متمسكاً بدينه، مفاخراً بعروبته، وهذه ميزة تسجل ضمن ميزاته.

     ومما قاله المؤلف عن توجهه الإسلامي: "كانت ثقافته الإسلامية أقل بكثير من حبه للإسلام، ولذلك عندما عاش في الهند سفيراً لبلاده أعجب بجوانب من الديانات الهندية مع ما فيها من مجافاة لروح الإسلام، وسجل بعض الإعجاب من المعابد الهندية في شعره، لكنه في مقابلة معه في لبنان بعد ذلك قال كلاماً ينطوي على محاسبة للنفس واعتراف بالخطأ، حيث يقول في صراحة تحمد له: يخيل لي أحياناً أني حدت عن طريق الله كلما تراكمت على نفسي الخطايا. أنا أحيا على كل حال في رحاب نفس نقية صافية مشبعة بالإيمان".

     ولعل مما يحمد له كما ذكر المؤلف: "أن شعره خلا من الرموز الوثنية اليونانية تماماً، وخلا من الرموز الوثنية المسيحية إلا واحداً منها هو الصلب كان يطل على قلة". وتلك الرموز شائعة في الشعر الحديث.

***

     لكل فرد أخطاؤه، وربما شذوذه الفكري، ومن ذلك إعجاب الشاعر بتلك المعابد الهندية والاهتمام بها في شعره، فعندما كان يعمل سفيراً في الهند شدته رياضة (اليوجا) وهي رياضة يتجسد فيها العنف، ولكنه – كما حدثنا رحمه الله - مارسها بجدية، وتلقى تدريباتها العنيفة على يد مدرب هندي مختص بهذه الرياضة التي اشتهرت به الهند، وقد غيرت بعض ما ألفه في مجرى حياته، فقد تخلى عن النظارة التي كان يظن أنه يصعب تخليه عنها، ولم يعد يهتم بلباس ثقيل في الشتاء أو خفيف في الصيف، فكان كما يقول: "يلبس لباس الصيف في الشتاء والصيف"، لأن هذه الرياضة المجهدة صنعت لديه مناعة – كما يعتقد – ضد كثير من عوامل الإحباط، وأكسبته قدرة – كما يؤكد ذلك – في مواجهة تقلبات الأجواء، واختلاف الطقوس، أو هذا ما أوحت به إليه تلك الرياضة (اليوجا).

     ولهذا الشاعر تصرفات عجيبة لعل من أعجبها أنه كان يذهب إلى المقبرة في حلب، ويظل ساعة أو ساعتين وربما أكثر من ذلك في الليل المظلم مصطحباً معه زوجته في كثير من الأحيان، وهي تغالب الخوف في نفسها طيلة الجلسة الطويلة المملة في المقبرة تنتظر حتى ينتهي من جلسته الصامتة بين القبور لهدف غير واضح، وغاية غير مفهومة، فليس من الوارد أنه يذهب لزيارة القبور لأنها تذكر بالآخرة! ولعله يجد من الأنس في بعض حالاته بالأموات أكثر مما يجده بين الأحياء، وذلك ما حمله على أن يقول: "إن المقابر دون سواها تسري عني وتريحني كلما أرهقتني أثقال الحياة". وهو تفسير شديد الغرابة في أن يجد فيما لا يتصور أحد سواه أن تكون المقابر مجال تسرية أو تسلية، ولعل هذا من شذوذ بعض الشعراء الذين لكل منهم منظور خاص به.

     فالمقابر ترتبط في أذهان الناس بالرهبة والخشية من المجهول كما هو المعهود في واقع الحياة، فهو يرى شخصياً عكس ما هو مشهود ومعروف لدى الناس في هذا التصور بالذات، وهو موقف يؤكد شذوذه وخروجه عن المألوف. والموت بطبيعته يثير في الإنسان مشاعر الخوف منه، وتحاشي الأسباب المؤدية إليه، والمقابر هي مساكن الأموات، وزيارتها في الليل خاصة مما يستدعي الوحشة، ولو جرى طرح مثل هذا السؤال: هل بالإمكان أن تكون زيارة المقابر والجلوس بين القبور ساعات من الليل المظلم مدعاة للتسرية عن النفس؟ لكان الجواب بسؤال مماثل: كيف يجد الإنسان الحي متعة في البقاء مدة من الزمن مع أجساد فارقتها أرواحها، فهي رمم بالية وأجسام فانية، تحللت في التراب، ولم يعد يربطها بالأحياء صلات كما كانت على قيد الحياة؟.

     لكن إذا قال لك شخص تحمل له في نفسك قدراً من الاحترام وله من الإعجاب عندك مثل ذلك: إنه يجد راحته النفسية بين القبور في الليل المعتم، وإنه انقياداً لهذا التوجه يبقى فترة طويلة وهو مسترسل في شرود يشبه الذهول على حد تعبيره، فكيف تحكم على مسلكه هذا!؟ وبماذا تصف صاحب هذا الموقف وتصنفه!؟ هل تصنف هذا التصرف بأنه جنون! والجنون فنون – كما يقال – أو أنه جنوح إلى الشذوذ الذهني، والشذوذ ليست له قاعدة؟! لا تتسرع بإصدار الحكم لأن الذي يقول ذلك الكلام ويقوم بذلك التصرف – كما نقل إلينا المؤلف – شاعر تحبه وتعجب به: إنه الشاعر الكبير عمر أبو ريشة، ولعله ينطبق عليه ما ينطبق على الشعراء الذين هم في كل واد يهيمون.

***

عاشق المجد 3 / 6 - أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم

عاشق المجد - دراسة في ست حلقات

(الحلقة الثالثة)

أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم

صحيفة الرياض - السبت
25/ 1/ 1418هـ - الموافق 31/ 5/ 1997م


     عاش الشاعر عمر أبو ريشة حياته مترفعاُ عن ابتذال نفسه أو امتهان كرامته لأنه يعتز بذاته أيما اعتزاز؛ لذلك فإنه لم يمتهن شاعريته بمديح يستجدي به، وعندما كان طالباً في الجامعة الأمريكية في بيروت وكان من بين أساتذته الأستاذ أنيس فريحة الذي طلب من طلابه – ومن بينهم عمر أبو ريشة – الكتابة عن الشاعر البحتري من زاوية حددها في العبارة الشهيرة التي قيلت عن هذا الشاعر: "أراد أن يشعر فغنّى". وهي عبارة تحمل ثناءً مبطناً على الشاعر البحتري، ولكن ذكر البحتري على هذه الصورة المليئة بالإكبار لهذا الشاعر أثارت الطالب أبا ريشة لأنه يعلم من سلوك البحتري أنه يرتزق بشعره وهي سجية يحاربها أبو ريشة وينأى بنفسه عنها، فأجاب بما يخالف مضمون تلك العبارة التي تنطوي على مديح للبحتري وحمل عليه ووصفه بأنه شاعر يتسول بشعره مما أفقده الاحترام لديه، ويختلف الأستاذ مع تلميذه في هذا الموقف، لكنه لا يلغي رأيه وإنما كتب على إجابته: "ولد هذا اليوم فيلسوف". وظلت هذه النظرة ملازمة له بعد أن أصبح شاعراً ملء السمع والبصر، فكما أنه استنكر على غيره التكسب بالشعر، فقد بقي مترفعاً عن كل ما يقلل من مكانته، واستمر طيلة حياته على هذا المنوال الذي روض نفسه عليه من الترفع والاعتزاز، ومن الالتفات إلى المادة، أو أي وسيلة أخرى تحط من قدره، أو يرى فيها مساساً بشخصه، فهو كما وصفه المؤلف: "عاش حياة عريضة خصبة في الأدب والسياسة والترحال، وفرض نفسه شاعراً متفرداً لا على مستوى سورية وحدها، بل على مستوى الوطن العربي كله".

***

في رحاب الملك فيصل:

     حينما كان عمر أبو ريشة خلال فترة الستينات سفيراً لبلاده في واشنطن، وكان الملك فيصل في الفترة نفسها وزيراً للخارجية وبحكم منصبه فإنه يرأس وفد بلاده إلى هيئة الأمم المتحدة إلى جانب زياراته المتعددة للعاصمة واشنطن، فقد جمعت تلك الفترة بين الفيصل وعمر على الصعيد الدبلوماسي، ثم توثقت الصلة بينهما فكان الملك يأنس إلى الشاعر، وكان الشاعر يحب الملك. وبعد أن أحيل إلى التقاعد استدعاه الملك فيصل إلى المملكة وأسبغ عليه ما يستحقه من تقدير وتكريم، يقول المؤلف: "والصلة بين الملك والشاعر تذكّر الإنسان بالصلة التي كانت بين المتنبي وسيف الدولة. إذ إن كلاً منهما كان عارفاً لقدر الآخر ومكانته، وعمر الذي خلا ديوانه من المدح لإبائه وكبريائه وعزة نفسه ورفضه التكسب بشعره لا يمكن أن تعد قصائده في فيصل قصائد مدح وتكسب، بل قصائد إعجاب وحب".

     وقد اتخذ الشاعر من مناسبة موسم الحج مجالاً للتعبير عما تفيض به مشاعره من حب مفعم بالتقدير نحو الفيصل العظيم، فكان يلقي بين يديه قصيدة كل موسم حج، والشعور واضح فيما يلقيه ويعبر عنه، فهو مثلاً يستهل قصيدة بين يدي الملك فيصل بهذا البيت الذي ناداه فيه بأحب ما ينادى به:

يا ابن عبد العزيز يا لنداء ... في مداه ناديت كل الرجال

     ويتحدث بعد ذلك عن الأمنية الغالية التي كان يتمناها الملك فيصل تغمده الله بواسع رحمته وهي بلوغه القدس للصلاة في المسجد الأقصى المبارك:

قل لمن شاء راحة في ضفاف النـْ ... ـنِيل من بعـــــد وثبة استبســــــال
ليس عـاراً إنْ في النضال عثـرنا ... إنما العـــار في اجتناب النضــال
رَبْع حطين موحش يا صلاح الدْ ... ـدِين إلا من ذكريـــــــــات غوال
سر بنــا صوبه وصل بنـا في الْـ ... ـقدس. واضربه حرامه بالحـلال

     ويؤكد هذا المعنى في رثائه للملك فيصل حين أنشأ قصيدة رثائه التي ألقاها في موسم مماثل أمام الملك خالد – رحم الله الثلاثة – وقد قدّم لها بمقدمة نثرية جاء فيها قوله: "دُعيت الآن لألقي كلمتي، ولكن الكلمة التي ألقيها ليست لي ولكنها لأخيك الحبيب الراحل المقيم؛ إنها لفيصل". ويبلغ عدد أبيات هذه القصيدة (52) بيتاً من أهم ما جاء فيها مما يتصل بأمنية الملك الراحل قول الشاعر على لسان الملك فيصل:

أردت أختــــم فيها العــــمر مقتــــحماً
               أحقـــــاد حطين في مضمارها الثــاني
وأن أصـــلي وكف القـــدس تحمل لي
               رضاك في المسجد الأقصى وترعاني
ما كــــان أكرمها في العمر أمنـــــية!
               ما كنـت أحســــبها تمضي وتنســـاني

***

     تشكل حياة الأمة العربية هاجسه الأكبر وأولى اهتماماته، ولذلك جاءت محاولاته للتعبير عن هذا الهاجس وتلك الاهتمامات في كل مهرجان يقام في أي مناسبة، فيتخذ من المهرجان منبراً لإيصال صوته إلى الجماهير العربية التي يناديها إلى الكفاح لاستعادة مجدها الغابر، واسترداد حريتها المسلوبة، ومن خلال شعوره المرهف بنكبات هذه الأمة فإنه لا يترك المناسبة دون أن يحرك الجو الراكد والوضع البليد الذي يعيشه أفراد الأمة، فيتحدث عن المأساة الدامية بانتصار إسرائيل وهزيمة العرب المخزية في عهد الدكتاتورية عام 1967م. فقد كانوا يطلقون التصريحات العنترية فإذا جد الجد ولوا على أعقابهم هاربين، وقد وصفهم أروع وصف حين قال فيهم وما أصدق ما قال!:

إن خوطبوا كذبوا أو طولبـوا غضبوا
               أو حوربوا هربوا أو صوحبوا غدروا
على أرائكهم سبحـــــان خــــــــالقهم
               عاشوا وما شعـــروا ماتوا وما قبروا

     وقد كان لهذه القصيدة بمعانيها الصادقة، وإيحاءاتها الواضحة، وعباراتها اللافحة صدى كبير في أنحاء العالم العربي رددت جنباته أصداءها الغاضبة، واستعادت جماهيره أبياتها الساخرة، فقد لامست الجراح العربية، ووضعت الطغاة الصغار في حجمهم الصحيح، فقد كانت محاولاتهم الغوغائية أن يجعلوا من أنفسهم عمالقة فحولتهم الأحداث إلى أقزام، وقد ظلت الجماهير التي شهدت ذلك المهرجان الذي ألقيت فيه القصيدة في لبنان تهتف للشاعر الذي كان ألمع نجوم المهرجان وأبرز رواده، وتستعيد أبيات هذه القصيدة، وكان من بين الحضور شارل الحلو رئيس الجمهورية اللبنانية في ذلك العهد ومسؤولون كبار ووجهاء كثيرون، وقد استمرت عاصفة التصفيق عشر دقائق تجاوباً مع الشاعر، وتعبيراً عن مدى الإعجاب بموقفه الشجاع.

***

إباء وكبرياء:

     هذا عنوان من وضع المؤلف لهذا الفصل، وأنا ألتقي معه في الشطر الأول من العنوان وهو الإباء، ولكني أختلف معه في الشطر الثاني وهو الكبرياء، ولو أنه استبدل به الاعتداد بالنفس لكان ذلك أنسب، لأن الإباء أو الاعتداد بالنفس مزية، أما الكبرياء فهي مذمة، وقد يكون من مظاهر الاعتداد بالنفس ما يوحي بالكبرياء بنظر الآخرين لكنه في واقع الأمر ليس كذلك، وشاعرنا قد تنتابه حالة من الزهو في ظل اعتبارات معينة مرهونة بوقتها لكنها ليست صفة ثابتة في طباعه تبلغ به حد الكبر، ولعل وصفه بالكبرياء جاء في صيغة مدح يشبه الذم، ولا أظن المؤلف قصد ذلك من إطلاق هذه الصفة عليه، وإنما نظر إليها على أنها مرادفة للإباء، وبتأمل ما صدر عن أبي ريشة من اعتزاز بنفسه نجده لا يبلغ معشار ما بلغه المتنبي في الفخر والاعتزاز، ولم يطلق على المتنبي أنه متكبر، وهناك حد دقيق بين الإباء والكبرياء، ويحصل الالتباس في بعض الأذهان بين بعض الصفات المحمودة والصفات المذمومة عند إطلاق الحكم على شخصية من الشخصيات، فمثلاً تضيق الفواصل في التعريف بين حد الإباء والكبرياء، والشجاعة والتهور، والسخاء والإسراف، وبقدر اتساع مساحة الخلاف بين الصفة والصفة المضادة لها من ناحية المعنى، فإنها قد تختلط لدى مفاهيم بعض الناس في تحديد الرؤية من ناحية الحكم على السلوك الشخصي للفرد الذي يدور الاختلاف حوله بين صفة حميدة كالاعتداد بالنفس أو الكرم أو الإقدام، وبين وصمة ذميمة كالكبرياء والإسراف والتهور، وعلى هذا القياس يمكن وصف أو وصم أي فرد بواحدة من هذه الصفات من خلال نظرة معينة وحكم مستقل، فتصنيف فرد على قائمة أي من هذه الصفات يأتي من واقع المنظور الذي نصنف فيه الفرد من خلال الحكم على سلوكياته.

     ولقد أتيح لي اللقاء بالشاعر الكبير (عمر أبو ريشة) في هذه البلاد حينما كان مقيماً بها – رحمه الله – أكثر من مرة، ولم ألمس منه جانب الكبرياء وإن لمست فيه الإباء، أو الاعتداد بالنفس، وقد جاء تعريف الكبرياء في لسان العرب بما نصه: "الكبرياء: العظمة والتجبر"، ولم يخرج القاموس المحيط عن مضمون هذا التعريف، والصفات الحميدة إذا تجاوزت حد الاعتدال صارت مذمومة، وبقدر اتساع المسافة معنوياً بين صفة وأخرى فإن الفواصل دقيقة بين الصفة والصفة المضادة لها، بحيث تكاد تخرجها عن حدها المعتدل إلى حدها المعاكس! فيتحول السخاء إلى إسراف، والشجاعة إلى تهور، والإباء إلى كبرياء، والشيء كما يقال: إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وبالنسبة لهذه الصفات وتحديدها فإنها تخضع للنظرة العامة التي تحدد الحكم، وتطلق الصفة.

***

     يختلف الأفراد في توجهاتهم ومسالكهم ومشاعرهم كما يختلفون في أجسامهم وألوانهم وطباعهم وسلوكياتهم، وحين نتأمل ذلك التباين والتضاد نجد فروقاً كبيرة بين فرد وآخر قد تخضع هذه الفروق لطبيعة النشأة التي عاشها الفرد سواءً كانت محدودة في نطاق الأسرة والمنزل أو لها امتداد أكثر كما تتمثل في المجتمع والبيئة أو أكثر امتداداً واتساعاً ممثلة في الاتصال بالعالم الخارجي، هذه العوامل مجتمعة أو منفردة لها تأثير على الإنسان، فهو يتكيف معها بحكم النشأة، ثم بحكم المحاكاة، وكما أن كل فرد له بيئة خاصة فإنه كذلك له نشأة خاصة، وعلى أساس هذه النشأة تكون منطلقاته، وتتكون آفاقه، فحيث درج يكون مساره، فيستسيغ الخنوع، ويألف الذل منذ بواكير عمره أو يستعلي عليهما منذ بداياته بحسب ما غرسته التربية في نفسه وأكدته طبيعة البيئة في ذاته، وشاعرنا من هذا النوع المعتز بنفسه، فكان شديد الطموح، عالي الهمة، كأنما يبصر رايات المجد خفاقة فوق رأسه، وكانت الثقافة العامة سبيله إلى تأصيل هذا المجد الذي يطمح إليه، والإباء الذي ينشده، فكان شاعر المجد والإباء:

ما أرخص المجد إذ زارني ... ولم يكن لي معــــه موعـــد

     وفي الاعتداد بالنفس يقول:

أنا يا رب من بقايا سيوف ... ثلمتها مضـــارب الحدثان
أنا من أمة تجوس حمـاها ... جاهلياتها بلا استئــــــذان

     وفي قصيدته المرموقة التي اتسعت شهرتها واتسمت بروح الإباء والاعتداد بالنفس تجيء أبيات قصيدة (أمتي) تترجم ذلك الشعور:

أين دنياك التي أوحت إلى ... وتري كل يتــــيم النغــــم
كم تخطيت على أصـدائه ... ملعب العز ومغنى الشمم
وتهــــاديت كأني سـاحب ... مئزري فوق جباه الأنجم

     من هذا المعين نراه يحلق مع النسور في قمم الجبال، ويزاحم المحلقين في الأجواء العالية، فهو يرفض الحياة الخاملة، ولا يقنع بما دون الصعود إلى القمم المتسامية، فيحلق بحسب ما يسمح له خياله الخصب، وأحلامه المتوثبة، ويحاول الاستعلاء على كل المعوقات التي تحاول تقييده، ويتحدى في صمود وإصرار كل ألوان الإحباط والهزيمة، ويعتز بشعره الذي يصور شعوره على هذا النحو:

أقســم المجـــد أن يمـر على الأر
               ض ونجـــوى الإباء خلف لسانه
فالعبي يا عواصف الدهر ما شئـ
               ـــت فلن تجرحيه في وجـــــدانه

     ففي شعره يلتقي النسر المحلق، والإباء المترفع، والمجد المتأصل؛ إلى جانب الصمود أمام العواصف والتحديات.

***

عاشق المجد 2 / 6 - أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم

عاشق المجد - دراسة في ست حلقات

(الحلقة الثانية)

أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم
صحيفة الرياض - السبت
24/ 5/ 1428هـ - 24/ 5/ 1997م


     شاعر تجاوزت شهرته حدود وطنه الصغير سوريا إلى وطنه الكبير البلاد العربية، وكانت مشاركاته العامة من أهم العوامل في اتساع مدى شهرته لما له من مواقف شامخة في المحافل العامة التي يستثير فيها مشاعر المواطنين، ويستولي على إعجابهم الكبير، فقد كانت تزفه المظاهرات ضد الاستعمار الأجنبي، ويستعيد المواطنون شعره ويحفظونه، وكان لمواقفه الوطنية الحماسية ضريبة، فقد حكم عليه المستعمر الفرنسي بالإعدام مرتين، ولكنه ظل على حماسته ووطنيته.

     ففي المهرجان الذي أقيم عام 1935م، في الجامعة السورية بدمشق احتفاءً بالذكرى الألفية للمتنبي ألقى قصيدة ثائرة بعنوان: "شاعر وشاعر"؛ كانت تفيض حماسة وتمجيداً للبطولة العربية من خلال تمجيده للشاعر المحتفى بذكراه، وهو شاعر يهوى المجد، ويدعو إليه، ومات في سبيله. وقد أملت عليه مناسبة ذكرى أبي الطيب أن يحيي ذكراه وهو يأسى على حال أمته، ويذكر معاناته في هذا السبيل، فيخاطبه والمرارة طافحة في فمه:

شاعر العرب غض طرفك فالعر ... ب حيــــــارى في قبضة عسراء
يخجـل المجد أن يرى الليث شلواً ... تحت أنيـــــاب حيــــــــة رقطاء
أين لمع المنى وحمحـــمة الخيــــ ... ــــــــل ووهج القنا وخفق اللواء

     ثم ينهي القصيدة بهذا البيت الذي يسميه الشاعر (أبو ريشة) بيت القصيد:

كيف أهدي إليك بيض الأغاني
               وجراح الأيـــــــام خلف ردائي

     وفي المهرجان الألفي الذي أقيم عام 1944م في سوريا احتفاءً بذكرى أبي العلاء المعري شارك الشاعر بقصيدة تعبر عما يكابده من حزن، وما يعتمل في نفسه من ثورة ضد الاستعمار وأتباعه، فيستهلها بهذا المطلع الذي يترجم عن واقع حال الأمة العربية ومحنتها:

ملعب الدهر لو ملكنا هدانا
               لبلغنا من الحيــــــــاة منانا

     وحين استقلت سوريا عن فرنسا، وتحررت من قيود الاستعمار وذل التبعية أقيمت بهذه المناسبة الوطنية الاحتفالات ابتهاجاً بالاستقلال، وفي هذا المجال الاحتفالي ألقى الشاعر في حلب عام 1947م قصيدته: (عرس المجد) عبر فيها عن ابتهاج الشعب، واستعادته حريته التي طالما ضحى من أجلها حتى نالها، وكان مطلع القصيدة:

يا عروس المجد تيهي واسحبي
               في مغــــانيـنا ذيــــول الشــهب

     وكان لهذه القصيدة صدى واسع الانتشار مما زاد في رصيده الوطني، وأصبحت أنشودة على ألسنة المواطنين، وموضع احتفاء منهم بها وبالشاعر الكبير.

***

قصيدة أمتي:

     هذه قصيدة متفردة بين القصائد الوطنية، وقد أورد الدكتور حيدر مؤلف هذا الكتاب شواهد من أبياتها في أكثر من فصل، كما فعل ذلك مع كثير من قصائد الشاعر. ومن جانبي فقد شدتني إليها للتعليق عليها وحدها دون ربطها بفصل معين لأن لها لوناً مختلفاً عن كل قصائد الشاعر، وإثارة تختلف عما عداها، وشاعرنا له قاموسه الشعري الذي يستمد منه مفرداته اللغوية، ولذلك جاءت ألفاظه ذات جرس خاص، وصوت متميز، وبهذه الميزة كان له تألقه، وصار له جمهوره والمعجبون به الذين يرون أنه يلتقي فيه الشاعر بالفارس، فهو يحسن توظيف الشحنة الانفعالية فيما يبدعه من شعر وطني، فيجسد شعره في ألفاظ موحية ذات تأثيرات فعالة تلامس القلوب، وتستثير النفوس، فهي أشبه بصادحات موسيقى الجيش التي تهيئ الجنود للميدان، وتثير فيهم الشجاعة والإقدام.

     فشعره اجتماعي التوجه، وهو شاعر جماهيري النزعة، لذلك فإنه يختار الكلمات التي تحفر أثرها في أذن السامع، وفي وجدان القارئ، فتشده إليها، وتؤثر فيه بوقعها، وتبعث في كيانه الحماسة، وتؤصل في قلبه الشجاعة، وتنتفض فيه الرجولة، فيسترخص التضحية، ويعلو بالإيثار، ويحقق الانتصار. فيجب أن نرتفع بهذه الأمة التي ننتمي إليها: أن تتكلم دائماً بلسان الضحية، أو أن تمثل على الدوام دور المضطهد، وهي تملك قدرات معطلة، وطاقات مهدرة. لو أحسنت توظيفها لاستطاعت أن تبني لها كياناً يجعل العدو يحسب لها ألف حساب قبل أن يقدم على خطوة، أو على أي عمل له مساس بها مما يتصل بامتهان كرامتها وإهانة عزتها.

     وفي أعقاب نكبة فلسطين عام (1948م) نَزفَ الشاعر أبو ريشة شعراً انتزعه من أعماق قلبه الحزين، فقد تحولت الكلمات إلى طلقات معنوية صاخبة. عندما لم يكن لطلقات السلاح مكان في جسم العدو الغاصب، فكانت قصيدة (أمتي) صرخة مدوية تهز الوجدان العربي، وتوقظ همم المسلمين ليحرروا القدس من أدناس الصهاينة، ويستعيدوا الأرض المسلوبة لأبنائها الأصليين. وقد صار لهذه القصيدة وقع كبير، وأثر بعيد في أعماق هذه الأمة بما حفلت به من لهجة صادقة، وما انطوت عليه من عبارات حادة أشبه بقذائف شديدة الانفجار، عالية الرنين، تدهش المستمع، وتشد القارئ. وكان من بين حضور ذلك المهرجان الذي ألقيت فيه القصيدة رئيس وزراء سوريا في ذلك العهد، وبعض وزرائه، وكان نصيب الساسة المسؤولين عن النكبة كثيراً من اللوم والتعنيف والهجوم، وقد جاءت على هذا المنوال:

أمتي هـل لك بيـــــــــــن الأمم
               منبـــــر للسيــــــف أو للقــــلم
أتـلقــــــاك وطرفي مطـــــرق
               خجــــلاً من أمســك المنصرم
ويكـــــاد الدمع يهمي عبثـــــاً
               ببقــــايا كبريـــــاء الألـــــــــم
أمتي كـم غصــــــــــــةٍ داميةٍ
               خنقت نجـوى عـلاك في فمي
أي جـرح في إبــــائي راعف
               فاتـــــــه الآسي فـلم يلتــــــئم
ألإسرائيـــــل تعــــــــلو راية
               في حمى المهد وظل الحرم؟!

     ثم يسترسل في استنهاض الهمم، واستثارة النخوة، وهو يتكئ على أحزان الأمة العربية المسلمة، فيتجه إليها في لهجة يجللها الأسى، وتحيطها السخرية المريرة:

اسمعي نوح الحزانى واطربي
               وانظري دمع اليتـامى وابسمي
ودعي القــــــادة في أهوائهـــا
               تتفـــــانى في خسيس المغنـــم
رُبَّ وامعتصمـــــاه انطلقـــت
               ملء أفـــواه البنـــــات اليتـــم
لامست أسمــــاعهم لكنــــــها
               لم تلامس نخـــــوة المعتـصم
أمتي كم صنـــــــمٍ مجـــــدته
               لم يكن يحمل طهر الصنــم؟!

     إنها قصيدة وطنية لا يكفي القول بأنها رائعة، فهي أكثر من ذلك، فقد حشد فيها الشاعر كل أدوات الإثارة والتأثير، وهي تمثل نموذجاً عالياً من نماذج الشعر الوطني المعاصر بما تفيض به من صدق الإحساس، وما تزخر به من التأثر لما أصاب الأمة العربية على أيدي من نسميهم شذاذ الآفاق، وكيف انحدر مصير القضية الفلسطينية إلى نفق مظلم لا تزال تعاني منه، ولا يزال العدو المتربص يختال تيهاً في مظالمه وتحدياته واستعلائه ووقاحته!.

***

     هل الكلمات في حد ذاتها مجرد مجموعة حروف تكون جملة مفيدة حسب القاعدة النحوية المعروفة فحسب؟ أم أنها كلمات تتجسد فيها روح الكاتب والشاعر فتضيء بالنور أو تلتهب بالنار؟ إن الحروف قد تتكون منها كلمات كثيرة في صيغة قطعة نثرية، أو قصيدة شعرية، لكنها تظل كلمات باردة أشبه بنظم المتون أو تشطير بعض المنظومات. أما متى تستيقظ الكلمات من رقادها، وتنتفض من جمودها، وتتحرر من ركودها، وتتمرد على رتابتها لتصبح ذات فعالية تهز الضمير الحي، وتستثير المشاعر، وتشعل وهج النار التي في الصدور، متى تكون كذلك؟

     الجواب أنها تكون كذلك حين يمنحها الكاتب أو الشاعر دفق إحساسه وعصارة قلبه، فتصدر من أعماقه قبل أن تكون طيفاً في خياله أو فكرة وليدة في ذهنه، فالمبدع هو الذي ينفعل بالحدث ويتفاعل مع الموقف، وهو حين يصنع الكلمة يضفي عليها من وهج انفعاله، ومن تجاوب روحه ما يخيل لسامعها أو قارئها أنها ليست من جنس الكلمات المعهودة، ولا من فصيلة الحروف المعروفة، لأنها وإن كانت تحمل مدلولها إلا أن مهارة المبدع الذي صاغها توحي للسامع أو القارئ أنها ذات أجنحة تحلق بفكره في آفاق لم يعرفها، وتسمو بروحه إلى معارج لم يألفها، فيلتقي انفعال الشاعر مع تفاعل المتلقي، فتشتعل روح الفداء وتبرز تحديات التضحيات، وتتحول الساحة إلى شعلة من النار، وإلى قذائف من الحمم، وتتحول الجماهير إلى كتلة متراصة تهتف باسم الوطن، وترفع رايته، ويتحول مهرجان الخطابة إلى ميدان قتال يتجسم فيه زئير الكلمات، وتبدو كما لو أن المعركة بدأت. فالكلمات النارية تترك آثارها في النفوس الأبية، ويتردد صداها في القلوب النابضة بالحياة، فتزحف الجيوش، وتهدر الجموع؛ عند ذلك تستعاد الحقوق المصادرة، والأراضي السليبة، والكيان المغتصب. ولا يفل الحديد إلا الحديد، وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة؛ هذا ما جسدته قصيدة (أمتي).

     إنها قصيدة تستحق وقفة أطول لأهميتها، فهي لا تزال تفجر في النفس العربية شحنات من الأسى والشجن، فقد حفرت في أذهان معاصريها معاني شامخة كادت تمسحها سنوات الاستعمار العجاف، وتمحوها غفلة العرب الطويلة. وهذه القصيدة تقف في مقدمة عرائس الشاعر، فهي من عيون شعره. بل هي أشهر قصيدة قالها، ولعلها القصيدة التي شهرته أكثر من أي قصيدة أخرى، فهي التي حملت صورته إلى العالم العربي مشرقه ومغربه. وإلى جانب ما تحويه القصيدة من تجسيد الإحساس بفداحة الظلم؛ فإن فيها شموخ الفارس الشجاع، وشعور المواطن المؤمن بقضيته وحق أمته في العيش بكرامة وحرية واستقرار في الحياة. وبالرغم مما رافق هذه القصيدة من تزيُّدات، وما صاحبها من ملابسات، وما شاع في أجوائها من تداخلات لما نالته من شهرة، وما حظيت به من تمجيد؛ فإنها تظل القصيدة الوفية لقضية الأمة العربية.

     يحدث للشاعر أو الأديب سبحات أو انطلاقات لم تكن مألوفة في نمط حياته، لها خصوصية من التجليات الفكرية، والإشراقات الذهنية، فتغمره ببهائها، وتتألق في ذهنه على شكل إضاءات تنير فكره، فيستوحي الموقف الذي هو بصدده، وينطلق في عفوية لتسجيل تلك السبحات المضيئة. يضعها على الورق حروفاً ناطقة، وكلمات مجنحة لها أرواح تتجسد فيها المعاني السامية، وتتدفق منها الأحاسيس العارمة، وتبدو في كيانها أضواء الإلهام، وأهمية العطاء.

     وإذا كان أبو ريشة يحتفي ببيت الختام في قصائده، حيث يجعل منه مفاجأة تعكس ردة الفعل لما يقوله الشاعر في شعره؛ فإن أبيات هذه القصيدة كلها تعتبر بمثابة البيت المحتفى به في كل قصيدة من قصائده، فكل بيت منها يعتبر بيت القصيد، فقد جاءت أبياتها متلاحمة مشحونة بالانفعال المؤثر، والتعبير الصادق، والتوجه الهادف، زاخرة بالمعاني العميقة، نابضة بالروح الإسلامية ومتشحة بالنخوة العربية.

***

عاشق المجد 1 / 6 - أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم

عاشق المجد - دراسة في ست حلقات

(الحلقة الأولى)

أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم
الرياض: 11/ 1/ 1418هـ - الموافق 17/ 5/ 1997م


     يجد المرء نفسه في بعض الحالات التأملية مشدوداً إلى ذكرى عزيزة عليه لا سيما إذا كانت تنطوي على ذكرياته عندما كان في ربيع الشباب وهو يرى نفسه في خريف العمر. أما هذه الذكرى التي استدعتها الذاكرة عبر مدة تقارب أربعين عاماً فتتعلق بالزمالة الجامعية عندما كنت طالباً في كلية الآداب بجامعة القاهرة، فقد لفت نظري بصفة خاصة نقاش طالب متفتح الذهن، جم المواهب، يلقي أسئلة ذكية، ويجيب حين يُسأل إجابات موفقة.

     وبعد تخرجه من الجامعة لم تقف به طموحاته عند حدود التعليم الجامعي وإنما بدأ ثقافته الواسعة بعد أن ودع الجامعة. فقد اتجه بكل ما لديه من طاقة، وما وهبه الله من إدراك لتثقيف نفسه تثقيفاً ذاتياً، فأكب على القراءة ووسع دائرة الاطلاع، فلم يتوقف عند المؤهل الذي حصل عليه، وإنما جعل من حصوله على الشهادة الجامعية بداية للتحصيل العلمي الجاد، والثقافة العامة العميقة. ونتيجة لبناء شخصيته العلمية بناءً ذاتياً إلى جانب تلك الثقافة المتميزة، فقد استطاع أن يصدر كتاباً متميزاً في مادته عميقاً في دراسته تحت عنوان (عاشق المجد عمر أبو ريشة شاعراً وإنساناً). أما الطالب السابق والكاتب الحالي فهو الزميل الصديق الدكتور حيدر الغدير. تلك كانت صلتي بالكاتب، وقد امتدت بيننا رابطة الصداقة بعد رابطة الزمالة، فظلت له في نفسي مكانة الزميل القديم الوفي، ومنزلة الصديق العزيز الدائم.

     أما صلتي بالشاعر موضوع الكتاب فهي صلة إعجاب قديم يتجدد، ومثلي كثيرون يهزهم شعره، ويعجبون بتوجهه، فهو شاعر له تفرده وشموخه وإباؤه. يحملك في شعره إلى آفاق متسامية تجعلك تحلق مع النسور في سماء مفتوحة، وتعيش مع الإباء العربي في أجواء سامقة، فيشدك إعجاباً، ويبهرك عطاءً.

     لا تدري لماذا تقبل على شخص وتنفر من آخر!؟ سواء كان ذلك عن طريق اللقاء المباشر، أو من خلال الصلات الأدبية، وسواء كان ذلك مع الأحياء أو مع الذين رحلوا عن هذه الدنيا وتركوا خلفهم آثارهم، وأنت إزاء هذا الموقف لا تجد تعليلاً تقف عنده، ولا تحليلاً تركن إليه، ولا يمكن تفسير ذلك إلا أنه مزاج، فأنت تعجب بشاعر أو كاتب أو عالم تفصلك عنه مسافات زمنية بعيدة من العصور المتعاقبة، فتحب من تحبن وتكره من تكره؛ دون محاكمة لمزاجك الذي فرض عليك الحب أو الكره دون سبب جوهري معلوم سوى الهوى الشخصي والمزاج الفردي.

     ولذلك كان الاختلاف حول علماء وكتاب وشعراء منذ العصر الجاهلي حتى عصرنا الحاضر، فمثلاً المتنبي هذا الشاعر الجهير الذي تفصلنا عنه أكثر من عشرة قرون، لا يزال الناس إزاءه مختلفين، منهم من يرتفع به إلى الأفق الأعلى، ومنهم من يهبط به إلى قرار سحيق. والذين رفعوه والذين رفضوه جميعهم لم يروهن ولم يعايشوه، ولكن أمزجتهم أملت على كل فريق موقفه، ويقاس على ذلك سواه من الشعراء والأدباء السابقين أو المعاصرين.

     وذلك الموقف يتكرر مع الشاعر موضوع هذه الدراسة (أبو ريشة)، فقلما تجتمع لفرد مجموعة من الصفات والمزايا، فتجتمع فيه الوسامة، والقامة المديدة وحسن المنطق، وكرم الشمائل؛ إلى جانب جمعه كذلك بين إجادة الشعر قولاً وإلقاءً، وبتلك الصفات والميزات تلتقي الجوانب المهمة في الشخصية الجماهيرية اللافتة للنظر. ومما يضفي على شخصية شاعرنا أهمية أنه جمع بين الثقافة العالية والدبلوماسية الناجحة، فقد مثل بلاده سفيراً في عواصم كبيرة في أمريكا الشمالية، وأمريكا الجنوبية، وفي الهند، وكان له حضور مشهود في كل عاصمة مثل فيها بلاده حقق لها وللعرب عامة سمعة كريمة. وكانت إجادته لعدة لغات من العوامل المهمة في بناء مكانته السياسية والاجتماعية، وقد ساعدته ثقافته الجيدة واعتزازه بنفسه على الاحتفاظ بمكانة مرموقة في كل مجتمع يحل فيه، فقد كان يعمل على تكوين صداقات عديدة، وإقامة علاقات متينة لا كدبلوماسي حصيف فحسب، وإنما أيضاً كمثقف كبير.

     يحتل الكتاب موضوع هذه الدراسة مساحة من الورق تبلغ كمية صفحاته وفهارسه (540) صفحة، ويتكون من مقدمة موجزة وحديث مختصر عن ديوان الشاعر، ثم تتوالى فصول الكتاب على النحو التالي: صورة كلية ـ مسيرة الحياة ـ في رحاب فيصل ـ إباء وكبرياء ـ مواقف جريئة ـ شعره الوطني ـ شعره الإسلامي ـ الوحدة العضوية ـ الصورة الشعرية ـ الموسيقى الشعرية ـ لغة الشعر ـ الرمز الشعري ـ تبديل وتعديل ـ القصة الشعرية ـ الملحمة الشعرية ـ وتحت كل فصل من هذه الفصول أورد المؤلف استشهادات بأبيات من شعر الشاعر للتدليل على توجهه ورصد مساره.

المقدمة:

     لا يزيد حجمها عن صفحة واحدة وإطلاق عنوان مقدمة عليها يعتبر تجوّزاً لمدلول المقدمات أو تجاوزاً لهذا المفهوم، وليعذرني أخي الدكتور حيدر إذا لم أصنفها في عداد المقدمات، فهي لا يمكن أن تقدم سوى صورة موجزة لا تعطي انطباعاً وافياً عن الكتاب وإن كانت تعرف بالهدف من إصداره، وأنه في الأساس رسالة علمية، وهي الرسالة التي نال بها المؤلف الدكتوراه، وأنه حوّر هذه الرسالة لتخليصها من الرتابة الأكاديمية لتكون مناسبة مع مسار الثقافة العامة التي تعني القارئ على مستوى النطاق الواسع لا التخصص المحدود.

     وكان المفترض أن يقدم لنا المؤلف - وهو قادر على ذلك - موجزاً لكل فصل من الكتاب ليكون بمثابة المفتاح الذي يقود إلى فصول الكتاب، ولعله فعل ذلك في الأساس عند المناقشة كما هو مفترض، ثم عدل عن تلك المقدمة الوافية لتحل محلها هذه التي أسماها مقدمة، وهي لا تزيد على أن تكون إشارة عابرة لا تقدم الكتاب في فكرته العامة وإنما تنوه فقط عن الكتاب في أساسه، ولعله قصد من ذلك أن لا يكتفي القارئ بقراءة مختصرة لهذه الفصول ويكتفي بها عن قراءة الكتاب. ويعلل اختصار المقدمة بقوله: (حين عزمت على طباعته كتاباً للناس أجريت فيه بعض التعديل، وأضفت إليه مواد تتناول حياة الشاعر ونفسيته ومواقفه وموضوعات شعره وطائفة من أخباره، لذلك يجد القارئ فرقاً واضحاً بين الأصل الذي تغلب عليه التقاليد العلمية المقررة وبين الإضافات التي لا تلتزم بذلك). ولا أدري كيف يجد القارئ - وأنا أحد القراء - فرقاً واضحاً بين الأصل وبين الإضافة، ولم يتم الاطلاع على الأصل لأنه فيما يبدو لي غير مطبوع؟!

ديوان الشاعر:

     تمنيت لو أن هذا الفصل تأجل إلى نهاية الكتاب لأنه يختص بالحديث عن شعر الشاعر وطبعات دواوينه التي يقول عنها المؤلف: (كان الشاعر يكرر في الإصدار اللاحق ما جاء في الإصدار السابق) وما قيل عن ملاحمه الشعرية، وما سبق أن ورد على لسانه من وعود بالوفاء بما التزم به من اكتمال قصائده الطوال، أو إنشاء ملاحم وقصص شعرية طويلة مما يحمل على الظن أنه لم ينجزها - كما يقول المؤلف - أو أن ما أنجزه منها لم يرض عنه فطواه. وأضيف إلى ذلك أنه ربما كان يتمنى في أعماقه إصدار ملاحم وقصص شعرية مطولة ولم يتسع الوقت أمامه ليحقق أحلامه، ولو جعل المؤلف هذا الفصل نهاية للكتاب لكان أفضل حتى لا يصطدم القارئ المعجب في شاعره المفضل.

صورة كلية:

     هذا الفصل يقدم لنا الشاعرَ تقديماً وافياً بأصوله العربية ومولده ونشأته وتعليمه، ويرسم لنا صورته متكاملة حسياً ومعنوياً، فنجده فارع الطول، وسيم الطلعة، أنيق المظهر، طلق الحديث، يجتذب السمَّار في المجالس، صاحب طبع كريم مع إجادة لعرض آرائه بشكل مهذب، وفي تنسيق مرتب يملأ المحافل، إذا ألقى شعراً أو تحدث كلاماً يشد السامعين ويبهر الحاضرين. هذه صورته الظاهرة.

     أما صورته الباطنة فكما وصفه الدكتور حيدر: ((مسلم محب للإسلام، غيور عليه، مدافع عنه، يعترف بتقصيره وضعفه البشري، ويسأل الله المغفرة. وثقافته الدينية أقل بكثير من حبه لدينه وغيرته عليه)).

     وبهذا التحليل لشخصيته دلل المؤلف على أنه كان عادلاً في عواطفه بين تفريط وإفراط، أي بين كيل الثناء دون حساب لشاعره، وبين قول الحقيقة كما يعرفها. وبهذه الوسطية في الرؤية تحدث عمّا له، وعمّا عليه.

     وقد اشتهر بأنه شاعر غنائي أسهم بشعره في أغراض متعددة على غرار ما فعله أكثر الشعراء، فلم يحصر نفسه في دائرة بذاتها، وإن كان يجد نفسه في الشعر الوطني الذي يجيده ويجيد إلقاءه بشكلٍ يشد إليه الانتباه، ويجعله محط الأنظار، وموضع التقدير.

     فشعره جماهيري الصدى، ولعله أراد له أن يكون كذلك، فهو معجب بنفسه من خلال إعجاب الناس به، أو لعله صنع هذه الهالة حوله ليكون محل الإعجاب على نطاق واسع، ومعلوم أن شعر الشاعر قطعة من وجدانه، وصورة من نفسه، فهو يلقي ظلالاً كثيفة على مواقفه، ويعطي انطباعاً عن أنماط حياته: ((وشعر عمر يدل إلى حد بعيد على حياته، وعلى عصره، وعلى صنعته على السواء. وإن من أمارات الشاعر العظيم أن يحقق شعره هذه الدلالة فيكون صورة (نوعية) تترجم عن ذاتها، لا صورة (نمطية) تكرر الآخرين)).

مسيرة الحياة:

     في هذا الفصل يتحدث المؤلف عن أسرة الشاعر، فيقدم لنا لمحة تاريخية عن أفراد أسرته، فوالده - واسمه شافع أبو ريشة - كان قد عمل في بداية حياته الوظيفية في فلسطين، حيث ولد ابنه عمر، ثم عاد إلى بلدته مدينة حلب، حيث نشأ هذا الابن الذي أصبح شاعراً مرموقاً فيما بعد، وذكر المؤلف أن والده هذا شاعر لكنه مقل، وأن أمه كانت تحب الشعر وترويه، وأن لأخته زينب حظاً منه، وكذلك كان أخوه ظافر يقول الشعر.

     لكن لم يبرز في هذا الميدان من الأسرة سوى عمر الذي حقق شهرة كبيرة في مجاله هذا، وفي غيره من المجالات السياسية والاجتماعية. وقد اهتم والده بنشأته فألحقه بالجامعة الأمريكية في لبنان، ثم أرسله بعد ذلك في بعثة دراسية إلى إنجلترا لدراسة صناعة النسيج، وهي دراسة مغايرة لاستعداده الذهني وتوجهه الأدبي. يؤكد ذلك أنه عندما عاد بعد الدراسة التي تخصص فيها لم يزاول اختصاصه، وإنما عمل في مجال يتفق مع استعداده وطبيعة اتجاهه.

     وهو ليس بدعاً في هذا المجال، فقد كان عدد من الكتاب والشعراء المرموقين أصحاب تخصصات بعيدة عن استعداداتهم، ومع ذلك كان لهم حضورهم الفكري ومستواهم الثقافي المخالف لدراستهم العلمية ومنهجيتهم التخصصية، ولكن الموهبة هي التي تبرز في الساحة، وتحقق الحضور الأدبي أو الشعري لصاحبها، وعلى هذا النهج كان المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي تخصص في الهندسة الكهربائية، والشاعر المهندس علي محمود طه، والطبيب الشاعر إبراهيم ناجي، وقد جمع الدكتور عبد السلام العجيلي بين الطب تخصصاً وممارسة وبين الأدب كاتباً وروائياً وقصاصاً وشاعراً.

     أما شاعرنا عمر أبو ريشة فقد تألق في الشعر خاصة، وبرع فيه، واتخذ منه منبراً يترجم عبره عن أحاسيسه الذاتية ومشاعره الوطنية، فقد توهجت مواهبه الأدبية، وبرزت شاعريته خلال السبعة عشر عاماً التي أمضاها في حلب بعد عودته من دراسته في بريطانيا. ومصدر ذلك التوهج أن المستعمر الفرنسي لبلاده سوريا كان هو الشغل الشاغل للأحرار من المواطنين الذين يرفضون وصاية الاستعمار، فكان تصدي الشاعر للمستعمرين وللخانعين لسطوة المستعمر، فقد اتخذ من شعره سوطاً يلهب به ظهور أولئك الذين دخلوا الوطن عنوة، وفرضوا سلطتهم بالقوة، واستأثروا لأنفسهم بخيرات البلاد، ومن شايعهم أو مشى في ركابهم.

     فكان شعره يوقظ ، ويستنهض الغافلين، ويستثير تطلع المتحفزين، وكان إلقاؤه المتميز وشعره الوطني مما يستنفر نخوة الشعب السوري العربي الأبي، وبذلك أصبح له صوت مسموع، وصدى ملموس، فقد كان المواطنون يهتفون وراءه في كل محفل، ويتجاوبون مع إلقائه الذي كان له إيقاع يستفز المستمع، ويقلق المستعمر، وقد تميز إلقاؤه بجهارة الصوت، وحسن الأداء، وسلامة التعبير، فكان موهوباً في الإلقاء كما أنه موهوب في الشعر.

*****

رثاء العلماء في شعر حيدر الغدير - أ.شمس الدين درمش

رثاء العلماء في شعر حيدر الغدير

أ.شمس الدين درمش

     للعلماء مكانة كبيرة في نفوس المسلمين عامة، فهم ورثة الأنبياء في العلم، لا في الدرهم والدينار، وقد رفع الله سبحانه مكانتهم فقال: [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] (المجادلة:11)، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة. والعلم الذي يرفع مكانة صاحبه ليس هو مجرد العلم بالمسائل، وإن كان ذلك مهمّا، ولكنه هو العلم الذي يجعل صاحبه ربانيا عاملا بعلمه. وقد اشتهر في تاريخنا علماء من هؤلاء بعد عصر الصحابة والتابعين الذين هم خير القرون، مثل أئمة الفقه الأربعة، وكبار المحدثين، وأصحاب أولئك الفقهاء والمحدثين.

     واشتهر في عصرنا من هؤلاء العلماء في كل بلد على امتداد العالم الإسلامي من أخلصوا دينهم لله، وكانوا ربانيين على منهج السلف الصالح رضي الله عنهم، وكان لوفاتهم أثر عميق في المسلمين في شتى بقاع الأرض، واهتز شاعرنا حيدر الغدير لوفاتهم، فعبر عن حزنه عليهم بقصائد تموج حرارة وألما وأسى، فرثى الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ أبا الحسن الندوي، والشيخ محمد السالم، ولنقف عند رثائه كل واحد من هؤلاء العلماء رحمهم الله تعالى.

***

رثاء الشيخ عبد العزيز بن باز:

     تبوأ الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، مكانة عالية في قلوب المسلمين عامة، وفي المملكة العربية السعودية خاصة، فقد كان مفتي عام المملكة، ورئيس هيئة كبار العلماء، وتولى رئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وهو عضو مؤسس في رابطة العالم الإسلامي، هذه المهمات الجسام جعلته على تواصل دائم مع علماء العالم الإسلامي في قضاياه المصيرية.

     وقد أحبه الناس، ليس لتوليه هذه المناصب، وإنما لصفات أخرى خلقية ونفسية، في رأسها الورع والزهد في الدنيا، يقول الشاعر حيدر الغدير عنه في مقدمته النثرية لقصيدة الرثاء التي كتبها بعنوان (ترجلت في التسعين ص 57 من ديوان من يطفئ الشمس): "إلى الشيخ الصالح عبد العزيز بن باز رحمه الله الذي كان أعجوبة الصبر، ونموذج الزهد، ومثال النقاء والكرم، وبقية السلف الصالح."

     ويصف لنا موكب جنازته المهيب فيقول:

مضى الشيخ عن دنياه فالموعد الحشر
               وضــــم غواليــــه المطهــــرة القبـــر
وســــار به النعش المهيــــب وأكبـــد
               حِـــرارٌ عليـــها من مهـــابته وقــــــر
يضــــوع الهـدى منه نقياً ممسَّـــــــكا
               كما ضــــاع من أغلى قواريره العطر

     وقد ازدحم الناس في موكب جنازته بشكل لم يقع لأحد من المعاصرين، فعرف بذلك مدى تغلغل محبته في القلوب بصدق وإخلاص، يقول الشاعر مصورا ذلك:

ملايين تدعو والقـــلوب كســـيرة
               ويســـعفها دمع ويخذلها صبـــــر
تقول مضى الشيخ العفيف إزاره
               وخر من العليـــــاء في ليله البدر

     وقد حزن الكبير والصغير لوفاته، وصار لديهم ما يشبه اليقين أن مكان الشيخ سيبقى خاليا، ولن يعوض بمثله!

     وقد عمر الشيخ عبد العزيز حتى بلغ التسعين، وكان عمرا مباركا مليئا بجلائل الأعمال، يقول الشاعر:

ترجل في التســـعين فــــارس حلبة
               وأفراسه الإيمان والعـــــلم والذكــر
وصبــــر جميــل لا يشان بشـــائن
               تـــلازمه التقوى ويرفده الشــــــكر
وحب لكــل المســـــــــــلمين ونيـة
               صفت فهي في أنقى مواسمه القطر
ونصــــــح لذي مال وجاه وصولة
               ونصرة منكوب أضـــــر به العسر

     وقد عدد الشاعر مجموعة من الصفات التي تحلى بها الشيخ رحمه الله، من الإيمان والعلم والذكر، والصبر الجميل، والتقوى والشكر، ومحبته وحدبه على المسلمين، ونصحه للأغنياء بالبذل، ومساعدة المحتاجين، وغير ذلك من فضائل الأعمال والأخلاق.

     ويصور الشاعر تحول الشيخ من طالب علم بمنطقة نجد داخل الجزيرة العربية، إلى عالم يراه المسلمون في مقام الأبوة عطفا وشفقة واهتماما، وحقيقة غلب على الشيخ في آخر عهده لقب الشيخ الوالد، فيقول:

وكــان بنجــد بدؤه بيـــــد أنــــــه
               تسامى به للخيـــر من عزمه مُهْر
فصــار أبــــــاً للمسلمين جميعهم
               يروح إليه البيض والسود والسمر
وعرب وأعجام وشــرق ومغرب
               وما ضاق بالغادين بيت ولا صدر

     وتُذْكر قصص كثيرة عن كرم الشيخ وبذله من ماله الخاص لأصحاب الحاجة الذين ينزلون بساحته وداره، وربما لامه بعض من حوله في ذلك، وطلب منه أن يمسك قليلا، ولكن الشيخ لم يكن يلتفت لذلك، ليقينه التام بأن الله سبحانه وعد كل منفق خلفا، وكل ممسك تلفا، ويصور الشاعر كل ذلك قائلا:

وكان النـــدى للشيخ توأم روحه
               إذا آده عســر وإن أقبــــل اليسر
وما كنز الأموال فالبـــذل طبعه
               كـــأن نداه النهر أو دونه النهــر
وما خاف من فقر فربك مخـلف
               وأملاكه من بعضها البر والبحر
يقول لمن لاموه ما المـال بغيتي
               وفيَّ يقيــــن لا يرام له ستــــــر

     ويتأسى الشاعر عن الشيخ الراحل بخلفه، بما يخفف بعض الحزن، ويعطي بعض الأمل، فيقول:

رحلت ولكن في الحمى ألف واعد
               وألف صباح ملؤها الطيب والبشر
وجيش بشارات حســــان صوادح
               ألذ من النعمى غـلائلها الخضـــــر

     وإذا نظرنا إلى الموضوع وهو رثاء عالم ديني ومعلم ومرب؛ نفاجأ بانحراف القصيدة في نهايتها عن الموضوع، فجيش البشارات، وألف واعد، وألف صباح ينبغي أن يكون من طلبة العلم والدعاة والمربين الذي يكونون على منهج الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، بينما الشاعر انساق بما هو مسكون به في معركته مع اليهود في فلسطين وفي القدس، لذلك جعل تلك البشارات فتوحا حربية، وسيوفا ورماحا ورجالها من أبطال الحروب؛ بدلا من الأقلام والمحابر والدفاتر والكتب التي هي ساحة الشيخ رحمه الله، فيقول:

وجيش من الفرسان راياته الردى
               يروح به نصر ويغـــــدو به نصر
عليه فتى الـفتيـــــان خالد مصـلتاً
               يدك أعــــاديه إذا أمهــــا الذعـــر
له الظفر الميمون درب وصاحب
               وعادته الإقــــدام (والفتكة البكر)
وسعـد يقود الخيل جرداً ضوامراً
               يســـابقه زيد ويصحبــــــه عمرو

     فالألفاظ التي تضمنتها هذه الأبيات من: جيش من الفرسان راياته الردى، وخالد (ابن الوليد) فتى الفتيان يدك أعاديه، والإقدام والفتكة البكر، وسعد (ابن أبي وقاص) يقود الخيل جردا، يسابقه زيد (ابن حارثة)، ويصبحه عمرو (ابن العاص)؛ هذه الألفاظ نقلتنا إلى ساحات المعارك الكبرى في العصر الأول! وإن كان لابد فالأولى استدعاء علماء الصحابة مثل ابن عباس وأبي هريرة ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبَيّ بن كعب وغيرهم رضي الله عنهم جميعا.

***

رثاء الشيخ علي الطنطاوي:

     كان الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله مختلفا عن غيره من العلماء بأمور عديدة جعلت منه فذا متفردا، فهو إلى جانب العلم الشرعي الذي عرف به؛ أديب بارع، وكاتب مجل، له إلمام بعدة لغات غير العربية التي يعد أحد فرسانها.

     وليست هذه ما ميزته، إنما أسلوبه الذي كان يعرض به معارفه ويخاطب مستمعيه، ومهاراته الشخصية في التواصل جعلته محل إعجاب لدى كل من عرفه على مستوى العالم الإسلامي فضلا عن العالم العربي.

     وفي المملكة العربية السعودية التي قضى شطر عمره الأخير اشتهر ببرنامجه التلفزيوني (على مائدة الإفطار)، وبرنامجه (نور وهداية)، وبرنامجه الإذاعي (مسائل ومشكلات). وله مؤلفات كثيرة يغلب عليها السمة الأدبية، وقل أن يقرأ له قارئ ولا يتعلق به!

     وشاعرنا حيدر الغدير أحد المعجبين به وبأدبه وكتاباته وأسلوبه، ويمكن لقارئ شعره أن يكتشف ذلك بسهولة. وكان لوفاة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله أثر كبير على شاعرنا فكتب قصيدته (شاهد القرن، ص60، من ديوان من يطفئ الشمس)، وقدم لها قائلا: "كان الشيخ علي الطنطاوي من أبرز شهود القرن ودعاته، علماً وحكمة، وعقلاً وذكاء، وبياناً وفصاحة، وطرفة بديعة، وثقافة واسعة، وقدرة على مخاطبة جميع المستويات والأعمار والتأثير فيهم. رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وعوضهم عنه خير العوض. كانت حياته غنية متنوعة، وهو ما يتيح لأصحاب الأقلام الكتابة عنه من جوانب كثيرة في أعمال علمية، أو أدبية على السواء."

     ومطلع هذه القصيدة يشعر القارئ أنها قيلت قبل وفاة الشيخ، ثم استكملت، أو كان فد زاره قبل أيام من وفاته، فهو يصف لحظات الحياة قبل الوفاة بالحوار بينه وبين الشيخ، يقول حيدر الغدير:

حُـــمَّ الرحيـــل وما رأيتك تشـــفق
               وأجبــــته والوجـــه طلق مشـــرق
فعجبــت يا شيخي وجئت مســائلاً
               فيــم البشــــاشة والرضـا والرونق
كيف ابتسمت وكان بشرك كالسنـا
               ولمن هششت ومن لقيت ومن لقوا

     وأمام هذه التساؤلات من الشاعر عن صفاء الشيخ وهدوئه وطمأنينته في مواجهة الموت، يجيبه الشيخ قائلا:

فأجبت إني للرحيـم مســــــافر
               فعـلام أشـــــــكو يا بني وأقلق
والله رحمتــــه ملاذي مُشْرعاً
               أبوابَه وبي الرجـــــاء المطلق
أني ظفرت بها فماتت خشيتي
               قبلي فقل أنـّى أخـــاف وأشفق

     فيأتي جواب الشيخ مطمئنا برحمة الله سبحانه، واثقا من تحقق رجائه بربه، ومن كان كذلك فلماذا يخاف ويخشى من الموت!؟

     ويأخذنا الشاعر الغدير إلى الحياة الحافلة التي أمضاها الشيخ الطنطاوي في العلم والدعوة والكتابة دفاعا عن الأمة ومقدساتها، فيتحدث عن سبعين سنة من عمره؛ مجتزئا منها ثلاثة عقود، فقد قارب الشيخ مئة عام، وما اقتطعه الشاعر يزيد على وقت التكون والتشكل العلمي والتربوي الذي يسبق الحياة العملية، لذلك يعد الرقم سبعين مقاربة، وكناية عن الكثرة من السنين، فيقول:

سبعيـــــن عــــاماً عشت فــــارس حلبة
               لك في المحــــــافل شــــدة وترفــــــــق
أبـداً بيـــــــانك كالحســــــام مظفــــــــر
               وثبــــاتك المعهـــــود عــزم يبــــــــرق
والليــــــــن أنت وأنت فيـــه نضـــــارة
               فــــــإذا عـدا العــــادي فأنت المحنــــق
ويعينك الإيمــــــان وهــو حميـــــــــــة
               ويعينك القـــــول الجميـــــل الأليـــــــق
ويعينك العــــــلم الغزيـــــــر وحبــــــه
               ويعينك العـقــــــل الذكي الأسـبـــــــــق
ويعينك الحـــــب الذي قــــــــد نلتــــــه
               بين الأنـــــــام فإن رأوك تحلقـــــوا[1]
مطـروفـــــة أبصــــــارهم مأخــــــوذة
               فيهم هيـــــام الطفل حيـــــن يحـــــــدق
وبهم إلى الرائي[2] استباق ذوي هوى
               إن قيــل جــــــــاء الألمعي المفـــــــلق

     ويعدد الشاعر وسائل الشيخ علي الطنطاوي في مواجهة من يتصدى لهم في حلبة العلم والأدب والكتابة والحديث..، وهي الشدة والرفق، وقوة البيان، والثبات، والإيمان، والقول الجميل، والعلم الغزير، والعقل الذكي، وحب الآخرين، وهذه الصفات مجتمعة جعلت منه محط الأنظار عندما كان يظهر في التلفاز الذي كان يسميه (الرائي)، فيحلقون حوله والعيون مشدودة إليه، والسماع مرهفة لسماع حديثه.

     وكان رحمه الله يعطي إجابات غير متوقعة أحيانا يدهش السائل والسامع مع احتفاظه دائما بابتسامته ودعابته، يقول الشاعر الغدير:

عقل يجوب المعضلات فيجتلي
               أغــوارها وخبيـــــئها ويدقـــق
ويزفها للنــاس تزهر كالضحى
               والســــامعون تشوف وتشــوق
وعلى الوجــوه إذا رأوك مودة
               وعلى القــلوب بشـــاشة وتعلق

     وكان الدفاع عن اللغة العربية الفصحى أحد أبرز مجالاته، ولكنه كان مع ذلك يدعو إلى تبسيط اللغة، وتخليصها من تعقيدات النحو، وله في ذلك مقالات في كتبه، معروفة، يقول الشاعر الغدير:

كنت البيــــان سريـــــه وجليه
               يتـــلى فيطرب أو يقال فيعشق
تبكي الفصاحة بعده أمجـــادها
               وتظل من حزن شجاها تطرق
وتقول هل من فارس من بعده
               يهب الروائع كالسـنـــا ويحلق
أم أن أغربة البيــــــان وبومه
               خلـت الديار لها فراحت تنعق

     وإذا كان الناس قد اعتادوا على كنز الأموال التي تفنى؛ فإن الشيخ علي الطنطاوي ترك كنزا من العلم لا يفنى، وحري به أن يهنأ بكنزه، فيقول:

ولقد تبددها سفــــــاهة وارث
               يعدو عليها أو يضــل ويفسق
فاهنأ بكنـــزك يا علي فــــإنه
               أغلى الكنوز الباقيات وأسمق

     ويذكر اهتمام الشيخ الطنطاوي بقضايا الأمة الإسلامية العربية وغير العربية، وجهاده في الدفاع عنها، فيقول:

المســـلمون عشيــــــرة لك كلهم
               إن يحزنوا أو يفرحوا أو يقـــلقوا
تأسى لهم وتذود عن حرمـــاتهم
               وتكـــاد من آلامهـــم تتـمـــــزق
فإذا انجلت عنهم وعنك همومهم
               ضحــكت بوجهك بسمة تتــــألق

     فهو يحزن بأحزانهم، ويفرح بأفراحهم، وهو مصداق تشبيه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بالجسد الواحد.

     وكان الشيخ رحمه الله يقلق لما يحصل بين الدعاة إلى الله من خلافات، فيحاول قدر جهده الإصلاح بينهم بشفقة الأب ونصحه، يقول الغدير في ذلك:

أمّا الدعــــاة فأنت فيهم والــــد
               يحنو ويصلح بينهم ويوفق[3]

     وهو بعد ذلك شديد الصلة بكتاب الله يتلوه ويستنبط لطائف المعاني، ويختلي بنفسه مع الله سبحانه فتأخذه الخشية والخوف، وتسيل دموعه، يقول الغدير:

وإذا عكفت على الكتـــاب فآية
               تجلى لديك فليس فيها مغـــــلق
وإذا خــلوت بربك الملك الذي
               يهب الحياة كما يشــاء ويرزق
راعتـــك قدرته فقلبــك واجف
               من روعة تربو ودمعك مهرق

     ويطوف بنا الغدير مع الشيخ الطنطاوي في رحلة هجرته من بلده الحبيب الذي ما انفك يذكره ما بقي فيه عرق ينبض، ولم تغادر لسانه عبارة: عندنا في الشام! فلما أخرج منها كارها، تمنت كل ثنية من الأرض أن تكون وطنا لهذا الأديب العالم، والعالم الأديب، هكذا يصور لنا الشاعر حيدر الغدير محبة البلاد العربية والإسلامية لهذا الإنسان، ولكن الله سبحانه اختار له أفضل بلد في الأرض قاطبة، إنها بلد الله الحرام، إنها مكة المكرمة، يقول الغدير:

ومضيـــت حين مضيــــت كل ثنية
               في الأرض ودت أنها لك نُمْرق[4]
لكن ظـفـــرت بمكة ولـقـــــد رجت
               أن وسَّــــدتك مع المحبـــــة جــــلق
يــا طالما غنيــــــــــتهـا وعشقتـــها
               ودمشــق[5] حسن عند مثلك يعشق
وحبــــــاك ربـك عن دمشــــق مكة
               وهي الأجـــل جــــــلالة والأعـرق

     وكما كانت حياته في مكة؛ كانت وفاته ومثواه الأخير فيها:

وسكنتها حيـــاً وميتـــاً بوركت
               سكنــاً تظل له النفوس تشـــوّق
وسكنت جار المروتين وزمزم
               وحراء جـارك وهو هدي يعبق
والكعبــــة الزهراء منك قريبة
               وحفيــة فيها السنـــــا والرونق
يا طيب حظك بالجــوار وأهله
               لمـــــا أتوك بشـــــائراً تتــدفق

     وأخيرا يودعه في مثواه الأخير، مهنئا له بهذا الجوار الذي حصل عليه، فيقول:

نم حيث أنت لك الملائك مؤنس
               في روضــــــة بنعيمها تتــــأنق

     وعبارة الشاعر الأخيرة تذكرنا بالبيت الذي قاله في رثاء الشاعر عمر بهاء الدين الأميري، حيث يقول:

نم في جوار الأكرمين يحفهم
               ويحفك الرضوان والإستبرق

     فما أعظم المكانين، وما أحسن الجوارين، وما أكرم المرثيين الشيخ الأديب علي الطنطاوي في مقبرة المعلاة بمكة المكرمة، والشاعر الداعية عمر بهاء الدين الأميري في مقبرة البقيع بالمدينة المنورة!.

***

رثاء الشيخ أبي الحسن الندوي:

     للشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله مكانة أثيرة عند الشاعر حيدر الغدير، ويكن له محبة جمة، وذلك أن الله سبحانه وضع للندوي القبول عند المسلمين عربهم وعجمهم، وجولاته في العالم زادت من هذه الآصرة، إذ عرفه الكثيرون عن قرب، وقد عرف في البلاد العربية بكتابه: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ قبل أن يعرفوه بشخصه. وكان لشخصيته العلمية والأدبية والسياسية في بلده الهند تأثير كبير في الوقوف أمام كثير من المخططات التي حيكت ضد المسلمين هناك.

     ومكانته رحمه الله في رابطة العالم الإسلامي جعلت صلاته قوية برجال العلم والدولة في المملكة العربية السعودية. وهو فوق ذلك كله سليل النسب الحسني الشريف، وندوة العلماء التي تولى رئاستها دهرا من الزمن تعد درة إنجازاته، إضافة إلى رابطة الأدب الإسلامي العالمية.

     كل هذه العوامل جعلت من الرجل العلامة علامة بارزة في حياة المسلمين في القرن العشرين، ولما توفي حزن العالم الإسلامي كله عليه، إذ إن ذلك العام شهد وفاة عدد من كبار العلماء حتى سماه الكثيرون عام الحزن.

     وقد رثاه شاعرنا حيدر الغدير بقصيدة جعل عنوانها: (لوحت للناس، ص67، من ديوان من يطفئ الشمس)، وكتب لها مقدمة نثرية قال فيها: "كان الشيخ الصالح أبوالحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، من أجل الدعاة مكانة، ومن أصدقهم زهداً، ومن أصبرهم على الدعوة، ومن أعفهم نية ولساناً وسلوكاً. عاش مسكوناً بهموم المسلمين، محباً لاجتماعهم، كارهاً لخلافهم، باذلاً في ذلك كل ما يستطيع. وكان مشغوفاً بالربانيين والزهاد، مقتفياً آثارهم. كان معنا بجسمه، وكان معهم بروحه، فكأنه بقية من السلف الصالح جاءت تقيم علينا الحجة."

     وقد بدأ قصيدته كما غالب قصائد الرثاء بالحكمة من الحياة والموت، والصبر على المصائب، لأن الحزن لا يعيد الميت الراحل، يقول:

لا الحزن يرجع من غـــــابوا ولا الجلد
               يفنى الجميــــع ويبقى الواحـــــد الأحد
هذي الحيـــاة مطايــــــا الموت دائبــة
               والشــاهد الشمس والخضراء والأبـــد
والليــــل والصبــح والحدبــــاء بينهما
               تمشي بركبــــانها تهــــفو وتتـئــــــــد
والناس مذ خلقوا والأرض مذ عمرت
               ســـلها ففي جوفهـــا الآبـــــــاء والولد

     والندوي رحمه الله عرف ببساطة حياته رغم ما توافرت له من أسباب النعيم، فلذلك وصف بأنه بقية السلف الصالح، تقوى وزهدا وصدقا ورشدا وحلما وصبرا وجلدا ونصحا، يقول في ذلك:

بقيـــة الســلف الأبـــــرار قد كرموا
               وأنت فيـهم ومنـــهم نجــمة تَقِـــــــد
أنت المجلي إذا التقوى زهت فرحـاً
               بالأتقيـــاء وبـان الصـدق والفنـــــد
وواحة بالهـــدى والصـــدق عامرة
               وقـد تلاقى عليها الفضل والرشـــد
والحـــلم في دأب والحـزمُ في أدب
               والنصح فـي حدب والصبر والجلد
وصولة الأكرمين الغر إن غضبوا
               وخشــعة الأكرمين الغر إن زهدوا

     وهذا الزهد منه ليس زهد الحرمان، ولكنه زهد المستغني الذي تأتيه الدنيا فيرفضها، وتكون بين يديه فيدفعها براحته برفق، بعد أن يأخذ منها بُلْغته، يقول الغدير مشبها زهده بزهد الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والغزالي رضي الله عنهم:

رضيت طبعَ الألى عزت معـادنهم
               إذ جـــاءك العيش فيه اللين والغيـد
فقـــلت: كلا لقـــد آثــــرتُ آخرتي
               فهي الغنى والذي تحبـــــــونه زبد
كأنك الحســـن البصـــري أو عمر
               أو الغـزاليُّ زانوا الدهر إذ زهـدوا
لأن زهدك زهد الصــــــادقين لهم
               عزم على صهوة الإخلاص منعقد

     والندوي مثل أخويه السابقين الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ علي الطنطاوي لم يأبه بما يترك من متاع الدنيا، ولكنه ترك علما ينتفع به، ومؤسسة علمية كبرى تخرج العلماء، وهذا أنفع له وأبقى من المال الفاني، يقول الغدير:

أبقى من المال ما أبقيت من عمل
               يزهو به وهو في عليـــــائه الرأد
في (ندوة) قدتها غـــــراء عامرة
               بالمتقين على ساحـــاتها احتشدوا
صرح أقمت على التوحيد رايتـه
               وقــــام يعليـــه أبنـــاء له نجـــــد

     فهذه الندوة هي جامعة ندوة العلماء في الهند التي ينتسب إليها أبو الحسن الندوي، وأجيال من طلبة العلم الذي حملوا نسبة الندوي.

     وقد عانى الشيخ أبو الحسن من عدد من الأمراض والأسقام لكنه كان صابرا شاكرا، لا يتضجر ولا يتسخط، طالبا رضاء الله سبحانه بالرضا بقضائه وقدره، يقول الشاعر الغدير:

رضيت أسقامك الغرثى فلا صخب
               ولا شـــكاة ولا حــــزن ولا كـمـــد
شـــكرتها وجــذاها فيــك حــــارقة
               وأنت بالصبــــر والتسبيــح تبتــرد
رأيتـها محنــــة في طيـها نعـــــــم
               ومنـــة حفـــها الإحســان والرغــد
لأنــك المرء بالأقدار قد رضيـــت
               نفـس لــه فهنــــاء كل ما تجــــــــد

     ولما توفي الندوي رحمه الله حزن الناس، وأقيمت عليه صلاة الغائب في الحرمين الشريفين في ليلة من ليالي العشر الأخير في رمضان، وتناقلت الألسنة والصحف خبر وفاته، يقول الشاعر مصورا أثر وفاته:

أبا البهـــاليل من عرب ومن عجــم
               شبوا على سمتك الميمون واجتهدوا
بكتــــك أفئــــدة منــــهم وألســـــنة
               وقبــــل أدمعــهم وهي السها الكبـد
بكــوا أبوتـك الزهـــراء صــــافية
               وعاينوا الرزء لمــــا جل وافتقـدوا

     وهنا يرق قلب حيدر الغدير رقة شديدة ويغلبه الحزن، فيتغير أسلوبه تعبيره ليأخذ منحى بنويا مؤثرا، فيخاطب الشيخ الندوي بالأب الأجل والأستاذ - وحق لمثله ذلك - فيقول مودعا:

أبي الأجلَّ وأستــــاذي إليـــك يدي
               مددتهــــا وأنــــا أزهو وأحتشـــــد
بهـــا كتبـــت بكل الحب قــــافيتي
               فهل شفت بعض ما أشكو وما أجد
يا ليـــــت لي مثل قبر أنت سـاكنه
               عســـــاي ألقى الذي لاقيت إذ أفـد

     ونكاد نلتهب معه في بيته الأخير، ونرجو ما رجاه من الخير في صحبة الصالحين في الدنيا والآخرة، ونسأل الله سبحانه أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة.

     وفي خاتمة القصيدة، يرى الشاعر الغدير وفاة الندوي تلبية دعوة الكريم الواحد الأحد، كان الندوي ينتظرها ويتشوق لها، ويتشوف إليها، فلما حان موعد اللقاء تهلل وجهه بالبشر، وأمل من الخير القادم مثل مضى، ورفع يده لأهله وأحبابه ملوحا مودعا كما يفعل الناس في أسفارهم في الدنيا غالبا، وهي صورة حركية جميلة أخاذة، ولفتة شعرية بديعة من حيدر الغدير في حسن الخاتمة والختام، فيقول:

لبيـــت أحـــلى نداء عشـــت ترقبــــه
               لمـــا دعـــاك إليـــه الواحد الصــــمد
وقـــلت والبشـــر ريــــان ومؤتــــلق
               قد طاب أمسي وأرجو أن يطيــب غد
لوحت للنـــــاس إذ ودعتــــــهم بيـــد
               لمـــا دعتــــك إلى دار البقــــــــاء يد

     رحم الله الشيح أبا الحسن الندوي، وأحسن مثوبته، ونفعه بما قدم من علم ودعوة في سبيل الله عز وجل.

***

رثاء الشيخ محمد السالم:

     هذه القصيدة مخلتفة إلى حد كبير عن قصائد الرثاء الثلاث السابقة، فالمقدمة النثرية جاءت مقتضبة غير دالة على شخصية المرثي، فالقارئ بعد السنين التي مرت على وفاة الشيخ محمد السالم ليس هو القارئ الذي عاصره وسمع به، وإذا دخلنا في سطور القصيدة فإننا لا نجد فيها ما يدل على المرثي، وأعماله، واهتماماته، وصفاته الشخصية الخلقية والنفسية، غير البيت الذي ورد فيه اسمه (محمد)، وبذلك تفقد القصيدة كثيرا من ملامح الرثاء سوى شعر الحكمة الذي يرافق كل قصائد الرثاء، خصوصا حديث الشاعر عن زوال الدنيا، وتذكر الآخرة وما يتعلق بهما من معان.

     فقد اختار الشاعر حيدر الغدير لقصيدته عنوان (ابتهال، ص77، من ديوان من يطفئ الشمس)، والعنوان ليس له علاقة بالموضوع، وكتب جملة نثرية جاء فيها: "في رثاء الفقيد الطيب الشيخ محمد السالم رحمه الله."

     وافتتح القصيدة بالحديث عن زوال الدنيا، وخداعها للإنسان، وأن الإنسان يكون أسيرا لأمانيه فيها، وينسى الموت الذي هو قرين الإنسان ورقيبه الذي لا يفارقه، ثم يأخذه على غفلة، وعند ذاك يشعر أنه كان في حلم نائم فانتبه، يقول الغدير:

عزاءك هذه الدنيــا ارتحــال ... وآل خـــــادع يتـــــــــلوه آل
وسرب من أمانينــــا اللواتي ... تخب بنا وقد ينـــــأى النوال
وقد يدنو ونحــن له أسـارى ... ولا ندري ويغرينا المحـــال
وننسى الموت وهو لنا قرين ... رقيـــــب ليس يدركه الملال
يســـالمنا وتفجؤنــــــا رحاه ... فتطحننـــا إذا كـــان الزوال
هي الدنيـــا منــــام ثم صحو ... ومكث سويعـــــة ثم انتقــال

     ويأخذ الشاعر بعد ذلك في كشف المزيد من أوصاف الدنيا الخادعة، ثم يرغبنا في الجنان التي أعدها الله سبحانه للصالحين من عباده، فيقول:

هي الدنيـا كما قد قيل دنيـا ... لها في الغدر أخبار طوال
وخير من متــارفها وأبقى ... جنــــان لا يحيط بها مقال

     ويدعو الله أن يبوئنا هذه الجنان فيقول:

أيا ربـــــاه بوئنا جنـــــــاناً ... حساناً يزدهي فيها الجمـال
وبوئنــــا ذراها طيبـــــات ... فأنت المرتجى ولك الجلال

     ويختم القصيدة ببيتين يدعو فيهما للمرثي، ويذكر من صفته أنه كان برا، كريم الخصال، طاهر القلب، عفيفا، صادق القول، حسن الأفعال، فيقول:

وبوئها (محـــمد) فهو بر ... له في كل مكرمة خصال
يزكيه فـــؤاد عـــاش عفاً ... وتحمده مع القـول الفعال

     ويلفت نظرنا في هذه النهاية أن الدعاء للمرثي جاء تبعا لدعاء الشاعر لنفسه بصيغة جمع المتكلم: (أيا رباه بوئنا)، ثم قال: (وبوئها "محمد" فهو بر)، وهذا الترتيب أفقد المرثي أهميته في القصيدة، فضلا عن وقوع الشاعر في ضرورة شعرية في منع اسم العلم (محمد) من الصرف مع أنه يملك التصرف والالتفاف على هذه الضرورة الشعرية.

     وتذكرني هذه القصيدة بمرثية أبي العلاء في صديقه أبي حمزة الفقيه:

غير مجد في ملتي واعتقادي
               نَـوح بـــــاك ولا ترنم شـــاد

     حيث غلب عليها شعر الحكمة، ولا يكاد القارئ يجد فيها ذكرا للمرثي. وأرى أن الشاعر الغدير لو استقبل من أمر رثائه للشيخ محمد السالم رحمه الله؛ ما استدبر؛ لغير الكثير حذفا وإضافة، وتقديما وتأخيرا.

---------------------

[1] كان الشيخ أشهر محدثي الإذاعة والتلفزيون في عصره، وكان الناس على اختلاف طبقاتهم يتحلقون حول التلفزيون حين يطل منه وفيهم شوق أخاذ.
[2] (الرائي) كلمة اقترحها الشيخ بديلاً عربياً عن (التلفزيون).
[3] كان الشيخ يحزن كثيراً لما يراه بين الدعاة من خلاف، وكان يدعو كثيراً إلى جادة وسطى مشتركة تسعهم جميعاً، وكان يفرح كثيراً إذا أصلح بين بعضهم.
[4] النمرق: الوسادة الصغيرة.
[5] كان الشيخ عاشقاً للشام عامة، ولدمشق خاصة.

الأكثر مشاهدة