الأحد، 13 يونيو 2021

عاشق المجد 3 / 6 - أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم

عاشق المجد - دراسة في ست حلقات

(الحلقة الثالثة)

أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم

صحيفة الرياض - السبت
25/ 1/ 1418هـ - الموافق 31/ 5/ 1997م


     عاش الشاعر عمر أبو ريشة حياته مترفعاُ عن ابتذال نفسه أو امتهان كرامته لأنه يعتز بذاته أيما اعتزاز؛ لذلك فإنه لم يمتهن شاعريته بمديح يستجدي به، وعندما كان طالباً في الجامعة الأمريكية في بيروت وكان من بين أساتذته الأستاذ أنيس فريحة الذي طلب من طلابه – ومن بينهم عمر أبو ريشة – الكتابة عن الشاعر البحتري من زاوية حددها في العبارة الشهيرة التي قيلت عن هذا الشاعر: "أراد أن يشعر فغنّى". وهي عبارة تحمل ثناءً مبطناً على الشاعر البحتري، ولكن ذكر البحتري على هذه الصورة المليئة بالإكبار لهذا الشاعر أثارت الطالب أبا ريشة لأنه يعلم من سلوك البحتري أنه يرتزق بشعره وهي سجية يحاربها أبو ريشة وينأى بنفسه عنها، فأجاب بما يخالف مضمون تلك العبارة التي تنطوي على مديح للبحتري وحمل عليه ووصفه بأنه شاعر يتسول بشعره مما أفقده الاحترام لديه، ويختلف الأستاذ مع تلميذه في هذا الموقف، لكنه لا يلغي رأيه وإنما كتب على إجابته: "ولد هذا اليوم فيلسوف". وظلت هذه النظرة ملازمة له بعد أن أصبح شاعراً ملء السمع والبصر، فكما أنه استنكر على غيره التكسب بالشعر، فقد بقي مترفعاً عن كل ما يقلل من مكانته، واستمر طيلة حياته على هذا المنوال الذي روض نفسه عليه من الترفع والاعتزاز، ومن الالتفات إلى المادة، أو أي وسيلة أخرى تحط من قدره، أو يرى فيها مساساً بشخصه، فهو كما وصفه المؤلف: "عاش حياة عريضة خصبة في الأدب والسياسة والترحال، وفرض نفسه شاعراً متفرداً لا على مستوى سورية وحدها، بل على مستوى الوطن العربي كله".

***

في رحاب الملك فيصل:

     حينما كان عمر أبو ريشة خلال فترة الستينات سفيراً لبلاده في واشنطن، وكان الملك فيصل في الفترة نفسها وزيراً للخارجية وبحكم منصبه فإنه يرأس وفد بلاده إلى هيئة الأمم المتحدة إلى جانب زياراته المتعددة للعاصمة واشنطن، فقد جمعت تلك الفترة بين الفيصل وعمر على الصعيد الدبلوماسي، ثم توثقت الصلة بينهما فكان الملك يأنس إلى الشاعر، وكان الشاعر يحب الملك. وبعد أن أحيل إلى التقاعد استدعاه الملك فيصل إلى المملكة وأسبغ عليه ما يستحقه من تقدير وتكريم، يقول المؤلف: "والصلة بين الملك والشاعر تذكّر الإنسان بالصلة التي كانت بين المتنبي وسيف الدولة. إذ إن كلاً منهما كان عارفاً لقدر الآخر ومكانته، وعمر الذي خلا ديوانه من المدح لإبائه وكبريائه وعزة نفسه ورفضه التكسب بشعره لا يمكن أن تعد قصائده في فيصل قصائد مدح وتكسب، بل قصائد إعجاب وحب".

     وقد اتخذ الشاعر من مناسبة موسم الحج مجالاً للتعبير عما تفيض به مشاعره من حب مفعم بالتقدير نحو الفيصل العظيم، فكان يلقي بين يديه قصيدة كل موسم حج، والشعور واضح فيما يلقيه ويعبر عنه، فهو مثلاً يستهل قصيدة بين يدي الملك فيصل بهذا البيت الذي ناداه فيه بأحب ما ينادى به:

يا ابن عبد العزيز يا لنداء ... في مداه ناديت كل الرجال

     ويتحدث بعد ذلك عن الأمنية الغالية التي كان يتمناها الملك فيصل تغمده الله بواسع رحمته وهي بلوغه القدس للصلاة في المسجد الأقصى المبارك:

قل لمن شاء راحة في ضفاف النـْ ... ـنِيل من بعـــــد وثبة استبســــــال
ليس عـاراً إنْ في النضال عثـرنا ... إنما العـــار في اجتناب النضــال
رَبْع حطين موحش يا صلاح الدْ ... ـدِين إلا من ذكريـــــــــات غوال
سر بنــا صوبه وصل بنـا في الْـ ... ـقدس. واضربه حرامه بالحـلال

     ويؤكد هذا المعنى في رثائه للملك فيصل حين أنشأ قصيدة رثائه التي ألقاها في موسم مماثل أمام الملك خالد – رحم الله الثلاثة – وقد قدّم لها بمقدمة نثرية جاء فيها قوله: "دُعيت الآن لألقي كلمتي، ولكن الكلمة التي ألقيها ليست لي ولكنها لأخيك الحبيب الراحل المقيم؛ إنها لفيصل". ويبلغ عدد أبيات هذه القصيدة (52) بيتاً من أهم ما جاء فيها مما يتصل بأمنية الملك الراحل قول الشاعر على لسان الملك فيصل:

أردت أختــــم فيها العــــمر مقتــــحماً
               أحقـــــاد حطين في مضمارها الثــاني
وأن أصـــلي وكف القـــدس تحمل لي
               رضاك في المسجد الأقصى وترعاني
ما كــــان أكرمها في العمر أمنـــــية!
               ما كنـت أحســــبها تمضي وتنســـاني

***

     تشكل حياة الأمة العربية هاجسه الأكبر وأولى اهتماماته، ولذلك جاءت محاولاته للتعبير عن هذا الهاجس وتلك الاهتمامات في كل مهرجان يقام في أي مناسبة، فيتخذ من المهرجان منبراً لإيصال صوته إلى الجماهير العربية التي يناديها إلى الكفاح لاستعادة مجدها الغابر، واسترداد حريتها المسلوبة، ومن خلال شعوره المرهف بنكبات هذه الأمة فإنه لا يترك المناسبة دون أن يحرك الجو الراكد والوضع البليد الذي يعيشه أفراد الأمة، فيتحدث عن المأساة الدامية بانتصار إسرائيل وهزيمة العرب المخزية في عهد الدكتاتورية عام 1967م. فقد كانوا يطلقون التصريحات العنترية فإذا جد الجد ولوا على أعقابهم هاربين، وقد وصفهم أروع وصف حين قال فيهم وما أصدق ما قال!:

إن خوطبوا كذبوا أو طولبـوا غضبوا
               أو حوربوا هربوا أو صوحبوا غدروا
على أرائكهم سبحـــــان خــــــــالقهم
               عاشوا وما شعـــروا ماتوا وما قبروا

     وقد كان لهذه القصيدة بمعانيها الصادقة، وإيحاءاتها الواضحة، وعباراتها اللافحة صدى كبير في أنحاء العالم العربي رددت جنباته أصداءها الغاضبة، واستعادت جماهيره أبياتها الساخرة، فقد لامست الجراح العربية، ووضعت الطغاة الصغار في حجمهم الصحيح، فقد كانت محاولاتهم الغوغائية أن يجعلوا من أنفسهم عمالقة فحولتهم الأحداث إلى أقزام، وقد ظلت الجماهير التي شهدت ذلك المهرجان الذي ألقيت فيه القصيدة في لبنان تهتف للشاعر الذي كان ألمع نجوم المهرجان وأبرز رواده، وتستعيد أبيات هذه القصيدة، وكان من بين الحضور شارل الحلو رئيس الجمهورية اللبنانية في ذلك العهد ومسؤولون كبار ووجهاء كثيرون، وقد استمرت عاصفة التصفيق عشر دقائق تجاوباً مع الشاعر، وتعبيراً عن مدى الإعجاب بموقفه الشجاع.

***

إباء وكبرياء:

     هذا عنوان من وضع المؤلف لهذا الفصل، وأنا ألتقي معه في الشطر الأول من العنوان وهو الإباء، ولكني أختلف معه في الشطر الثاني وهو الكبرياء، ولو أنه استبدل به الاعتداد بالنفس لكان ذلك أنسب، لأن الإباء أو الاعتداد بالنفس مزية، أما الكبرياء فهي مذمة، وقد يكون من مظاهر الاعتداد بالنفس ما يوحي بالكبرياء بنظر الآخرين لكنه في واقع الأمر ليس كذلك، وشاعرنا قد تنتابه حالة من الزهو في ظل اعتبارات معينة مرهونة بوقتها لكنها ليست صفة ثابتة في طباعه تبلغ به حد الكبر، ولعل وصفه بالكبرياء جاء في صيغة مدح يشبه الذم، ولا أظن المؤلف قصد ذلك من إطلاق هذه الصفة عليه، وإنما نظر إليها على أنها مرادفة للإباء، وبتأمل ما صدر عن أبي ريشة من اعتزاز بنفسه نجده لا يبلغ معشار ما بلغه المتنبي في الفخر والاعتزاز، ولم يطلق على المتنبي أنه متكبر، وهناك حد دقيق بين الإباء والكبرياء، ويحصل الالتباس في بعض الأذهان بين بعض الصفات المحمودة والصفات المذمومة عند إطلاق الحكم على شخصية من الشخصيات، فمثلاً تضيق الفواصل في التعريف بين حد الإباء والكبرياء، والشجاعة والتهور، والسخاء والإسراف، وبقدر اتساع مساحة الخلاف بين الصفة والصفة المضادة لها من ناحية المعنى، فإنها قد تختلط لدى مفاهيم بعض الناس في تحديد الرؤية من ناحية الحكم على السلوك الشخصي للفرد الذي يدور الاختلاف حوله بين صفة حميدة كالاعتداد بالنفس أو الكرم أو الإقدام، وبين وصمة ذميمة كالكبرياء والإسراف والتهور، وعلى هذا القياس يمكن وصف أو وصم أي فرد بواحدة من هذه الصفات من خلال نظرة معينة وحكم مستقل، فتصنيف فرد على قائمة أي من هذه الصفات يأتي من واقع المنظور الذي نصنف فيه الفرد من خلال الحكم على سلوكياته.

     ولقد أتيح لي اللقاء بالشاعر الكبير (عمر أبو ريشة) في هذه البلاد حينما كان مقيماً بها – رحمه الله – أكثر من مرة، ولم ألمس منه جانب الكبرياء وإن لمست فيه الإباء، أو الاعتداد بالنفس، وقد جاء تعريف الكبرياء في لسان العرب بما نصه: "الكبرياء: العظمة والتجبر"، ولم يخرج القاموس المحيط عن مضمون هذا التعريف، والصفات الحميدة إذا تجاوزت حد الاعتدال صارت مذمومة، وبقدر اتساع المسافة معنوياً بين صفة وأخرى فإن الفواصل دقيقة بين الصفة والصفة المضادة لها، بحيث تكاد تخرجها عن حدها المعتدل إلى حدها المعاكس! فيتحول السخاء إلى إسراف، والشجاعة إلى تهور، والإباء إلى كبرياء، والشيء كما يقال: إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وبالنسبة لهذه الصفات وتحديدها فإنها تخضع للنظرة العامة التي تحدد الحكم، وتطلق الصفة.

***

     يختلف الأفراد في توجهاتهم ومسالكهم ومشاعرهم كما يختلفون في أجسامهم وألوانهم وطباعهم وسلوكياتهم، وحين نتأمل ذلك التباين والتضاد نجد فروقاً كبيرة بين فرد وآخر قد تخضع هذه الفروق لطبيعة النشأة التي عاشها الفرد سواءً كانت محدودة في نطاق الأسرة والمنزل أو لها امتداد أكثر كما تتمثل في المجتمع والبيئة أو أكثر امتداداً واتساعاً ممثلة في الاتصال بالعالم الخارجي، هذه العوامل مجتمعة أو منفردة لها تأثير على الإنسان، فهو يتكيف معها بحكم النشأة، ثم بحكم المحاكاة، وكما أن كل فرد له بيئة خاصة فإنه كذلك له نشأة خاصة، وعلى أساس هذه النشأة تكون منطلقاته، وتتكون آفاقه، فحيث درج يكون مساره، فيستسيغ الخنوع، ويألف الذل منذ بواكير عمره أو يستعلي عليهما منذ بداياته بحسب ما غرسته التربية في نفسه وأكدته طبيعة البيئة في ذاته، وشاعرنا من هذا النوع المعتز بنفسه، فكان شديد الطموح، عالي الهمة، كأنما يبصر رايات المجد خفاقة فوق رأسه، وكانت الثقافة العامة سبيله إلى تأصيل هذا المجد الذي يطمح إليه، والإباء الذي ينشده، فكان شاعر المجد والإباء:

ما أرخص المجد إذ زارني ... ولم يكن لي معــــه موعـــد

     وفي الاعتداد بالنفس يقول:

أنا يا رب من بقايا سيوف ... ثلمتها مضـــارب الحدثان
أنا من أمة تجوس حمـاها ... جاهلياتها بلا استئــــــذان

     وفي قصيدته المرموقة التي اتسعت شهرتها واتسمت بروح الإباء والاعتداد بالنفس تجيء أبيات قصيدة (أمتي) تترجم ذلك الشعور:

أين دنياك التي أوحت إلى ... وتري كل يتــــيم النغــــم
كم تخطيت على أصـدائه ... ملعب العز ومغنى الشمم
وتهــــاديت كأني سـاحب ... مئزري فوق جباه الأنجم

     من هذا المعين نراه يحلق مع النسور في قمم الجبال، ويزاحم المحلقين في الأجواء العالية، فهو يرفض الحياة الخاملة، ولا يقنع بما دون الصعود إلى القمم المتسامية، فيحلق بحسب ما يسمح له خياله الخصب، وأحلامه المتوثبة، ويحاول الاستعلاء على كل المعوقات التي تحاول تقييده، ويتحدى في صمود وإصرار كل ألوان الإحباط والهزيمة، ويعتز بشعره الذي يصور شعوره على هذا النحو:

أقســم المجـــد أن يمـر على الأر
               ض ونجـــوى الإباء خلف لسانه
فالعبي يا عواصف الدهر ما شئـ
               ـــت فلن تجرحيه في وجـــــدانه

     ففي شعره يلتقي النسر المحلق، والإباء المترفع، والمجد المتأصل؛ إلى جانب الصمود أمام العواصف والتحديات.

***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة