الأحد، 13 يونيو 2021

عاشق المجد 2 / 6 - أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم

عاشق المجد - دراسة في ست حلقات

(الحلقة الثانية)

أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم
صحيفة الرياض - السبت
24/ 5/ 1428هـ - 24/ 5/ 1997م


     شاعر تجاوزت شهرته حدود وطنه الصغير سوريا إلى وطنه الكبير البلاد العربية، وكانت مشاركاته العامة من أهم العوامل في اتساع مدى شهرته لما له من مواقف شامخة في المحافل العامة التي يستثير فيها مشاعر المواطنين، ويستولي على إعجابهم الكبير، فقد كانت تزفه المظاهرات ضد الاستعمار الأجنبي، ويستعيد المواطنون شعره ويحفظونه، وكان لمواقفه الوطنية الحماسية ضريبة، فقد حكم عليه المستعمر الفرنسي بالإعدام مرتين، ولكنه ظل على حماسته ووطنيته.

     ففي المهرجان الذي أقيم عام 1935م، في الجامعة السورية بدمشق احتفاءً بالذكرى الألفية للمتنبي ألقى قصيدة ثائرة بعنوان: "شاعر وشاعر"؛ كانت تفيض حماسة وتمجيداً للبطولة العربية من خلال تمجيده للشاعر المحتفى بذكراه، وهو شاعر يهوى المجد، ويدعو إليه، ومات في سبيله. وقد أملت عليه مناسبة ذكرى أبي الطيب أن يحيي ذكراه وهو يأسى على حال أمته، ويذكر معاناته في هذا السبيل، فيخاطبه والمرارة طافحة في فمه:

شاعر العرب غض طرفك فالعر ... ب حيــــــارى في قبضة عسراء
يخجـل المجد أن يرى الليث شلواً ... تحت أنيـــــاب حيــــــــة رقطاء
أين لمع المنى وحمحـــمة الخيــــ ... ــــــــل ووهج القنا وخفق اللواء

     ثم ينهي القصيدة بهذا البيت الذي يسميه الشاعر (أبو ريشة) بيت القصيد:

كيف أهدي إليك بيض الأغاني
               وجراح الأيـــــــام خلف ردائي

     وفي المهرجان الألفي الذي أقيم عام 1944م في سوريا احتفاءً بذكرى أبي العلاء المعري شارك الشاعر بقصيدة تعبر عما يكابده من حزن، وما يعتمل في نفسه من ثورة ضد الاستعمار وأتباعه، فيستهلها بهذا المطلع الذي يترجم عن واقع حال الأمة العربية ومحنتها:

ملعب الدهر لو ملكنا هدانا
               لبلغنا من الحيــــــــاة منانا

     وحين استقلت سوريا عن فرنسا، وتحررت من قيود الاستعمار وذل التبعية أقيمت بهذه المناسبة الوطنية الاحتفالات ابتهاجاً بالاستقلال، وفي هذا المجال الاحتفالي ألقى الشاعر في حلب عام 1947م قصيدته: (عرس المجد) عبر فيها عن ابتهاج الشعب، واستعادته حريته التي طالما ضحى من أجلها حتى نالها، وكان مطلع القصيدة:

يا عروس المجد تيهي واسحبي
               في مغــــانيـنا ذيــــول الشــهب

     وكان لهذه القصيدة صدى واسع الانتشار مما زاد في رصيده الوطني، وأصبحت أنشودة على ألسنة المواطنين، وموضع احتفاء منهم بها وبالشاعر الكبير.

***

قصيدة أمتي:

     هذه قصيدة متفردة بين القصائد الوطنية، وقد أورد الدكتور حيدر مؤلف هذا الكتاب شواهد من أبياتها في أكثر من فصل، كما فعل ذلك مع كثير من قصائد الشاعر. ومن جانبي فقد شدتني إليها للتعليق عليها وحدها دون ربطها بفصل معين لأن لها لوناً مختلفاً عن كل قصائد الشاعر، وإثارة تختلف عما عداها، وشاعرنا له قاموسه الشعري الذي يستمد منه مفرداته اللغوية، ولذلك جاءت ألفاظه ذات جرس خاص، وصوت متميز، وبهذه الميزة كان له تألقه، وصار له جمهوره والمعجبون به الذين يرون أنه يلتقي فيه الشاعر بالفارس، فهو يحسن توظيف الشحنة الانفعالية فيما يبدعه من شعر وطني، فيجسد شعره في ألفاظ موحية ذات تأثيرات فعالة تلامس القلوب، وتستثير النفوس، فهي أشبه بصادحات موسيقى الجيش التي تهيئ الجنود للميدان، وتثير فيهم الشجاعة والإقدام.

     فشعره اجتماعي التوجه، وهو شاعر جماهيري النزعة، لذلك فإنه يختار الكلمات التي تحفر أثرها في أذن السامع، وفي وجدان القارئ، فتشده إليها، وتؤثر فيه بوقعها، وتبعث في كيانه الحماسة، وتؤصل في قلبه الشجاعة، وتنتفض فيه الرجولة، فيسترخص التضحية، ويعلو بالإيثار، ويحقق الانتصار. فيجب أن نرتفع بهذه الأمة التي ننتمي إليها: أن تتكلم دائماً بلسان الضحية، أو أن تمثل على الدوام دور المضطهد، وهي تملك قدرات معطلة، وطاقات مهدرة. لو أحسنت توظيفها لاستطاعت أن تبني لها كياناً يجعل العدو يحسب لها ألف حساب قبل أن يقدم على خطوة، أو على أي عمل له مساس بها مما يتصل بامتهان كرامتها وإهانة عزتها.

     وفي أعقاب نكبة فلسطين عام (1948م) نَزفَ الشاعر أبو ريشة شعراً انتزعه من أعماق قلبه الحزين، فقد تحولت الكلمات إلى طلقات معنوية صاخبة. عندما لم يكن لطلقات السلاح مكان في جسم العدو الغاصب، فكانت قصيدة (أمتي) صرخة مدوية تهز الوجدان العربي، وتوقظ همم المسلمين ليحرروا القدس من أدناس الصهاينة، ويستعيدوا الأرض المسلوبة لأبنائها الأصليين. وقد صار لهذه القصيدة وقع كبير، وأثر بعيد في أعماق هذه الأمة بما حفلت به من لهجة صادقة، وما انطوت عليه من عبارات حادة أشبه بقذائف شديدة الانفجار، عالية الرنين، تدهش المستمع، وتشد القارئ. وكان من بين حضور ذلك المهرجان الذي ألقيت فيه القصيدة رئيس وزراء سوريا في ذلك العهد، وبعض وزرائه، وكان نصيب الساسة المسؤولين عن النكبة كثيراً من اللوم والتعنيف والهجوم، وقد جاءت على هذا المنوال:

أمتي هـل لك بيـــــــــــن الأمم
               منبـــــر للسيــــــف أو للقــــلم
أتـلقــــــاك وطرفي مطـــــرق
               خجــــلاً من أمســك المنصرم
ويكـــــاد الدمع يهمي عبثـــــاً
               ببقــــايا كبريـــــاء الألـــــــــم
أمتي كـم غصــــــــــــةٍ داميةٍ
               خنقت نجـوى عـلاك في فمي
أي جـرح في إبــــائي راعف
               فاتـــــــه الآسي فـلم يلتــــــئم
ألإسرائيـــــل تعــــــــلو راية
               في حمى المهد وظل الحرم؟!

     ثم يسترسل في استنهاض الهمم، واستثارة النخوة، وهو يتكئ على أحزان الأمة العربية المسلمة، فيتجه إليها في لهجة يجللها الأسى، وتحيطها السخرية المريرة:

اسمعي نوح الحزانى واطربي
               وانظري دمع اليتـامى وابسمي
ودعي القــــــادة في أهوائهـــا
               تتفـــــانى في خسيس المغنـــم
رُبَّ وامعتصمـــــاه انطلقـــت
               ملء أفـــواه البنـــــات اليتـــم
لامست أسمــــاعهم لكنــــــها
               لم تلامس نخـــــوة المعتـصم
أمتي كم صنـــــــمٍ مجـــــدته
               لم يكن يحمل طهر الصنــم؟!

     إنها قصيدة وطنية لا يكفي القول بأنها رائعة، فهي أكثر من ذلك، فقد حشد فيها الشاعر كل أدوات الإثارة والتأثير، وهي تمثل نموذجاً عالياً من نماذج الشعر الوطني المعاصر بما تفيض به من صدق الإحساس، وما تزخر به من التأثر لما أصاب الأمة العربية على أيدي من نسميهم شذاذ الآفاق، وكيف انحدر مصير القضية الفلسطينية إلى نفق مظلم لا تزال تعاني منه، ولا يزال العدو المتربص يختال تيهاً في مظالمه وتحدياته واستعلائه ووقاحته!.

***

     هل الكلمات في حد ذاتها مجرد مجموعة حروف تكون جملة مفيدة حسب القاعدة النحوية المعروفة فحسب؟ أم أنها كلمات تتجسد فيها روح الكاتب والشاعر فتضيء بالنور أو تلتهب بالنار؟ إن الحروف قد تتكون منها كلمات كثيرة في صيغة قطعة نثرية، أو قصيدة شعرية، لكنها تظل كلمات باردة أشبه بنظم المتون أو تشطير بعض المنظومات. أما متى تستيقظ الكلمات من رقادها، وتنتفض من جمودها، وتتحرر من ركودها، وتتمرد على رتابتها لتصبح ذات فعالية تهز الضمير الحي، وتستثير المشاعر، وتشعل وهج النار التي في الصدور، متى تكون كذلك؟

     الجواب أنها تكون كذلك حين يمنحها الكاتب أو الشاعر دفق إحساسه وعصارة قلبه، فتصدر من أعماقه قبل أن تكون طيفاً في خياله أو فكرة وليدة في ذهنه، فالمبدع هو الذي ينفعل بالحدث ويتفاعل مع الموقف، وهو حين يصنع الكلمة يضفي عليها من وهج انفعاله، ومن تجاوب روحه ما يخيل لسامعها أو قارئها أنها ليست من جنس الكلمات المعهودة، ولا من فصيلة الحروف المعروفة، لأنها وإن كانت تحمل مدلولها إلا أن مهارة المبدع الذي صاغها توحي للسامع أو القارئ أنها ذات أجنحة تحلق بفكره في آفاق لم يعرفها، وتسمو بروحه إلى معارج لم يألفها، فيلتقي انفعال الشاعر مع تفاعل المتلقي، فتشتعل روح الفداء وتبرز تحديات التضحيات، وتتحول الساحة إلى شعلة من النار، وإلى قذائف من الحمم، وتتحول الجماهير إلى كتلة متراصة تهتف باسم الوطن، وترفع رايته، ويتحول مهرجان الخطابة إلى ميدان قتال يتجسم فيه زئير الكلمات، وتبدو كما لو أن المعركة بدأت. فالكلمات النارية تترك آثارها في النفوس الأبية، ويتردد صداها في القلوب النابضة بالحياة، فتزحف الجيوش، وتهدر الجموع؛ عند ذلك تستعاد الحقوق المصادرة، والأراضي السليبة، والكيان المغتصب. ولا يفل الحديد إلا الحديد، وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة؛ هذا ما جسدته قصيدة (أمتي).

     إنها قصيدة تستحق وقفة أطول لأهميتها، فهي لا تزال تفجر في النفس العربية شحنات من الأسى والشجن، فقد حفرت في أذهان معاصريها معاني شامخة كادت تمسحها سنوات الاستعمار العجاف، وتمحوها غفلة العرب الطويلة. وهذه القصيدة تقف في مقدمة عرائس الشاعر، فهي من عيون شعره. بل هي أشهر قصيدة قالها، ولعلها القصيدة التي شهرته أكثر من أي قصيدة أخرى، فهي التي حملت صورته إلى العالم العربي مشرقه ومغربه. وإلى جانب ما تحويه القصيدة من تجسيد الإحساس بفداحة الظلم؛ فإن فيها شموخ الفارس الشجاع، وشعور المواطن المؤمن بقضيته وحق أمته في العيش بكرامة وحرية واستقرار في الحياة. وبالرغم مما رافق هذه القصيدة من تزيُّدات، وما صاحبها من ملابسات، وما شاع في أجوائها من تداخلات لما نالته من شهرة، وما حظيت به من تمجيد؛ فإنها تظل القصيدة الوفية لقضية الأمة العربية.

     يحدث للشاعر أو الأديب سبحات أو انطلاقات لم تكن مألوفة في نمط حياته، لها خصوصية من التجليات الفكرية، والإشراقات الذهنية، فتغمره ببهائها، وتتألق في ذهنه على شكل إضاءات تنير فكره، فيستوحي الموقف الذي هو بصدده، وينطلق في عفوية لتسجيل تلك السبحات المضيئة. يضعها على الورق حروفاً ناطقة، وكلمات مجنحة لها أرواح تتجسد فيها المعاني السامية، وتتدفق منها الأحاسيس العارمة، وتبدو في كيانها أضواء الإلهام، وأهمية العطاء.

     وإذا كان أبو ريشة يحتفي ببيت الختام في قصائده، حيث يجعل منه مفاجأة تعكس ردة الفعل لما يقوله الشاعر في شعره؛ فإن أبيات هذه القصيدة كلها تعتبر بمثابة البيت المحتفى به في كل قصيدة من قصائده، فكل بيت منها يعتبر بيت القصيد، فقد جاءت أبياتها متلاحمة مشحونة بالانفعال المؤثر، والتعبير الصادق، والتوجه الهادف، زاخرة بالمعاني العميقة، نابضة بالروح الإسلامية ومتشحة بالنخوة العربية.

***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة